عنوان البحث: الأبعاد الحضارية لسيرة حلقة العزابة في: ق5هـ
المؤلف: الحاج أحمد بن حمو كروم و عمر بن أحمد بازين
[ألقيت في ندوة دوليّة للسّير الإباضية (27 - 28 - 29 أكتوبر2014) التي نظمتها جمعية جربة التواصل بتونس]
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
/
الجمهورية التونسية
جمعية جربة التواصل
ندوة دوليّة: (27 - 28 - 29 أكتوبر2014)
السّير الإباضية
مداخلة بعنوان:
الأبعاد الحضارية لسيرة حلقة العزابة في: ق5هـ
بقلم الأستاذين:
أ: أحمد بن حمو كروم
أ: عمر بن أحمد بازين
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم ... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الرسالة العظمى، والآيات الكبرى، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والإحسان ومن تبع هداهم من جميع الإخوان في كل زمان ومكان. وبعد:
لقد خلق الله الإنسان وميزه عل غيره من المخلوقات، بالعقل وجعله خليفة له في الأرض ليجلب المصلحة ويدفع المضرة عن نفسه وعن سائر المخلوقات فاجتهد هذا الإنسان في وضع أنظمة وقوانين للعيش داخل المدينة بجوار أخيه الإنسان لكي يستطيع أن يتحمل كل واحد منهما جوار الآخر .. فاقتضى هذا ابتكار أنظمة تربوية تدرب الإنسان في جميع مراحل عمره على التزام هذه القوانين والأعراف كي تسود الطمأنينة والراحة جميع البشر عبر الزمان والمكان ..
وعندما شرفت بدعوة كريمة للمشاركة في هذا الملتقى السعيد حول: «السير المغاربية» اخترت لكم عرض السيرة المسورية البكرية في القرن الخامس الهجري والتي تمثل وجهة نظر الإباضية في التربية والتعليم في شمال إفريقيا حتى تكون ذات أثرٍ فعال في حياة الفرد والمجتمع ..
وقد وضعت لهذه المداخلة العنوان التالي:
«الأبعاد الحضارية لسيرة حلقة العزابة في ق:5ه».
ولتحليل الموضوع تحليلاً علمياً مفيداً قسمت المداخلة إلى مبحثين أساسيين: خصصت المبحث الأول للتعريف بمؤسس هذا النظام التربوي العزيز وهو: الشيخ أبو عبد الله محمد بن بكر الفرسطائي النفوسي وشيخه أبي زكرياء وتلميذه الشيخ أبي الربيع سليمان بن يخلف المزاتي القابسي بعد تحديد مصطلح: «السير» و: «العزابة».
وأما المبحث الثاني: فقد تعرضت فيه لسيرة حلقة العزابة في شمال لإفريقيا في ق:5ه بعد توضيح أهمية التربية والتعليم في الحضارة الإسلامية ثم ختمته بإبراز الأبعاد الحضارية لهذه السير في المجتمعات المغربية .. وأرجو أن أكون موفقاً في هذا الاختيار والعرض المقتضب والله ولي ذلك وهو حسبي ونعم الوكيل.
المبحث الأول:
تعاريف أساسية
وهي تتعلق بتحديد مصطلحات وضبط مسيرة شخصيات فعالة في هذا المجال .. ولذلك قسمته إلى خمسة مطالب.
(1/2)
المطلب الأول: تعريف كلمة: «السيرة».
«السيرة»: في اللغة هي كلمة مشتقة من الفعل: «سار» يسير سيراً ومسيراً .. ومسيرة، والسيرة كما ورد في لسان العرب هي: الطريقة، يقال: سار بهم سيرة حسنة .. وهي بمعنى: الهيئة والشكل. قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الاُولَى} [طه:21]، وهي تعني أيضاً: الحديث عن تاريخ الأوائل في قولهم: «سيّر سيرة» (1). مثل: سيرة سيف بني ذي يزن.
ثم تطورت هذه الكلمة: «السيرة» فانحسر استعمالها كمصطلح خاص لذكر الحوادث التي برزت في حياة عالم أو مجاهد أو نبي مثل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أصبحت هذه الكلمة علماً خاصاً لحياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقال: «السيرة النبوية» (2).
لكن علماء الإباضية في المشرق والمغرب لم يستغنوا عن هذه الكلمة ولم يغيرواها بل وظفوها في معانيها اللغوية المختلفة فقالوا: «كتاب السيرة وأخبار الأئمة». وقالوا: «كتاب سير الوسياني». كما وظفوا هذه الكلمة بمعنى: قانون أو نظام، مثل: «سير أبي عمار الوارجلاني» (3). و: «سير الحلقة» (4). أو: «سير أبي الربيع المزاتي» (5). أو سيرة أهل المغرب إلى الإمام الصلت بن خميس (6). وكذلك سيرة محمد بن محبوب إلى أهل المغرب، وهاتان الأخيرتان بمعنى النصيحة والإرشاد، وأما في مصطلح التاريخ فنجد عنوان كتاب: «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» (7).
المطلب الثاني: تعريف مصطلح: «العزابة».
وأما العزابة فهي في اللغة من عزب يعزب، بمعنى: ذهب وغاب. قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاَرْضِ} [فاطر:3]، أي: لا يغيب عنه ولا يبعد عنه. وهي بمعنى: أبعد كما ورد في لسان العرب (8). وأخذ منها مصطلح: «العزابة» التي هي بمعنى: اعتزال عوائق الدنيا والتفرغ لحفظ القرآن الكريم والعلوم الإسلامية والتدريب على الأخلاق الحميدة داخل الحلقة.
__________
(1) - ابن منظور، لسان العرب:4/ 389 - 390. مادة: «سير».
(2) – الوسياني، السير:1/ 14. تحقيق: د/عمر سليماني. تقديم: الشيخ أحمد بن سعود السيابي.
(3) – هي رسالة في نظام حلقة العزابة بعد أبي عبد الله محمد بن بكر في ق:6ه تحقيق: مسعود مزهودي ومطبوعة.
(4) – الدرجيني، طبقات المشائخ بالمغرب:1/ 172.
(5) – أنظر المبحث الثاني من هذه المداخلة.
(6) – الجعبيري، العلاقة بين إباضية المغرب وإباضية البصرة وعمان:128.
(7) – هو كتاب مطبوع صنفه الشيخ عبد الله بن حميد السالمي يجمع فيه تاريخ عمان في جميع العصور.
(8) – ابن منظور، لسان العرب:1/ 596. مادة: «عزب».
(1/3)
يقول أبو عمار عبد الكافي: «أصل العزابة: اشتقاقها من العزبة والعزلة والغربة والتصوف والتهجد على رؤوس الجبال» (1).
والحلقة: هي الجماعة التي تشتغل بتبليغ العلم للطلبة أو الذين يتلقون العلم عن أعضاء الحلقة (2).
ويقول الدرجيني: «وأهل الحلقة صنفان آمر، وهما: الشيخ والعريف. والمأمور: هم الطلبة على مختلف أعمارهم» (3). ثم يضيف الدرجيني في صبط الوصف العملي لهذه الفئة من المجتمع قائلاً:
«العزابة واحدهم عزابي، وهذه اللفظة استعملت لقباً لكل من لازم الظريق، وطلب العلم وسير أهل الخير، وحافظ عليها وعمل بها، فإن أحسن جميع هذه الصفات سمي عزابياً، وإن حافظ على السير والعمل فقط سمي به، وإن حصل العلم دون السير والعمل بها والمحافظة عليها لم يسم بهذا الإسم» (4).
ثم تطورت هذه الكلمة فأصبحت تعني الرجال الأتقياء المكلفين بقيادة المجتمع الإباضي في شمال إفريقيا.
المطلب الثالث: ترجمة مختصرة عن واضعي نظام التربية والتعليم:
لقد تعاون على رعاية شؤون التربية والتعليم في شمال إفريقيا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات عملوا في مختلف العصور على تبليغ أمانة الإسلام كما تلقوها عن الصحابة الأوائل مع تنوع في الطرق والوسائل الممكنة لذلك، فنجد في هذه: «السيرة» التي نحن بصدد دراستها، أو: «سيرة حلقة العزابة» أو: «السيرة المسورية البكرية» ثلاثة أسماء لامعة نذكر منهم:
أ) - الشيخ أبو زكرياء فصيل بن أبي مسور (5):
هو العلامة الشيخ أبو زكرياء فصيل بن أبي مسور يسجا بن يوجين اليهراسني من علماء القرن: (4 - 5 ه) تعلم عند والده الشيخ أبي مسور وعند أبي خزر، وبعد تأسيسه لحلقة العلم في جزيرة جربة بالجامع الكبير الذي أسسه والده ثم أتمه بعد أن توفي والده واصل فيه الشيخ أبو زكرياء رسالة والده في التدريس مع ثلة من رفاقه العلماء مثل: الشيخ محمد كموس، والشيخ أبي عمرو النميلي، وأبي صالح اليهراسني (6).
وكان من شدة اهتمام الشيخ أبي زكرياء فصيل بتلاميذه في الحلقة كان ينفق عليهم من ماله الخاص فيعلق النقود في ألواحهم، أو يضعها في أوعية دفاترهم، وكان الطلبة يتوافدون إليه من مختلف
__________
(1) – أبو عمار، سير أبي عمار:12 - 13.
(2) – الدرجيني، طبقات المشائخ بالمغرب:1/ 4.
(3) – الدرجيني، طبقات المشائخ بالمغرب:1/ 173.
(4) – المصدر السابق:1/ 3.
(5) – جمعية التراث، معجم أعلام الإباضية:2/ 162. رقم:350.
(6) – الشيخ سالم بن يعقوب، تاريخ جزيرة جربة ومدارسها العلمية:91.
(1/4)
المناطق الإباضية ويمكثون عنده إلى نهاية فترة التعليم، وكان الناس يقصدونه للفتوى والتوجيه والإرشاد والصلح لما كان يمتاز به من أخلاق عالية وتمكن في الفقه والأحكام.
وقبل وفاته اهتم بهذه الرسالة النبيلة لتتواصل من بعده ولا تنقطع على ابنيه زكرياء ويونس (1) وابن أخته أبي بكر بن يحي أن يتوجهوا إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن بكر الفرسطائي ويطلبوا منه أن يجلس لتدريسهم في حلقة علمية خاصة فأسس التلميذ النجيب هذه الحلقة على خطى شيخه فأصبح نظام هذه المدرسة يدعى: «السيرة المسورية البكرية» ورحل الشيخ أبو زكرياء وهو مطمئن على حياة الرسالة العلمية من بعده رحمه الله وأرضاه وجعل الجنة مثواه.
ب) – الشيخ أبو عبد الله محمد ين بكر (2):
هو العلامة المربي مؤسس نظام حلقة العزابة الشيخ أبو عبد الله محمد بن بكر بن أبي بكر بن يوسف الفرسطائي النفوسي ولد في مدينة فرسطاء بجبل نفوسة سنة 445ه تعلم في فرسطاء وجربة والقيروان عند علماء أفذاذ منهم الشيخ: أبو زكرياء فصيل بن أبي مسور في المسجد الكبير حتى كلّفه شيخه بتأسيس حلقة للتربية والتعليم فاستجاب لنداء الواجب بعد امتناع كبير، فأسس هذا النظام في مسجد المنية بتقيوس جنوب تونس، ثم قام بتطبيقه في مدينة تقرت جنوب شرق الجزائر عندما أسس مدرسة في غار تينسلي بأجلو سنة:409ه/1020م فأصبح نظامه التربوي يعرف بـ: «سيرة حلقة العزابة» بعد أن كان يعرف بـ: «السيرة المسورية البكرية».
وقد توافد إليه الطلاب من جميع أقطار المغرب الكبير، كما اشتغل برعاية المجتمع الإباضي يقوّمه نحو الجادة إلى أن توفي سنة:440ه/1050م رحمه الله وأرضاه وجعل الجنة مثواه.
ت) – أبو الربيع سليمان بن يخلف المزاتي (3):
هو العلامة الأصولي أبو الربيع سليمان بن يخلف المزاتي القابسي من ناحية تمولست (4) من قبيلة مزاتة التي كانت تعيش في قابس جنوب تونس. ولد حوالي سنة:400ه وتعلم عند مشائخ كثيرين منهم: الشيخ محمد بن بكر الفرسطائي، وأبو زكرياء يحي بن ويجمن، وزكرياء ويونس ابني فصيل بن أبي مسور اليهراسني الجربي (5)، وكان الشيخ أبو الربيع كثير الترحال مع الشيخ أبي عبد الله محمد بن
__________
(1) – الدرجيني، طبقات المشائخ بالمغرب:1/ 169.
(2) – جمعية التراث، معجم أعلام الإباضية:2/ 368. رقم:803.
(3) – جمعية التراث، معجم أعلام الإباضية:2/ 215. رقم:472.
(4) – محمود الأندلسي، التحف المخزونة:17. (مرقون).
(5) – أبو زكرياء الوارجلاني، السيرة وأخبار الأئمة:269.
(1/5)
بكر مع رفاقه في مدرسته المتنقلة عبر مناطق الإباضية بشمال إفريقيا خلال فصول السنة، حتى كان من منظمي رحلة الشيخ ورعاتها في منطقة تمولست (1).
وأول ما بدأ التدريس هو اقتراح ورد من حلقة الشيخ أبي محمد ويسلان في الجامع الكبير بجربة أن يقبل أبا الربيع طالباً في الحلقة إذا قبل الشرط الذي يكلفه القيام بتدريس علم الكلام لطلاب المدرسة (2). وطبعاً بهذه الاستجابة يعتبر قد واصل رسالة مدرسة شيخه أبي عبد الله حتى اضطر أن
يضم طلابه في غار ويدرسهم بالتناوب (3) في قلعة بني علي بجبال زنزفة لضيق الغار وكثرة رواد حلقته.
وقد أحيا سنة الزيارة والرحلات مثل شيخه فقد نظم رحلات إلى وارجلان وجنوب تونس وجزيرة جربة. وبالتالي يكون في جميع العلوم التي يبثها لطلابه يعبر عن أراء شيخه العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن بكر الفرسطائي رحمه الله ولذلك نجد في كتبه التي ألفها يقول: وسألت الشيخ .. ، ويقول الشيخ: .. ، ونجد ذلك في كتابه: «التحف المخزونة» (4) وكتاب «السير» (5) الذي سوف نلخصه في المبجث الثاني. ولا يزال جادّاً في رسالته النبيلة إلى أن استشهد في مسقط رأسه (6) تمولست سنة:471ه، وقيل: دفن بوارجلان رحمه الله وأرضاه وجعل الجنة مثواه.
المبحث الثاني:
نظام التربية والتعليم في ق:5ه
لقد اهتم المؤرخون من كتاب السير بسرد أنظمة التربية والتعليم في مختلف العصور التي يؤرخون لها سواء كانت السيرة لمجتمع كبير أو لشخصية معتبرة حتى يظهر الغث من السمين في هذه الحقبة التاريخية وأسباب ذلك إيجاباً وسلباً، ولا شك أن الهدف من ذلك هو إعداد القدوة الصالحة في النجاح والتحذير من أسباب الإخفاق سواء في الحياة الاقتصادية أو النفسية أو العائلية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية.
__________
(1) - أبو زكرياء الوارجلاني، السيرة وأخبار الأئمة:257.
(2) – الجعبيري، شخصيات إباضية:157.
(3) - محمود الأندلسي، التحف المخزونة:32. (مرقون).
(4) – قام بتحقيق الكتاب ووضع دراسة عليه في أكثر من:900 صفحة، وهي رسالة دكتوراه مرقونة قام بإعدادها محمود الأندلسي إلا أن المنية عجلت به قبل أن يناقش.
(5) – لقد حققه الأستاذ: مسعود ج سعيد سنة:1991م.
(6) – أبو زكرياء، السيرة:1/ 276 – 277.
(1/6)
وأحسن نظام شاهدته في هذه السير المغربية هو سرد تاريخ نظام حلقة العزابة في شمال إفريقيا وسبب تأسيسه وتفصيل قوانينه داخل الحلقة وخارجها سواء ما كان من أمر التلاميذ أو المشائخ وأعوانهم خلال فترة التكوين أو بعدها.
ولعرض هذا النظام وأبعاده الحضارية قسمنا المبحث إلى ثلاثة مطالب، ففي المطلب الأول: تعرضنا لأهمية التربية والتعليم في الحضارة الإسلامية. وفي المطلب الثاني: شرحنا قوانين حلقة العزابة. وأما في المطلب الثالث: فقد شرحنا آثار هذا النظام وأبعاده الحضارية في المجتمعات المغربية التي اعتمدت هذا النظام في مدارسها العلمية آنذاك مما أورده الدرجيني في طبقاته، والبرادي في جواهره، والوسياني في سيره، والمزاتي في سيره.
المطلب الأول:
أهمية التربية في الحضارة الإسلامية:
لقد أشادت نصوص القرآن والسنة كثيراً بأهمية التربية والتعليم في حياة المجتمع المسلم عموماً وحياة الفرد المسلم خصوصاً، قال تعالى في معرض الاعتراف بحقوق الوالدين: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الاسراء:24].وقال أيضاً عن فضل الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمته: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
وفي معرض التحدث بنعمة الله تعالى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» [المقدسي:27]. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يحث المسلمين على التنافس في التربية قائلاً: «مَنْ آوَى يَتِيمًا لِلَّهِ وَقَامَ بِهِ احْتِسَابًا لِلَّهِ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» [الربيع:662]. وقال أيضاً: «مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الجَنَّةَ» [أبوداود:5147].
وقد كان الرسول يؤدب الصحابة الصغار على الخير والصلاح قائلاً لابن عباس - رضي الله عنه - مثلاً: «يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» [البخاري:4982]. ويحرض المسلمين على مواضيع التربية قائلاً: «أَدِّبُوا أَوْلاَدِكُمْ عَلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: حُبِّ نَبِيِّكُمْ وَحُبِّ أَهْلِ بَيْتِهِ وَتِلاَوَةِ القُرْآنِ فَإِنَّ حَمَلَةَ القُرْآنِ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لاَ ظِلِّ إِلاَّ ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ» [المناوي:1/ 292].
ولا تكون تلاوة القرآن صحيحة إلا بالتعليم الصحيح للتلاوة الصحيحة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلِّمُوا أَوْلادَكُمُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ هُوَ» [الربيع:3]. وقد أرشد الصحابة إلى تعليم القرآن قائلاً: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» [البخاري:4664].
(1/7)
والعلم الذي يأخذه الإنسان لا يحده زمان ولا مكان فقال: «اطلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ» [الربيع:18]. فقد تعلم عنه الصحابة كباراً وصغاراً القرآن والسنة حتى أصبحوا هداة مهتدين يشيعون الفضيلة بمعاملاتهم التي تربوا عليها قبل أقوالهم في جميع البلاد التي رحلوا إليها عبر العالم فأصبحوا محل اقتداء واهتداء من جميع من عاصرهم من التابعين المحسنين، فأسسوا مدارس وحلقات في المساجد لتبليغ هذه السنن الحميدة إلى الخلف من بعدهم، حتى لا تنقطع هذه الأخلاق العالية عبر الأجيال المتلاحقة. وبعد المسجد النبوي في المدينة المنورة بنيت جامعات وجوامع ومساجد في البلاد المفتوحة يؤمها الطلبة والباحثون من مختلف الديانات والمذاهب لرعاية عملية التربية والتعليم التي تعتبر وسيلة ضرورية لتحصين الفرد والمجتمع من الأمراض النفسية والاجتماعية والفكرية ويضمن له النمو السليم في جميع مجالات الحياة.
ومن خلال القراءة السريعة لمختلف السير المغربية نجدها لا تخلو في كل عصر من شيخ أو مسجد أو مدرسة ترعاها العزابة لمثل هذه المهمة النبيلة سواء كان ذلك في جربة (1) أو جبل نفوسة (2) أو وارجلان (3) أو وادي ريغ (4) أو وادي ميزاب (5) أو غدامس (6) أو فزان (7).
وقد ارجع الشيخ علي يحي معمر نجاح هذه المدارس (8) في رسالتها إلى ثلاث عوامل أساسية هي:
1) - وجود الأقسام الداخلية التي تأوي الطلبة.
2) - القيام برحلات مدرسية استطلاعية لمرافقة الطلبة وتدريبهم على الحوار مع الآخرين واكتشاف مواهبهم في الميدان.
3) - توفير التعليم الصحيح والتربية السليمة للمرأة مثل الرجل وعدم التمييز بينهما في ذلك حتى لا يؤتى الحذِر من مأمنه.
وأنا أضيف له عاملين أساسيين هما:
4) - التنظيم والتخطيط المحكم والتنسيق بين هذه المدارس المتباعدة في الصحراء.
__________
(1) – جربة: جزيرة جنوب شرق تونس.
(2) – جبل نفوسة: هو سلسلة جبال تسكنها قبائل أمازيغية غرب ليبيا.
(3) – وارجلان: أو ورقلا إقليم واسع في شرق صحراء الجزائر.
(4) – وادي ريغ: هو إقليم واسع جنوب وارجلان في شرق صحراء الجزائر.
(5) – وادي ميزاب: أو بلاد الشبكة منطقة وجود الإباضية شمال الصحراء الجزائرية.
(6) – غدامس: واحة صغيرة تقع في مفترق الطرق في الحدود الليبية التونسية الجزائرية.
(7) – فزان: هو شريط صحراوي يمتد جنوب ليبيا من حدود مصر إلى حدود الجزائر.
(8) – علي يحي أمعمر، الإباضية في ليبيا: (ق:2):2/ 62.
(1/8)
5) - تأليف الكتب والمراجع المفيدة في مجال الأخلاق والتربية مثل: تبيين أفعال العباد للشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن بكر الفرسطائي (ت:504ه). وكتاب السيرة وأخبار الأئمة للشيخ أبي زكرياء يحي بن أبي بكر الوارجلاني (ت:471ه). وكتاب السير لأبي الربيع سليمان بن يخلف المزاتي (ت:471ه).
المطلب الثاني:
سيرة حلقة العزابة في شمال إفريقيا:
إن الدارس لكتب الطبقات والسير ليلفت انتباهه وجود اهتمام بالغ بكتابة سيرة حلقة العزابة ونظامها في التربية والتعليم خلال القرن الخامس الهجري، وهذا دليل على الآثار الإيجابية التي تركته هذه السيرة الحميدة في مختلف مجالات الحياة بشمال إفريقيا، كما تعتبر هذه السيرة قمة الفكر التربوي عند الإباضية فما يزال هذا الفكر يرعاه المشائخ في مدارسهم العلمية ويطورونه تطويراً يقتضيه الزمان والمكان حتى انحسر نشاطه اليوم في الجزائر كنظام تسيير مجتمع لا كنظام خاص بالتربية والتعليم كما رسم نظامه أول مرة في مسجد المنية بمدينة تقيوس في منطقة الحامة بالجريد التونسي.
وللتعريف على هذا النظام أترككم سادتي العلماء مع المؤرخ الدرجيني والبرادي والمزاتي فيما خلدوه من تفاصيل هذا النظام التربوي الفريد. يقول أبو العباس أحمد الدرجيني (1):
أ) - مواصفات العزابي:
1) - العزابي: هو الذي اعتزل عن دناءة الأجلاف الدنيويين،
2) - وانضم إلى سلك المتدينين، وقد تجرد عن طريقة أهل الدنيا بحلق شعر رأسه ولا يتركه يطول أبداً
ب) - لباس العزابي:
3) - لا يلبس العزابي لباساً مصبوغاً إلا البياض، ولا بأس علم الطرفين والطراز ما لم يتفاحشا.
4) - ثم إن اقتصر على عباءة أو ملحفة لم يشنه ذلك ولم يعبه بل ذلك به أليق، وإن لبس ذلك على قميص كان أكمل ما لم يكن مبتدئاً.
5) - ولا سبيل على اقتصاره على قميص، أو قميص دون اشتمال أو التحاف أو ارتداء.
6) - وإن اعتمَّ فالتلحّي على ما جاء في الأثر، وليس لبس العمامة بضربة لازب، بل لا بأس باستغنائه عنها.
__________
(1) – الدرجيني، طبقات المشائخ:1/ 172 – 184. البرادي، الجواهر المنتقاة:226 – 235.
(1/9)
7) - فإن اقتصر على العباءة أو اللحاف غطى رأسه وألقى الطرف الأعلى من هدب حاشية الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، لا يلقي الهدب كله على العاتق الأيسر فإن ذلك مؤد إلى انكشاف العورة.
ث) – أصناف الناس في الحلقة:
8) – وأهل الحلقة صنفان: آمر ومأمور.
ج) – أنواع المسيرين في الحلقة:
9) - فالآمر اثنان: شيخ الحلقة أو مستنابه، والعريف
10) – والعريف اثنان: منفرد وغير منفرد.
11) – فالمنفرد اثنان: عريف أوقات الختمات والنوم.
12) – وعريف العرفاء (وهم: حملة القرآن يكون منهم من يكتب عليه طلبة القرآن ألواحهم ويصححونها ويحفظونها) فهؤلاء لا يحصون عدداً.
13) – والعريف على أوقات الدراسة ربما كان واحداً وربما أكثر فهؤلاء على قدر الاحتياج إليه.
ه) – أنواع الطلبة في الحلقة:
14) – والمأمور ثلاثة: طلبة القرآن، وطلبة فنون العلم، والعاجزون؛ ولجميعهم أوقات.
و) – مهام شيخ الحلقة: فالشيخ يتعلق به أشياء:
15) – منها الجلوس لطلبة فنون العلم في وقت معلوم ليأخذوا عنه فيه الدرس.
16) – ومنها الجلوس بإثر الختمات للجواب على الأسئلة في أي فن كان، وليذكر التلاميذ فيما حصلوه قبل ذلك، فيستفيدون ويستفيد من حضر.
17) – ويختص غداة الجمعة بزيادة شيء من الوعظ إن أمكن.
18) – ومنها الاستفتاح وهو قيامه في الثلث الأخير من الليل، أو في الربع الأخير منه فيأتي الشيخ إلى موضع الاستفتاح فيستعيذ ويبسمل ويقرأ فاتحة الكتاب ويبتدئ من حيث انتهى مجلس الاستفتاح من القرآن في الليلة التي قبلها.
19) – فيهب كل نائم فمنهم من يصير معه في المجلس، ومنهم من يخرج فيدرس وحده.
20) – فإذا أذّن مؤذن الصبح قطعوا القراءة ويدعون كالعادة من بعد العشاء.
21) – ومنها أن يجمعهم يوم الجمع، وذلك يوم الإثنين والخميس فيعظ ويذكّر ويحذر، ويورد أمثالاً حكيمة وحكايات زهدية، ثم يفحص جميع من حضر فيسأل عن أحوالهم واحداً فواحداً.
(1/10)
22) – ويتفقد العرفاء فمن حمدت أحواله حمد الله وشكره على فوزه، ومن عيب عليه شيء من أحواله فإن كان صغيراً أقيم إلى زاوية معروفة بأن تكون موضعاً لتأديبهم، ثم يجتهد في عدد ما يجلد تأديباً، والكبير إلى الخِطة (1) والهجران.
23) - ومنها إذا قدم قادم من بلد قريب أو بعيد فلا يخلو إما أن يكون عابر سبيل أو طالباً للإقامة والدخول في زمرة أهل الحلقة، فيتشاور الشيخ في كلا النوعين، ويستأذن في شأنهم.
24) – فإن كان عابر سبيل كان له حظ فيما فتح الله عليه من المأكول غير المدخر، فيفتح له ذلك، ولا يحفز عليه في ملازمة الأوقات، ولاحظ له في شيء من الفتوح التي تدخر لا من طعام ولا من غيره.
25) – وإن كان يريد الدخول في الحلقة استؤذن الشيخ في شأنه فيكشف الشيخ عن أحواله، وعما كان في الموضع الذي قدم منه.
26) – فإن اطلع على صلاح أحواله أذن له في الدخول لا غير، فيكون من أهل الحلقة له مالهم وعليه ما عليهم.
27) – وإن أطلع على نقيصة وأحوال ذميمة طرده لا غير.
28) – وإن تعذر لبعد داره الإطلاع على الأحوال أو اختلفت في صلاحه وفساده الأقوال توقف حتى يستبرئ ويستعلم حميدها من ذميمها وصحيح الأقوال من سقيمها، فإن اطلع على الخير ألحقه بأهله، وإن أطلع على شر أفضاه إلى نوعه وشكله.
29) – وحكم هذا الغريب في مدة الاستبراء حكم المسافر عابر سبيل في كونه لاحظ له في القسم من الفتوحات المدخرات والعين، وكونه لا يحفز عليه، وكونه لا يمنع المأكول.
30) – فإن كان تائباً مبتدأ أذن له.
31) – ومنها أن إليه تولية عرفاء الأوقات والإذن فيما يشتري وما يباع ويدخر من الأقوات.
32) – ومنها الإذن في قسمة ما يفتح الله من رزق مما يدخل عليهم أو هو من اعتلالات الأوقاف ومتى يقسم وعلى من يقسم.
33) – ومما ينبغي لشيخ الحلقة أن يتفقد أحوال التلاميذ فمن كان منهم موسراً أنظر له فيمن يخدم له ما يقتات به من الطعام، ومن كان مقتراً نظر له فيمن يتبرع له بالخدمة والإطعام.
34) - ومنها الحكم بين المختلفين والمختصمين من التلاميذ فيأخذ المظلوم من الظالم وينصف المحسن من المسيء.
ز) - مهام العرفاء: عريف الختمات وأوقات النوم:
__________
(1) – الخِطّة: عملية اقصاء الفرد العاصي من حلقة العزابة في حبس معنوي داخل خطٍّ مربع مرسوم على الأرض.
(1/11)
35) - والعريف المكلف بالختمات وأوقات النوم يتعلق به ارتصاد حزب الغداة في المجلس الذي تعقبه المذاكرة.
36) - فإذا كمل الحزب أو كاد دعا وجميع من في المجلس يؤمنون على دعائه، فيدعو أسنهم ويدور الدعاء.
37) - فإن انقضى الدعاء وتخلف أحد فالخطة.
38) - فإذا كان الضحى نادى بنوم الهاجرة فينامون.
39) - فإذا ناموا وتكلم أحد أو تحرك بحيث يؤذي النائمين فالخطة.
40) - وإن أبى أحد أن ينام بغير عذر وكان تركه النوم ذريعة إلى امتناع القيام بالليل حتم عليه نوم القائلة فإن امتنع فالخطة.
41) - ثم إذا كان عند غروب الشمس وبعد صلاة المغرب نادى بالختمة فيجتمعون على أكبرهم فيدير معه من يليه في السن والمعرفة.
42) - أو يكونوا إن قلوا ثلاثة وإن كثروا فعشرة لا يجاوزونها، والوسط بين التحديدين أعدل.
43) - فإذا استداروا ذكروا الله وقرأ قارئان آيات من القرآن ثم يدور الدعاء كالعادة ويؤمّن من خلفهم، ومن تخلف فالخطة.
44) - ثم إذا صلوا العشاء وقرأوا من القرآن ما يسَّر الله وحان وقت النوم مالم تكن من ليالي الإحياء نادى بالدعاء. وهي ختمة ليست بأكيدة في أكثر الأقطار، والمتعارف أن حضورها على الكفاية، فيدعون دعاء خفيفاً.
45) - فإذا دعوا فالمستحب الذي وضعه الشيخ أبو عبد الله أن يكون بيد أفصحهم كتاب، إن كان في الوعظ فهو أولى وإلا ففيما أتاح الله تعالى، فيقرأ فيه قليلا بحيث يستمعون وهم مجتمعون أو لا يجتمعون ثم يدعو وينادي بالنوم.
46) - فإذا ناموا وتكلم أحد أو تحرك فالخطة، إلا أن يكون في مطالعة كتاب بعيداً عن النائمين فما على المحسنين من سبيل.
عريف أوقات الطعام: والعريف المتكلف بأوقات الطعام له حدود يقف عندها وأشياء متسع فيها:
47) - وذلك أن الطعام لا يخلو أن يكون في موضع مألفهم أو خارجا، فإذا كان خارجاً لا يخلو أن يكون في محل عزابي أو محل دنيوي.
(1/12)
48) - فإذا كان في محل دنيوي حفز عليهم كل الحفز في ملازمة التحفظ وإفراط الحذر. وجعل الشعار بينهم من القول (حسان) وربما قال: (حسان بن ثابت) أي: حسنوا آدابكم وأخلاقكم، وهي كلمة يقولونها مهما يدخل فيهم غير الصِّنف، تحذيراً أن يطلع على ما ينتقد منهم.
49) - وإن كان في محل عزابي لم يتحفظوا كل التحفظ بل يميلون إلى ضرب من الإدلال، وينبسطون بعض الانبساط، ويحسنون الظنون.
50) - ولا يحتشمون في اقتراح أطيب الطعام أو زيادة الإدام ونحو ذلك، في دار العزابي.
51) - فالمتعلق بالعريف في كلا المجلسين أن يرتب جلوسهم، فإذا غاب أحدهم في عذر ذكرهم بأن يستوصوا عنه، وإن كان في غير عذر فالخطة.
52) - فإذا اعتدل جلوسهم استدعى بماء غسلوا بعد اشتمالهم الشملة المتعارفة عند حضور الطعام، وهو أن يخرج طرفي توبه على صدره بعد أن يدير كل طرف فوق العاتق الذي يليه، فتبرز اليدان ولا ينكشف شيء من الجسد.
53) - ثم يأكلون أكلا معتدلا، فمن أكل أكل نهم، أو أكل ذي كبر، عيب عليه في غير ذلك الموضع، ونهى وقبح وحذر أن يعود، فإذا عاد فالخطة.
54) - فإذ طعموا تفقدهم العريف، فإذا وجد منهم من يده في الطعام انتظره حتى يقضوا حاجتهم منه.
55) - فإذا فرغوا أذن بالإنصات إلى الدعاء ثم يأذن أسن من حضر فيدعو.
56) - وإن كان الطعام في موضع مألفهم فلا يخلو أن يكون مما لا بأس بقسمته أو مما ينبغي فيه مشاركة الأيدي في المؤاكلة (1).
57) - ثم لا يخلو أن يكون ممن يقدر على معالجته وحده أو يحتاج فيه معينا، فإن كان مما يحتاج فيه معينا استعان بمن استحسن.
58) - فإذا استعان بأحد فامتنع من غير عذر فالخطة.
59) - لكن ينبغي له أن لا يخص بذالك من يعلم منه كثرة الانقطاع إلى المدارسة والمطالعة فيضع الشيء في غير موضعه.
60) - وإن كان مما لا بأس بقسمته قسم على ما جرى به العرف في ذلك القطر.
61) - والذي تصلح فيه المواكلة فإما متكرراً معلوماً وإما نادراً، فالناذر يؤكل لا شريط إلا إطراح الحرص والشره والترتيب في ذلك إلى العريف.
__________
(1) – البرادي، الجواهر:229.
(1/13)
62) - والمتكرر كل يوم كالتمر والفاكهة في أوقاتها فترتيب ذلك أيضاً إلى العريف.
63) - والمتكرر من الفاكهة لها وقتان: أحدهما وقت الضحى بعد استكمال اكتتاب الألواح وتصحيحها.
64) - والآخر بعد صلاة العصر، بقدر ما يقرأ فيه قاريء القرآن اللوح مرة أو مرتين.
ح) - وقت المراجعة والتصحيح:
65) - فإذ استداروا طوائف فإن من شروط ذلك الحضور أن يكون في كل طائفة عريف يكون أسنهم أو أنبههم. لا تعدوا عرافته ذالك المجال.
66) - فيبتدئ فيلقي ثلاث مسائل في أي فن كان ثم كذلك ميامنة حتى يتم الدور.
67) - فإن وقف أحد أمسك المبتدئ يده ومنعه الأكل تأديبا وردعا وتحريضا على تحصيل الفوائد.
68) - فإن أتى بشيء قبل منه ولو بعد حين وأطلقت يده.
69) - ومن شأن هذين الوقتين أن يتفقد العريف الألواح، وإذا صحح آخر لوح منها دعا إلى الطعام، وبعد العصر بقدر ما ذكرناه.
70) - فمن أجاب أكل ومن تأخر فلا إثم عليه فإنما ذلك على الاختيار.
71) - وإن كانت نافلة (1) فينبغي للعريف أن يعرّف بها، لا يستخفي النطق بها، فقد يكون من العزابة من له شوق إلى تلك النافلة.
72) - فإذا امتنع بعد هذا ممتنع لم يتعلق منه بالعريف ذم.
ط) - عريف الدراسة: نظام حفظ القرآن.
73) – و العرفاء من حملة القرآن ترتبط بكل واحد منهم جماعة من أصحاب الألواح طلبة القرآن.
74) - يملي عليهم ويصحح ألواحهم ويأخذهم بالحفظ عن ظهر.
75) - فالجماعة التي ترتبط بكل حافظ يكون أكثرهم عشرة وأقلهم اثنين، وهذا حسب الاختيار، وفي الأمر الأشهر العام.
76) - وأما مع الضرورات وعدم الرجال فلا حدّ لكثرتهم ولا لقلتهم.
77) - فإذا كان وقت الضحى وتأهبوا للكتب كان لكل جماعة نقيب من أنفسهم يحفز على أصحابه ويجمعهم.
__________
(1) – النافلة: أي صدقة تبرع بها أي أحد من غير الطعام المعتاد في المدرسة.
(1/14)
78) - ويستدعي العريف فإذ حضر استأذنه ميامنة في حفظ ما كتب أمس، ثم يحفظون على اليمين فإن حفظوا كلهم استأذنوه في الاستملاء وأملى عليهم.
79) - وإن توقف أحدهم حين الحفظ فإن كان مبتدءا أقيل له خمس عثرات، وإن كان فوقه إلا أنه في أول قلم أقيل له ثلاث، وإن كان في الإعادة فعثرة واحدة.
80) - فمن زاد فعلى ما يجتهد فيه العريف والمعروف الأشهر أنه إن كان صغيرا فالزاوية والجلد، وإن كان كبيراً فالخطة والطرد.
ي) - متابعة التلاميذ وضبطهم:
81) - فإذا ارتسم أحد التلاميذ بعريف فليس له أن ينتقل عنه إلى غيره إلا بإذنه.
82) - وإن تخلف أحدهم بغير عذر حتى يحفظ أصحابه ويكتبوا سطرا أو بعض سطر فالتأديب قد تقدم تفصيله. وإن كان قبل ذلك وبخه العريف ثم صفح عنه وعنهم.
83) – وعليه أن يختبرهم أحياناً فيما قد حفظوه ليعلم كنه اشتغالهم ورغبتهم واجتهادهم.
84) – فإن وجد حفظاً ركيكاً فإن كان ذلك لقلة في فهم التلميذ وضيق باعه، وعلم أن ذلك الأمر كان سماوياً عذره وأمره بالإعادة.
85) – وإن كان التلميذ ذكياً فهماً وعلم أن ذلك لحب البطالة وترك الدراسة اجتهد في تعزيره.
86) - ولذلك يسأله الشيخ عن أحوالهم حين التمحيص يوم الاجتماع فلا ينبغي له أن يقول إلا ما ... علم من حال كل واحد منهم.
ك) - عريف أوقات الدراسة:
87) – وأما عرفاء أوقات الدراسة فيتفقدون أصحاب الألواح بين الظهر والعصر.
88) – فإن أبطأ أحدهم إبطاء لا يعذر فيه فالخطة.
89) – وإن اشتغل بما يلهيه عن قراءة لوحه فالخطة.
90) – وإن سمعه العريف يقرأ خطأ وكان مع ذلك لإهماله بتصحيح لوحه فالخطة.
91) – وبين المغرب والعشاء فإن أبطأ أو غاب أو اشتغل بما يلهيه أو يشغل سواه فالخطة.
92) – وإن قام إلى الطعام اختياراً أو إلى نجوى فالخطة.
93) – وفي وقت الاستفتاح إن نام أو تناوم أو اشتغل بغير الدراسة ولم يكن له عذر فالخطة.
94) – وبين صلاة الجمعة والعصر إن غاب عن الحضور لاستماع قراءة كتاب المواعظ فالخطة. وقد قلنا إلا ثلاثة على ما فصلنا.
ل) – طلاب الحلقة ومراتبهم: طلبة القرآن ومقاعدهم:
95) – فطلبة القرآن يقرأون ألوحهم بين الظهر والعصر حتماً وبعد العصر استحباباً.
(1/15)
96) – وصفة هيئتهم حينئذ أن يشتملوا فلا يظهر من أجسادهم شيئ ويسندوا ألواحهم إلى الأساطين (1)، ويقابلونها غير مستندين ولا مكثرين من الإلتفات.
97) – وبين العشاءين يجلسون في وسط الساحة غير مستندين وقد أبيح لهم الاسناد في غير هذين الوقتين إن شاءوا، والأفضل للأصغرين ترك الإسناد.
98) – فلا يتعرضون إلى ما ليس بشأنهم غير دراسة القرآن إلا ما قد عناهم من العبادات وفرائض الإسلام كالطهارات والصلاة والصيام وما أشبه ذلك.
99) - فإن امتدوا إلى غير ذلك كره مشي الغراب مع الحمام على أنه من كان ذا فهم وقلب ذكي و أعطاه الله قدرة على تحصيل هذا أو هذا فلا بأس في الازدياد من الخير.
م) - طلبة العلوم:
100) - وطلبة العلوم: أما طلبة الأدب فإن أتفق أن يكونوا أصحاب لويحات, وصغار في السن فبنبغي لهم التأسي بطلبة القرآن في ترك الاستناد.
101) - وأما أصحاب الكتب فشأنهم الاستناد إلى أركان المسجد والأبواب وإلى الأساطين و حيث يستحسن واستحسن منهم.
102) - ولهم أن يجتمعوا للبحث والمذاكرة والمناظرة ما لم تفض إلى توغير الصدور, ويكون هذا دأبهم.
103) - ولابد أن يكون لهم وقت معتاد يكون فيه الميعاد للحضور على الأساتذة ويؤدب من غاب من التلاميذ ..
104) - فيأخذ كل منهم درسه وهي دولته (2) , على أستاذه ,ويجعل ما يتلقنه خير ملاذه ومعاده.
ن) – منهج الأسئلة والأجوبة في الحلقة:
105) - ثم إذا كانت ختمة غداة وحضر الشيخ فإن هنالك طرقاً كلها حميدة .. وذلك أنهم إما أن يتداولوا وضع السؤال فيبتدءون بالسؤال ميامنة فمن أفضى إليه النوبة وغاب اجتهد فيه.
106) - وإما أن يسأل أفصحهم لساناً وأكثرهم بياناً، وإما أن يسأل أشدهم احتياجا لإسراع في ضرورة دعت , أولنازلة وقعت.
107) - ثم إذا ألقي السؤال فإن كان الجميع حفيلا بدأ فسأل الشيخ ثم على من يمينه فيعيده الثاني إلى الشيخ طلبا للتخفيف والاختصار.
__________
(1) – الأساطين: جمع أسطوانة، وهي: السارية بين الأقواس.
(2) – دولته: أي نوبته.
(1/16)
108) - وإن كان الجميع دون احتفال سيما إن كانوا أماثل فإنه يدير السؤال أو يحيل كل مسؤول على ميامينه حتى يدور السؤال إلى الشيخ.
109) - فإن علم الشيخ أن في الجمع أكفى منه في تلك المسألة أذن له في الكلام فيها, وإلا تكلم بما عنده.
110) - وللسائل أن ينبهه إذا غفل ويذكره إذا نسي ويفتح له إن ارتج عليه, ويعترض إن احتاج إلى زيادة إيضاح أو علم من الحاضرين إرادة استزادة كشف, ثم يسأل كذلك من شاء ويجيب كيف شاء.
ص) – كيفية الخروج من الحلقة:
111) - ومن أراد القيام فلا يقوم حتى يستأذن من يليه, فإن أذن له قام, وإن لم يأذن له أقام.
112) - وإذا حضر غير الصنف فيكره إدارة ما يستشنع من المسائل الشواذ التي تضل الغبي أو تجعله ينسب الرشد إلى الغي.
113) - وإذا هم الشيخ بالقيام ولم يستثقل تشييع من يختص به من طلبته ركع وركع أصحابه ركعات الضحى, ويشيعوه تكرما له و تأنيساً به.
114) - وإن ثقل عليه ذلك ركع وركعوا وودعوه ولم يشيعوه.
ع) – الطلبة العاجزون وطرق معاملتهم في الحلقة:
115) - وأما العاجزون فأنواع فالله حسيبهم فيعاقبهم أو يثيبهم, فمنهم الطرش والعميان والزمني والهارمون والأفهام القاصرة.
116) - وربما استعمل مستعمل فألحق نفسه بهؤلاء وفيه قدرة أو عنده لوجدّ بعض الغناء.
117) - فهذه الأنواع شأنهم الإصغاء والاستماع ليحصلوا الطرق والأخلاق ويظهروا التلهف والاستياق.
118) - وعليهم حفظ السيارات والمحافظة على الطرق والأوقات وإن أجهدوا أنفسهم وزادوا ظفروا ببعض ما أرادوا.
119) - فأما الزمني والعميان فقد نطق بعذرهم (1) القرآن, وأما القاصر والفهوم , فمنهم القانط التارك للعلوم، ومنهم من اليأس عنده معدوم (2) ..
__________
(1) – قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الاَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61].
(2) – ذكر الدرجيني في طبقاته:1/ 181 – 182 أمثلة من هؤلاء القاصرين الذين عاصرهم في حلقة وارجلان عام:616 – 620ه.
(1/17)
120) - وينبغي أن تكون خدمة الطعام من هؤلاء الذين لم يفتح الله عليهم, ولا شرح للعلم صدورهم, لينفعهم بخدمة أهل الخير ويوفيهم أجورهم.
ف) – مواطن الراحة وأوقاتها:
121) - ووقت الراحة والتصريف هو آخر النهار.
122) - يتصرف إلى المواضع التي لا ينكر التصرف فيها كمواضع المياه ومواضع الأشجار وأمثالها من الأماكن التي تتفرج فيها النفوس وتنفسح فيها الصدور, فإن في ذلك إجماماً للخواطر, وجلاء للنواظر.
123) - فلا بأس في ذلك ما لم تكن هذه الأماكن معروفة بأن يستقر فيها مصادف الشبهات, كالنساء وأهل الخساسات, فلا سبيل حينئذ إليها.
124) - والإكثار من التصرف في الطرقات والأسواق يكره, وإن دعت ضرورة ففي طريق نافد ووقت لا يظن به ريبة.
125) - ووقت الأكل لمعايشهم التي تختص بكل واحد منهم إذا صلى العتمة, فإما وحده و إما مع من توافق طبائعهم طبعه ويشترط التخفيف وأن لا ينفصل إلا بعد الدعاء.
126) - ووقت تغبير المنكر متى ظهر, لا ينحصر إلى وقت, ويشترط تقدم الشيخ أو بإذنه, أو تقدم الأمثل.
د) - اعتناء العزابة بالعبادات:
127) - والأوقات المسحب فيها التأهب للصلاة معروفة وهو أن يكون بمقدار ما يَستبرئ ويتوضأ ثم يدرك صلاة الجماعة, ويشترط بعد الأثر وإعداد المدر.
128) - وأوقات نوافل العبادات ليلا ونهارا معروفة فلا يحتاج إلى زيادة, فإن أصبح فخمس تسليمات بالليل ومثلها ضحى, هذا الأفضل, فإن زدت فلك ذلك, وإن نقصت فلا ذنب عليك.
129) - ولصلاة الليل شروط من إطالة القراءة, واختلف في إسرارها وإعلانها, قيل: الإعلان أفضل إذ فيه إيقاظ النائمين, وقيل الإسرار أفضل لبعده عن رياء المخلوقين, وهذا بحسب الأحوال - و الأولى إخفاء العبادات -.
130) - والركعات التي تصحب الفرائض معلومة.
131) - وأوقات الصوم المستحب كيوم الجمعة (1) ويوم قبله, وتاسع ذي الحجة, ويوم عاشوراء, و الثلاثة البيض من كل شهر وما أشبه ذلك.
__________
(1) – صوم يوم الجمعة لم ترغب فيه السنة مثلما رغبت في اليوم الذي قبله وهو يوم الخميس منفرداً، وقد ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لاتصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم وبعده يوم» [رواه أحمد عن أبي هريرة] وروى النسائي وأحمد من حديث جنادة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا يوم الجمعة مفرداً»
(1/18)
ذ) – سلوك العزابة مع العوام:
132) - ومن آداب الطريق وأحوالهم أن لا يتكبر على متواضع, ولا يتواضع لمتكبر.
133) - ولا يخالط أهل الدنيا ولا يجالسهم إلا إن دعت ضرورة لا يوجد معها بُدٌّ.
134) - ويجلسون لكي يستفيدوا مصلحة لدينهم من علم أو عمل, والكبير أعذر في مخالطتهم من الحدث فإن الكبير أهل لأن يهديهم والحدث أهل لأن يضلون.
135) - ومن نهي عن الإكثار من ذلك فلم ينتبه فالخطة.
136) - وينبغي أن يعلم أن المؤاخذة على العثرات وإلزام الذنب على الخطيئات إنما هي بحسب أصحابها وهم طبقات, فالكبير المبتهل حسن به الظن, وحسن معه العبارة, و أدمج له تفسح زلته في اللطف.
137) - ومن دونه فإن كان في الطريق راسخ القدم شامخ القدر واخذته على الكبيرة والصغيرة, واستعظمت نقيره من الخطايا وقطميره.
138) - وإن يكن غير ذلك يجاف عن النقير والقطمير واستكثرت من حسناته الشيء الحقير, وسلكن معه سلك التأنيس لا التنفير فرب قبيح من ذلك هو من هذا حسن. وكثيراً ما رأيت المشائخ يشبهون الصنفين بالماء واللبن.
ملاحظات وتقويم:
نشاهد من خلال هذه المواد ثراء عظيما في الفكر التربوي الإباضي خلال القرآن 5ه الهجري و الدليل على ذلك هو عندما نقارنه بنظام التربية و التعليم في عصرنا هذا فلا نجد فيه اختلافاً كبيراً بينه وبين الم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق