الكتاب: الإخلاص روح العبادة لأحمد الخليلي
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
الإخلاص روح العبادة
محاضرة (1) للشيخ أحمد بن حمد الخليلي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي نوّر بصائر عبادِه العارفين، وطهّر سرائر أوليائه المخلِصين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأومن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاّ إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةَ من سأل الإخلاص في القول والعمل، وطلب الخلاص في الدنيا وفي الآخرة، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى خلْقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمّة، وكشف الغمة، صلى الله وسلم تسليما عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
__________
(1) -هذه المحاضرة أصلها في تسجيل سمعي بصوت الشيخ، لذلك فأسلوب الشيخ هنا هو أسلوب الإلقاء، وليس التحرير، وشتان ما بين الأسلوبين، على أنّ الشيخ قد وهبه الله تعالى مقدرة بيانية في الإلقاء.
(1/1)
فيا أصحاب الفضيلة مشايخ المعهد(1) الكرام، أيها الأبناء الطلبة الأعزة، أيها الإخوان الحضور جميعا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنها لفرصة سعيدة أن نلتقي في هذا المكان الطيب .. في هذا المركز الإشعاعي، ولكن المِحنة بقدر المِنحة، ذلك لأنّ حديثَ الليلة عسير عليّ، فقد كنت أتمنى أن أسمع هذا الحديث من غيري، وأن أستفيد ما يستفيده الحريصون على تتبع هذا الأمر، واستقصاء هذا الموضوع، وإنني-وجلالِ الله سبحانه-لأجدُني أقلَّكم أهليّة في الحديث عن هذا الموضوع، الذي هو في حقيقته جوهر الإسلام، وسرّ رسالات الله تبارك وتعالى التي بَعث بها المرسلين، فماذا عسى أن أقول ؟! وإنّ الواجب على من يتكلم في هذا الموضوع أن يكون قلبه يفيض إخلاصا، وأن تكون مشاعره كلها إنما تتدفق بدافع من ركيزة الإخلاص في نفسه، فأسأل الله - سبحانه وتعالى - العون والتوفيق.
لا ريب أنّ الإخلاص هو روح العبادات والعمل، ولئن كانت الجِثَث بدون أرواحها تكون هامدة متعفنة فاسدة فإنّ العمل إن تجرد من الإخلاص كان نتْنا قذِرا .. كان أشدَّ نتْنا وأقبح مظهرا من الجِثّة التي تفقِد الروح، ذلك لأنّ قيمة العمل إخلاصه.
والإخلاص هو في اللغة مصدر " أخلص، يُخلص " بمعنى جعل الشيء خالصا.
وحقيقته الشرعية ليست بعيدة من حقيقته اللغوية، ومن أجل ذلك عرّفه مِن العلماء مَن عرّفه بأنه تصفية الأعمال من شوائب القصدِ بها غيرَ وجه الله - سبحانه وتعالى - ، أي مِن أن يقصد الإنسان بعمل من أعماله أيَّ غرض من أغراض دنيوية.
__________
(1) -هو معهد العلوم الشرعية برُوي، سلطنة عُمان.
(1/2)
بل جاوز ذلك بعض الصوفية إلى أن جعل إخلاص العمل ألاّ يبتغي به صاحبه أجرا حتى في الآخرة، كما رُوي عن رُوَيْم-وهو أحد الصّوفية-أنه قال: " الإخلاص ألاّ تبتغي بالعمل نفعا في الدارين، ولا حظا عند المَلَكين "؛ ونحن لا نستطيع أن نتجاسر على مثل هذا القول، كيف ونرى الحضّ في كتاب الله - سبحانه وتعالى - على ابتغاء الدار الآخرة، فإنّ الله - سبحانه وتعالى - وعد خيرَ خلقه أجمعين وبشّره بحُسن المآل في الدار الآخرة، حيث قال له: { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } [ سورة الضحى، الآية: 4 ]، ووصف صفوته من خلقه بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، وهذا-بطبيعة الحال-يعني أن يتعلق العبد بالله تعالى خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، وهذا لا ينافي-بأيّ حال من الأحوال-أن يكون الإنسان معظِّما لجلال الله تعالى بعبادته، وأن يكون مستشعِرا عِظَم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، وأنه يريد بهذه العبادة شكر ما أنعم الله تعالى به، ولكن حظوظُ الآخرة هي نعمة معروضة من قِبَل الله تبارك وتعالى على عباده المخلِصين، فجدير إذن بالإنسان أن يرغب فيما عند الله: { ... وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ... } [ سورة القصص، من الآية: 60 ] على أنّ خير حظ يناله الإنسان في الآخرة هو رضوان الله - عز وجل - ، كما يقول الله - سبحانه وتعالى - : { ... وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ... } [ سورة التوبة، من الآية: 72 ].
(1/3)
وقال الجُنيد: " الإخلاص سرّ بين العبد وربه، لا يطّلِع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، ولا يناله هوى فيميله "، ولعل هذا مأخوذ من بعض ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد رأيت القرطبي ذكَر رواية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ذكرها أبو القاسم القُشَيْري، ولم يذكر القرطبي لها سنَدا .. وهي أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: ( سألت جبريل عن الإخلاص فقال: "سألت رب العزة والجلال عن الإخلاص فقال: ' هو سرّ من سري، أختص به من أحببت من عبادي ' " )؛ ولعل المحقق الخليلي يشير إلى ذلك عندما قال:
بخلوةِ لي عبدٌ وسِرِّيَ بينه ... وبيني عن الأملاك والرسْل كُتِّما
ومعنى ذلك أنّ الإخلاص صلة ما بين العبد وربه، هذه الصلة لا يطّلع عليها ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، وإنما هي صلة بين العبد وربه، والله تبارك وتعالى يختص من يشاء بما يشاء.
(1/4)
وقد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى ما يدل على أنّ الإخلاص هو روح هذا الدين، ذلك لأنّ كتاب الله - عز وجل - جاء داعيا إلى ملة الإسلام، وهي استسلام العبد لله تبارك وتعالى، بأن يُسلم العبد لربه - عز وجل - قلبَه وعقله وجسمه وروحه وضميره وغرائزه، وقد عبّر الحق - عز وجل - عن ذلك بقوله: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... } [ سورة البينة، من الآية: 5 ]، وإن كان الضمير عائدا إلى " أهل الكتاب " [ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ - ... - وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } الآيتان: 1-4 ] إلا أنه في حقيقته يشمل جميع الناس، إذ هذا أمر ربّاني لا يختص به أحد دون أحد، والله سبحانه يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { قُلْ إِنِّي(1) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصا لَّهُ الدِّينَ } [ سورة الزمر، الآية: 11 ]، ويقول الله تعالى: { قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصا لَّهُ دِينِي } [سورة الزمر، الآية: 14]، فإذن الأمر بالإخلاص وُجّه إلى خير خلق الله .. إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي هو أرقى الناس ذِروة في الخير، ولا يُطاوِله أحد من عباد الله تبارك وتعالى.
__________
(1) -وقع سهو من الشيخ في القراءة إذ قرأ: " إنني ".
(1/5)
فالإخلاص في العمل إنما هو حقيقة الإسلام وجوهره وسره، وذلك بألاّ يتعلّق العبد عندما يعمل أيّ عمل كان بأيّ غرض من أغراض الدنيا، وإنما يريد بعمله ذلك وجه الله تبارك وتعالى، ولا يعمل أيّ عمل مراعيا فيه أيّ أحد من خلق الله مهما علا شأنه، وعَظُم قدره، ذلك لأنّ الناس جميعا لا يملكون نفع أحد ولا ضَرَّه، ولا يملكون لأيّ أحد شَرْوَى نَقِير في هذا الوجود، وإنما المُلك لله سبحانه، يُصرِّف هذا الكون بما يشاء، فالعبد هو عبد الله، ويجب عليه أن يُخلص هذه العبودية لله، والعبادة إنما هي ضريبة العبودية، فيجب أن تكون هذه الضريبة لله الخالق، وحده، لا إله إلا هو.
وقد رُوي عن أبي العالية-أحد مفسري السلف، من التابعين-أنه فسّر قول الله - سبحانه وتعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... } [ سورة الشورى، من الآية: 13 ] بالإخلاص، وهذا ليس ببعيد، فإنّ الله تبارك وتعالى شرع للناس جميعا دينا واحدا .. هذا الدين الواحد هو الاستسلام التام لأمر الله، والانقياد لحكمه، والإذعان لطاعته.
(1/6)
وقد سبق أن ذكرتُ [ ص2 ] بأنّ الاستسلام إنما هو استسلام الروح والجسم والعقل والقلب والفكر والوجدان والضمير والغرائز بحيث تكون لله تبارك وتعالى، وهذه هي حقيقة الإسلام، ذلك لأنّ الله - عز وجل - يقول: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينا قِيَما مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ سورة الأنعام، الآيات: 161-162-163 ]، فالإسلام إذن أن تكون الصلاة لله تبارك وتعالى، وأن يكون النُّسُك-الذي هو الذّبح، وفيه منفعة للعباد-لله - عز وجل - ، وأن تكون الحياة له تعالى، وأن يكون الممات له سبحانه، وهذا هو الإخلاص.
على أنّ جميع الرسالات التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى لتحقيق منهج الله في الأرض، ولوصل العباد بالله - عز وجل - من خلال أوامره وفرائضه .. هذه الرسالات جميعا التقت على إخلاص العبادة لله، فالله تبارك وتعالى يقول: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ... } [ سورة النحل، من الآية: 36 ]، ويقول: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ سورة الأنبياء، الآية: 25 ]، فإذن العبادة الخالصة لله تبارك وتعالى تعني أن يكون العبد مخلِصا لله - سبحانه وتعالى - سرَّه وجهره، لا يبتغي بأيّ عمل من الأعمال إلا وجه الله تبارك وتعالى.
(1/7)
وإذا كان العبد يقف في اليوم والليلة خمسَ مرات على الأقل بين يدي الله تعالى، يُكرِّر في كل مرة يقفها عدة مرات قوله تعالى(1): { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ سورة الفاتحة، الآية: 5 ]، فإنّ عليه أن يكون صادقا في قوله، فإنه يُخاطِب من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .. يخاطب الله - سبحانه وتعالى - الذي يعلم السرائر كالعلانية، والذي يعلم ما يختلِج بين حنايا ضميره، ويحيط بكلِّ ما يكتنفه سِرُّه .. عليه أن يدرك بأنّ هذا الخطاب إنما هو موجَّه لله، فلئن كان في أيّ عمل من الأعمال التي يعملها يبتغي غير وجه الله تبارك وتعالى فإنّ ذلك ينافي هذا القول، إذ هو يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... } .. هنا حصْر .. حصْر العبادة في ذات الحق - عز وجل - ، إذ تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، فمعنى ذلك: " لا نعبد إلا إياك "، ولئن كان يبتغي بهذه العبادة غيرَ وجه الله - سبحانه وتعالى - فماذا عسى أن يكون أمره ؟
على أنّ الله - عز وجل - بيّن في محكم كتابه العزيز أنّ عدم الإخلاص .. إخلاصِ العبادةِ لله هو ضرب من الإشراك، أي الرياء هو ضرب من الإشراك، فالله تعالى يقول: { ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } [ سورة الكهف، من الآية: 110 ] .. المفسرون الذين يعتنون بالروايات ويربطون في تفسيرهم بين الآيات وأسباب نزولها ذكروا أسبابا متعددة لنزول هذه الآية الكريمة:
فمنهم من ذكَر بأنها نزلت في الرجل الذي يعمل العمل لوجه الله تبارك وتعالى فإذا اطّلع عليه الناس سَرَّهُ ذلك.
ومنهم من يقول بأنها نزلت في الذي يجاهد في سبيل الله ولكن إذا سمع ثناء الناس عليه وشُكرهم له على الجهاد انشرح صدره لذلك.
__________
(1) -أضيفت " تعالى " للتوضيح.
(1/8)
ومنهم من قال بأنها نزلت فيمن يبَرُّ والديه ويصل أرحامه وهو يقصد بذلك وجه الله .. يقصد طاعته - عز وجل - ولكن عندما يُثنى عليه بسبب ذلك يُعجبه هذا الثناء.
يقولون بأنّ الآية الكريمة نزلت من أجل هذه الأسباب، والآية هي في الحقيقة أعم من هذه الأسباب بأسرها، وإنما من شأن المفسرين-كما هو معروف في مصطلح المتقدمين منهم-أن يقولوا بأنّ الآية نزلت في كذا، إن كان حكمها يشمل ذلك الأمر؛ وقد نَبه على هذا بعض حذاق المفسرين من المتقدمين أنفسهم، فالآية الكريمة تدل على أنّ عبادة الله تبارك وتعالى يجب أن تكون خالصة، لا تشوبها شائبة من رياء .. لا تشوبها شائبة من ابتغاء غرض من أغراض هذه الحياة الدنيا.
(1/9)
ومفهوم العبادة-كما تعلمون-هو مفهوم عام، لأنّ العبادة-كما قلتُ [ ص3 ]-هي ضريبة العبودية، فهي إذن الطاعة المطلقة لله - عز وجل - ، فكل أمْر أمَرَ الله تبارك وتعالى به يجب أن يُمتثل طاعة له، وكل أمر حذّر الله - سبحانه وتعالى - منه يجب أن يُجتنب ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - أيضا، وهذا هو معنى إخلاص الدين، فالدين الطاعة، والطاعة كما تكون في الأوامر تكون في النواهي: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ ... } [ سورة البينة، من الآية: 5 ]، أي " مخلصين له الطاعة "، فالأوامر والنواهي كلها تدخل في الدين، لأنها تدخل في باب طاعة الله تبارك وتعالى، فالمقصود إذن بقوله - سبحانه وتعالى - : { ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } [ سورة الكهف، من الآية: 110 ] ألاّ يقصد بأيّ عمل من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله - عز وجل - سواء كان هذا العمل فيما بينه وبين ربه، كالصلوات والصيام والحج، أو كانت فيه منفعة للعباد، كالزكوات والصدقات وعون الضعيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وبِر الوالدين وصلة الرحم وما إلى ذلك، وكذلك اجتناب المنهيات .. أن يكون ذلك كله لأجل وجه الله - سبحانه وتعالى - : { ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } .
(1/10)
هناك رواية أخرجها الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " من طريق أوس بن شدّاد-فيما أحسب-أنه كان يبكي، فقيل له: " ما يبكيك ؟! " فقال: " أبكاني أمر رأيته على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فقلتُ له: " يا رسول الله، ما هذا الذي على وجهك ؟ "، قال: ( أمر أتخوَّفه على أمَّتي من بعدي )، فقلت له: " يا رسول الله، وما هو ؟ "، فقال: ( الشرك، والشهوة الخفية )، فقلت له: " يا رسول الله، أَوَتُشْرك أمَّتك ؟! "، فقال: ( نعم، أمَا إِنِّي لا أقول لك بأنهم يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكنهم يراؤون في أعمالهم )، فقلت: "يا رسول الله، هل الرياء شرك ؟!"، فقال: ( نعم )، فقلت له: " يا رسول الله، وما الشهوة الخفية ؟ "، فقال: ( يصبح أحدهم صائما فتعرِض له شهوة من شهوات الدنيا فيدع صيامه ).
يقول عبد الواحد بن زيد-وهو أحد الرواة في سنَد هذا الحديث-بأنه رأى الحسن البصري فسأله: " هل الرياء شرك ؟ "، فقال له: " نعم، أما تقرأ قول الله تعالى: { ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } ؟! [ سورة الكهف، من الآية: 110 ] ".
وقد جاء في العديد من الروايات تسمية الرياء(1) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند السلف الصالح بالشرك الخفي، وسمّاه بعضهم الشرك الأصغر، وهو معنى قول العلاّمة أبي مسلم عندما يقول:
وراقب وصايا الله سرا وجهرة
وجرِّد على الإخلاص جِدَّكَ في التُّقى ... ففي كل نفسٍ غفلةٌ وفتورُ
ففوقَكَ بالشركِ الخفي خبيرُ
__________
(1) -قال الشيخ: " الشرك " بدلا من " الرياء "، والظاهر أنه سبق لسان.
(1/11)
يعني أنّ اجتهادك في تقوى الله تبارك وتعالى-وكما تعلمون تقوى الله تشمَل فِعلَ أوامره واجتناب نواهيه-جرِّده، أي جرد اجتهادك في التقوى على الإخلاص، بحيث تجعل هذا الاجتهاد خالصا لوجه الله تعالى الكريم، ذلك لأنّ أعلاك من هو خبير بالشرك الخفي .. خبير بما في حنايا نفسك .. خبير بما ينطوي عليه ضميرك .. خبير بما يكتنفه سِرُّك، فأنت إن أردت بأيّ عمل من الأعمال غيرَ وجهه الكريم فهو - سبحانه وتعالى - به خبير.
وقد جاء في حديث-أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - -أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يقول الله تعالى: ' أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمِل عمَلا لي وأشرك فيه غيري تركته وشركه ' )؛ ومعنى ذلك أنّ العمل الذي يعمله العبد لوجه الله تعالى،-كصلاة أو صوم أو حج أو صيام أو زكاة أو جهاد أو صلة الوالدين أو صلة الرحم أو عون الضعيف أو إغاثة الملهوف أو الإنفاق في سبيل الله أو تعلم العلم أو تعليمه أو أيّ شيء من هذا القبيل-وأشرك فيه غير الله تبارك وتعالى فإنّ ذلك العمل-والعياذ بالله-لا يُتقبل عند الله، ذلك لأنّ الله تبارك وتعالى عزيز، والعزيز من شأنه ألاّ يريد مساهمة غيره، والله تبارك وتعالى غنيّ، ومن شأن الغني أن يستغني عن مشاركة غيره.
وقد جاء أيضا في حديث-أخرجه الدارقطني-أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يقول الله تبارك وتعالى: أنا خير شريك، فمن عمِل عملا أشرك فيه غيري فهو لغيري، يا أيها الناس أخلِصوا لله تعالى أعمالكم، ولا تقولوا هذا لله والرحم، فإنها للرحم وليس لله فيها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى فيها شيء ).
(1/12)
وجاء أيضا في حديث-أخرجه ابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فُضالة، وهو من الصحابة-أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا كان يوم القيامة .. يومُ يقوم الناس لله رب العالمين نادى منادٍ: " من عمِل عملا لله تعالى أشرك فيه غير الله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإنّ الله لا يقبل إلا ما كان خالصا له " ).
وجاء أيضا في رواية أخرى-أخرجها الدارقطني-أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه يؤتى يوم القيامة بالصحف المختَّمة فتُنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله تعالى لملائكته وهو أعلم: ' يُقبل هذا ويُردّ هذا '، فيقولون له: " يا ربنا، إنّا لم نر إلا خيرا "، فيقول الله - عز وجل - : ' هذا ابتُغي به غيرُ وجهي، وما ابتُغي به غير وجهي فلا أقبله '.
فإذن هذه الأحاديث كلُّها تدل على أنّ ابتغاء غيرِ وجه الله تبارك وتعالى بأيّ عمل من الأعمال إنما هو ضَرب من ضروب الشرك .. هو شرك جزئي، أو كما يسمى " الشرك الخفي "، أو " الشرك الأصغر "، ولكنه لا يصل بصاحبه إلى أن يُخرَج من ملة الإسلام، بحيث لا تحِل مناكحته ولا موارثته إلى غير ذلك من الأحكام، وإنما ذلك أمر فيما بينه وبين ربه، فالله تبارك وتعالى لا يقبل أعماله، لأنه ابتغى بأعماله غير وجهه - عز وجل - .
هذا، وقد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى التحذير الشديد من الرياء، فالله - عز وجل - يقول: { أَرَأَيتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ - فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ - ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ - فَوَيْلٌ للمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ سورة الماعون ]، فترون أنّ الله - عز وجل - توعّد المرائين هُنا بالويل، والويل هو العذاب الشديد.
(1/13)
والله - سبحانه وتعالى - بيّن أنّ الرياء يُحبط الأعمال، وأنه يَنسِفها نَسفا، بحيث لا تكون لها قيمة عند الله يوم القيامة، يقول الله - عز وجل - : { يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَترَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ(1) الْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة، الآية: 264 ]، تجدون أنّ الله تبارك وتعالى بيّن بأنّ هؤلاء لا يكون لهم ربح مما عملوا، ذلك لأنهم ابتغوا بهذا العمل غير وجه الله، فيكون مثله { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَترَكَهُ صَلْدا } .. كمثل الصخرة التي عليها طبقة خفيفة من تراب، لا تكاد هذه الطبقة تُنبت شيئا .. لا يمكن أن يَنبُت عليها شيء، وبجانب ذلك يأتي المطر ويقضي على وجود هذه الطبقة على هذه الصخرة، فإذا بهذا المنظر الكالح البغيض القبيح من هذه الصخرة بادٍ، ثم بيّن بعد ذلك أنهم { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا } ، هؤلاء المراؤون-يعني-لا ينتفعون بشيء مما كسبوا، إذ المنتفعون بأعمالهم إنما هم الذين يقصدون بهذه الأعمال وجه الله.
__________
(1) -وقع سهو من الشيخ في القراءة إذ لم يقرأ كلمة: " القوم ".
(1/14)
وقد بيّن هذه الصورة الصحيحة للإنفاق .. الصورة التي يكون فيها المنفِق مخلصا لله - سبحانه وتعالى - ، لا يبتغي على إنفاقه جزاء في الدنيا، ولا شكرا من العباد، فقال - عز وجل - : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُم ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ فَإِن لَّم يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سورة البقرة، الآية: 265 ]، هذه الصورة تقابل تلك الصورة، مثل إنفاق هؤلاء في سبيل الله { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } .. جَنة مرتفعة على رَبوة، والجنة عندما تكون على ربوة مرتفعة يكون لها منظر رائق بهيج .. هذه الجنة { أصَابَهَا وَابِلٌ } .. أصابها غيث من عند الله { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ } .. تَضاعَفَ ما تُؤتيه من الثمار، وإن { لَّم يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلٌّ } ، من حيث إنّ الأرض مُخصِبة، وهي أرض قابلة للإنبات .. أرض طيبة يكفيها الطلّ عن الوابل فتؤتي أكلها ضعفين بمشيئة الله - سبحانه وتعالى - .. هذا هو الإنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله مع خُلوص النية لوجه - عز وجل - .
(1/15)
وهناك الكثير الكثير من الأحاديث الصحيحة والحسنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفيد التحذير من الرياء والعياذ بالله؛ فقد جاء في رواية-عند الشيخين عن أسامة - رضي الله عنه - -قال: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلِق أقتابه، ويدور بها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار، ويقولون له: " ما بالك يا فلان ؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟! " فيقول: " بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه " )، يعني ذلك أنّ الذي يدعو الناس إلى الله - عز وجل - من غير أن يكون مخلِصا في عمله، محاسِبا لنفسه، حاملا لها على ذلك العمل الصالح الذي يدعو إليه، وعلى اجتناب العمل الطالح الذي يُحذِّر منه .. من كان هذا شأنه فإنه يوم القيامة-والعياذ بالله-يكون دَرَكُه في النار أنزَل من أولئك الذين كان يأمرهم وإن كانوا عصَوا أمره، ويحذرهم وإن كانوا-أيضا-عصوا تحذيره، لأنه عرف فأدرك، وقامت به الحجة على غيره، ولأَن تقوم الحجة عليه من خلال أمره إياهم ونهيه إياهم أولى، فلذلك كان أشدَّ عذابا منهم، والعياذ بالله.
وجاء أيضا في حديث-أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - -أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( يكون في آخر الزمان أُناس ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم كقلوب الذئاب، يلبسون جلود الضأن من اللِّين، يقول الله تبارك وتعالى: ' أبي يغتّرون أم إياي يخادِعون، فوعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران ' ).
(1/16)
وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح-الذي أخرجه الإمام مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - -أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكَر أول من يحاسب يوم القيامة، فذكر ثلاثة، ذكر رجلا علّمه الله تعالى القرآن فتعلّمه وعلّمه فيؤتى به يوم القيامة فيُذكّره الله تعالى نِعَمَهُ ويعرِّفه بها نِعمة نعمة فيعرِفها، فيقول له: ' فماذا عمِلت ؟ ' فيقول له: " يا رب، قرأتُ كتابك فقمتُ به آناء الليل وآناء النهار "، فيقول له الله - سبحانه وتعالى - : ' كذَبتَ، وإنما فعلتَ ما فعلت ليُقال إنك قارئ '، فيؤمر به فيُسحَب على وجهه إلى النار يوم القيامة، والعياذ بالله؛ ورجلا استُشهِد في سبيل الله فيُؤتى به فيعرّفه الله نِعَمَهُ نِعمة نِعمة، ثم يقول له: ' ماذا عمِلت ؟ ' فيقول له: " قاتلتُ في سبيلك حتى استُشهِدت "، فيقول له: ' كذَبت، وإنما قاتلتَ ليُقال إنك جريء وقد قيل ذلك '، فيؤمر به فيُسحَب على وجهه إلى النار، والعياذ بالله؛ ويؤتى برجل آتاه الله تبارك وتعالى من صنوف المال فيعرّفه الله تعالى نِعَمَهُ نِعمة نِعمة، ثم يقول له: ' ماذا عمِلت ؟ ' فيقول له: " ما تركتُ سبيلا تُحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقتُ فيها "، فيقول له: ' كذَبت، وإنما فعلتَ ما فعلتَ ليُقال إنك جواد وقد قيل ذلك '، فيؤمر به فيُسحَب على وجهه إلى النار، والعياذ بالله؛ وقد جاء في بعض الروايات أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة: ( يا أبا هريرة، إنّ أولئك الثلاثة أول خلقِ الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ).
هذا كله يدعو الإنسان إلى الاستبصار، وإلى الاعتبار، وإلى أن يحرص على مجاهدة نفسه، وحمل هذه النفس على الإخلاص لله تبارك وتعالى.
(1/17)
وكما يُطلب من الإنسان أن يكون مخلصا في عمله، يُطلب منه أيضا أن يكون مخلصا في علمه، وأن يكون مخلصا في تعليمه هذا العلم، ذلك لأنّ العلْم أمانة الله تبارك وتعالى، وهذه الأمانة تستوجب الإخلاص، وقد رأيتم ما يدل عليه حديث أبي هريرة من أنّ صاحب القرآن-والعياذ بالله-إن ابتغى(1) به غيرَ وجه الله ولو قام به آناء الليل وآناء النهار إنما هو من أوائل الذين تُسعّر بهم النار يوم القيامة؛ فمعنى ذلك إذن أن يطلب الإنسان العلم لوجه الله تعالى، وأن يحرص على ألاّ يُريد بهذا العلم الذي يطلبه مناصب دنيوية، ولا منافع عند الناس، ولا سمعة وشهرة بين الناس، وإنما يحرص كل الحرص على أن يتعلم العلم لوجه الله - عز وجل -، بحيث يكون تعلُّمه لأجل أن يَعبُد الله - عز وجل - على بصيرة، وأن يفيد الناس ممّا يتعلمه، وأن يدعو إلى الله - عز وجل - على بصيرة، لأنّ العبادة هي أمانة في الأعناق، وَلَئِنْ كان الإنسان عندما يعمل عملا دنيويا .. أيَّ عمل كان يتعلم كيفية أدائه أوّلا، ليُحسن هذا العمل، فكيف إذا كان هذا العمل أخرويا .. كيف إذا كان الأمر هو عبادة الله التي نيطت بها رسالات السماء، فجميع الرسالات توافدت على هذا المحيط الأرضي لأجل تطويع الناس لله بحيث يُخلصون له عبادتهم.
__________
(1) -قال الشيخ: " لم يبتغ " بدلا من " ابتغى " والظاهر أنه سبق لسان، ويمكن أن يكون الشيخ قصد أن يقول: " إن لم يبتغ به وجه الله "، والله أعلم.
(1/18)
جاء في الحديث-الذي أخرجه الإمام الربيع من طريق أنس - رضي الله عنه - -أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من تعلّم العلم ليُباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء لَقِيَ الله وهو خائب من الحسنات )؛ وجاء هذا الحديث في رواية الترمذي من طريق كعب بن مالك، ومن طريق أبي هريرة، ومن طريق ابن عمر - رضي الله عنهم - بألفاظ مختلفة، وهي تتفق في المعنى مع رواية أنس عند الربيع؛ كل هذه الروايات تفيد على أنّ طلب العلم عبادة، فيجب على طالب العلم أن يُخلص هذه العبادة لله، وإلا دخل في الشرك الخفي، لابد من أن تكون هذه العبادة خالصة لوجه الله - سبحانه وتعالى - ، فلا يبتغي بطلب العلم ثناءً، ولا يبتغي بطلب العلم نيل مرتبة دنيوية؛ نعم إن يسّر الله تبارك وتعالى له الرزق، وآتاه إياه بسببِ ما آتاه من العلم فقد ضاعف الله تبارك وتعالى له الخير، وتضاعف عليه الواجب أن يشكر هذا الخير الذي آتاه الله، وَلَئِنْ أراد الإنسان وجه الله - سبحانه وتعالى - فابتغى بطلبه العلم أو بأيّ عمل من أعماله وجه الله جمَع الله تبارك وتعالى له خير الدنيا والآخرة: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نصِيبٍ } [سورة الشورى، الآية: 20]، فإن ابتغى بطلبه العلم وجه الله تبارك وتعالى فالله كفيل برزقه، ولكن عليه ألاّ يسعَ لأجل نيل المراتب في هذه الدنيا، ولأجل التوصل إلى أن يَخْتِل الدنيا بالدِّين، كما جاء في الحديث، وإنما عليه أن يقصد ابتغاء ما عند الله: { ... وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ... } [ سورة القصص، من الآية: 60 ].
(1/19)
وهناك آفة في طلب العلم ظهرت في هذا العصر، هذه الآفة هي آفة الشهادة، وقد أصبحت في حياة الناس المعاصرة من الضرورات، فإذن على الإنسان الذي يطلب العلم ألاّ يريد هذه الشهادة من أجل الشهرة، ومن أجل الرقي بها إلى المراتب العالية، ولكن-على أيّ حال-يَطلب-قبل كل شيء-العلم لأجل عبادة الله، ثم يَعتبر هذه الشهادة وسيلة، وسيلة للدعوة إلى الله، وسيلة لنشر العلم بين عباد الله، وسيلة لتوصيل هذا الحق إلى أفهام الناس، لا أن يجعل هذه الشهادة غاية، فإنّ جَعْل هذه الشهادة غاية إنما هو في الحقيقة داخل في مفهوم الشرك الخفي الذي حذرت منه الآية القرآنية: { ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } [سورة الكهف، الآية: 110]؛ وأنتم ترون التحذير في كتاب الله - سبحانه وتعالى - من أن يريد الإنسان بعمله غيرَ وجه الله وغيرَ الدار الآخرة، الله تبارك وتعالى يقول: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيها مَا نَشَاءُ لِمَن نرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوما مدْحُورا } [ سورة الإسراء، الآية: 18 ]، فمن كان يريد العاجلة بطلبه العلم، بحيث يريد أن يرقى إلى المناصب، أو أن يتبوأ مكانة بين الناس، وأن يشار إليه بالبنان، وأن يُعطى الشهادات العالية فهو طالب بهذا العلم غيرَ وجه الله - سبحانه وتعالى - ، وهو ممّن طَلب به العاجلة فكانت له هذه العاقبة، والعياذ بالله: { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوما مَدْحُورا } ؛ أما الفريق الآخر وهو من طلب العلم لوجه الله، وأراد به الفوز عند الله برضوانه يوم القيامة، وأراد به قبل كل شيء أن يُطوِّع نفسه لله، ثم أن يحمِل عباد الله على طاعة الله كان من الفريق الثاني، الذي قال الله تعالى فيه: { وَمَنْ أرَادَ الآخِرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهو مُؤْمِنٌ فَأُوْلئِكَ
(1/20)
كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورا } [ سورة الإسراء، الآية 19 ]، فكما أنّ الله - عز وجل - يُعبد بالأعمال الصالحة المختلفة يُعبد أيضا بطلب العلم، وعلى طلبة العلم أن يُخلصوا هذه العبادة لوجه الله - عز وجل - ، وألاّ يبتغوا بها جزاءً ولا شكورا.
هذا، وقد جاء-فيما رُوي عن لقمان-كيفيةُ علاج آفة الرياء، بحيث لا يبتغي الإنسان بعمله إلا وجه الله، ويتجرّد في جميع أعماله من شوائب الرياء، ومن شوائب طلب أغراض الدنيا وذلك أنّ لقمان أوصى ابنه بأن يُخلص لله جميع أعماله، فسأله ابنُه عن طريق ذلك، فقال له: " كتمان العمل "-أي أن يكون العمل خفيًّا-فقال: " وإن كان إظهاره واجبا ؟ " فقال له-ما معناه-: " إن كان إظهاره واجبا فاجتهِد في إخلاص هذا العمل لله - سبحانه وتعالى - ، وإن كان إظهاره غيرَ واجب فاستعن على إخلاصه لله تعالى بكتمانه "؛ ولذلك كان السلف الصالح حريصين كل الحرص على كتمان أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله تبارك وتعالى-من غير الفروض-عن الناس، أما الفروض فإنها تُظهَر، إذ كتمان الفروض إنما يُؤدي-والعياذ بالله-إلى سوء الظن بالناس، فالنوافل ينبغي أن تكون مكتومة؛ وقد كان السلف يحرصون على كتمان النوافل، وإخفائها عن أبصار الناس، وإبعادها عن مسامعهم؛ فكانوا عندما يتهجدون يتهجدون في الخفاء، وعندما يتصدقون صدقات النفل يتصدقون في السر، ويحرصون على كتمان ذلك، حتى عن أولئك الذين يُتصدق عليهم، لئلا ينالوا منهم جزاءً، أو يُسمَع لهم ذكر بين الناس.
(1/21)
والعاقل يحرص كل الحرص على منفعته، ومنفعة الإنسان إنما تتوقف على الإخلاص، وبهذا يتبيّن أنّ الرياء في الأعمال إنما يرجع إلى فساد الفطرة، وإلى انطماس البصيرة، ذلك لأنّ العاقل يرى أنّ هذا الكون مسخر بأمر الله، فالله وحده هو المقدِّم والمؤخِّر فيه، والله وحده هو الذي يُوجِد المعدوم ويُعدِم الموجودَ فيه، الله - سبحانه وتعالى - وحده هو الذي يبسط النَّعماء ويدفع الضراء، الله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحقق للإنسان مطالبَه ويستجيب دعاءَه ويعطيه سُؤُلَه، فإذن لماذا يتعلق بعمله-عندما يعمله-بغير الله تعالى ؟! لو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن ينفعوا أحدا من الناس لم ينفعوه إلا بشيء كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء كتبه الله عليه، ولو أنّ أهل السماء والأرض اجتمعوا على الثناء على أحد من الناس وهو عند الله تعالى مرفوض لما أفاده ذلك شيئا، ولو أنهم جميعا اجتمعوا على ذمّه والقدح فيه والحطّ من شأنه فإنّ ذلك لا يضره عند الله تبارك وتعالى إن كان مقبولا عند الله؛ وعلى هذا فعلى العبد أن يبتغي بعمله وجه الله تبارك وتعالى لأجل مصلحة نفسه، إذ مصلحة نفسه إنما تُناط بالإخلاص لله تعالى؛ فلو أنّ أحدا من الناس أراد بصلاته أو بصومه أو بزكاته أو بحجّه أو بجهاده أو بِبِرِّه لوالديه أو بصلته لأرحامه أو بتعلمه العلم أو بتعليمه أو بالدعوة إلى الله أو بنفقاته في سبيل الله، أو بأيّ عمل من الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله - عز وجل - غرضا من أغراض هذه الدنيا فإنّ ذلك الغرض لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة الله، لا يمكن أن يتحقق إلا بقدَرٍ من الله، فلماذا يَطلب الشيء من غير بابه ؟! إنما عليه أن يعمل العمل الخالص لله، ويطلب من الله تبارك وتعالى قضاء حاجاته، ويجعل ذلك العمل طاعة لربه سبحانه، لا يبتغي عليها [ من غيره تعالى ](1) جزاءً ولا شكورا، وإنما يحرص كل
__________
(1) -أضيف " من غيره تعالى " للتوضيح.
(1/22)
الحرص على مرضاة الله ثم يتعرض لنفحات الله، ويطلب منه - سبحانه وتعالى - أن يَبسُط له في رزقه، وأن يُفيء عليه من فضله.
والإنسان يدرك أنّ الذي خلقه فسوّاه هو الله سبحانه، وهو القادر عليه، فإذن لماذا يتعلق بغيره فيبتغي بعمله غير وجه الله ؟! { قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أكْفَرَه - مِن أيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ - مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقدرَهُ - ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ - ثُمَّ أمَاتَهُ فَأقْبَرَهُ - ثُمَّ إذا شَاءَ أنْشَرَهُ - كَلاَّ لماّ يَقْضِ مَا أمَرَهُ - فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعَامِهِ - أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ صَبًّا - ثُمَّ شَقَقْنَا الأْرضَ شَقًّا - فَأنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا - وَعِنَبًا وَقَضْبًا - وَزَيْتُونا وَنَخْلا - وَحَدَائِقَ غُلْبا - وَفَاكِهَة وَأَبًّا - مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } [ سورة عبس، الآيات: 17 إلى 32 ]، فإذا كان يُدرك أنّ الله تعالى هو الذي بسط له هذا الخير كله، هو الذي خلقه وطوَّره من طور إلى طور حتى اكتمل خلقه وصار على ما هو عليه، وهو الذي نمَّا مواهبه، وهو الذي بسط له بالرزق، وهيأ له هذه الأسباب، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا فكيف يبتغي الثناء من الناس أو يبتغي المثوبة من الناس، ويترك إخلاص العمل لله - سبحانه وتعالى - ؟! { يا أيُّها الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ - الذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاك فَعَدَلَكَ - فِي أيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [ سورة الانفطار، الآيات: 6-7-8 ] فالإنسان خلقه الله تبارك وتعالى هذا الخلق وأبدعه هذا الإبداع، وصنعه هذه الصنعة، وصوّره هذا التصوير ومع ذلك يريد بهذا العمل غير وجه الله !
(1/23)
على أنّ الله تبارك وتعالى عندما أمر عباده بعبادته ذكّرهم نِعمَه عليهم، يقول تعالى: { يا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُم وَالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون - الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشَا وَالسَّماءَ بِنَاء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاء فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا ِللهِ أنْدَادا وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة، الآيتان: 21-22 ]، فالذي يُرائي في عمله إنما جعل لله - سبحانه وتعالى - أندادا، لأنه رأى غير الله تعالى أهلا لأن يُتقرب إليه بذلك العمل مع أنّ الله لا يرضى أن يكون ذلك العمل إلا خالصا لوجهه الكريم؛ ففي هذا ما ينفع العباد في تطهير سرائرهم، وجعلِها خالصة لله تبارك وتعالى، وتزكيةِ أعمالهم بالإخلاص.
ونحن نستغفر الله جميعا ونتوب إليه من مخالفة ما قُلناه، من مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه.
ونسأل الله سبحانه أن يجعلنا من عباده المخلصين، ومن حزبه المفلحين، ومن جنده المتقين، ومن أوليائه المقربين.
اللهم إنّا نسألك بأنّا نشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
نسألك ربنا أن تهب كلا منا لسانا صادقا ذاكرا، وقلبا خاشعا منيبا، وعملا صالحا زاكيا، وإيمانا خالصا ثابتا، ويقينا صادقا راسخا، ورزقا حلالا واسعا، وعلما نافعا رافعا؛ ونسألك ربنا أن تهبنا إنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، ويقين الصديقين، وسعادة المتقين، ودرجة الفائزين، يا أفضل من قُصد، وأكرم من سُئل، وأحلم من عُصي، يا الله، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه. ( قالها ثلاثا )
(1/24)
اللهم إناّ نبرأ إليك من الحول والطَّوْل، فلا حول لنا ولا قوة إلا بك، نسألك ربنا أن تجنبنا الرياء والعجب والكبر والحسد والأشَر والبطَر، وأن تجنبنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك ربنا على كل شيء قدير، وإنك بالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة الصافات، الآيات: 180-181-182 ].
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/25)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق