الكتاب : الإيمان نجاة من الخسران
المؤلف : أحمد بن حمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام وعلى رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فهذه محاضرة لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي التي ألقاها في جامعة السلطان قابوس ضمن سلسة الدروس التي يلقيها باستمرار،ولنا الشرف في تفريغ هذه المحاضرة وما هذا إلا جهد قليل آملين أن يكون هذا العمل في ميزان حسناتنا ...... والله ولي التوفيق. المفرغون.... .
المقدمة:
الحمد لله الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وبكل شيء بصير سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى أحمده تعالى كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله أرسله الله على فترة من الرسل هاديا من الضلالة ومعلما من الجهالة ومبصرا من العمى ومنقذا من الردى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فالسلام عليكم جميعا أيها الأخوة والأبناء والأخوات والبنات ورحمة الله وبركاته إن من فضل الله تبارك وتعالى علينا أن عاد اجتماعنا مرة أخرى في هذا الصرح العلمي وفي هذا المسجد الشريف لنتفىء ضلال ديننا الحنيف بتدارسنا إياه وبهذه المناسبة الكريمة أهنئ الطلبة والطالبات بهذا العام الجامعي الجديد سائلا الله تبارك وتعالى أن يكون عام يمن وبركة وخير ونصر وعز للإسلام والمسلمين و أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياهم لما فيه رضاه و أن يعلمنا جميعا ما لم نعلم وأن يفهمنا ما لم نفهم و أن يهدينا إلى الطريق الأقوام و أن يوفقنا للعمل بما نعلم إنه بالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير.
حال الأمة الإسلامية:
(1/1)
هذا وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون العودة إلى مقاعد الدراسة في هذا الفصل الجامعي وحال الأمة كما كانت من قبل الأمة هي في حالة مدلهمة، هي في ضياع وتشتت تكابد المذلة والهوان، وتتجرع غصصهما وذلك إنما يعود إلى حال الأمة في صلتها بربها سبحانه وتعالى، وفي صلتها بدينها الحنيف فإن الله تبارك وتعالى إنما جعل الأسباب مفضية إلى مسبباتها بأمره وبحكمته؛ فلذلك على الإنسان أن يأخذ بالأسباب التي تفضي به إلى الخير وأن يحرص على أن يأتي كل شيء من بابه، وأن يقصد كل أمر من سبيله فالله تبارك وتعالى أمر عباده أن ينظروا في سننه في هذا الكون، وأن يعتبروا بحال الأمم البائدة وما حدث لها من رفع وخفض وعز وذل ونصر وانهزام وقوة وضعف حتى تأخذ هذه الأمة بالأسباب " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ "(1).
أهمية القرآن الكريم:
و من المعلوم أنه سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة ببقاء الوحي الذي اختصها به فهو باق لم تطله أيدي المحرفين و لم تمتد إليه مؤامرات المتآمرين مهما كانت ، إذ الله تبارك وتعالى صانه منذ ذلك كله وبقي منارة شامخة تنير للناس الطريق وتبين لهم كيف يتصرفون في حياتهم إن الله تبارك وتعالى وصف هذا الكتاب العزيز بقوله : " إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا "(2).
(1)[يوسف:111]
(2)[الإسراء:9]
(1/2)
فهو يهدي للتي هي أقوم فيما يتعلق بأمر الدين وفيما يتعلق بأمر الدنيا. وقال سبحانه وتعالى " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "(1). فهو شفاء ورحمة للمؤمنين عندما يتمسكون به ويتبعون نهجه ويستهدون بهداه ويستبصرون بنوره شفاء لأنه يحل كل مشكلة من مشكلاتهم، ويحل كل لغز من ألغازهم فهو يبين لهم حقيقة هذا الكون ونظامه ويبين لهم طبيعة صلة الإنسان به وكيف يكون تعامله معه كما أنه يحل ألغاز هذا الوجود من حيث إنه يعرف الإنسان بالمبدأ وبالمصير فهو يعرفه من أين جاء و إلى أين ينتهي وماذا عليه أن يعمل في ما بين المبدأ والمنتهى حتى يكون هذا الإنسان في كل شيء على بصيرة من أمره لذلك كان لزاما علينا ونحن نواجه هذه العاصفة العاتية ونلقى هذا العنت الشديد والأمم تكالبت علينا، صدق علينا ما أنذرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:" يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها "(2). فقد تداعت الأمم على أمة الإسلام وهانت أمة الإسلام على رغم ما هي واجدة من أسباب العز و أسباب القوة، ولكنها أضاعت هذه الأسباب وفرطت فيها فلذلك كانت عضة للناس وعبرة في التاريخ فعليها أن تقلب مجرى حياتها من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح ومن الضلال إلى الهدى ومن الغي إلى الرشد ومن الاعوجاج إلى الاستقامة، حتى تكون أمة حرية بنصر الله تبارك وتعالى الذي وعد به عباده المؤمنين
(2)[ الإسراء:82]
(3)[سنن أبي داود:الجزء11،ص371]
(1/3)
وقد بين سبحانه وتعالى في سورة من كتابه هي من أقصر السور وأقلها ألفاظا ولكن هي من حيث المعاني معانيها واسعة، بين سبحانه وتعالى سبب نجاة الإنسان من الخسران بعد ما حكم على الجنس البشري بأسره بأنه خاسر ما عدا أولئك الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى، بحيث استمسكوا بأسباب هذه النجاة من هذا الخسران فكانوا في منأى عنه وفي حمى منه وهذا الخسران ليس هو خسران الآخرة فحسب بل هو خسران الدنيا والآخرة فهذه الأسباب عندما يستمسك بها المؤمنون يكونون أحر ياء بأن ينجيهم الله تبارك وتعالى من هذا الخسران. الله سبحانه وتعالى يقول في هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم:" وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) "(1). هذه السورة كان السلف الصالح عندما يلقى بعضهم بعضا لا يفترق اثنان منهم حتى يتلوا كل واحد منهما على الآخر هذه السورة الكريمة، وليست هذه التلاوة بمجرد التبرك كما قد يظن الكثير من الناس، إنما هذه التلاوة من أجل التذكير بأن الإنسان خاسر، إلا أولئك الذين استثناهم الله تبارك وتعالى، حتى يحرص كل واحد على أن يكون من المستثنى لا من المستثنى منه، الله سبحانه وتعالى يقسم في بداية هذه السورة بالعصر ولله تبارك وتعالى أن يقسم بما يشاء؛ لأنه هو المتصرف في هذا الكون يعز من يشاء ويذل من يشاء ويرفع ما يشاء ويخفض ما يشاء وكل ما أقسم الله تبارك وتعالى به فقد عظمه ومعنى ذلك أنه رفعه بينما المخلوق ليس له أن يقسم بأي شيء
(1)[سورة العصر]
(1/4)
فليس للإنسان أن يحتج بأن الحق سبحانه وتعالى أقسم بكذا وأقسم بكذا فلي أن أقسم بما أقسم الله تبارك وتعالى به إذ الإنسان مأمور ومنهي، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نأتمر بأمره وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقد قال سبحانه " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) "(1). يقول سبحانه " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) "(2). ويحذر الله سبحانه وتعالى من الإعراض عن أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه كما يحذر من الإعراض عن أمره فهو سبحانه وتعالى يقول " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) "(3) ويقول سبحانه وتعالى مبينا أن تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل الإنسان أن يكون من المؤمنين إلا به فلا بد من أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر يختلف فيه ويتنازع فيه يقول تعالى " َفلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً "(4).وقبل ذلك يأمر عند الاختلاف والتنازع أن يكون الاحتكام إليه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
(1)[الأحزاب:33]
(2)[النور:54]
(3)[النور:63]
(4)[ النساء : 65]
(1/5)
فقد قال سبحانه وتعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً "(3). ونحن قد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقسم بغير الله إنما المخلوق عليه أن يقسم بالله وحده لأن في ذلك إخلاص عبوديته له تبارك وتعالى حتى لا تتسرب إلى هذا المخلوق عقيدة وثنية فيها تعظيم لغير الله أيا كان هذا الغير سواء كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا أو كان من سائر الناس أو كان من أعداء الله ليس للإنسان أن يقسم بأي أحد وليس له أيضا أن يقسم بأي شيء من مخلوقات الله تعالى الأخرى، من الجمادات والنباتات وغيرها سواء كانت هذه الأشياء في حقيقتها معظمة أو كانت بخلاف ذلك ليس للإنسان أن يقسم حتى بالكعبة المشرفة التي يتجه إليها المسلم في صلاته ويحجها امتثالا لأمر ربه، إنما الإنسان عليه أن يحصر قسمه في الله تبارك وتعالى وصفاته، بحيث لا يقسم إلا بالله، فلذلك كان هذا القسم بغيره سبحانه وتعالى خاصا به عز وجل ليبين تعلى لنا أن هذا الذي أقسم به إنما عظّم شأنه، ورفع قدره، وذلك إنما يكون لأسباب من بين هذه الأسباب، أنه محط العبرة فالعبرة تحصل للمعتبر للشيء الذي أقسم به سبحانه ولذلك أقسم سبحانه وتعالى بالليل والنهار لما في تعاقب الليل والنهار من العبر للعباد بحيث أنهما يطويان الأعمار طيا ويقربان كل بعيد ويفضيان بالإنسان إلى لقاء ربه سبحانه وتعالى ليكون في ذلك اعتبار وكذلك أقسم سبحانه وتعالى بالشمس والقمر لما في ذلك من العبرة وأقسم بكثير من الأشياء التي فيها منافع للعباد كل ذلك من أجل تذكير العباد.
(3) [النساء : 59]
معنى كلمة العصر:
(1/6)
وهنا سبحانه وتعالى يقسم بالعصر ، وقد اختلف العلماء في المراد بالعصر، ما هو المراد بالعصر؟ قيل المراد بالعصر وقت صلاة العصر، ذلك الوقت أقسم الله تبارك وتعالى به، لأنه يؤذن بانتهاء اليوم وبإقبال يوم جديد في ذلك عبرة للمعتبرين، ولأن ذلك الوقت وقت شرفه الله تبارك وتعالى بأداء فريضة مقدسة من فرائضه هذه الفريضة اختصت بكونها ملتقى لملائكة الليل وملائكة النهار كما جاء في الحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه فلا عجب إذاً إذ أقسم الله تبارك وتعالى في ذلك الوقت وقيل بأن المراد بالعصر هنا صلاة العصر وعلى هذا فإن الله تبارك وتعالى إنما أقسم بهذه الصلاة بعظم شأنها إذ هي الصلاة الوسطى كما دل على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأحاديث أخرى والصلاة الوسطى صلاة مميزة ولذلك عطفها الله تبارك وتعالى على بقية الصلوات عندما قال " حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى "(1). وقيل بأن المراد بالعصر الدهر، وعليه فأي عصر ذلك؟ قيل هو مطلق الدهر من أوله إلى آخره وعلى هذا فيكون قوله سبحانه وتعالى والعصر هنا الألف واللام فيه لشمول جميع العصور من أول خلق الله تبارك وتعالى هذا الكون وإلى أن يفنى الكون ، ومعنى ذلك أن "أل" إما أن تكون من الجنس ، وإما أن تكون للاستغراق، ولا عجب أن يكون القسم بهذا الدهر بما حواه من العجائب لما اشتمل عليه من لعضات والعبر فإن الإنسان يرى صروفه كيف تتقلب فالله تبارك وتعالى يوجد فيه ويعدم ويخلق فيه ويفني، ويعز فيه ويذل، ويحيي
(1)[البقرة : 238]
(1/7)
فيه ويميت، ويغني فيه ويفقر، في كل ذلك عبر للمعتبرين ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالاعتبار بأحوال الأمم البائدة فكم من آية في كتاب الله تأمر بالاعتبار بأحوال الأمم البائدة والسير في الأرض و النظر في هذه الأحوال والنظر في معالم هذه الحياة التي تدل على تلكم الأمم من أجل الاعتبار بها حتى يكون الإنسان آخذا درسا من كل شي وقيل بأن المراد بالعصر هنا عصر النبوة وعلى هذا فإن الله تبارك وتعالى أقسم بهذا العصر وهو عصر النبي صلى الله عليه وسلم لشرفه على العصور فإن الله تعالى ميزه بهذه الرسالة العظيمة الرسالة التي جمعت الشتات والتي بصّرت من العمى ، والتي أنقذت من الردى والتي هدت من الضلالة هذه الرسالة كانت شرفا لذلكم العصر والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بهذه الرسالة فكان هو رحمة للعالمين فعصره لا ريب هو أفضل العصور، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى به وبناءً على هذا فإن "أل" في العصر إنما هي للعهد والعصر أي العصر المعهود الذي نزلت فيه هذه السورة الكريمة والذي كان ينزل فيه الوحي(1). من الله تبارك وتعالى على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ومنهم من قال بأن المراد بالعصر هنا الليل والنهار فإن الليل والنهار يسميان العصرين وقد يأتي بالمفرد للدلالة على المثنى كما يأتي أحيانا المثنى للدلالة على المفرد ويأتي أيضا الجمع للدلالة على المفرد فلا غرو أن يقال العصر مع أنه المراد بالعصر العصران أي الليل والنهار فالشاعر يقول:
ولن يلبث العصران يوم ٌ وليلةٌ * * * إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
(1) كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه ثم غلب الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله.
(1/8)
وبناءً على هذا فإن هذا القسم من الله تبارك وتعالى للعصرين بالليل والنهار لأجل ما فيهما من العضات والعبر فالليل والنهار كما قلنا يسيران بهذا الإنسان هذا السير الحثيث ويطويان هذه الأعمار هذا الطي السريع ويقربان كل بعيد ومع ذلك تتقلب الظروف والأحوال بتعاقبهما، فيحدث ما يحدث من إعزاز الله تعالى من يشاء إعزازه ، وإذلال من يشاء إذلاله ،ورفع من يشاء رفعه، وخفض من يشاء خفضه، وإغناء من يريد إغناءه، وإفقار من يريد إفقاره، وهداية من يريد هدايته، وإظلال من يريد ظلاله، وهكذا تحدث هذه الأحداث بتعاقب الليل والنهار، فلذلك كان محط العبرة وكان في القسم بهما تذكيرا لهذا الإنسان بهذا الذي يجري كله ليستبصر وليكون مستمسكا بحبل ربه تبارك وتعالى المتين وليكون مستعدا للقاء الله تعالى لأنه يمتطي صهوة الليل والنهار فهما مطيته الدءوب التي تسير سيرا حثيثا إلى الغاية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لكل أحد ومهما يكن المراد بالعصر فنحن لسنا بصدد الترجيح، لأن هذه الأقوال كلها محتملة كل قول منها محتمل، مهما يكن المراد فإن علينا أن ننظر في المقسم عليه وهو أن كل إنسان خاسر نعم كل إنسان خاسر وقد يتساءل الإنسان كيف يكون كل إنسان خاسرا، إلا أولئك الذين استثناهم الله تبارك وتعالى مع أن الإنسان يتبوأ ما يتبوأ من منصب التشريف من الله تبارك وتعالى بحيث اختاره لأن يكون خليفة في هذه الأرض، وأن يكون سيدا في هذا الكون وأن يكون متمتعا بخيرات هذا الوجود وأن يكون متصرفا في كثير من الكائنات التي سخرها الله تبارك وتعالى له مع أن من هذه الكائنات ما هو من جنس الأحياء، وكثير من هذه الكائنات الحية تفوق الإنسان في كثير من النواحي تفوق الإنسان في طول عمره أحيانا بحيث تكون أطول منه عمرا وقد تفوقه بحيث تكون أشد منه قوة وقد تفوقه بحيث تكون أعظم منه جرأة، ولكن مع ذلك كله سخرت هذه الكائنات لهذا الإنسان، فكيف يكون الإنسان مع ذلك خاسرا
(1/9)
إلا أولئك الصنف الذين استثناهم الله تعالى، نعم يكون الإنسان خاسرا لأنه إنما خلق لغاية وحمل تبعة فالتبعة التي حملها هذا الإنسان تبعة عظيمة حمل الأمانة " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "(1)، فالإنسان حمل هذه الأمانة وهي أمانة ثقيلة عظيمة فهو خاسر إن لم يقم بحق هذه الأمانة، وهذا الخسران ليس هو خسرانا أخرويا، بل هو أيضا خسران دنيوي بجانب كونه أخروياً هو خسران دنيوي من حيث إن حياة البشر كما تعلمون حياة متشابكة متداخلة ،وجميع المصالح البشرية هي مصالح داخلة في نظام الحياة الاجتماعية لهؤلاء البشر، إذ لا يستقل فرد من أفراد البشر بمصالحه، فلا يستطيع الإنسان كيفما أوتي من الطاقات والملكات أن يستقل بمصالحه كل واحد هو بحاجة إلى بني جنسه مهما أوتي من قوة و سلطان ونفوذ وعلم وتجربة فكل أحد في هذه الكائنات هو بحاجة إلى غيره ، الملوك هم بحاجة إلى كل طبقات الناس بل بقدر ما يكون الإنسان متمكنا في هذه الأرض يكون أشد حاجة من غيره فكما قلنا الملوك هم بحاجة إلى طبقات الناس جميعا هم بحاجة إلى المستشارين وهم بحاجة إلى الوزراء وهم بحجة إلى الإداريين وهم بحاجة إلى الأطباء وهم بحاجة إلى الجنود وهم بحاجة إلى الحرس وهم بحاجة إلى العمال والصناع وهم بحاجة إلى الخدم وبحاجة إلى كل من يعمل عملا في مملكته هكذا تكون الحاجة وكذلك العلماء وكذلك الأطباء مثلا وكذلك كل ذي اختصاص عملي أو تخصص علمي هو بحاجة إلى غيره لا يستقل عن غيره لا يمكن أن يكون ما عنده من التقدم يوقف كل أحد عند حده وأن يمنعه من التعدي على غيره، فلذلك كان الذين لا يتصفون بهذه الصفات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى خاسرين" وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا
(1/10)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)"(1)، فالناس كلهم خاسرون إلا أولئك الذين استثناهم الله تبارك وتعالى ذلك لأنهم في الدنيا كما قلنا بحاجة إلى نظام يسودهم ، هم بحاجة إلى مراقبة هذا النظام بحيث لا يتعدونه ولا يشذون عنه ويرعى كل واحد مصلحة غيره كما يرعى مصلحة نفسه وهم في خسران أيضا في الدار الآخرة لأن تلك الدار إنما هي في ذلك الصنف الذي استثناه الله تبارك وتعالى وأولئك هم المتقون لأنهم يتقون سخط الله عز وجل الله سبحانه وتعالى قال:" َولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ "(2)، فهي خير للمتقين لا للفجرة ،وقال في الجنة" أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "(3)، وهكذا نجد التبشير للمتقين في الدار الآخرة ولا تتحقق التقوى إلا بتحقق ما ذكر في هذه الآية الكريمة من الاستثناء من صفات عباد الله تبارك وتعالى الذين يتحلون بالطهارة الباطنة والطهارة الظاهرة ويتصفون بالصفات التي ترتفع بهم عن البهيمية التي يعيشها جمهور الناس في هذه الحياة فالله سبحانه وتعالى أولا قبل كل شيء ذكر الإيمان " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا "(4)، لأن الإيمان هو أساس كل خير ومصدر كل فضيلة ومنشأ كل خلق حميد ، الإيمان هو الذي يبصر الإنسان بما يأتيه وما يذر ؛ لأن الإنسان بحاجة قبل كل شي إلى التصور السليم والتصور السليم لا يكون إلا بهذا الإيمان ومن أجل ذلك كانت دعوة جميع المرسلين الذين بعثهم الله تبارك وتعالى قائمة على هذا الأساس فكل رسول من رسل الله
.
(1)[سورة العصر]
(2) [يوسف :109 ]
(3) [آل عمران :133]
(4)[الشعراء:227]
(1/11)
تبارك وتعالى إنما يدعوا أول ما يدعوا إلى الإيمان يدعوا إلى أن تكون هناك صلة بين هذا الإنسان المخلوق الضعيف و بين الحق تبارك وتعالى الخالق القوي المصرف لهذا الكون بأسره فالله تبارك وتعالى يقول :" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " (1).و يقول الله تعالى:" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ " (2).ويقول سبحانه وتعالى حاكيا دعوة طائفة من المرسلين وهم نوح و هود وصالح وشعيب يقول عنهم " يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "(3). فكل واحد منهم قال لقومه هذه العبارة وحكى عن المسيح عليه السلام أنه قال " اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ"( 4).فإذن التصور السليم هو أساس رسالات جميع المرسلين فما من رسول من رسل الله إلا بعث من عند الله تبارك تعالى من أجل نقض العقائد الجاهلية القائمة على التصور الفاسد المنحرف وهذا الإيمان هو في الحقيقة كما قلنا يقوم عليه النظام الصالح في حياة البشرية بأسرها فبدونه لا يكون هنالك نظام صالح فهو الذي يحول البشر من طباع إلى طباع أخرى يحول البشر من التعلق بغير الله تبارك وتعالى ومن التعلق بالحياة الدنيا ونسيان الدار الآخرة إلى خلاف ذلك الإيمان هو الذي يجعل الإنسان لا يتعلق إلا بربه ولا ينظر إلا إلى الدار الآخرة إنما يلتفت إلى هذه الحياة الدنيا بقدر ما يتمكن فيها من فعل الخيران والمسارعة إلى الطاعات و اجتناب معاصي الله سبحانه و الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون هم المؤمن في هذه
(1)[الأنبياء : 25]
(2)[النحل : 36]
(3)[هود : 50]
(4)[المائدة : 72]
(1/12)
الحياة هو الإصلاح كما حكى سبحانه وتعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال: " إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "(1). فهكذا شأن كل مؤمن يؤمن بالله تبارك وتعالى ويؤمن باليوم الآخر ونجد أن الحق سبحانه وتعالى يبين لنا صورا من هذا التحول السريع من وضع إلى آخر ومن طبيعة إلى أخرى في حياة البشر عندما يتحولون من الكفر إلى الإيمان فهؤلاء سحرة فرعون ماذا كان همهم في هذه الحياة وإلى أي شيء كانوا يهدفون فيها إنما كانوا كسائر الناس يريدون هذه الحياة الدنيا هم يريدون الاستكثار من المال ويريدون أيضا يتبوءوا المناصب هذه طبيعة البشر يريدون مناصب هذه الحياة الدنيا ويريدون المال من أجل الاستمتاع فقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم أنهم قبل إيمانهم قالوا لفرعون " إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ "(2).ثم حكى إجابة فرعون لهم أنه قال لهم " نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " (3).لأنه أدرك أنهم بجانب كونهم يطمعون في المال الذي رمزوا إليه بالأجر يطمحون أيضا إلى المناصب ويريدون أن يكونوا من المقربين عنده فلذلك كانت إجابتهم إجابة العارف بطبيعتهم وأن واعي بأهدافهم وغاياتهم ولكن بسرعة عندما لامس الإيمان شغاف قلوبهم تحولت هذه النظرة إلى هذه الحياة وتحولت الصورة التي كانت أمام وجوههم إلى سورة أخرى لهذه الحياة وطبيعتها
(1)[هود : 88]
(2)[الأعراف : 113]
(3)[الأعراف : 114]
(1/13)
فكانوا لا ينظرون إلى هذه الحياة إلا بقدر ما يحققون فيها من خير وما يرفعون فيه من منار الحق فلذلك قالوا لفرعون بعدما تهددهم بما تهددهم به: "لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا "(1). هذا هو الإيمان الذي حولهم من هذه الطباع إلى طباع مخالفة لها وكذلك نجد في تاريخ العرب قبل الإيمان أنهم كما وصفهم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عند النجاشي بأنهم كانوا يعبدون الأوثان ويقدسون الأحجار ويأكلون الميتة ويسيؤن الجوار ويقتل بعضهم بعضا كانوا بمثابة السباع قد جاء وصفهم على قلم أحد الأدباء الكتاب البارعين وهو الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فقال:" كانوا بين راع للغنم وداع للصنم وعالم على وهم وجاهل على فهم وإنسان كأنه من شره آلة لفناء الإنسان وشيطان كأنه من خبثه مادة لوجود الشيطان" هكذا كانوا قبل أن يكرمهم الله تبارك وتعالى بالإيمان فلما جاء هذا الأيمان حولهم إلى طبيعة أخرى فكانوا خير أمة أخرجت للناس بشهادة كتاب الله تبارك وتعالى إذ كانوا هم معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والله تبارك وتعالى وصفهم هذا الوصف وقال فيهم:" مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم
(1)[طه : 72]
(1/14)
مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً "(1). قد وصف الله سبحانه تعالى المهاجرين والأنصار بما وصفهم به فقد قال في المهاجرين " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (2).وقال في الأنصار "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " (3).نعم هؤلاء وصلوا إلى هذه المراتب حيث كان كل واحد منهم ينظر إلى نفسه من خلال نظرته إلى الأمة فيرى نفسه واحدا من الأمة أن يضحي بمصلحة نفسه لأنه فرد في مقابل هذا الجمهور الكبير فلذلك كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يحرص كل واحد منهم أن يضحي بكل غالي وثمين من أجل إعلاء كلمة الله ومن أجل إعزاز دينه ومن أجل رفع راية الحق هذا الأثر إنما هو أثر الإيمان ويصفهم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بعدما تحولوا إلى هذا الإيمان بتأثير القرآن الكريم فيقول ما معناه بأن هذا القرآن كان كأنما أمسك بجزيرة العرب من طرف منها فنفض ذراتها تحت شعاع الشمس فانقسمت هذه الذرات على الأرض ووقعت وراء كل ذرة عربي يحمل إلى الناس القرآن كأنما هو رسول من الله تعالى أرسل إلى أمة من أجل هدايتها هكذا كان التحول من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح ومن الاعوجاج إلى الاستقامة ومن الانحطاط إلى الرقي كانوا مثالا في الصفات النبيلة حتى أن علماء الاجتماع من الغربيين يصفون هؤلاء
(1)[الفتح : 29]
(2)[الحشر : 8]
(3)[الحشر : 9]
(1/15)
بأنهم كانوا مثالا لم توجد أمة نحوهم كما يقول جوزيف لوجون وهو أحد علماء الاجتماع الفرنسيين ( ما عرف التأريخ فاتحا أرحم من العرب ) ونجد كيف تحولوا من الضعف والذلة والمهانة إلى العز كانوا يتحدون القوى الكبرى العاتية المتغطرسة في هذه الأرض بعدما كانوا أذلاء ماذا كان وضعهم قبل أن يكرمهم الله تبارك وتعالى بهذا الحق وينوِّر قلوبهم بنور الإسلام كانوا تتجلى حالتهم في ذلتهم أمام غيرهم في التحدث إلى أباطرة الأرض وجبابرة هذه الدنيا كان جبابرة العرب أمام أولئك أقزاما ضعفاء فعندما يذكر النعمان بن المنذر وهو ملك الحيرة كان ملكا من ملوك العرب عندما يذكر أمام كسرى يقال له عبدك نعمان العرب أنفسهم عندما يذكرون النعمان أمام كسرى يقولون له عبدك النعمان ولكن بعدما أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذا الإيمان كان يقف أحد عامتهم أمام طاغية من طغاة الفرس المتكبرين أمام رستم الفارسي القائد للجيش الفارسي الذي يعتبر الجيش الأول في العالم وكان تأريخه تأريخا عجيبا في الحروب استطاع هذا الجيش أن يحصر الإمبراطورية الرومانية وإمبراطورها في القسطنطينية لولا أن الله تبارك وتعالى قدّر انقلاب الأحوال حتى تحول المنتصر إلى مهزوم والمهزوم إلى منتصر وكان هذا القائد حسب أعراف الفرس في ذلك الوقت تجتمع فيه عناصر الشرف ولذلك كانت قلنسوته بمائة ألف دينار يقف رجل من العرب أرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله تعلى عنه للتفاوض أمام هذا الجبار المتكبر العاتي فيقول له ما الذي جاء بكم ويرد عليه بقوله إن الله قد ابعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعت الدنيا والآخرة بكل اعتزاز من غير التفات إلى مظاهر الفخامة والأبهة التي كانت في مجلس رستم كما هو معروف في التأريخ نجيبه بهذه الإجابة معتزا بإيمانه وصلته بربه سبحانه وتعالى فهذا التحول إنما كان بتأثير هذا الإيمان والإيمان على أي
(1/16)
حال يحول الحياة كلها لأن الإيمان يقتضي إسلام النفس لله سبحانه وتعالى فالله تبارك وتعالى تعبدنا للإسلام والإسلام الذي تعبدنا به ليس انتماء إلى أمة من الأمم أو انتماء إلى حزب من الأحزاب أو حلف من الأحلاف وإنما الإسلام هو قلب لمجرى الحياة بأسرها حتى تكون هذه الحياة مسلَمةً لله تبارك وتعالى بحيث يتجسد هذا الإسلام في كل جزئية من جزئيات الحياة الإسلام هو أن يسلم الإنسان روحه وجسمه ، قلبه وعقله ، فكره ووجدانه، ضميره وغرائزه لله تبارك وتعالى، وهذا ما يدل عليه قوله تبارك وتعالى " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (1).والإيمان والإسلام كما سيأتي الحديث إن شاء الله تبارك وتعالى من حيث المدلول اللغوي بينهما اختلاف ولكن كثير من العلماء بل جمهور العلماء قالوا الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان من حيث الدلالة الشرعية والتفتوا إلى قول الله تبارك وتعالى " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" والذي نقوله بأن الإسلام إنما هو السورة الظاهرة للإيمان والإيمان هو الحقيقة الباطنة في الإسلام فلا يكون إسلام إلا بإيمان ولا يكون إيمان إلا بإسلام فالإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان ولكن الإسلام يتجلى ظاهرا والإيمان إنما هو حقيقة باطنه لأن الدلالة اللغوية لا تزال أيضا في المصطلحات الشرعية باقية معانيها لا تنعدم فأصل الإيمان التصديق يقال آمن به بمعنى صدق به هو مأخوذ من الأمن لأن أصله أن المصدق آمن محدثه أن يكذبه أي جعل محدثه في أمان من أن يكذبه فالإيمان من حيث الدلالة اللغوية بمعنى التصديق
(1)[الأنعام : 161]
(1/17)
والإسلام من حيث الدلالة اللغوية بمعنى الانقياد فهذا التصديق لابد أن يكون معه انقياد وهذا الانقياد لابد أن يكون قائما على التصديق فلذلك كان الإيمان هو الحقيقة الباطنة للإسلام والإسلام هو الصورة الظاهرة للإيمان ومن شواهد اللغة في أن الإيمان بمعنى التصديق قول الله تبارك وتعالى فيما يحكيه عن أخوة يوسف عليه السلام أنهم قالوا لأبيهم يعقوب عليه السلام: " وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا "(1). أي وما أنت بمصدق لنا ومن شواهد الإسلام بمعنى الانقياد قوله تبارك وتعالى: " وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً "(2). فإذن الإسلام بمعنى الانقياد والإيمان بمعنى التصديق ولكن كيف يكون هذا التصديق وكيف يتحول هذا التصديق إلى أن يكون واقعا ملموسا يتجلى أثرا ظاهرا يسمى إسلاما بحيث يكون الإسلام هو الصورة الظاهرة للإيمان وكيف يكون هذا الإسلام الذي هو الانقياد الحقيقة الباطنة لمعناه إنما هي الإيمان هذا ما سوف نتحدث عنه على أي حال هذا الإيمان إنما هو إيمان قائم على علم ومعرفة إيمان لا يكون أمرا تقليديا بحيث يرثه الولد عن والده ويرثه الخلف عن السلف وإنما هو أمر قائم عن اقتناع وأدلة فالإيمان إنما يكون بالمعرفة ولذلك كانت دعوات المرسلين دعوات قائمة على المعرفة كانت دعواتهم جميعا إلى استخدام العقل وعدم إهمال هذه الطاقة النورانية في الإنسان حتى يكون الإنسان مستبصرا بهذه الطاقة في تبديد ظلمات الجهل عنه ليدرك الحقائق من أجل هذا نرى أن الإيمان مبني على الفهم الصحيح على إدراك الواعي على النظر في هذا الكون على التأمل الدقيق لهذا النظام العجيب في هذه
(1)[يوسف : 17]
(2) [آل عمران : 83]
(1/18)
الكائنات بأسرها والقرآن الكريم أخذ بالقسط الوافر من ذلك بل فيه مالا يوجد في غيره فلذلك نجد القرآن الكريم يدعوا إلى التفكر والتأمل فكم من آية في كتاب الله جاء فيها إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (1).، "إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون"،"ولقوم يسمعون" ونجد أن الدعوة إلى النظر في هذا الملكوت الواسع هذا الذي نجده في القرآن الكريم فالله سبحانه وتعالى عندما يقرر في كتابه حقيقة من أعظم حقائق الإيمان بل هي أعظم حقائقه وهي وحدانيته سبحانه وتعالى بحيث يقول " وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " (2).يتبع ذلك ما يبصر الإنسان بهذه الوحدانية بحيث يأخذ عقل هذا الإنسان ليطوف به في مسرح هذا الكون الواسع ليتأمل هذا الكون وما فيه وليدرس نظامه العجيب حتى تتبين له هذه الحقيقة عن قناعة وعن عقل وبهذا كان الإسلام مخالفا كل المخالفات للمعتقدات الأخرى التي تكون متوارثة ويجب التسليم فيها من غير نظر مع إهمال طاقة العقل كما هو شأن أصحاب الديانات الأخرى الذي يدعون الإنسان إلى أن يغمض عينيه ويسد أذنيه ويغلف قلبه لئلا تصل الحقيقة إلى عقله فتفسده هذا نجده عند النصارى وعند اليهود وعند غيرهم إنما عقائدهم متوارثة ونجد ذلك عند الوثنيين ونجد عند أصحاب المباني المختلفة الله تبارك وتعالى أمر بالنظر في الكائنات فلذلك أتبع ذلك قوله " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
(1)[النحل : 11]
(2)[البقرة : 163]
(1/19)
وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "(1). جعل في ذلك آيات لأن الإنسان ينظر من خلال هذا الكون فيرى كيف أن الكون كله وحدة متكاملة كل جزء منه مكمل لبقية الأجزاء يجري في نظام رتين نشاز فيه ولا اضطراب كل ما فيه من علوي وسفلي إنما يجمعه نظام واحد ثم مع هذا كله ليس هنالك أي نشاز بين جانب وجانب أخر منه فالأمور تجري حسب سنن الله سبحانه وتعالى هذا كله يدل على وحدانية المكوّن سبحانه وتعالى وإلا لأدى الأمر إلى وجود الاضطراب في هذا الكون أي لو كان هنالك أكثر من خالق واحد لهذا الكون لَلَزِمَ من ذلك أن يكون الكون في اضطراب عجيب؛ لأن لكل واحد من هؤلاء إرادة مستقلة واختلاف الإرادات يؤدي في الاختلاف في المراد فهذا يريد أن يكون هذا الشيء أبيض والأخر يريده أسود، هذا يريده ناعما وهذا يريده صلبا هذا يريده قصيرا وهذا يريده طويلا هذا يريده مرتفعا وهذا يريده منخفضا وهكذا يقع الاختلاف فيؤدي ذلك إلى الاختلاف في المراد ويؤدي إلى التنازع ويؤدي إلى الاضطراب وهذا الذي دل عليه قول الله سبحانه وتعالى " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا " (2).وكذلك هذا الذي نجده في الآيات الكثيرة فالله سبحانه وتعالى يقول " قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً
(1)[البقرة : 164]
(2)[الأنبياء : 22]
(3)[الأنبياء : 22]
(1/20)
وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (1).فهذه الكائنات بأسرها دالة على وحدانية المكون سبحانه وتعالى ولذلك العاقل يصل إلى قناعة بأنه لا يمكن بهذا الكون مكون إلى واحد هو الذي بيده الخلق والأمر ، هو الذي يعطي ويمنع ويوجد ويفني ، ويحيّ ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعز ويذل ، بيده ملكوت كل شيء وإليه مرجع كل شيء فالإيمان إذن يجب أن يقوم على العلم الواعي على الإدراك الدقيق على الفهم لا على التقليد بحيث يقلد الإنسان من قبله إن الإيمان هو قناعة هذه القناعة إن لم تحصل في النفوس مهما اظهر هذا الإنسان من الانقياد فإن النفس تبقى مضطربة ويكون هذا الانقياد انقيادا شكليا ظاهرا فحسب لا يكون انقيادا عميقا فلذلك كانت الأمة هي بحاجة إلى هذا الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم الإيمان المبني على النظر في ملكوت السموات والأرض الإيمان مبني على استعمال طاقة العقل فيما خلقت من أجله هي النظر في ملكوت الله سبحانه وتعالى من أجل الاعتبار ومن أجل الاستهداء والاستبصار هذا هو الذي يجب أن يكون موجودا عند كل أحد فإذن الأمة بحاجة إلى إيمان صحيح والإيمان سوف نتحدث عنه إن شاء الله بقدر المستطاع ونبين كيف حاجة نهوض الأمة إلى مثل هذا الإيمان الراسخ في النفوس الذي يسيطر على كل جزئية من جزئيات حياة المؤمن ليسيطر على عقله وفكره ووجدانه ومشاعره وروحه
(1)[النمل : 63]
(1/21)
وجسمه وحركاته وسكناته ، ويضبط نزعاته ونزغاته وشهواته وغرائزه حتى يكون هذا الإيمان إيمانا حاكما في نفس الإنسان متحكما في كل حركاته وسكناته. إن هذا هو الذي تحتاج إليه هذه الأمة .
الخاتمة:
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير وأن يبصرنا بأمر ديننا ودنيانا وأن يمن علينا بالاستخلاف والتمكين في الأرض اللهم ربنا استخلفنا في أرضك كما استخلفت من قبلنا من عبادك المؤمنين ومكن لنا ديننا الذي ارتضيته لنا وأبدلنا بخوفنا أمنا وبذلنا عزا وبفقرنا غنا وبتشتتنا وحدة وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/22)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق