الكتاب: الإباضية في موكب التاريخ
المؤلف: علي يحيى معمر
الجزء: الحلقة الأولى: نشأة المذهب الإباضي
الناشر: مكتبة وهبة
المكان: القاهرة، مصر
الطبعة: الأولى
التاريخ: جمادى الثاني 1384هـ / أكتوبر 1964م
المطبعة: مطابع دار الكتاب العربي، محمد حلمي المنياوى
[ترقيم الصفحات موافق للمطبوع]
علي يحيى معمر
الإباضية في موكب التاريخ
[ترقيم الصفحات موافق للمطبوع]
الحلقة الأولى
نشأة المذهب الإباضي
مكتبة وهبة
14 شارع الجمهورية –القاهرة-
تيلفون 914223
(1/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى: جمادى الثاني 1384هـ / أكتوبر 1964م
مطابع دار الكتاب العربي
محمد حلمي المنياوى
(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
(1/3)
مقدمة
في هذه اللمحات القصيرة أردت أن أعرض صفحات عن الإباضية، أضعها بين أيدي المثقفين من الأمة، وليست هذه اللمحات شيئا بعيد المنال، يحتاج إلى تقصي البحث، وإطالة التنقيب، وإنما هي صور يجدها عن كثب كل من خلصت نيته في طلب الحق، ودعته العزيمة الصادقة إلى الإطلاع على مصادر الشريعة لأهل هذا المذهب، ودرس كتب السير والتاريخ المنصفة، التي تحدثت عنهم، من موافقيهم ومخالفيهم.
والمذهب الإباضي ليس مذهبا سريّا، وليست أصوله التي ينبني عليها خافية أو مجهولة، وليس أتباعه ممن يستترون أو يختفون، فهم لا يقيمون لغير الله وزنا في هذا الوجود، ولا ينتظرون عن أعمالهم جزاء من غير الله، ولا يتبعون في تصرفاتهم غير الحق.
إنه مذهب ملأ الدنيا حقا و عدلا واستقامة، وضرب المثل الأعلى في النزاهة والإنصاف في أدوار من التاريخ، وسيملأ الدنيا بذلك عندما يأذن الله. ولست أقصد بذلك مثل خرافة الإمامة عند الشيعة، ولا قصة المهدي المنتظر، وإنما أقصد أن أقول: إن المذهب الإباضي يستمد قويه من الإسلام، الذي اختاره الخالق ليكون دين البشرية جمعاء، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينحرف به عن صراط الله السويّ غلوّ ولا تفريط، ولم تنتشر فيه الخرافة التي يبثها مشائخ طرق يتصيدون بها الدنيا عن طريق الدين، ولم يتجمد بتحكم فقهاء على العقول والمدارك فيمنعون الإجتهاد، ويقصرونه على عصر أو ناس لا يحق لغيرهم أن يصلوا إليه. وتُعطل العلوم والأفهام، فلا تُعطى حق الحرية في البحث والتنقيب وإعطاء الأحكام.
(1/5)
بدعوى أن الاجتهاد أغلقت أبوابه، واحتفظ الفقهاء الجامدون بالمفاتيح في مخباء سريّ لا يهتدي إليه الباحثون.
قلت: إن المذهب الإباضي، يستمد قوته من الإسلام نفسه، لأنه يحتفظ بصفاء النبع الذي يصدر منه، وعندما يتوب المسلمون إلى رشدهم، ويعودونالى دين ربهم، نظيفا من البدعة، نظيفا من الخرافة، نظيفا من الغلوّ، نظيفا من الجمود، و نظيفا من الأباطيل التي ألصقها جهل الإنسان بدين الله القويم. عند ذلك يجد المسلمون أنفسهم على الإسلام الحق، الذي ملأ الدنيا رحمة وعدلا، واستقاة ونزاهة وحقا. وعلى ذلك الإسلام الحق لا تزال هذه الطائفة التي سماها التاريخ فرقة الإباضية، وأصر أن يجعل لهم إماما كما لغيرهم من الفرق أئمة. ولو أن إمامهم الحق الذي لا يهتدون بغير هديه، ولا يقلدون سواه، إنما هو محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، ليس لغيره حق الإمامة إلا بالأسوة الحسنة، والتتبع للسنة الحميدة القويمة، والإيمان المطلق بأن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والعمل، هو الهدى الذي أمر الله أمة محمد أن يكونوا عليه. وإذا جارى الإباضية المؤرخين، وانتسبوا إلى عبد الله بن إباض، واتخذوا لهم إسما كما لسائر الفرق أسماء، فلا يعني ذلك أنهم يقلدون الرجال، ويقدسون أقوالهم، ويتبعونهم إتباعا أعمى، ويرفعون أولئك الرجال إلى مراتب الكمال، التي لا يصلها إلا أنبياء الله المصطفون، وإنما يحرصون أن لا يأخذوا دينهم إلا على من توفرت لهم فيه الثقة والأمانة في دين الله: الأمانة في القول، والأمانة في العمل.
والإباضية لا يقدسون الرجال، ولا يجعلونهم علامة على الحق، ولا يوجبون تقليد غير المعصوم، ولا يتبعونهم مالم يثبت الدليل الشرعي صواب مسلكهم، أو يرد النص بأنهم على هدى محمد عليه السلام، كما شهد الحديث الشريف لعمار رضي الله عنه، ولبعض الصحابة رضوان الله عليهم.
(1/6)
قال فخر المجتهدين قطب الأئمة، رحمه الله تعالى في رده على العقبي: (وان أردت أنهم مهملون لا إمام لهم، فقد سهوت، فإن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم) (1).
ولن يعظم في نظر الإباضية إلا المؤمن الذي يستمسك بغرز النبي، عليه السلام ويسلك المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ومهما بلغ الرجل من العلم والعمل فإن في مقاله مأخوذا ومتروكا غير من قال فيه الكتاي الكريم:
) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3، 4)) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةًٌ) (الأحزاب:21).بهذه النظرة الواقعية ينظر الإباضية إلى أئمتهم، فهم بشر غير معصومين، تحتمل أقوالهم وأعمالهم الخطاء والغفلة والنسيان، ولذلك فما يصح تقليدهم لأفعالهم أو لأقوالهم، وإنما تؤخذ عنهم تلك الأقوال، ويقتدى بهاتيك الأفعال، حين يقيمون على صحتها وصوابها الدليل، الذي لا يقبل التأويل، فاتباعهم في قول ليس تقليدا لهم، ولا اتباعا لرأيهم، وإنما هو اتباع لمن يتبعون، وتقليد لمن به يقتدون، وبهديه يهتدون، وإلى حكمه يرجعون.
علي يحيى معمر
__________
(1) 1 الرد على العقبي ص 3.
(1/7)
هذا الكتاب
عنوان هذا الكتاب: (الإباضية في موكب التاريخ) فهو يعنى أولا بالشئون التاريخية لهذه الفرقة من فرق المسلمين الكثيرة، المنتشرة في العالم، ويعني بها ثانياً في مختلف أوطانها، ولم يكن الباعث على وضع هذا الكتاب، غير الكشف عن جوانب مشرقة، من تاريخ الأمة الإسلامية الكبرى، في طائفة من طوائفها المتعددة، وفي ركن من أركان وطنها الفسيح.
وأنا حين أكتب عن هذه الفرقة من فرق المسلمين، أو عن غيرها من الفرق، أو حين أتحدث عن بعض الأماكن من هذا الوطن، أو عن غيرها من الأماكن التي يسود فيها الإسلام، لا أقصد الدعاية لها، ولا التنقيص من غيرها، لأنني أؤمن أن هذه الطوائف هي جوانب من الأمة، وأن تلك الأماكن هي جهات لوطن الإسلام، ولأنني أؤمن أن في الفرق الأخرى وفي الأماكن الأخرى مثل ماعند هذه الفرقة، ومثل ما في هذه الأماكن من الأمجاد. ثم لأنني أؤمن أن في هذه الأمة الإسلامية- وهي تتكون من هذه الفرق – من عباقرة الرجال، وفي الوطن الإسلامي – وهو يتكون من تلك الأماكن – من التربة الخصبة التي تنبت المجد والعظمة، مالا يستطيع قلم أن يحصيه، ولا باحث أن يستقصيه. وإذ قد كتب على هذه الأمة الإسلامية- في كثير من أدوار التاريخ – أن تنقسم إلى طوائف دينية مختلفة بعض الإختلاف، فإنني أستطيع أن أزعم أن تلك الطوائف تنطلق إلى غاية واحدة وإن تعددت بها السبل. كما أستطيع أن أقول: إن لكل منها عباقرة وأعلاما قدموا للإسلام من جهة، وللبشرية من جهة أخرى، أجل الخدمات.
وإذ قد كتب على الوطن الإسلامي أن يتجزأ إلى أوطان صغيرة، تحكمها دول
(1/9)
مختلفة، فإنني على يقين أن كل وطن من هذه الأوطان الصغيرة أنجب من الفحول من يعد مفخرة في جبين الإنسانية.
فإذا انجرفت في تيار سياسي منحرف عن نهج الإسلام دول تسيطر على بعض البقاع الإسلامية، فإن الأمة المسلمة الكبرى، لم تزل، ولنتزال تؤدي رسالتها. وإن الفرد المسلم، والجماعة المسلمة لا تزال تحافظ على هذه الرالة في تقديس وإعتزاز. وذلك يعني أن الكفاح في سبيل الحق والخير والسعادة لم يتوقف، ولن يتوقف مادام على وجه البسيطة مسلمون، يؤمنون بقيمة التشريع الإلهي لمصلحة البشرية.
إنني أود أن يعلم القاريء الكريم، أن الباعث على إخراج هذا الكتاب، وقصر البحث فيه على فرقة واحدة من فرق الإسلام، والتحدث عن رجال وأماكن معينة- أود أن يعرف القاريء الكريم، أنالباعث على ذلك لا يرجع إلى عصبية مذهبية، تضيق بالتفكير المنطلق في دين الله من سائر الفرق، ولا إلى جمود في حب وطن ضيق، لا يتسع لبلد الإسلام. وإنما يرجع إلى أنني درست أصول هذه الفرقة، وعرفت من تاريخها أكثر مما درست من غيرها وعرفت منه.
ثم ان أقلاما لم تستقص البحث، ولم تتعرف الحقيقة، قد تناولت هذه الفرقة بشيء من الخطأ، في فهم أصول العقيدة، والخطأ في فهم البواعث على العمل، والخطأ في فهم الأسباب التي نتجت عنها أحداث تاريخية، حُمّلت هذه الفرقة أوزارها، وبريء منها أولئك الذين تسببوا فيها.
والذي يهمني في هذا الكتاب، أن أوضح بعض اللبس الذي نتج عن آثار الأقلام الخاطئة. فإننا في أشد الحاجة إلى أن نزيح عن تاريخ الأمة الإسلامية في مختلف فرقها وطوائفها ذلك الرين الذي رمتها به أقلام مغرضة أو مخطئة، حتى إذا استقام تاريخ الأمة على حقيقته، وبرئت الفرق المختلفة مما قيل عنها بسؤ نية
(1/10)
أو بحسن نية مما لا يتلاءم مع أصولها وقواعدها ومصادر تاريخها وتشريعها، إذا استقام التاريخ على ذلك، سقط عن الأمة كثير مما دسته الأيدي العابثة، والآراء المخطئة، والأقلام المغرضة، سواء كان ذلك من كيد خارجي اندس في التراث الإسلامي، فآزرته عقول سطحية، لم تنتبه لما يحمله من عدوان. أو من كيد داخلي دعت إليه ألسنة لم يهذبها النطق بالشهادة، فتقولت الأقاويل من أجل غرض دنيوي قريب، أو متاع فيها قليل.
فإذا استقام التاريخ الإسلامي المجيد، وعرض كل أصحاب فرقة من فرق الإسلام عقائد تلك الفرقة، وأحداث تاريخها، ومدى ارتباطها بمصدرها الأول عرضا واضحا صريحاً، وأزيلت عنها ما ألصقته بها الدعاية المغرضة، أو الجاهلة، أو المستغفلة، وجد جميع أصحاب الفرق في جميع مواطن الإسلام، أنهم متشابهون كل التشابه، فهم منطلقون لتحقيق الرسالة الخالدة التي أنيطت بهم، في طريق واحدة، أوفي طرق متشابهة، منتهية إلى غاية واحدة.
(1/11)
رجوع إلى محجة الإسلام
لقد اشتط المسلمون في ابتعادهم عن الدين، فحادوا في عملهم عن سيرة السلف الصالحين، وأوغلوا في تجافيهم عن سبيل الله، فبعدوا عنه.
بَعُد عنه المتعلمون، بما زخرفته لهم وثنية الغرب، ودعت اليه فورة الإلحاد التي تجتاح العالم، وبثه في الأفكار والعقول قوم لا يؤمنون بدين، ولا يعملون لمثل، ولا يقدسون الأخلاق والأعمال التي فرضتها السماء على الأرض.
وبعُد عنه البسطاء، بما دسته الإسرائلية الماكرة، وأدخله علماء السؤ في الإسلام، ورضيه الفقهاء المغفلون من خرافة وبدعة، ظنه الناس من دين الله. وإنه لمما يدعوا إلى الغبطة، ويبشر بالخير، أن أقلاما مباركة أخذت على نفسها أن تذود عنالإسلام عدوان أعدائه، وعدوان أتباعه على السواء:
1 - فأما عدوان أعدائه الذي يشنه الإستعمار والصهيونية بمختلف الإساليب وفي مختلف الواجهات، ففيما يلي:
العدوان على الخلق الإسلامي، بتيسير وسائل الإنحلال، ونشر أسباب المتعة المحرمة، وتهوين الإثم في ارتكاب ماحرم الله في الأبدان والأعراض والأموال، وتشجيع القوميات الضيقة، لتهون رابطة الإسلام المتينة، ودعوى حرية الأديان وتساويها، حتى تصبح الأديان الباطلة، والوثنية الكافرة، والإلحاد الذي لا يؤمن بالله، يطغى على الإسلام في بلد الإسلام، وحتى تنفصل الشعوب الإسلامية بعضها عن بعض، خوفا من إغضاب قلة تتبع ملة خاسرة، أو طائفة تحارب الإسلام في عقر داره بعقيدة باطلة.
والعدوان على الفكر الإسلامي القويم، بترويج مذاهب اجتماعية
(1/13)
وسياسية، وضعها أصحابها لأهداف خاصة، ومرامي مقصودة، وأغراض دعتهم إليها مصلحة شعب أو دولة، فأصبح أولئك الواضعونيتبوؤن مقاعد التقديس، وأصبحت أقوالهم وآراؤهم تورد للبرهان في مواضع الإحتجاج، ويرد بها على أحاديث المعصومين، وعلى الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والعدوان على التشريع الإسلامي ومبادئه الحكيمة، التي أرسلها خالق الإنسان لإسعاد الإنسان، بأنواع من التشريع الضيق المحدود، الذي يضعه البشر، وهم في وضعه غير أمناء.
والعدوان على العقيدةالإسلامية، التي تحرر الإنسان من أية عبودية لغير الله، وتساوي بني آدم جميعا في كرامة البشرية. بخرافة أصل الأنواع، وقصة الطبيعة، وماتزخرفه أكاذيب أتباع داروين في قضية التطور.
2 - وأما عدوان أتباعه، فبعدمفهمهم لأسراره، وعدم تمسكهم بحقائقه، وبتجافيهم عن تعاليمه، وتقاصيهم عن توجيهه، وبعد تحكيمهم له، والرجوع اليه، والرضا بحكمه فيما شجربينهم من خلاف.
لقد عملت تلك الأقلام المباركة على نشر الوعي الديني بين المسلمين، تكشف عن الصفحات البيض المشرقات، التي يجهلهاالعامة من أتباع الإسلام، ويخشاها العارفون به من أعدائه، فيتجاهلونها، وتتصدى في عزم وإصرار وثبات، لرد الطعنات التي توجه إلى دين الله، في خفايا الدعاية المغرضة وبين أستار من العلاج المسموم لمشاكل الشرق، ودعوى تحضير بنيه، وإيصالهم إلى الركب الزاحف، الذي يسرع في الهيمنة على ميادين الحياة.
يسرني أن أشير إلى تلك الأقلام المسلمة، التي تستمد حياتها من روح الإسلام، لتدفع عنه عدوان المعتدين، ودسائس المستعمرين، ومكر الصهاينة والصليبيين،
(1/14)
ولتكشف تحريف العابثين، وتخريف الجاهلين، وعناد الجامدين، وتجافي المخدوعين، ولتدعوا أبناء أمة محمد إلى الإستمساك بدين محمد، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
يسرني أن أشير إلى حملة هذه الأقلام المباركة المكافحة، وإلى كل من يجري في هذا المضمار، من الذين يحيون كل يوم سُنة، ويميتون كل يوم بدعة، ويذودون عنالإسلام شبهات أعداء الإسلام.
ولست بذكر هؤلاء الالمكافحين في سبيل الله من حملة الأقلام الأحياء أنكر فضل غيرهم ممن جاهدوا لإعلاء كلمةالله، فإن الجهاد في سبيل الله لا ينكره مؤمن بالله، ولكن الحصر لا يتأتى في مثل هذا المقام، فلست أنسى فضل الإمام، وبعثه للروح الإسلامية في المسلمين، ولا أثر تلاميذه- تلاميذ الدرس أو تلاميذ الفكرة- الذين حررواعقول المسلمين من الخرافة والبدعة والجمود، وردوا مطاعن الكائدين من بقايا الحروب الصليبية المتعصبة.
كما لا أنسى فضل الإمام البناء، الذي نفخ روح العزة والكرامة والكفاح في نفوس الشباب المسلم، وبذر فيهم روح الفدائية التي يسميها الإباضية مسلك (الشراء) ويعتبرونها مظهرا من كرامة المسلم وعزة الإسلام، عندما تسيطر دولالطغيان والظلم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
إنني لا أنسى فذل هؤلاء ولا فضل غيرهم، ممن لم أذكره في هذا الفصل القصير، ولكنني أشرت بالتخصيص إلى أقلام مباركة حية، لا تزال في ميدان المعركة، تواصلالكفاح في سبيل الله ضد الطغيان: طغيان العدو الخارجي، وطغيان العدوالداخلي.
طغيان المال، الذي نفخ الكبر في أفراد من البشر، فاقتعدوا في زعمهم عروش الآلهة،
(1/15)
وطغيان الفقر الذي نفخ الذلة والإستكانة في قلوب أفراد من البشر، فأصبحوا عبيدا لإخوانهم من بني الإنسان.
طغيان العلم الملحد، الذي لا يعترف إلا بالمادة، ولا يؤمن إلا بالتجربة، ولا يستسلم إلا لما تلمسه يداه، وهو مع ذلك يجهل أقرب الحقائق إليه، وأدنىلمعارف منه، فما يعرف شياء عن مجرى الحياة بين يديه، ولا يفهم سرا من أسرا النفس البشرية التي يكافح لخدمتها، ولا يصل إلى أقرب المعلومات عن الروح التي أودعها الخالق في الإنسان والحيوان والنبات.
وطغيان الجهل الكافر الذي ينحجب عنه النور، فلا يستبين الحق فيما دعتاليه رسالات السماء، للتحليق بالإنسانيه في ملكوت الله، ولا يرى الباطل فيما وسوست به شياطين الأرض من الإخلاد بابن آدم في وحل الطين، وقذارة التراب.
(1/16)
لماذا كتبت هذه الفصول؟
يحلو لبعض المتعلمين الذين لا يعرفون من حقائق التاريخ، وبدائه العلم، وأوائل أصول العقائد، ما يباعد بينهم وبين العامة، ويخرجهم من حيز الأمية الثقافية. يحلو لناس من هؤلاء، أن يتزيوا بزي العلماء العارفين، وأن يتحدثوا حديث الباحثين المطلعين، وأن يستعرضوا أحداث الزمن في الحاضر و الماضي، ليطلقوا عليها أحكاما قاطعة، ويدلوا فيها بآراء ثابتة، دون حاجة إلى حجة أو دليل، غير أن أحدهم قرأ موضوعا في مجلة، أو أن الآخر رأى فقرة تتحدث عن موضوع معين في جريدة سيارة، أو أنه لمح ذلك في كتاب أو كتابين، وقد يكون هذا الموضوع الذي لمحه صاحبنا، لا يمكن لمحقق أن يصدر فيه برأي إلابعد الجهود المضنية، والأبحاث المستفيضة، والاطلاع على عشرات المجلدات.
وقد استمعت إلى مناقشة لنفر من هؤلاء الفريق، تناولوا فيها طوائف المسلمين بالعرض والتحليل، والتخطئة والصواب، والهداية والإضلال، وعرضوا فيما عرضوا إلى الإباضية، فقال بعضهم: هم فرقة من الخوارج، لأنه قرأت ذلك في كتاب من كتب التاريخ، وقال آخرون: بل هم فرقة من المعتزلة، لأنهم يعتقدون أن القرآن مخلوق، وذهب بعضهم إلى أنهم يتفرعون عن الأشاعرة، لأنه سمع أنهم يؤمنون بالقدر خيره وشره من الله. ولم يهتم واحد من هؤلاء الذين يتطارحون النقاش، ويتبادلون الآراء، وينزلون الأحكام على عدد من الفرق الاسلامية، بالتخطئة أو التصويب. أن يظهر الأسباب التي دعته إلى إصدار حكمه، والأدلة التي يستند إليها في إبداء رأيه، غير ما قدمه من تعليل
(1/17)
ساذج في بعض النقط لا يقنع عاقلا، ولا يصلح سببا لوجهة النظر.
وقد رأيت أن أستعرض أحد تلك المواضيع التي دار حولها النقاش بقدر ما أستطيع، وأن أحاول الإجابة عن تلك الأسئلة الحائرة التي تداولتها فيه الألسن والشفاه، وأن أتحدث عن بعض الأصول التي بنى عليها الإباضية مذهبهم، واستمدوا منها عقيدتهم، واقتبسوا منها أدلتهم وبراهينهم.
(1/18)
معنى الخوارج
هل الإباضية فرقة من الخوارج؟
قبل أن يجيب أي باحث عن هذا السؤال يجب أن يحدد معنى كلمةالخوارج وما تدل عليه.
يطلق بضع المؤرخين كلمة الخوارج، على أولئك الناس الذين اعتزلوا أمير المؤمنين علياَ بن أبي طالب عندما قبل التحكيم ورضي به، لأنهم في نظر هؤلاء نقضوا بيعة في أعناقهم، وخرجوا عن إمامة مشروعة.
ويطلقها فريق من المتكلمين في أصول العقائد والديانات، وهم يقصدون بها الخروج من الدين، استنادا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن ناسا من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية} وقد ورد الحديث بروايات متعددة وألفاظ مختلفة (1).
أما الفريق الثالث، فيطلقها ويقصد بها الجهاد في سبيل الله، استنادا إلى قوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهًِ) (النساء:100).
وإذا أباح بعض المؤرخين لأنفسهم أن يطلقوا هذه الكلمة- كلمة الخوارج – على جميع أولئك المتمسكين بولاية علي، المصرين على أنها حق شرعي لا يجوز فيه التردد، وأنه ليس من حق حتى عليِِِّ نفسه، أن يشك في إمامة أجمعت عليها
__________
(1) 1 ورد في مسند الربيع بن حبيب، الجزء الأول صفحة 12 الطبعةالثانية 1349 هكذا: أبوعبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكممع صلاتهم، وصيامكم معصيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن ولايجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في القدح فلا ترى شيئا، ثم تنظر الريش فلا ترى شيئاَ وتتمارى في الفوق.
(1/19)
الأمة، ولا أن يتساهل فيها، أو يقبل عليها المساومة، وأن معاوية وأتباعه فئة باغية، يجب عليهم الرجوع إلى حضيرة الإمامة والأمة، إما طوعا وإما كرها بنص الكتاب، فإذا رضخ عليّ لطلب البغاة، ووضع الحق اليقيني موضع الشك، وتنازل عن الواجب الذي أناطته به الأمة، وألزمته به البيعة، فإن هذه البيعة تنحل من أعناقهم، وهم بعد بالخيار.
قلت: إذا أباح بعض المؤرخين لأنفسهم، أن يطلقوا كلمة الخوارج، على هذه الطائفة، فإنه يحق لنا أن نتريث ونتثبت حتى يستبين لنا طريق الصواب، ويتضح منهج الحق.
ولكي ننصف هؤلاء القوم، الذين أطلق عليهم بعض المؤرخين لقب الخوارج، وحاربهم إخوتهم المسلمون بالدعاية الكاذبة والصادقة، وقاتلوهم! كما لم يقاتلوا حتى أعداءهم في ذلك الحين، وطاردوهم! كما لم يطاردوا حتى الزندقة والإلحاد.
لكي لا نظلم هؤلاء القوم، ولكي نوضح موقفهم كما يرونه في ذلك الحين، دون أن يتسرب إليه خطاء التاريخ المغرض، أو تحامله عليهم، ودون أن نهتم بالدعاية الكاذبة، التي تقلب حقائق التاريخ، قلبا لا يرضاه التفكير السليم، والمنطق القويم، تلك الدعاية التي تعاون على بثها وإشاعتها، كل من الأموية المتعصبة المتسلطة، والشيعة الغالية المتطرفة، لكي نوضح موقف هؤلاء القوم، يجب أن نستعرض حركة الثورات (1) منذ فجر الاسلام، ونضع صوررته الواضحة بين أيدينا، لتصح المقارنة، ويكون الإستنتاج أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الدقة.
__________
(1) 1 لقد استعملت كلمة الثورة في حلقات هذا الكتاب، وأنا أقصد بها الحركة التي يقوم بها ناس لتغيير وضع لايرضيهم دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا مهما كانت بواعث هذه الحركة. وأيا كان هذا الوضع. ولم أقصد باستعمال كلمة ثورة في هذه الحلقات، ما قد تشعره هذه الكلمة من المعنى العميق الذي يقصد به التغيير الجذري في حياة أمة وعقيدتها.
(1/20)
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفاح مستمر ضد الوثنية التي تسيطر على العالم، وجهاد متواصل ضد القوى المتكتلة التي تعارض انطلاقة الدعوة لتحرير الإنسان من عبادة غير الله. فلما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأتم الله نعمته على أمة محمد، ورضي لهم الاسلام دينا، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما أدى الرسالة، وبلغ الأمانة ....
وبايع الناس أبا بكر خليفة له، ولكن بعد هذه المبايعة مباشرة، وقعت أول ثورة في الإسلام، من أناس كانوا يشهدون أن لا أله إلا الله وأن محمد رسول الله، وكان من هؤلاء الثائرين من ارتد على عقبيه، وأنكر ما اعترف به، ومنهم من عزت عليه أمواله، فامتنع من أداء الزكاة ...
فكان في الموقف الحازم الذي وقفه منهم خليفة رسول الله، رغم معارضة بعض الصحابة له، كان في هذا الموقف الحازم الصلب، إقرار لحكم الله، وتثبيت لقدم الإسلام، ونصر لدين الله، وقضاء مبرم على أصول هذه الثورة أو الفتنة، والقائمين بها، فاستتب الأمن، واستقرت الأمور واستمر المسلمون في أداء الرسالة التي دعا إليها محمد، طيلة خلافة أبي بكر، وطيلة خلافة عمر، ذلك العهد المجيد الذي يعتبر بحق امتدادا لعصر النبوة. وتولى عثمان الخلافة، فسارت الأمور ست سنوات كاملة سيرتها في زمن الخليفتين السابقين، ثم بدأت الاحوال تتغير، وظهرت مشاكل جديدة، وتعثر سيرة الخلافة فقد أصبح نقد أعمال الخليفة والنيل من سلوكه يتفشى على كثير من الألسنة، ويجري في كثير من المجتمعات، ولم تتم ست سنوات أخرى حتى كانت الثورة الجامحة التي ذهبت فيما ذهبت بحياة عثمان بين سمع وبصر كثير من الصحابة، وكانت هذه الثورة الثانية بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبايع المسلمون علياً بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وكان أول من بايع: طلحة
(1/21)
ابن عبد الله والزبير بن العوام، ولكن ما كادت أن تتم البيعة حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة، وقد استظهروا بأم المؤمنين عائشة. ووقف الخليفة مع الثائرين موقفا حازما صلبا، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين، ذهب فيمن ذهب فيها طلحة والزبير، وتابت أم المؤمنين، ورجع بقية الثائرين إلى حظيرة الإمامة والأمة، وكانت هذه هي الثورة الثالثة في الإسلام.
لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة، ويعود إلى البلاد الهدوء والإستقرار، ويعرف معاوية أن الثورة فشلت، وأنه معزول عن ولاية الشام لا محالة، حتى أعلن الثورة بالشام، وهو حينئذ عامل من عمال الخليفة، وأظهر أنه يطالب بدم عثمان، وقد استعد أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة، كما أطفاء الثورة التي سبقتها، وجهز جيشه القوي، وسار به نحو الشام، حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف (صفين) وبدأت المعركة، ثم استمر القتال حتى ظهرت طلائع النصر، وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة، ولم يبقى للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلا لحظات، عبر عنها الأشتر النخعي (بفواق الناقة) التجأ الثائرون إلى الحيلة والخدعة ولجأوا إلى المكر والمكيدة، فرفعوا المصاحف وهم يصيحون ياأهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.
طالب الثائرون هدنة، ودعوا الخليفة الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين.
وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة، وعرفوا القصد من هذه الهدنة، ولكنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم، ويوالي حربه ضد الثائرين، حتى يتحقق النصر- وقد تحققت بشائره- ويُلقي البغاة بأسلحتهم، ويعودوا إلى صف الأمة الذي انشقوا عنه، وبغواعليه، بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك، استجاب لدعاة الهزيمة، وأخد بنصيحة طلاب الدعة، وأكثرهم موعود من
(1/22)
معاوية أو من عمرو بن العاص (1). ورضي بالتحكيم وقبل الهدنة، وأمر بايقاف القتال في الحال.
وهكذا انتهت هذه الثورة الرابعة إلى هذا الموقف المائع، الذي جعل حق عليّ في الخلافة يتساوى مع حق معاوية، وجعل نصيب البغاة الثائرين يساوي نصيب جيش الإمة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمت بالشورى، وانعقدت بالبيعة.
وتداعى الذين فطنوا إلى خدعة الهدنة من أصحاب علي وحذروه من قبولها، وأخبروه أن قبولها يعني الشك في خلافته والتنازل عنها. وكانوا مصرين أن الخلافة الشرعية حق لا يتطرق اليه الشك، ولا يجوز فيها الرجوع، ولا تقبل فيها المساومة.
وإذ خطر لعليّ أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه، والماكرين من عدوه، وأن يشك في نفسه، والحق الذي بيده، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون، ويساوي بينه وبين أحد عماله، في قضية أخذ فيها عهداً من الأمة، وأخذت منه فيها موثقا وعهداً. ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.
حين فعل عليّ ذلك، تداعى أولئك الذين لم يرتضوا التحكيم، وحذروا علياً من قبوله. وهم يرون أن معاوية باغ لا حق له، وأن بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة ورضائه بالتحكيم، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة، وليس لأحد عليهم ميثاق. تداعوا إلى أن يعتزلوا جيش علي، وركنوا إلى موقع يسمى حروراء فانعزلوا فيه، ينتظرون تجدد الحوادث، واتجاه الامة في قضية الخلافة، ويمكن ان يسمى هذا الانعزال عن جيش علي: بالثورة الخامسة، ولو ان هذه الثورة إلى هذا الحين كانت ثورة سلبية، وموقف أصحابها كان موقف المحايد الذي ينتظر مجرى الأمور، وقد
__________
(1) 1 قال أبوالعباس الشماخي في السير ص48 (وكان معاوية يمنيهم.)
(1/23)
جرت الأمور بأسرع مما يتوقع لها، فما بلغ الموعد الذي حدده الطرفان لإنتهاء الهدنة حتى اجتمع الناس، وأعلن أبو موسى الأشعري مندوب عليّ: عزل عليّ من الخلافة، وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.
كان هؤلاء المحايدون يتتبعون منطق الحوادث والواقع، فهم ينظرونالى معاوية نظرتهم إلى باغ يحاول ان يفرض نفسه بالمكر والحيلة، ولذلك فهم لا يقيمون أي وزن لدعوى عزله، فهم لم يتولى أمر الخلافة إلى ذلك الحين، لا بالإكراه ولا بالشورى، فلا معنى لغزله من منصب ليس هو فيه، كما لا يقيمون أي وزن لتولية عمرو بن العاص له، لا ن عمرو لم يفوضه المسلمون في تولية أمير المؤمنين. أما نظرتهم إلى علي فقد كانوا يتوقعون أن يتفق الحكمان على إقراره في الحكم، وحينئذ ترجع إلى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحدوا صفوفهم تحت طاعته ماقام فيهم بكتاب الله. ولكن المندوب الذي اختاره علي ليمثله في هذه القضية الظالمة، أعلن أنه عزل عليا عن أمر المسلمين، وأن ألامر أصبح للشورى والإختيار، وتؤيد موقف هؤلاء المحايدين، وانظم اليهم عدد أخر ممن كانوا يقفون إلى جانب علي حتى ذلك الحين، وبحثوا الامر فيما بينهم على أساس أن المسلمين أصبحوا دون خليفة، فهذا معاوية باغ ظالم لا يمكن أن يتولى أمر المسلمينن، وهذا علي يعزله المنذوب الذي اختاره للتحكيم، وأذن فليختاروا ...... واختاروا عبد الله بن وهب الراسبي، فبايعوه اميرا للمسلمين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم.
وبهذه الخطوة أصبحت الأمة الاسلامية منقسمة إلى ثلاث دول: دولة يرأسها معاوية – وإن لم يبايعه عليها أحد إلى ذلك الحين- ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين – وعاد فاستمسك بالبيعة الأولى دون أن يعترف بعزل ابي موسى الأشعري له منذوبه في قضية التحكيم- ودولة يرأسها
(1/24)
عبد الله بن وهب الراسبي- بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي عند قبوله التحكيم، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة- ومع كل فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة، وفيهم بعض المشهود لهم بالجنة (1). على أن هناك فريقا رابعا اعتزلوا هذا النقاش الذي وقع بين المسلمين، وبعدوا عن قضية الخلافة، فلم يطلبوها لأنفسهم، ولم يؤيدوا واحدا من طالبيها، ومن هذا الفريق السادة: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد.
بعد أن جمع الامام علي جيشه، ومن بقي تحت طاعته من الجند، فكر في اعادة الكرة على معاوية واخماد ثورته، ومحاولة اخضاعه من جديد.
ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبد الله بن وهب الراسبي، هذا الخليفة الجديد الذي وصل إلى منصب الخلافة عن طريق البيعة، وهو الطريق الشرعي للخلافة.
واقتنع علي بصواب هذا الرأي، فعدل عن محاربة معاوية إلى محاربة عبد الله بن وهب، وكان أتباع عبد الله بن وهب يعتقدون أن امامهم هو الامام الحق و أن كلا من علي- بعد التحكيم والعزل- ومعاوية ثائران يجب عليهما الرجوع إلى حضيرة الامامة والأمة.
هذه خلاصة الثورات التي اشتعلت في ذلك العصر وذهب ضحيتها عشرات الألاف من أبطال الاسلام، وقد حاولت أن ألخصها بايجاز قدر المستطاع، مع
__________
(1) 1 من المشهود لهم بالجنة عمار بن ياسر رضي الله عنه. وقتل في صفين مع علي، بعد أن رفعت المصاحف، فلم يستجب لدعوة الهدنة واندفع إلى المعركة حتى قتل، وقد قيل لمعاوية في ذلك فأجاب بقوله: (قتله من أخرجه). ومن المشهود لهم بالجنة حرقوص بن زهير السعدي. فقد حدثت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها يوما: أول من يدخل من هذا الباب، من أهل الجنة، فدخل حرقوص بن زهير السعدي ولحيته تقطر ماء، وقد تكرر الحديث ثلاثة أيام. وقتل حرقوص مع من أنكر التحكيم.
(1/25)
عناية بإيضاح القضة من الزاوية التي يراها بها أؤلئك الذين يطلق عليهم في بعض كتب التاريخ والأدب كلمة الخوارج. أولئك القوم الذين يرون أنهم أصحاب الحق، وأن البيعة لم تنعقد بطريق شرعي بعد التحكيم الا لعبد الله بن وهب الراسبي، ذلك الخليفة الذي بايعه جمهو من الامة، فيهم كثير من كبار الصحابة، من بينهم بعض المشهود لهم بالجنة.
فإذا رجعنا إلى أول هذا البحث، وأردنا أن نستخلص منه طائفة معينة، من الطوائف التي قامت بالثورة، لنطلق عليها اسم الخوارج، فينطبق هذا الاسم عليها انطباقا كاملا، من الناحيتين السياسية والدينية، ويكونون خوا ج عن الخلافة وخوارج عن الدين، وينطبق عليهم الحديث الذي أوردناه سابقاً.
فأي هذه الطوائف الثائرة يمكننا أن نطلق عليها هذا الاسم ملاحظين فيه معنى الخروج عن الاسلام ونحن مطمئنون إلى صحة أحكامنا، ومنطقية استدلالنا وعدم انسياقنا إلى تيار معين من تيارات التاريخ.
أما أكثر أوائل المؤرخين، وقد كانوا إما تبعا للشيعة أو صنائع للأمويين، يعملون جاهدين على إرضاء متبوعيهم، فقد وجدوا الأمر سهلا لم يكلفهم عناء، فأطلقوا كلمة الخوارج على العدو المشترك للأمويين والشيعة، أطلقوها على تلك الطائفة من المسلمين التي اعتزلت عليا عند التحكيم وبايعت عبد الله بن وهب إماماً، وثارت على الظلم، وفساد الحكم في الدولة الأموية، ومن بعدها ممن سار في ذلك الطريق، وتنكب عن سيرة الخلافاء الراشدين. ولكى يصبغ أولئك المؤرخون هذه التسمية باللون المقبول، ربطوا المعنى السياسي لكلمة الخروج بالمعنى الدينى، و قد عملت السلطة و الدعاية في كلتا الطائفتين: الشيعة و الاموية، على تثبيت هذا الاطلاق و نشر هذه الاقاويل، حتى وضعت مئات الاحاديث المكذوبة في الطعن على الخوارج، و التشنيع عليهم، و نسبة المروق و الكفر اليهم جميعاً، او إلى افراد
(1/26)
من رؤسائهم و زعمائهم، وقد كان المهلب بن ابى صفرة القائد الذى ضحى بدينه لدنيا بنى امية، من اكثر الواضعين لهذه الاحاديث المكذوبة في الطعن على الخوارج، حتى اشتهر بذلك و عرفه به الناس، فكانوا يقولون اذا رأوه خارجاً: (راح يكذب) (1). كان الأمويون والشيعة يحاولون بكل ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب، لقب الخوارج- بعد أن فسر بالخروج من الدين- بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في إصرار وشدة، بالمباديء العادلة في الخلافة؛ وكان الشيعة يحاولون بما أوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي، كما كان غيرهم من الطامعين فيها، يشترط لها الهاشمية أو القرشية أو العروبة، حسب المصلحة السياسية لأصحاب الآراء في ذلك الحين. وكل هذه الإتجاهات تجتمع على محاربة الاتجاه الذي اتجه إليه أتباع عبد الله بن وهب الراسبي. ذلك الإتجاه العادل الذي يرى أن المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) {لافضل لعربي على أعجمي إل ابالتقوى}.
قلت في صدر هذا الحديث: إن عددا من الثورات وقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إنتهاء خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب، فأيُّ هذه الثورات يحق أن يطلق على القائمين بها لقب الخوارج، مع ملاحظةالخروج عن الخلافة الشرعية والمروق من الدين؟
__________
(1) 1 جاء في فجر الاسلام للاستاذ احمد امين الطبعة السادسة ما ياتى: (وكان مما حاربهم به المهلب ابن ابي صفرة اختلاق الاحاديث عليهم: فقد كان يضع الحديث ليشد به أزر قومه، ويضعف به من امر الخوارج ما اشتد، و يقول: إن الحرب خدعة، وكان حى من الأزد إذا رأوا المهلب خا رجاً قالوا: راح يكذب! و فيه يقول رجل منهم: انت الفتى كا الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول.
ولعل هذا وامثاله هو السر فيما ترى من احاديث ملئت بها كتب التا ريخ و الادب في ذم الخوارج.
(1/27)
لتسهيل الإجابة على هذا السؤال أستطيع أن أقسم هذه الثورات إلى ثلاثة أقسام:-الأول: ثورة ليس لها تعليل ولا أسباب غير عدم تمكن الإسلام في قلوب القائمين بها. وعدم إيمانهم الإيمان الصحيح بتكامل الرسالة المحمدية، ويتجلى هذا في الثورة الأولى، التي ارتد فيها فريق، وامتنع فريق أخر عن أداء الزكاة.
الثاني: ليس لها أسباب ظاهرة معقولة: أما أسبابها الحقيقية الخفية، فهي النزاع على مناصب الدولة، من خلافة أوعمالة، ويتمثل ذلك في الثورة الثالثة التي قام بها طلحة والزبير، وفي الثورة الرابعة التي قام بها معاوية بن أبي سفيان.
القسم الثالث: ثورة استندت إلى أسباب ظاهرة يتراءى للناظر أنها معقولة، ويتمثل ذلك في الثورة الثانية التي قتل فيها عثمان، وفي الثورة الخامسة التي اعتزل فيها جماعة من جيش علي بعد التحكيم، وعزل أبي موسى الأشعري له.
فلو كان المقصود من كلمة الخوارج، هو الخروج السياسي عن خليفة تمت له البيعة الشرعية، لكان إطلاق هذه الكلمة على طلحة والزبير، أو على معاوية وأتباعه، أو على الثائرين على عثمان أظهر وأوضح، أما إذا لوحظ المعنى السياسي مع المعنى الديني فإنه لا يمكن إطلاق هذه الكلمة عليهم، كما أنه من العسير إطلاقها على المعتزلين لعلي.
والسبب في هذا العسر أن هؤلاء الثائرين سواء كانوا من القسم الثاني أو من القسم الثالث إنما ثاروا غير منكرين لأصل من أصول الإسلام، ولا مكذبين بمعلوم من الدين بالضرورة، ومع كل طائفة منهم فريق من كبار الصحابة، فيهم بعض المشهود لهم بالجنة.
وبناء على هذا فإن أحاديث المروق –إذا صحت- لا يكون المقصود منها إلا أصحاب
(1/28)
الثورة الأولى، أولئك الذين خرجوا على خلافة أبي بكر منكرين للشريعة أو لأصل من أصولها، فإن هؤلاء يستطيع الباحث أن يطلق عليهم كلمة الخوارج، وهو يقصد بهذه الكلمة معنييها السياسي والديني وهو مطمئن، لخروجهم عن خلافة مجمع عليها، وإنكارهم للإسلام جملة بعدما أمنوا به، أو تكذيبهم بركن ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، إنكارا إستحقوا به أن يحاربهم خليفة رسول الله الأول حربا لا هوادة فيها، مصداقا لقوله عليه السلام: [لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود] – إن صح الحديث - وقد قتلهم خليفته رضي الله عنه قتل ثمود تحقيقا لخبره عليه السلام.
ويستأنس لهذا الرأي من توقعه صلى الله عليه وسلم أن يدركهم، فإن هذا يدل على قرب زمنهم منه، وأنه كان يأمل أن ينتقم لله منهم، ولكن إرادة الله شاءت أن يتأخروا عنه قليلا، وأن تكون فتنتهم إمتحانا لصلابة أبي بكر، وأن تكون عقوبتهم على يد الصديق رضي الله عنه.
وكما يستأنس بهذا الحديث لهذا المعنى، كذلك يستأنس بحديث المروق في الرواية التي تقول (سيخرج أو سيمرق) فإن إستعمال السين يدل على قرب الخروج، ولم يكن أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الخروج الذي قضى عليه الصديق وحارب أهله حرب ثمود.
على أنني أقف وقفة طويلة عند هذه الأحاديث التي تصف فرقا من المسلمين بالمروق من الدين. ولو أنني لا أملك الآن الأسباب التي تحملني على الشك في صحتها.
ويظهر من سياق الحوادث أن هذه الأحاديث التي تتحدث عن الخوارج، لم تكن معروفة عند حدوث الثورات الأولى، وإلا فكيف أمكن أن لا تدور على الألسنة، وأن لا يوصف بها الخارجون عن الخلافة في زمن أبي بكر وعثمان
(1/29)
وعلي، ولا الخارجون عن الدين في زمن الصديق؟ لماذا تبقى محفوظة لا يستفيد منها أنصار الخلافة أو خصومها في أربع ثورات جامحة ذهب ضحيتها عدد غير قليل من المسلمين الأبطال. إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الأحداث لم تكن معروفة عند وقوع هذه الثورات، وإنها إنما وضعت بعد ذلك قصدا للتشنيع على أهل النهروان، ولحمل علي على قتالهم والقضاء عليهم، خوفا من أن يتحرج علي من دمائهم، ويتردد في قتالهم، ويفكر تفكيرا منطقيا في أنه قد يكون لهؤلاء حق، ولرأيهم سند.
وقد كان علي شديد المحاسبة لنفسه، كثير التفكير في أعماله السابقة، يزِنُ مأقدم عليه من أحداث، ويدل لهذا ماقاله أبو العباس الشماخي في كتابه القيم (السير): (فقال الأشعت ناجز القوم، وإن كلموا الناس أفسدوهم علينا) (1) فالشيعة الذين يحيطون بعلي، وهم يكافحون لكي يبنوا دولة، يخشون أن يتصل أهل النهروان بالناس، وأن يقنعوهم بما لديهم من حجة وبرهان، إن قبول التحكيم خطاء في السياسة، وإن خلافة علي بعد التحكيم والعزل باطلة، وإن البيعة ساقطة عن الأعناق، وإن الخليفة الحق هو عبد الله بن وهب الراسبي، الذي بايعه جمهور غير قليل من المسلمين، كان الشيعة يخافون أن يتصل أهل النهروان بالناس، ولذلك فهم يريدون أن يقضوا على هذه الآراء قبل أن تنتشر في الناس، ويفهمها الجميع، ويقتنعوا بصحتها.
ولايمكن القضاء على هذه الآراء إلا بالقضاء على أصحابها، فلو تردد علي في هذا الأمر، وتحرز من إراقة الدماء، فإن كل شيء سوف يضيع، ولذلك فيجب أن يحمل بشتى الوسائل والطرق على اتخاد هذه الخطوة الحازمة الحاسمة.
وقد استطاعوا أن يقنعوه، فاقتنع برأي الأشعت، واتخذ هذه الخطوة، ونفذ
__________
(1) 1 السير ص 52
(1/30)
فكرة المناجزة، فقضى على أهل النهروان، ولكنه لم يستطع أن يقضي على الفكرة التي دعوا إليها، هذه الفكرة التي تسربت بما فيها من صدق وصراحة و واقعية إلى كثير من العقول، حتى أصبحت مبداء يناضل عنه معتنقوه بصبر وشجاعة وثبات.
وخلاصة البحث أن كلمة الخوارج، أطلقها بعض المؤرخين على أتباع عبد الله بن وهب الراسبي إطلاقا تاريخيا وأدبيا، بحيث لا تنصرف إلى غيرهم، وليس في هذا كبير بحث، فإن إطلاق إسم على مجموعة من الناس ليس بذي أهمية إذا كان هذا الإطلاق مجرد تسمية. أما إذا روعي فيه مدلول ديني فإنه يحسن بنا أن نتريث قبل أن نطلق هذا الحكم الرهيب، الذي يسلطه التاريخ المغرض على رؤوس بعض الطوائف الإسلامية في قساوة وغلظة، في الحين الذي نعترف فيه أن هذه الطوائف تؤمن برسالة (محمد) وبتكاملها، وبما جاء فيها، وتستند في آرائها ونظرياتها إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق