الكتاب: الأقانيم الثلاثة أو آلهة من الحلوى
المؤلف: علي يحيى معمر
علي يحيى معمر
الأقانيمُ الثّلاثة
أو
آلهةٌ ِمنَ الحلوى
بسم الله الرحمن الرحيم
{مَنْ كانَ يُريدُ العزّةَ فلِلّهِ العزة جميعاً إِليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيّب والعملُ الصالحُ يَرْفعه، والذين يمكُرُون السيئاتِ لهم عذابٌ شديد ومكُرُ أُولئِكَ هو يَبُور}
صدق الله العظيم
(سورة فاطر، الآية رقم 10)
فِِكَرة الكِتَاب
لو أردت أيها القارئ أن تحصر مواضيع الإهتمام البشري في العصر الحديث، لوجدته منصباً على ثلاثة أشياء هي ما عَّبرنا عنه في عنوان هذا الكتاب بالأقانيم الثلاثة، ولا أعتقد أنك حين تقرأ صحيفة سيَّارة يومية أو أسبوعية، أو حين تستمع إلى إذاعة مسموعة أو مرئية، أو تحضر ندوة إجتماعية أو ثقافية - لا تجد أن أكثر الإهتمام أو الحديث إنما ينصبّ على الطفل والمرأة والحاكم، أو على أحدهم على الأقل، ولن تخلو الجرائد والمجلات والإذاعات والندوات، بل والمؤتمرات، من الخوض في شأن من شؤون الثلاثة أو أحد عناصرها.
ويبدو من هذا أن مشكلة البشرية الأولى في هذا العصر، ولا سيما في الدول النامية، إنما هي الطفل والمرأة والحاكم، وعلى هذا الإعتبار أطلقت عليها إسم الأقانيم الثلاثة، لأنها أصبحت هي الأصول الثلاثة لنشاط الإنسان في عصرنا الحاضر.
وإلى جانب هذه الحقيقة توجد أُخرى هامة، وهي أن وراء الإهتمام بهذه الأقانيم في مجموعها أو بكل واحد منها على جانب، تكن رغبات محددة تُبذل من أجلها الجهود، وتولى الخدمات.
إن وراء الإهتمام بالطفل وتقديم الخدمات له تكن رغبة ملحَّة هي كسب عنصر يحقق السير في منهج محدد تُمكن الاستفادة منه على أوسع نطاق عندما يقوى هذا الطفل ويشتدّ، ويحين أوان القطاف.
وإن وراء الإهتمام بالمرأة وتقديم الخدمات لها دون حدود تمكن رغبة ملحة، هي الحصول على متعة غير مقيَّدة والاستفادة من خصائص فطرية لا توجد إلا عند المرأة، والإستعانة بها على مكاسب مادية لا تتحقق إلا على يديها.
(/1)
وإن وراء الإهتمام بالحاكم وتقديم الخدمات له رغبة ملحَّة، هي الإستفادة المادية أو المعنوية في وجوده، والإستفادة بمكانه عند العمل على طرحه وإبعاده.
فالعناية بالطفل والمرأة والحاكم، في الواقع، إنما تنبعث من دوافع مصلحة مظهرية تمهد لتسخيرهم فيما بعد للحصول على نتائج محدّدة دون الإهتمام بمصيرهم بعد الحصول على تلك النتائج.
أي أن المجتمع يبني من الطفل والمرأة والحاكم آلهة من الحلوى يقدم لها القرابين ويظهر لها الطاعة، فإذا وصل معها إلى مرحلة معينة فتحصل على النتائج المطلوبة أو شعَر بالحاجة إلى إزالتها من طريقه سارَع إلى تلك الآلهة من الحلوى فالتهمها واستقبل بعنايته آلهة جديدة يشكلها من جديد.
وهذا ما دعاني إلى أن أضع العنوان الثاني للكتاب: ((آلهة من الحلوى)) مقتبساً من سلوك الأعراب في العصر الجاهلي.
إن هذا الكتاب ليس دراسة ولا فلسفة، ولا بحثاً علمياً يرتكر على أسس وقوانين، ولكنه عرض وتصوير لواقع بعضه موجود عندنا وعند غيرنا، وبعضه موجود عندنا فقط، وبعضه موجود عند غيرنا، ومنه ما يتسرب إلينا في طمأنينة وسهولة ويسر.
وأنا حين أعرض الصور الآتية على القارئ الكريم وهي صور معروضة في المجتمع يراها ويحسّ بها لا أقصد أن أعطيه فيها رأياً ولا أن أعتبرها مشاكل أضع لها حلولا، وإنما أريد أن أعرضها عليه في غير زحمة الشارع وضوضائه حيث لا يملك الإنسان التفكير السليم والمراجعة الصحيحة، أريد أن أعرضها عليه وهو مستريح النفس قارّاً هادئاً حتى يتابعها في شوق ويعيد تصوره لها في تأمل ثم يتخذ لنفسه معها ما شاء من الآراء والمواقف.
ولا شكَّ أن كثيراً من القرَّاء يخالفونني في الرأي أو في طريقة العرض أو في استعمال الأسلوب الصريح البالغ الصراحة، لا سيما في موضوع المرأة.
(/2)
وكلمتي إلى هؤلاء الإخوة أن ما قدَّمت هو ما عرفت وقدرت عليه، وإنني أحترم آراءهم مهما كانت مخالفة لي، ولست أدعو أحداً إلى اعتناق آرائي أو الإقتناع بوجهه نظري، وإنما يهمني أن يفكر كل ذي فكر حر مستقل في مشاكل مجتمعنا عموماً وهو مجتمع يعتز بالإسلام، ابتداء من الخطوة الأولى في تربية الطفل، ثم يتخذ لنفسه في ذلك موقفاً ينسجم مع تعاليم الإسلام الحق.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى أقوم السبل.
(/3)
قوالب للبشر
إن تحكمُّ الآلة في هذا العصر أصبحت تسيطر على الإنسان إلى درجة أنها تريد أن تخضع الإنسان نفسه للصناعة كما خضعت بقية المواد.
وكما جعلت دور الصناعة الآلية قوالب محدودة للإنتاج الآلي حتى يخرج كل نوع منها متشابهاً تصلح كل قطعة منه أن تحل مكان القطعة الأخرى، سرى هذا الاسلوب من التصنيع إلى البشر أنفسهم، لا سيما في الأقانيم الثلاثة التي أشرنا إليها سابقاً.
فالتربية الحديثة تصوغ مجموعة من القوالب يمرر منها الطفل في مراحلة التربوية المختلفة ليخرج على نمط معين.
وقوالب التربية محدودة صممها خبراء الصناعة التربوية في دول متقدمة كما يقولون.
أما الشعوب النامية وقد بهرتها صناعة الحضارة أو حضارة الصناعة، فهي تلهث وراء القوالب تستورد منها لتصوغ فيها أفراد شعوبها.
وقد تتجه إلى جهة معينة لها قوالبها، فتأتي بها إلى بلادها وتضع فيها جيلاً من أطفالها المساكين، ولكن ما أن يمر عليهم فترة قصيرة في تلك القوالب، وقبل أن يتم تشكيلهم يخطر لها أن تلك القوالب لا تؤدي الغرض المطلوب، وتستورد قوالب أخرى من جهة أخرى وتخرج أطفال ذلك الجيل من قوالبهم السابقة وتعيد إدخالهم في القوالب الجديدة التي قد تختلف عن الأولى اختلافاً بيناً، فتحاول تثبيتهم فيها مع نوع من الضغط والإكراه قد يتحطم فيه عدد من الأطفال والقوالب، وتستمر العملية في استيراد القوالب وتغييرها بعض الأحيان مرتين في سنة، وبعض الأحيان عندما يكاد يتم التشكيل.
ولا شك أن تغيّر القوالب القسري يترك تشويهات عديدة ولذلك فإن الطفل بعد أن تنفرج عنه تلك القوالب المتباينة يخرج هو الآخر غير متناسق، لا مع نفسه مع الناس ولا مع قالب من تلك القوالب.
ونفس الاسلوب يجري مع الأقنوم الثاني الذي هو المرأة.
فقد وضعت للمرأة قوالب معيَّنة في بلاد صناعية قبل عنها متقدمة، والشعوب النامية تستورد تلك القوالب لتحرر منها المرأة في بلادها.
(/4)
لقد صنعت الدول المتقدمة قوالب للمرأة عندها، وهي قوالب محدودة في أشكالها، ولكنها مع ذلك ينبغي للمرأة عندهم أن تمرّ منها، أما المرأة في الشرق فقد كانت تنشأ حرة كما تتهيأ لها الحياة في بيئة صَّينة كريمة، فحرصت الشعوب النامية أن تستفيد من التقدم الصناعي البشري، فحرصت على استيراد تلك القوالب لتصوغ منها المرأة الشرقية فتستطيع أداء دورها المحدد كما تؤدي قطع الغيار في الآلة دورها المحدد ما دامت خارجة من قالب واحد، ولعلّ صناعة القوالب للمرأة تتقدم أكثر فتضع لها أرقاماً، وحينئذ يسهل الطلب والتعامل، وما على من أراد أن يستبدل امرأة مستهلكة في متجر أو مؤسسة أو شركة إلا أن يقدم الطلب ويذكر الرقم أما إلى جهة التصنيع البشري أو على صفحات الجرائد السيارة.
أما الحاكم فرغم أن النظم السياسية تختلف، فإن القوالب التي جعلت لتخريج الحكام لاسيما في الدول النامية قوالب قليلة، وأنماطها متشابهة إلى حد بعيد، فهي ولا شك تقوم مقام قطع الغيار بطريقة أدقّ، وبعض الدول تعاقب عليها في مدى قصير عدد من الحكام، واحد تلو الآخر، وكانت المهمة التي يقوم بها كل واحد منهم هي نفس المهمة التي تقوم بها قطعة الغيار المتقنة عندما توضع في مكانها المناسب بعد أن ينزع الأولى لأنها استهلكت أو لأنها تحطمت، وكل ما بين ذلك وهذا من فرق، أن الحكام تختلف أسماؤهم، أما قطع الغيار الآلية فلا تختلف، وغالباً ما تكون أسماؤها واحدة ما دامت الدار التي تنتجها واحدة.
(/5)
وإذا مضت البشرية في سيرها على هذا النمط، فسوف يكون للطفل والمرأة والحاكم (موديلات) كموديلات السيارات والأزياء، ولا تحتاج إلا إلى تحديد الطلبات فيستجاب لها بدقة، وسوف يقال في توزيع مواليد سنة معينة في دولة معينة أننا نحتاج إلى عدد كذا من موديل كذا وعدد كذا من موديل كذا، فتعدَّ القوالب لذلك ويحشد فيها الأطفال حتى يتم تصنيعهم ثم يخرجون بعد ذلك حسب المواصفات، ونفس العملية تجري مع المرأة والحاكم، بل إن بعض الدول تحاول أن تدخل أفراد الشعب كله في تلك القوالب، حتى أولئك الذين جفت عظامهم وتصلبت أعصابهم، ولم يكن يهمها أن يتحطم نصف العدد أثناء إجراء عملية التقليب الصناعية.
(/6)
الطّفْل
أن الإنسان في هذا العصر، يوجه اهتماماً متزائداً إلى الطفل، فقد أصبحت دراسته، والتفكير فيه، والحديث عنه، والإهتمام به في جميع الظروف والأحوال، مظاهر تشغل حيزاً غير ضيق في الوقت، وجانباً غير قليل من العناية، وتستهلك قدراً ضخماً من الجهد، وقسطاً وافراً من ميزانية الدولة، بل لقد أصبح يخيل للإنسان الكبير، أنه هو خالق الإنسان الصغير (الطفل) فمن حقه أن يشكله بالشكل الذي يريده، ومن واجبه أن يتولى شؤون سعادته وشقائه، وشؤون غذائه ونمائه، وشؤون إيجاده وإعدامه، بل حتى تحديد العدد اللازم منه في الأرض.
ولعل وزارة أو أكثر في كل دولة من دول العالم إنما تخصص للطفل، فوزارة التربية مثلاً هي وزارة للأطفال، وأهم أعمال وزارات الصحة الإجتماعية إنما تقدم للأطفال أو من أجل الأطفال، ووزارات الشباب إنما هي وزارات يعود أغلب ما تقدم به إلى الطفل.
وكل وزارات الدولة بل الدولة نفسها بما فيهتا من أجهزة وإمكانيات تجدها متهمة بالطفل في جميع الأحوال.
الإهتمام بأمراض الورائة، قضية الحمل، معاملة الحامل، الغذاء والدواء لها وله وهو في بطنها لم يخرج بعد، الإستعداد لاستقبال مقدمه، تنظيم مروره إلى الحياة بتحديد الحمل أو منعه، إذا اقتضى الأمر، تحديد العديد بالنسبة لأفراد الأسرة، فتح الباب أمام عدد محدد ومنع مجيء أطفال جدد إذا خيف أن يقلقوا راحة الموجودين بالفعل، على اعتبار أن الأرض هي ملك للأحياء الموجودين عليها بالفعل، وأن الذين لم يدخلوها بعد إنما هم دخلاء من حقنا أن لا نستقبلهم ولا نقوم بضيافتهم، وما دامت الأرض لا تستوعب إلا عدداً معيناً في نظرنا فإنه من حقنا أن لا نسمع بالزيادة على ذلك العدد، وما دام دخل البيت في نظرنا لا يكفي إلا لأربعة أفراد فإنه من حقنا أن لا نسمح بالزيادة عن ذلك العدد في ذلك البيت وهكذا.
(/7)
ثم الإهتمام بدور الطفولة والحضانة والمدارس والملاعب ومعسكرات الشباب، كل تلك الأشياء داخلة في هذا الإهتمام بالطفل.
والذي يلاحظ من بعيد ما يقال في هذا المجال وما ينبغي أن يعمل للطفل يجد أن الاسرة إنما هي عبارة عن ثلاثة أفراد، أو لها طفل يحاط بيجميع مظاهر القداسة والعبادة، وأم ساهرة على خدمة هذا الطفل، أو الإله الصغير تقوم عليه بالخدمة الممتازة، وتغدق عليه محبتها وتضفي عليه من أحاسيسها ومشاعرها وعاطفتها وتقدم إليه ما يحتاجه في هذه السن المبكرة، أما الأب في الحقيقة فهو خادم أو عبد يؤمر فيطيع وعليه أن يحضر للطفل ما يحب له حسب ذوق أمه ورأي الجماعة، وأن يكفل له ولها الغذاء المناسب واللباس والرعاية المناسبة، إن الأب في هذه الحال ليس له حق وإنما عليه الواجب فقط، عليه أن يتكفل بجميع ما يحتاج إليه الإثنان وأن يحضره ويعده لهما، عليه أن يعمل ليوفر للإله الصغير القابع في مهده ولسادنة المعبد جميع ما تقتضيه طبيعة حياتهما وطبيعة حياته.
وقد يبدو من جهة أخرى أن تفكير الانسان الكبير في تسيير الإنسان الصغير (الطفل) قد يختلف بعض الاختلاف في العصور القديمة والعصر الحديث، بل ربما أن التخطيط فيهما يتجه اتجاهين متباعدين.
فبينما كان الإنسان الكبير في القديم إنما ينظر إلى الطفل نظرة فردية باعتبار الطفل امتداداً الحياة أحد الأبوين، يتمنى ذلك الأب أن يرث منه طفله جميع مواهبه وخصائصه وطباعة، وفي كثير من الأحيان حتى وسائل معاشه، وأساليب احترافه، وإن كان يتمنى أن يكون ذلك منه بطريقة أفضل وأحسن وأعود بالكسب، كانت الدولة إنما تقف ناظرة من بعيد في شبه سلبية تنتظر حتى يتجه إليها ذلك الفرد لينضم إلى قواها.
(/8)
بينما كان هذا الاسلوب هو الظاهر في القديم، فإن أسلوب العصر الحاضر تغير تغيراً ملحوظاً، فأصبحت الدولة تهتم بالطفل أكثر حتى من اهتمام الاسرة أو أفراد الأبوين، ولذلك فهي تقدم له الرعاية في سنواته الأولى، ثم لا تلبث أن تستلبه من أٍرته وتستأثر دونهما في تشكيله في الشكل الذي ترغبه وتريده، ذلك أن الإنسان في هذا العصر قد تخلى عن التفكير الفردي وأصبح يعمل بروح المجموعة، فهو يريد أن تسيّر المجموعات الصغيرة، وأن المجموعات الصغيرة يجب عليها أن ترث كل الخصائص والمواهب والأفكار والسلوك من المجموعة الكبيرة، وأن تسير حسب مخططاتها.
(/9)
الطفل في الغيب
لا شك أن الاهتمام بالطفل وهو لا يزال في الغيب أمر يبدو غريباً ولكنه واقع، وقد أرشد إليه الإسلام، كما أنه يأخذ حيزاً كبيراً من تفكير الإنسان واهتمامه وتقديره واستعداده بأزمنة طويلة قبل توقُّع وصوله.
وإذا كان الإسلام قد أرشد إلى ملاحظة أسس معينة توقعاً لمجيء الطفل الذي لا يزال في ضمير الغيب، فإن لعاطفة الإنسان وتفكيره، وآماله وأحلامه وحتى آلامه، دخلاً عظيماً في الموضوع.
وبالنظر إلى اهتمام بالطفل وهو لا يزال في ضمير الغيب فإننا نستطيع أساسين هامين يوصي الإسلام بمراعاهما هما:
البيئة التي يجيء منها الطفل.
تأثير الوراثة على الطفل.
وفي الأساس الأول يمكن للباحث أن ينطلق من قول رسول الله: ((إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء)) أو كما قال:
وقد شاع على ألسنة الفقهاء قولهم: ومن حق الولد على أبيه أن يختار له أخواله، ولا شك أن اختيار الأخوال يكون قبل مجيء الأم، يعني أن يهتم بالولد وسمعته وهو لا يزال في ضمير الغيب، والحديث الشريف الذي ذكرناه أصرح وأوضح في الموضوع، فإن المنبت السوء الذي تنشأ فيه الأم أو ينشأ فيه الأب يكون له تأثير عظيم على تكوين الطفل، ولذلك فمن واجب الرجل ومن واجب المرأة أيضاً أن يبتعدا عن خضراء الدمن، أما في الأساس الثاني وهو الاهتمام بقضية الوراثة، فقد جاء فيه عن رسول الله قوله: ((تخيَّروا لنطفكم فإن العرق دسَّاس)) والحديث الشريف حجة صريحة واضحة في الموضوع وحد فاصل عند الاحتكام.
(/10)
ومعنى هذا أن الشريعة الاسلامية حرصت ولا شك على مراعاة الطفل وهو في عالم الغيب، قبل أن تتقرر حتى علاقة الأبوين، فأرشد إلى أنه يجب على الأب قبل الارتباط بأم طفله، وعلى الأم قبل الاتباط بأب طفلها أن لا يجعلا طفلها عرضة القالة السوء بسبب منبت أحدهما ونسبته إلى أخواله أو أعمامه وأن يجنباه احتمال التعرض للعاهات بسبب الوراثة.
ويجري سلوك الناس في هذا الأساس قريباً من التوجيه الاسلامي، فلا شك أن أغلبية الناس – ذكوراً وإناثا – وهم يفكرون في الزواج تتراقص بين أعينهم صور لما ينبغي أن يكون عليه أولادهم، ولا يخلو ذهن فتى أو فتاة وهما في صدد اختيار رفقة العمر عن رسم صور محبوبة لصور ولد المستقبل، وربما دخل فيها حق الصور الجسيمة، أما الفلسفة الانسانية في الموضوع فهي قد يكون أشد اهتماماً في هذا العصر، ولما كان مبدأ الوراثة قد تقرر واعترف العلم الحديث بثبوته فقد جرى التفكير بالانسان شوطاً أبعد حتى حاول حرمان المعوقين والمشوهين والضعاف من الإنجاب، لكي تكون جميع الأجيال المتولدة من الانسان على المستوى المطلوب في القوة والجمال والذكاء، وربما اتخذت بعض الدول خطوات عملية في تطبيق أو تنفيذ هذه الفلسفة.
وخلاصة هذا الفصل أن الطفل وهو لا يزال في ضمير الغيب يجد من الاهتمام والرعاية والتفكير قسطاً كبيراً، وتتعاون الشريعة الاسلامية والفلسفة البشرية في العناية به بالقدر الذي يمهد له بيئة سليمة هادئة ومنبتاً حسناً مستقراً وضرورات مكفية مقضية بعيداً عن التأثير السيء الوراثي في خلقه وخلقه ولو أن الفلسفة البشرية في هذا الجانب تفرط في المبالغة حتى تتجاوز الحدود وتخرج عن نطاق الطبيعة.
(/11)
الطفل في الطريق
إن المدة الزمنية التي يقضيها الطفل في الطريق منذ اتحاد جزئيه الأولين إلى أن تصافح الشعاعة الأولى من النور عينيه المفتحتين وتلمس النسمة الأولى من هواء الأرض أنفه وشفتيه هي تسعة شهور قد تنقص قليلاً وقد تزيد قليلاً.
لقد كان الإهتمام بالطفل في المرحلة السابقة، اهتماماً بالمجهول، واحتفاء بمتوقع، وتنظيماً للسير في مرحلة تتم وقد لا تكون أبداً، أما في هذه المرحلة فإن الاهتمام واقع على شيء موجود بالفعل وإن كان غير منظور، وهو متوقع الحضور في خلال فترة وجيزة لا تتجاوز بضعة شهور، وتتعاون الأديان وفلسفة الإنسان في هذا الموضوع أيضاً فتستعد لاستقبال هذا الوافد، وتوصي بتقديم جميع الضمانات لوصوله سالماً، وتحرم تحريماً مطلقاً أن يلحق به أي أذى وهو في الطريق.
ولما كان الطفل في هذه المرحلة – مرحلة الطريق، أو مدة الحمل – لا يزال يحجزه حاجب سميك عن الإتصال المباشر به، فقد اتخذت الوسائل لخدمته والعناية به عن طريق جانبي هو طريق الأم، فأحيطت الأم بعناية فائقة، اهتمت الأديان بالطفل في شخص أمه فأعطتها حقوقاً ليست لها في الأحوال العادية، وأعفتها من واجبات لا يمكن أن فلسفة الإنسان، فقد كان لم يكن ذلك الطفل قابعاً في بطنها، أما فلسفة الإنسان فقد كان اهتمامها منصباً في تسخير كل ما وصل إليه العلم لخدمة ذلك الطفل الذي لا تزال تحجبه جدران من لحم ودم فجهدت أن توفر له وسائل الراحة وأن تهيئ له الغذاء المناسب والإشراف الطبي الكامل عن طرق أمه أيضاً طيلة فترة الإنتظار، وتبالغ أحياناً في ذلك حتى تتحكم في حركة الأم وعملها وغذائها ولباسها.
أما الأبوان فهما في هذه الفترة أشبه بطفلين لديهما لعبة ثمينة ملفوفة في طرد مغلق بإحكام، فهما بقدر شغفهما باللعبة وتوقهما إلى رؤيتها يحذران انكسارها ويخشيان من خسارتها.
(/12)
وهكذا نجد جميع العوامل تحيط الطفل في هذه الفترة – فترة الطريق – بالمحبة والخدمة والعناية، تتفق في ذلك الأديان والفلسفة البشرية ورغبة الدولة والمجتمع والأسرة، فهي فترة عطاء كامل بالنسبة لهذا المخلوق المنتظر الذي لا يعلم أحد غير الله ما هو الأثر الذي سوف يحدثه بعد قدومه.
(/13)
الطفل في الأسرة
عندما يضع الطفل قدمه على عتبة الحياة المنظورة، ويخرج من الطرد الذي أرسلته فيه العناية الإلهية إلى واقع الحياة البشرية، ويستقبل النور والهواء فتراه العيون وتلمسه الأيدي – تبدأ سلسلة أخرى من الاهتمامات، وأول الاهتمامات التي توجهها الأديان إليه في هذه المرحلة بالإضافة إلى العناية بصحته عامة ورعاية نظافته وغذائه – إنما هي مراعاة موقعه من المجتمع في حياته المقبلة، ولذلك فهي توصي أن يختار له أحسن الأسماء وتضفي عليه أكرم النعوت، لئلا يتقلقل موضعه في المجتمع بسبب لفظ تمجه الأذواق وتنبو عنه الأسماع، ويتخذه بعضهم أداة سخرية ووسيلة إغاظة وإثارة، وقد كانت الأديان في المرحلة السابقة تعفي الأم من بعض الواجبات وتعطيها بعض الحقوق التي ليست لها، أما في هذه المرحلة وقد خرج الطفل من بطنها ليستقر بين يديها وعلى حجرها فقد أصبحت تفرض عليها نوعاً من الشدة وبعضاً من الواجبات التي لم تكن مطالبة بها، ولما كان كل ما يصل إلى الطفل في حياته الأولى من الطفولة إنما يصله عن طريق الأم، ولما كان الإسلام حريصاً على الطهارة والنظافة، فإنه ألزم الأم بمراعاة هذا الجانب في حياة الطفل المبكرة عندما تكون يد الأم هي الأداة الطبيعية لتغذية الطفل ونظافته، وأوصاها أن تحرص على أن يكون كل ما يصل إلى الطفل طاهراً ونظيفاً، طهارة صحية حتى يسلم من الأمراض والآلام والعاهات، وطهارة شرعية حتى لا تستمرئ أمعاؤه الدقيقة شيئاً من الغذاء الحرام والشراب الحرام والشراب الحرام وتعتاد عليه.
وقد شدّد فقهاء المذاهب على الأم التي تتساهل في أمر الطهارة فيما تقدمه الطفل، ففرضوا عليها (كفارة) بل لقد بلغ الأمر عند بعضهم أن ألزموا كل أم (كفارة مخففة) عن كل مولود لها عاش فتره ما، احتياطاً عما قد تكون قدمته له عن غفلة أو سهو ثم نسيته.
(/14)
أما الفلسفة الإنسانية ممثلة في الدولة، فهي تضع كل ما وصل إليه العلم في خدمة الطفل لهذه الفترة، فتحتفل لا ستقباله بدور الولادة وتسخير علوم الطب والصحة لراحته وتجنيد الأطباء والممرضين والقوابل للقائه بما يكفل له عدم الإحساس بمرارة الانتقال من محضنه في ظلمات الرحم إلى مهاده في دنيا الحركة والتموج.
وتواصل الدولة رعايتها واهتمامها بالطفل في هذه المرحلة بالوصايا التي تفرضها على الأم من اختيار الغذاء والكساء والنظافة واستشارة علم الصحة في جميع الأحوال وتقديمه لأنواع التطعيم أو وسائل الوقاية التي توصلت إليها البشرية وتقدمها الدولة في حرص واهتمام.
وبعد فترة ليست طويلة من هذا الاهتمام والعناية بالطفل من جميع الأطراف يبدا الخلاف يتضح بالتدريج بين مقاصد الدين والدولة والأسرة من تكون هذا الطفل، بل قد تختلف مقاصد الأب عن مقاصد الأم وبالعكس.
وتتوزع الرغبات المختلفة البذور الحقيقة التي تبذر في نفس الطفل منذ هذا الحين، ولما كان الاتصال الوثيق بالطفل لا يزال في يد الأم أولاً ثم الأب ثانياً، فإن السلوك الذي ينسكب في نفس الطفل غالباً ما يأتي عن الأم أو عنها وعن الأب، ويبدا تأثيرهما يبتعد به أو يقترب من مقاصد الدين أو مقاصد الدولة عندما تكون الدولة بعيدة عن الدين.
والواقع أن الاهتمام المنصبّ عليه في هذه الفترة إنما كان لخدمته دون تكليفه، سواء في ذلك اهتمام الدين واهتمام الدولة واهتمام الاسرة ذات التأثير الفعال، ولكن عملية الخدمة هذه هي في الحقيقة عملية استجلاب أو عملية استرضاء ثم رضا.
ومن الواضح بمكان أن الدين وهو يقدم توصياته لخدمة هذا المخلوق الجديد فإنما يريد أن ينشىء فرداً يحمل المقومات التي أرادها الخالق سبحانه وتعالى في الانسان حينما جعله خليفة له في الأرض، وأناط به تمثل التبعات في عمارتها، ووضع على عاتقه الأمانة الثقيلة.
(/15)
أما الدولة مستعينة بالعلم الذي نشأ عن تجارب الإنسان الطويلة فهي تريد أن تستفيد عضواً جديداً يتمكن من القيام بأعباء تفرض عليه مستقبلاً، فهي تقدم النصائح والتوصيات التي تعتقد أنها كفيلة بتكوين جسم سليم وفكر قويم خاضع لرغبة المجتمع.
أما الأم وهي أقوى مؤثر من أفراد الاسرة، فهي تريد أن تصوغ عجينتها هذه على أحب صورة في أحلامها، لأنها تعتبرها امتداداً لها، وإضافة لحياتها، ولا يبعد اتجاه الأب عن هذا الاتجاه.
ووسيلة الدين في هذا المقام لا تزيد عن تعريف الأبوين بالسلوك الذي يجب عليهما إزاء الطفل ثم توجيه الطفل نفسه في المسلك الذي ينبغي له.
أما الدولة فبالإضافة إلى التوصيات الكثيرة التي توجهها إلى الأبوين وبالأخص الأم فإنها أشد خشية من أن لا يتحقق لها ما تريد، ولذلك فهي تحتال لبلوغ مقاصدها بأخذ الطفل ووضعه تحت توجيهها وإشرافها بأسماء جذابة مغرية (دور الحضانة) (رياض الأطفال) (دار التربية والتعليم) وتجعل القيمين على تلك الدور ناساً قد أعدتهم للقيام بتلك المهمات إعداداً خاصاً.
أما الأبوان فلكي يصوغا طفلهما على النمط الذي يريدانه فإن سلوكهما غالباً لا يخرج عن حالتين: حالة الرعاية والنصيحة والتوجيه في لين حيناً وفي شدة حينا آخر، والحالة الأخرى التوجيه الاجباري ولو اقتضى ذلك استعمال العنف بأقوى مظاهره.
وهكذا تبدأ الرغبات تتجاذبه، وبعد أن كانت جميع الجهود مبذولة له والخدمات تقدم إليه أصبح مطالباً بالواجبات، وكل يوم تزداد تلك الواجبات وتثقل، فنحن نريد منه الحب ونحن نريد منه الإعجاب، ونحن نريد منه السلوك الذي نمليه عليه، وبعبارة أوضح نريد منه أن يتجه اتجاهاً إجبارياً في مسلك خاص.
إن ذلك التمثال الذي حلمنا به في الغيب وانتظرناه في الطريق واستقبلناه بما يشبه التقديس والعبادة، وأحطناه بهالة من العناية والرعاية والإكرام أصبح اليوم تمثالاً من الحلوى نتوق إلى أكله والاستعاضة عنه بغيره.
(/16)
الطفل في المدرسة
إن الطفل في المدرسة يشبه نبتة صغيرة على أرض عارية تتعاقب عليها رياح مختلفة الإتجاه وتمرّ زوابع عنيفة من كل مكان.
الأب يريد منه أن ينمو بسرعة وأن يجيد مهارة ما لتكون وسيلة اكتساب تقدم للبيت مدداً مادياً يساعد على النفقات، وهو غالباً يرغب أن يسلك طفله أقرب الطريق لأضخم المكاسب.
والدّين يريد منه أن يعرف حقائق الإيمان والعمل الصالح ليقوم بقسطه من خلافته الله على الأرض على هدى وبصيرة، وليعيش في الدنيا عبداً حراً الله، لا يخضع لغيره، ولا يذل لسواه.
أما الدولة فهي تريد منه أن يسير في المنهج الذي تراه حق يساعد على مزيد من الإكتشاف والإختراع في المجال الذي تمهده له وأن يسوق معها – بقوة وذكاء – قافلة البشرية إلى مصير مرسوم، والواقع أن الدولة وإن قدّمت إلى الطفل في السابق كثيراً من المساعدات، غير أنه كان لا يحس بها الإحساس الكافي، فهي في نظره ليست ذات قيمة، أما الآن وقد مرَّ برياض الأطفال ودخل المدرسة، فإن المساعدات تصله مباشرة وهو يعيها ويحس بها إحساساً كاملاً، ولذلك فإن تأثيرها عليه يكون من العنف والقوة بالقدار الذي يزيح جميع المؤثرات السابقة، ويوجهه التوجيه الإجباري المطلوب، وعندما تكون الدولة مخالفة في مسلكها المنهج الدين أو لرغبات المجتمع – وهذا ما يحدث غالباً – فإن الطريق يتفرع أمام الطفل، ويسلك غالباً مع المنهج الذي امتص مبادئه من أفراد أسرته وهو صغير، أما عندما تكون الدولة سائرة في منهج الدين فإن الطفل غالباً ما ينتهج السلوك المقصود منه.
ولا شكّ أن الدولة بالنسبة للطفل في هذه المرحلة متسترة بمصالح الشعب والوطن، تستغل كل ما حذفه خبراء التوجيه التربوي للإستفادة من هذا الطفل في الركب السائر لتنفيذ مخططاتها.
وينقسم خبراء التوجيه التربوي إلى نوعين:
(/17)
النوع الأول: وهو في الغالب ما تسير عليه مخططات الشعوب النامية التي تنقصها الخبرات والمواد، وسلكها يشبه أن يكون مسلك الطبيب مع المرضى في الحالات الخطيرة، الإشراف المتواصل، أخذ مقاييس الحرارة عدة مرات في اليوم، وضع ريجيم للتغذية، التقليل من بعض المواد والإكثار من مواد أخرى، المنع الكامل من بعضها، مراعاة حركة المرضى، والسماح لبعضهم بالتحرك الكامل لبعضهم بالتحرك المحدود في نطاق محدود، وعدم السماع لبعضهم بالحركة مطلقاً.
إن أطفال المدارس في الدولة النامية في الواقع ليسوا بُعداء عن هذا الوضع، تحدد لهم مواضيع الدراسة حسب أمزجة الدولة وسياستها، تكثر من بعضها وتقلل من بعضها الأخرى، وتمنع بعضها منعاً مطلقاً، وتشرف على تحركاتهم إشرافاً كاملاً، تسمح لبعضهم بالحركة المطلقة ولبعضهم بالحركة المحدودة في الأماكن المحدودة، بينما تمنع بعضهم من التحرك منعاً مطلقا.
ويسير الطفل في مراحله الدراسية على هذا التخطيط حتى يتمها وقد صب في القالب المطلوب، القالب الذي تريده الدولة، فإذا لم يتسع له القالب أو حاول أن يخرج عنه مثَّلت معه دور العربي الحاهلي مع إله من الحلوى.
وفي أثناء هذه العملية المحدّدة الضعيفة التي يسير عليها الطفل بإشارات التوجيه الإجباري تنصب سيول دافقة من آراء التربية وعلماء النفس ونصائحهم في هذا الميدان، يقرؤها الكبار والمسئولون طبعاً ثم يضعونها في أماكنها من مراكز التوثيق أو مكتبات الدولة أو مكتباتهم الخاصة، وذلك لأن ما يجيء في تلك الكتب عامة يشبه ما تصفه كتب علم التغذية من المواد الموجود في النباتات المنتشرة في ميادين الحياة.
(/18)
أما المدرسة فهي شبيهة جداً بالمستشفى ولا تقدم للطفل إلا بقدار ما يقدَّمه المستشفى للمريض، بنصيحة وكيل الوزارة أو عميد التوجيه أو مدير المدرسة أو المدرس أو غيرهم ممن تناط به هذه العملية، بل إن القوانين تحاول أن تلحق الطفل حتى خارج المدرسة فتمنعه من الزيادة على ما تقدمه له بدعوى الشفقة عليه وخوفاً على أعصابه من الإرهاق، بل لعله من المضحك أن يجنح عدد من أولئك الخبراء فيقررون على سنة دراسية عدداً من الحصص في الأسبوع يؤكدون أن علم النفس التربوي الحديث لا يسمح بالزيادة عليها ولا بالتنقيص منها، ويجتمعون هم أنفسهم أو أكثرهم بعد فترة قصيرة فيقررون غير ما قرروه أول مرة زاعمين أيضاً أن ذلك ما يؤكده علم النفس التربوي الحديث وأن الزيادة على ذلك والنقص منه مخالفة لحقائق العلم.
أما النوع الثاني: وهو الذي تسلكه الدول التي تملك الخبرة والثروة فهو يختلف عن هذا المسلك اختلافاً واضحاً، إنه مسلك ينبني على دراسة مسبقة لميول الطفل ثم تقديم ما يشتهيه أولاً بأول، هم لا يمنعون ما لا يريدون بصورة النهي المباشر، وبدلاً من أن يضعوا أمامه إشارة منع الحركة في اتجاه أو ميدان يبتعدون به عن الاتجاه أو الميدان المرفوض، ويضعونه في الميدان أو الاتجاه المطلوب ويبذلون له حرية الركض، وقد تلتقي أهداف الإتجاهين وإن كانت الصور الأخيرة تتم دون تذمر أو شكوى لأن أصحابها يعتقدون أنهم وصلوا بمحض اختيارهم ورغباتهم، بينما تتم الصور الأولى بكثير من القسر والإكراه والعنف.
(/19)
إن الأطفال في الدول النامية كأنما يوقفون في طوابير ثم تصدر إليهم الأوامر – واحداً واحداً – كن أنت كذا، وكن أنت كذا، أما الأطفال في الدول المتقدمة فكأنما يوقفون هم أيضاً في طوابير، وتوضع مصائرهم في أشباه لعب جميلة أمامهم ثم يتاح لهم اختبار ما يريدون منها، وإن كانت هي الأخرى محددة حسب رغبة الدولة، فيثب كل واحد منهم إلى اختيار اللعبة وتتيح له تلك اللعبة أن يستمر معها حتى يصبح محترفاً فيها تشكل لون حياته.
والفرق بين التوجيهين الأول والثاني أن التوجيه الأول يترك جميع الأشياء أمام حسّ الطفل ونظره، مرفقة ببطاقات الأوامر والنواهي: إفعل لا تفعل، خذ لا تأخذ، أما في التوجيه الثاني فتستبعد من المبدأ الأشياء غير المرغوب فيها وتوضع الأشياء المرغوب فيها أمام الطفل منسقة جميلة إلى جانبها بطاقة واحدة تقول له: إختر ما شئت منها.
وهكذا تجد في الدول النامية كلمة: إفعل ولا تفعل تتحرك معك كظلك، بينما لا تجد في الدول المستقرة إلا عبارة: إختر ما شئت.
(/20)
طفْل الدولة
لست أدري لماذا تثور في ذهني – كلما فكرت في موضوع الطفل في الدول – تلك الصورة التي قرأت عنها
في بعض كتب التاريخ أو كتب الأدب من أن بعض الأعراب في الجاهلية يتخذون أصناماً من الحلوى يعبدونها زماناً فإذا جاعوا أكلوها ثم يتخذون غيرها ويكون مصيرها نفس المصير.
هذه الصورة تلحّ على ذهني كثيراً وأنا أفكر في الطفل، بل في الفرد البشري عند الدول النامية كما تسميها الأوضاع السياسية اليوم، ولعل وجه الشبه في هذا أننا نبذل من الاهتمام والرعاية وتقديم الخدمة – على كل من نطاق الاسرة والدولة – للطفل قبل أن يحصل على مادته، ثم عندما تتشكل عندنا مادته ويتم بناؤه تعود عليه فتلتهمه تماماً كما يفكر ذلك الأعرابي الجاهلي فيجمع مادة الحلوى ويقوم بتشكيلها وتقديم الخدمات لها، فإذا تم له ذلك واستوت أمام عينيه ثم أحس بالجوع وثب عليها فالتهمها، ثم بدأ يفكر في إله جديد.
نحن ننتظر الطفل وهو في الغيب، ونرعاه وهو في بطن أمه ونحتفل لاستقباله عند مقدمه ونقدم له الخدمة والرعاية لفترة من الزمن، فإذا دخل المدرسة شكلنا له هيكله وأعضاءه حسب رغبتنا، كما يشكل الجاهلي هيكل إلهه من الحلوى، وبعد أن يتم تشكيل ذلك الطفل على النمط الذي خططناه نثب عليه في يوم من الأيام لنزيله من الوجود، الوجود الحسي والوجود المعنوي.
ربما ظنّ أريد القارئ أنني أرمز بهذا إلى معنى بعيد لم يفهمه، وأريد أن يتأكد القارئ أنني لم أقصد إلى شيء غير الظاهر الذي تؤديه عباراتي بما فيها من قصور.
إن الذي أريد أن أقوله أن الدول في هذا العصر أصبحت تحاول جاهدة بما أوتيت من خبرة ومعرفة أن تصوغ أطفال شعوبها كلهم في قوالب متشابهة تسير بحركة واحدة رتيبة كأنما هي في طابور عسكري تنسق إيقاع خطواتها كلمتا .. يمين .. شمال ..
إن الدولة المعاصرة قد سيطرت – بمختلف الوسائل – على شخصية الفرد، فهي تريد أن ينساق معها في الاتجاه الذي ترسمه غير عابئة بشخصيته.
(/21)
ورغم التغني المستمر بالحرية الفردية فإنه لا وجود لها لا في الدول المتقدمة ولا في الدول النامية.
والواقع الذي تعيش عليه البشرية اليوم أنَّ الفرد إنما هو عبارة – مهما كان مستواه الفكري – عن طفل نقدم له الخدمات ولكنه يسير على المنهج الدراسي ولا يخرج عنه، وإذا خطر له أن يخرج عن المنهج الدراسي المرسوم أعيدت معه قصة الإله من الحلوى.
وخلاصة هذه الفصول أن الدول تبذل من الرعاية والعناية شيئاً كثيراً للأطفال في فترتي الحمل والرضاع ثم تستلمهم من أسرهم في نحو الرابعة والخامسة من أعمارهم حيث تكون قد أعدت لهم قوالب للصياغة تبدأ من رياض الأطفال وقد تنتهي بآخر المراحل الجامعية وقد لا تنتهي صياغة بعضهم فلا يتشكلون بالشكل المطلوب، وحينئذ تعاد قصة الإله من الحلوى معهم.
والحقيقة أن الدول إنما تعامل في هذا العصر أفراد شعوبها معاملتها، فهي شبيهة بتلك الأم التي لا تستطيع أن تتصور أن ولدها قد كبر وأصبح رجلا يستغني عن رعايتها فهو إما أن يأتمر بأمرها ويخضع لرغبتها ويسير حسب توجيهها وإلا فستبدأ المشاكل وتثور الزوابع.
(/22)
المرأة
لعلَّ المرأة لم تشغل من فكر الإنسان، وتأخذ من وقته وتستحوذ على اهتمامه – في أي فترة من فترات التاريخ – كما شغلت واستحوذت وأخذت ذلك منه اليوم، رغم أن المرأة في حياة الإنسانية الكاملة كانت هي مثار الإهتمام وموضوع المنافسة والحديث.
والسبب فيما يبدو أنها في العصور السابقة كانت هي موضوع الحديث فقط، فالديانات تشغل بها وتخصها بجانب من الرعاية، والفلسفة تهتم بها اهتماماً خاصاً وتوليها جانباً آخر من العناية، وكانت العاطفة البشرية تتأثر بها وتؤثر فيها وتخصها بالجانب الأكبر من الإهتمام، وكانت المرأة تنظر إلى كل ذلك متلذذة مستمتعة متدللة طالبة المزيد، متصنعة الحنق والغيظ، مظهرة في ظاهرها الإحساس بالحرمان، وهي في داخل نفسها مغتبطة فرحة.
وجاء العصر الحديث، ورغبت المرأة في المزيد من العناية والاهتمام، ولم تعد تكتفي بالإيحاء بما تريد، وإنما خطر لها أن تتولى هي نفسها الإعلان والمطالبة وأن تشترك أو تقود هذه الحركة الجديدة، وبعد أن كانت المرأة موضوع الحديث والاهتمام أصبحت موضوع الحديث والاهتمام ومصدرهما أيضاً، وهكذا تضاعفت الحجم والمساحات التي كانت تشغلها المرأة من واقع الحياة.
وإذا استمرت المرأة في مسيرتها هذه، فلا يبعد أن تخسر كونها موضوع الإهتمام والرعاية وتكسب كونها مصدر الإهتمام والعناية، وحينئذ تنتقل من شيء عزيز يصوره الخيال وتزينه الأحلام ويعزّه تزاحم الطلب، إلى سلعة معروضة على الرصيف تعلن عن نفسها في ذلة وانكسار، تقتحمها العيون، وتمتهنها الأيدي وتسحقها ألوان السخرية المتتابعة.
(/23)
المعركة المفتَعَلة
لا شكَّ أنَّ الله عندما خلق الإنسان، أنعم عليه بالحرية، في جملة النعم الكثيرة التي أغدقها عليه، ولكن تلك الحرية التي أنعم الله بها على الإنسان – ذكراً كان أو أنثى – إنما كان مراعى فيها – بطبيعة الحال- حدوداً معينة لا يصح تجاوزها، فليس من حق الإنسان أن يدَّعي باسم الحرية مطلقية التصرف، ليس من حريته أن ينكر النعم التي أسبغت عليه، ويتوجه بالشكر إلى من لم يقدمها له، وليس من حريته أن يقدم طاعته لمن لا يستحق منه الطاعة، وليس من حريته أن يعبث فيما يقتضيه نظام الحياة، وناموس الكون، وسبب العمران، وليس من حريته أن يطيع الشيطان، أو يعبد الأوثان، أو يزهق الأرواح حتى روح نفسه فالحرية إذا محدود كثيرة.
وقد اقتضت طبيعة الحياة أن تكون حرية الرجل محدودة بحدود، وأن تكون حرية المرأة أيضاً محدودة، تتفق هذه الحدود أحياناً وتفترق أحياناً أخرى لتكون لكل منهما حدوده الخاصة.
وأراد الرجل أن يجتاز حدود حريته فيستمتع دون قيود أو حدود أو ضمانات أو بذل للأموال، فعارضته حرية الآخرين، لقد أباحت الشرائع والأعراف والعادات في بعض الجهات أن يقوم الاستمتاع بين الرجل والمرأة لكنه قيد بحدود، حدود عددية، وحدود زمنية، وحدود مادية، فلم يتمكن الرجل من تحقيق تلك النزعة، نزعة الإستمتاع بما هو خارج حدود ولا يصل إليه، وعندما يجتاز الحدود ويحقق تلك الرغبة أو النزعة فإنه قد تطبق عليه العقوبة المقررة عقوبة الدين أو عقوبة المجتمع أو عقوبة القانون أو عقوبة صاحب الحد المنتهك والحق المأخوذ، وكان شيطان الشهوة قد زرع في فكر الرجل الحيلة التي يصل بها إلى تحقيق ذلك المطلب فأعلن معركة حامية الوطيس ضد الأديان والأعراف والعادات المحتفظة، ولكنه مع حربه الطويلة في هذا الصدد لم يحقق نجاحاً إلا في حالات قليلة انصبت عليه فيها عقوبات مقررة أو سوغ له استمتاع محدود بفقه منحرف أو مستغل أو مستغفل.
(/24)
وخطر له في هذا العصر أن يستعين في حربة الطويلة هذه بالمرأة لا على أن يختلسا – كما كانا يفعلان من قبل – متعة محرَّمة ربما تكون عواقبها وخيمة عليها وعليه، ولكن على أن تعلن معركة ضارية مدعية فيها حقاً ضاع عنها فهي تطالب بإرجاعه وذهب يسكب هذه النغمة في أذنها، ويشحن بها نفسها، فأحبتها أولا وأعرضت عنها ثم استمعت إليها ثم استساغتها ثم تبنتها وتجنَّدت للمعركة الحامية تطالب بالحق المهضوم يناصرها في ذلك رجل يزعم لها أنه يرثي لحرمانها من حق طبيعي لها في الحرية.
وطالبت أن تتحرر من رقابة الأسرة ثم من رقابة المجتمع ثم من رقابة الدَّين ثم من رقابة الخلق فأتيح لها ذلك وطالبت أن يكون لها حق التملك والإستغلال والسيطرة، فأتيح لها ذلك، وانتصرت حسب زعمه وزعمها في جميع المعارك، ولكنها لم تحقق رغبة الغريزة في الإرتواء من المتعة، لقد ارتوى هو ولم ترتو هي، لقد كانت نتائج المعركة لمصلحته لا لمصلحتها، وكان ما تعده انتصاراً لها إنما هو انتصار له لا شك في ذلك.
وتملكتها الحيرة في الاستفادة مما تعتبره انتصاراً لها فلم تعرف كيف تستفيد منه.
كانت المرأة مصونة لا تعبث بها الأيدي ولا العيون، يقدم لها الحب في حرارة العاطفة وصدقها، وتمنع لها القلوب في إخلاص وتفان، وتراق من أجلها الدماء على الأعتاب، وهي في كل ذلك متمنعة متذللة متحكمة، سواء كان ذلك في المنهج المشروع أو حتى في المنهج الممنوع.
(/25)
أما وقد خيَّل إليها أنها انتصرت في هذه المعركة التي افتعلها لها الرجل فأخرجها إلى حيث شبعت منها الأيدي والعيون حتى مجَّتها وأعرضت عنها، فأصبحت هي التي تلهث وراءه مخالفة بذلك سنة الفطرة التي عبت بها الأنثى في المخلوقات جميعاً، وصارت تقدم وسائل الإنتباه للرجل ولكنه وقد ارتوى من مشهدها وملمسها عزف عنها، فكانت تلهث وراءه بكل الوسائل، تنصب حوله الشباك لتوقعه بعد أن تذل وتبذل من كل مقوماتها، فطاردته باللحظة والحركة والكلمة واللمسة المقصودة، ثم فتحت من خزانتها رصيداً ضخماً تشتري به مساحيق التجميل، فلم يؤثر كل ذلك عليه، فكشفت له عن جسمها وهي تحتك به في العمل والشارع فلم يثر ذلك اهتمامه ولم يغنها شيئا.
وحار شيطان الغواية عندما فلم يعد يعرف ما هو السبيل، لعب بشعرها فشكله على مئات الأشكال، ولعب بوجهها حتى أخرجه من خلقته البشرية إلى صناعة الدمى، وحتى أن الناظر لا يجد صلة بين وجه تحمله الأنثى وهي مارة في الشارع ووجه تحمله تلك الأنثى نفسها وهي قارة في البيت، بل لعلها تتخذ لكل حفل ولكل وقت وجهاً غير الوجوه السابقة.
ولعب بجسمها فخنق منه مناطق حتى كادت تتقطع، وأبرز منه مناطق حتى صارت كأنها ثآليل ضخمة، أو نتوءات تتولد عنها أجسام أخرى غريبة.
واستمرت به الحيرة فكشف من جسمها أكثر أجزائه حتى بم يبق منه مستوراً إلا الجز اليسير، وعاد فستر منه كل شيء ولكن كل ذلك لم يغن فأصبحت المرأة تلهو باللباس، تكشف وتستر، وتستر وتكشف، وتطيل وتقصر، وتقصر وتطيل، وهي في كل ذلك تستجدي النظرة والبسمة والكلمة واللمسة، ولكن الرجل يمر بجانبها في برود، لأنه قد شبع وارتوى وأصبح ينظر إليها وهي كاسية كما ينظر إلى دمية علقت عليها ثياب للعرض، وينظر إليها وهي شبه عارية كما ينظر إلى أفخاذ البقر المسلوخة وهي معلََّّّّّّّّّّّّّّقة في دكاكين القصابين، لا تبعث في النفس إلا الأسف أو الإشمئزاز ..
(/26)
وجدت المرأة أن ما اعتقدته انتصاراً لها لك يحقق لها الحلم الورديّ، ولم يشبع منها إ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق