الكتاب : الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الإيمان والإسلام
والعلاقة بينهما
محاضرة لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله تعالى
موقع واحة الإيمان
www.waleman.com
info@waleman.com
(1/1)
ملاحظة: بداية الشريط مقطوعة حتى الجزء الذي أنقله
...أحمده وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد،،،
فقد كانت دروسنا الماضية منذ بدأنا هذه السلسلة من هذه الدروس في هذا الصرح العلمي تدور حول الإيمان وشرح الأركان وبيان علاقته بحياة الناس العملية من حيث إن الإيمان في حقيقته وإن كان عقيدة في النفس إلا أن هذه العقيدة لا بد أن ينعكس أثرها على سلوك المؤمن، وكل ركنٍ من أركان الإيمان له أثره الكبير في تقويم سلوك المؤمن بل أولاً في تهذيب نفسه وفي تعديل اعوجاجه وفي جعل حياته كلها متجهةً إلى الله سبحانه بحيث يتحرى فيها مرضاته تبارك وتعالى، ويؤثر مرضاته – سبحانه – على هوى نفسه وعلى هوى الناس أجمعين.
والحديث عن الإيمان حديثٌ طويل المدى،وإنما حاولنا أن نلم بما أمكننا الإيمان به من خلال إلقائنا تلكم الدروس عن أركان الإيمان. وبما أننا تحدثنا عن أركان الإيمان الستة التي جاء بها حديث جبريل عليه السلام وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، وما لكل ركنٍ من هذه الأركان من صلةٍ بحياة المؤمن العملية فإننا الآن نتحدث عن صنو الإيمان الذي هو الإسلام.
والإسلام من حيث المدلول العرفي الشرعي لا يختلف عن الإيمان الجوهري وإن كان هو من حيث اللغة يختلف معه لأن الإيمان كما قلت هو مأخوذٌ من ( آمن يؤمن ) بمعنى يصدق فهو مصدرٌ لـ ( آمن )، واشتقاقه من الأمن لأن المُصدِّق لمن حدثه بشيء قد آمنه التكذيب.
والإسلام مأخوذٌ من أسلم يسلم بمعنى انقاد وخضع، ومن هذا الباب قول الله تبارك وتعالى: " وله أسلم من في السماوات ومن في الأرض ". وإذا كان الإيمان عقيدة تبعث على طاعة الله سبحانه وتعالى من حيث مدلول لفظه الشرعي فإن الإسلام أيضاً ما هو إلا انعكاسٌ لأثر هذا الإيمان في حياة المؤمن، فمن حيث ظاهر اللغة قد يكون بينهما افتراق ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا "، خوطبوا بمفهوم اللغة فهم ادعوا الإيمان الذي هو تصديقٌ بالقلب ولكن الله تعالى نفى ذلك عنهم لأن الإيمان الذي هو التصديق المتمكن من النفس لم يصل إلى أنفسهم ولكنهم انقادوا في الحكم الظاهر بالأعمال الظاهرة، فانطبق عليهم في حكم الظاهر معنى الإسلام وإن كانوا من حيث الإسلام المطلوب لم يكونوا بالمستوى الذي يمكن أن يطلق عليهم فيه بأنهم مسلمون حقاً.
والإسلام الحق هو كما قلت لا يختلف عن الإيمان، وكثيرٌ من العلماء المحققين قالوا بترادف معنى الإسلام والإيمان الشرعيين، فكما أن الإيمان هو عقيدةٌ راسخةٌ في النفس وعملٌ صالح وخلقٌ فاضلٌ كما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( الإيمان بضعٌ وستون شعبة، أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان ))، فإن الإسلام الشرعي أيضاً هو عقيدة واستقامة بمقتضى هذه العقيدة بحيث تكون الأعمال الظاهرة منسجمةٌ تمام الانسجام مع مقتضيات العقيدة.
والله تبارك وتعالى أشار إلى أن المسلم الشرعي هو المؤمن شرعاً حيث قال في معرض الحديث عن لوط وقريته ومن كان فيها من قوم : " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين * ". وقد بين سبحانه وتعالى في محكم كتابه أن الإسلام هو دينه الحق الذي تعبّد به جميع عباده؛ ولئن كان الإسلام هو دين الله الحق الذي تعبّد به عباده فمعنى ذلك أن جميع الأعمال الصالحة تدخل في جوهر الإسلام، فالله تعالى
(1/2)
يقول: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة "، ويقول – تبارك وتعالى – خطاباً لعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم : " قل إنني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * " ، فترون أن الله تبارك وتعالى بيّن أولاً أن الله عز وجل قد هدى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى صراطٍ مستقيم، وفسر هذا الصراط بقوله " ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين "، ثم أتبع ذلك بياناً واضحاً يدل على أن الإسلام الصحيح هو أن يُسلِم الإنسانُ نفسَه لله بحيث يسلم روحه وجسمه وقلبه وعقله وفكره ووجدانه لله تبارك وتعالى وينشأ عن ذلك أن تكون أعماله كلها لله سواءً الأعمال التي هي تعبُّدات خالصة لله عز وجل أو الأعمال التي فيها منافع لنفسه ومنافع لغيره من العباد، فكما أن الصلاة التي هي تعبُّدٌ محض تكون بموجب حكم الإسلام خالصةً لله كذلك النسك الذي هو عملٌ تعود مصلحته على الإنسان ..تعود مصلحته على الفرد وعلى بني جنسه..ولكنه هو أيضاً بمقتضى حكم الإسلام يجب أن يكون خالصاً لله. وفي هذا ما يدل على أن الأعمال الظاهرة والباطنة تكون لله، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تنص الآية على أن الحياة والممات لله، هذه هي حقيقة الإسلام " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * "، فهذا هو الإسلام إذن.
والله تبارك وتعالى بين أن دينه الحق هو الإسلام عندما قال – عز من قائل - : " إن الدين عند الله الإسلام "، وعندما قال : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ". فإذن هذا هو الإسلام المطلوب وهو أن تكون حياة الإنسان لربه وأن يكون مماته لربه، ومعنى ذلك أن المسلم مطالبٌ بأن يتحرك في إطار الإسلام العام الشامل في جميع تصرفات حياته؛ فالمسلم إذا أبصر إذن يبصر بعيني الإسلام وإذا فكر فكر بعقل الإسلام وإذا أخذ أو أعطى كان ذلك بيدي الإسلام وإذا تنفس تنفس برئتي الإسلام وإذا مشى مشى بقدمي الإسلام بل نبضات قلبه وخلجات جسمه كلها منطلقةٌ من قاعدة الإسلام، ومعنى ذلك أن الحياة كلها خاضعة لمنهج الإسلام منهج الله تعالى الحق.
والله تبارك وتعالى أتى بكلمتين وجعلهما بمعنى واحد وهو الدين والإسلام : " إن الدين عند الله الإسلام "، فلننظر إذن في مدلول الكلمتين. ما هو الدين لغة؟ الدين لغة من دان يدين بمعنى خضع وانقاد؛ يقال فلانٌ دان لهذا الأمر أي انقاد له، ومن هذا الباب قول عمرو بن كلثوم:
(وأيامٍ لنا غرٍ طوال..............عصين الملك فيها أن ندينا) ؛أي أن نخضع وننقاد.
ويُطلق الدين لغةً على معاني متعددة، منها الحكم ومنه قوله تعالى: " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " أي في حكم الملك ؛ ومنها الجزاء ومنه قوله عز وجل: " مالك يوم الدين " أي مالك يوم الجزاء، وقوله: " وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله * "، وقوله – تبارك وتعالى - : " يومئِذٍ يوفيهم الله دينهم الحق " أي جزاءهم الحق. ويُطلق الدين أيضاً بمعنى العادة ومنه قول الشاعر:
( تقول إذا درأت لها وضيني.......أهذا دينه أبداً وديني ) فالمقصود أهذه عادته أبداً وعادتي.
وذكر أئمة اللغة أن مفهوم الدين لغة يأتي لمعاني متعددة هي من الأضداد، فيُقال: دان إذا قهر، دِنّاهم كما دانوا أي قهرناهم أو غلبناهم ؛ ودانَ إذا ذل؛ ودان إذا أطاع ودانَ إذا عصى؛ فمفهوم الدين في اللغة مفهومٌ مشترك بين معاني متعددة، ولكن القرينة هي التي تبين المعنى المراد وتخصصه.
أما من حيث المفهوم الشرعي والعرفي للدين فهو كما قال بعض العلماء : ( الدين ما شرعه الله تعالى من الأحكام )، وقالوا بأن مفهوم الدين ومفهوم الملة ومفهوم الشرع واحد ولكن اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات، فبالنظر إلى أن هذا الأمر هو صلة بين العباد وربهم والعباد ينقادون ويخضعون من خلاله لحكم الله عز وجل فهو دين، وبالنظر إلى أن الله تعالى شرَعَه فهو شرع وشريعة بمعنى مشروعة، وبالنظر إلى أن المَلَكَ أملاه على الرسول أو أن الرسول أملاه على الأمة فهو مِلَّة. وعرفه بعضهم بأنه ( وضعٌ إلهي سائقٌ لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات )؛ وقولهم وضعٌ إلهي يُخرِج الأوضاع البشرية كلها، فالأنظمة البشرية لا تدخل في هذا وإن كانت أفعال البشر – كما قلت من قبل – مخلوقةً لله سبحانه إلا أن للعباد فيها كسباً فتُضاف إليهم بسبب اكتسابهم إياها، فما يصدر عن عقول البشر وأفهام البشر لا يمكن أن يُسمى ديناً،
(1/3)
فالأنظمة البشرية المختلفة بحسب مقاييس الشرع ليست من الدين في شيء. ( سائقٌ لذوي العقول ) خرج بهذا بقوله ( سائق ) ما لم يكون سائقاً فإن خلق الله تبارك وتعالى للمخلوقات وإن كان في بعضه ما يسوق إلى شيء ولكن في كثيرٍ منه ما لا يسوق إلى شيء مع أنها جميعاً وضعٌ إلهي أي مخلوقاتٌ إلهية، وقوله ( سائقٌ لذوي العقول ) التقييد بذوي العقول يُخرج ما كان سائقاً لذوي العقول وغيرهم كالخوف الذي يسوق الشاة إلى النفار من الذئب والفرار منه؛ وقوله ( السليمة ) هو أمرٌ يخرج ما كان سائقاً لذوي العقول غير السليمة كالشهوة التي تسوق العاقل أحياناً إلى ارتكاب ما لا تُحمد عقباه، والغضب الذي يسوقه إلى فعل ما حرم الله؛ ( باختيارهم المحمود ) لا ريب أن ما كان وضعاً إلهياً سائقاً لذوي العقول السليمة لا يسوق إلا إلى اختيار محمود ولكن ذلك تمهيدٌ لقوله ( إلى ما هو خيرٌ لهم في الذات )، فقد تكون هنالك أشياء هي من الوضع الإلهي وتسوق ذوي العقول السليمة إلى ما هو خيرٌ لهم ولكن لا يكون ذلك الخير ذاتياً كالعلاج الذي ربما كان فيه أذىً للجسم وإرهاقٌ للنفس ولكن هذا الخير ليس هو خيراً ذاتياً وإنما هو خيرٌ بالنظر إلى ما يترتب عليه من اعتدال المزاج وقوة الجسم فيتقوى الإنسان على أداء وظائف الحياة وفي مقدمتها القيام بحقوق الله تبارك وتعالى فيها.
هذا الحد ينطبق على المحدود، وكما عرفتم ( الدين هو وضعٌ إلهي ) فلا يكون الدين خاضعاً لمقاييس البشر لأنه لا ينتج عن أفكارهم ولا عن تجاربهم، فالأفكار البشرية لا يمكن أن تُفرز تظاماً كالدين الإلهي، ذلك لأن العقول البشرية – كما ذكرت لكم من قبل – تتأثر بمؤثراتٍ كثيرةٍ مؤثرات نفسية ومؤثراتٍ اجتماعية؛ هذه المؤثرات تؤدي إلى الاختلاف بين عقلٍ وآخر، فالأوضاع البيئية لها تأثير على العقول البشرية فلذلك تختلف البيئات في الاستحسان والاستقباح، فقد تستحسن بيئةٌ من البيئات ما تستقبحه بيئةٌ أخرى، وقد يكون هذا التفاوت بين الأفراد الذين يعيشون في البيئة الواحدة؛ ومع تعدد مختارات العقول البشرية بحسب اختلافها لا يمكن أن يكون الدين خاضعاً لها. وتجارب البشر لا تفي بالحاجة بحيث يمكن أن تنتج نظاماً يسعد البشر ويصلهم بالله سبحانه وتعالى، لأن في الإنسان جوانب هذه الجوانب لا يمكن أبداً أن يحيط بها إلا الله عز وجل، فالإنسان كما تعلمون مكون من روح وجسم وعقل وقلب وفكر ووجدان وضمير وغرائز؛ ما بين هذه الجوانب كلها تجاذبٌ وتدافع، فلا يمكن مع هذا أن يكون أمر الدين موكولاً إلى أفاهم البشر ومقاييسهم؛ فلذلك أرسل الله سبحانه وتعالى رسله مبشرين ومنذرين لأجل دعوة الناس إلى هذه الصلة بالله سبحانه وهي التي عُبِّر عنها بالدين.
هؤلاء الرسل جميعاً جاءوا بدينٍ واحدٍ وهو دين الإسلام، فليس هنالك تفاوت بين عقائد المرسلين إذ لم يأت أحدٌ من المرسلين داعياً إلى توحيد الله مع كون غيره يدعو إلى التثليث أو التثنية بل كلهم كانوا دعاةً إلى التوحيد، فالله تعالى يقول: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون "، ويقول تعالى: " وكذلك بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "؛ وقد حكى الله تعالى عن جماعة من المرسلين أنهم قالوا لقومهم : " اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره " حكى الله سبحانه وتعالى ذلك عن نوح وهود وصالح وشعيب، وحكى عن المسيح عليه السلام أنه قال : " اعبدوا الله ربي وربكم "؛ فهذا إذن يدلنا على أن جميع المرسلين جاءوا بعقيدة التوحيد، وهو أمرٌ لا غبار عليه إذ يستحيل ويتعذر أن يكون أحدٌ من الرسل يدعو إلى عقيدة تتنافى مع العقيدة التي يدعو إليها الرسول الآخر، فإن العقائد إنما تجسد الحقيقة المتعلقة بوجود الحق تبارك وتعالى وبصلة الوجود الإنساني بالوجود الرباني، فلا يمكن أن يكون هنالك تنافٍ واختلاف ما بين دعوة رسولٍ ودعوة رسولٍ في ذلك؛ نعم يكون هنالك اختلاف في مشروعية كيفية العبادات أحياناً ومشروعية الأحكام التي يرتبط بها الناس في معاملاتهم أو في مطلق حياتهم العملية، وهذا إنما هو بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، فالله سبحانه وتعالى يُنزل في كل عصرٍ من العصور من الشرائع والأحكام ما ينسجم مع حياة البشر ويلبي هذه الحاجات. ولذلك جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم تشبيه الرسل ببني العلّات ومعنى ذلك أن الرسل دينهم واحد وشرائعهم متعددة، فدينهم واحد وهو دين الإسلام وشرائعهم متعددة وإن كانت كلها من عند الله سبحانه وتعالى ولكن بحسب اختلاف الظروف واختلاف الأحوال والملابسات التي تكتنف تلكم الرسالات التي بُعث بها المرسلون. وهذا إنما يعود – كما قلت من قبل – إلى أن الدين هو الدينونة المطلقة أي الخضوع المطلق من العبد لله سبحانه وتعالى.
فإذن هذا هو الإسلام وهذا هو الدين، وقد بين الله سبحانه وتعالى اتحاد الدين في رسالاته التي بعث بها المرسلين، فقد قال عز من قائل: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به
(1/4)
إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب "، في هذه الآية ينص الحق تبارك وتعالى على أنه شرع لنا من الدين نفس الدين الذي وصى به نوحا والذي أرسل به الرسل، وصى به النبيين، وصى به موسى وعيسى؛ فإذن الدين واحد، والله تبارك وتعالى يبين لنا أن الرسل والصالحين من أممهم كانوا على هذا الدين الحق وهو دين الإسلام فقد قال عز من قائل في إبراهيم عليه السلام: " ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين "، ويقول تبارك وتعالى : " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * "، ترون أن الله تعالى يحكي هنا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال له ربه " أسلم "، فأجاب " أسلمت لرب العالمين "، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل هو وصى بهذه الملة بنيه " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون "؛ " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " كل من إبراهيم ويعقوب وصى بنيه بهذه الملة – ملة الإسلام – وعدم العدول عنها؛ ثم يتبع ذلك قوله -عز وجل - : " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون "، والله تبارك وتعالى يقول في التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان يحكم بها النبيون من بني إسرائيل الذين بعثهم الله من أجل تجديد تعاليمها والمحافظة عليها فيقول: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا "، ثم بجانب هذا يبين لنا أن أهل الكتاب الذين تمسكوا في الكتاب ولم يفرطوا في تعاليم الكتاب مع ما حصل من الزعازع والاضطرابات والتحريفات في الكتاب المنزل، هؤلاء الذين تمسكوا بهذا الكتاب ولم يفرطوا في شيءٍ من تعاليمه يبين لنا الله بأنهم كانوا على ملة الإسلام قبل أن يُنزل القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك عندما قال – تبارك وتعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * "، فالله يحدث عنهم أنهم كانوا يقولون بأنهم كانوا من قبل أن ينزل هذا القرآن مسلمين.
والله تبارك وتعالى يحكي عن موسى عليه السلام أنه كان يدعو قومه إلى الإسلام، فقد حكى الله عنه قوله : " إن كنتم آمنتم بالله فعلى الله توكلوا إن كنتم مسلمين "، وفي نفس الوقت نجد أيضاً نصاً آخر يحكيه الله تعالى عن سحرة فرعون أنهم دعوا الله تبارك وتعالى بأن يميتهم على الإسلام، فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: " ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين "، بل حكى الله تعالى عن فرعون نفسه أنه ادعى الإسلام عندما أدركه الغرق وليس ذلك إلا دليلاً على أن الدعوة التي وجهها موسى الكليم عليه السلام إليه كانت دعوة الإسلام، فالله تعالى يقول: " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ". وعندما ذكر الله تعالى لوطاً وقومه ذكر أن بيتاً من بيوتهم كان على الإيمان والإسلام، حيث قال عز من قائل : " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين * ".
هذه الأدلة كلها تدل دلالة ظاهرة على أن دين الله تعالى الذي تعبّد به عباده هو دين الإسلام، لم يتعبدهم بأي دين آخر، وقد أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب الذين ادعوا أن إبراهيم ومن بعده من المؤمنين من ذريته كانوا على ملة غير ملة الإسلام بحيث ادعى اليهود بأنهم كانوا على اليهودية وادعى النصارى بأنهم كانوا على النصرانية من خلال ما سمعتموه من الآيات وكذلك جاء هذا الإنكار في قوله تعالى : " أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله وما الله بغافلٍ عما تعملون ".
وبهذا يتبين أن ما شاع في ألسنة الناس اليوم وتناقله كثيرٌ من الكتّاب حتى الكتّاب الإسلاميين المتعمقين في تعاليم الإسلام من أن هناك أديانٌ سماويةٌ أمرٌ غير صحيح، فليست هنالك أديانٌ سماوية وإنما هنالك شرائع سماوية، أما الدين السماوي فهو دينٌ واحد دين الله تعالى الإسلام القائم على توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الأنداد والأضداد والأشباه والنظائر، الذي يقتضي أن تكون العبادة خالصة لله لا يشرك فيها مع الله أحدا، فليس هنالك تثليث، وليست هنالك تثنية وليس هنالك أعداد، بل يجب أن يكون العبد عبداً لله تبارك وتعالى وحده خاضعاً ذليلاً منقاداً لحكمه مذعناً لطاعته ممتثلاً لأمره متلقياً منه مسلماً له؛ هذا هو الإسلام المطلوب من العباد.
(1/5)
ولئن قيل بأن بعض النصوص تدل على أن هذه الأمة هي أمة الإسلام، فلم يُقال بجانب ذلك أن الصالحين من الأمم السابقة كانوا على الإسلام وأن الرسالات المتقدمة جاءت لتعبِّد الناس لربهم سبحانه وتعالى على منهج الإسلام؟ فالجواب عن هذا: ليس بين هذا وذاك تنافر. كما أن الأمم السابقة التي انقادت لأمر ربها واستجابت لدعوات المرسلين الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى وامتثلت حكم الله تبارك وتعالى هي أممٌ مؤمنة لا شك في ذلك، فإن الله تبارك وتعالى نص على إيمان أولئك في كثيرٍ من النصوص القرآنية كما سمعتم قول الحق تبارك وتعالى : " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين " بين سبحانه وتعالى أن أولئك كانوا على الإيمان، كانوا مؤمنين، وكذلك قول الحق تبارك وتعالى حكايةً عن موسى عليه السلام : " إن كنتم آمنتم بالله فعلى الله توكلوا "؛ فالله سبحانه وتعالى حكى عنه أنه يدعوهم إلى الإيمان والتوكل على الله ويستحثهم على هذا التوكل من خلال تذكيرهم بالإيمان، إلى غير ذلك من النصوص. وبجانب هذا أيضاً فإن الله تعالى سمى هذه الأمة " الذين ءامنوا " عندما قال تبارك وتعالى : " إن الذي ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون "؛ أليس الصالحون من الأمم الأخرى كانوا مؤمنين أيضاً؟!! فلماذا خُصَّت هذه الأمة بلقب " الذين ءامنوا "؟!! إنما خصت هنا بلقب " الذين ءامنوا " نظراً لأن الإيمان كان شعاراً لهذه الأمة بسبب أنها مُتَعَبَّدة بأن تؤمن بكل الرسالات السابقة، فالرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم هي مهيمنة على الرسالات السابقة وجامعة لشتاتها، فكل ما آمن به الذين تقدموا يؤمن به المؤمنون من هذه الأمة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما أخذوا بحبل الإيمان من طرفيه وأحاطوا به من قطريه فلذلك لُقِّبوا بالذين ءامنوا. وهكذا عندما يُذكر المسلمون ويُقصد بهم هذه الأمة التي بُعِث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستجابت لدعوته وامتثلت أمره وآمنت بما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام فذلك لأن هذه الأمة دخلت الإسلام من أوسع أبوابه، فإن الله تبارك وتعالى جمع في هذه الرسالة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تفرّق في رسالات المرسلين من قبل..رسالات المرسلين كلها كانت تدعو إلى عقيدة التوحيد وإلى نبذ جميع مظاهر الوثنية وإلى إخلاص العبادة لله عز وجل وحده، وهي بجانب ذلك تعالج كثيراً من قضايا الناس التي كانت تمثل إشكالاً في عالمهم وحياتهم آنذاك. فقد تناولت كل رسالة من تلك الرسالات جانباً من الجوانب الذي كان يشغل الناس آنذاك، كما جاء في النصوص القرآنية بيان أن رسالة شعيب عليه السلام كانت تعالج مشكلة اقتصادية اجتماعية، ورسالة لوط كانت تعالج مشكلة خلقية اجتماعية وهكذا بقية الرسالات، إلا أن هذا كله اجتمع في هذه الرسالة التي بُعِث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الأمة حريّة بأن تلقب بلقب " الذين ءامنوا " وأن تلقب بلقب " المسلمين " مع عدم منافاة أن يكون من قبلها مَن صالح الأمم على الإسلام وأن يكون مَن قبلها من صالح الأمم على الإيمان.
هناك سؤالٌ آخر وهو أن الله تبارك وتعالى ذكر أن دين الإسلام هو ملة إبراهيم عليه السلام ونحن نقول بأنه ملة جميع المرسلين كما يدل على ذلك ما ذكرناه من النصوص، فكيف يُقال ملة إبراهيم؟ يتبين لي أن الجواب عن هذا يتجه لاعتبارين:
الاعتبار الأول: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كانت تواجه عنت المشركين من حوله وهم قريش ومن كان معهم من مشركي العرب، وتواجه في نفس الوقت عنت أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل وقريش الذين كانوا جُآبة العرب وكان العرب متأثرين بهم جميعاً كانوا ينتسبون من حيث النسب إلى إبراهيم عليه السلام، وكذلك بنو إسرائيل ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، وما تبقى عند العرب من تعظيم البيت الحرام والمشاعر العظام إنما هو من بقايا دين إبراهيم عليه السلام وإن لوَّثه العرب بما لوثوه به من أرجاس الجاهلية، فكان في تذكيرهم بأن هذا الدين هو دين إبراهيم عليه السلام حفزٌ لهم إلى الاستجابة لدعوته والانضمام إليه.
ومن ناحية أخرى فإن إبراهيم عليه السلام كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، إذ كان عليه السلام الموحِّد الوحيد كما قيل في الأرض آنذاك، فقد طغى على الأرض مد الوثنية آنذاك فغرقت الأرض في هذا الطغيان ولم يكن هنالك أحد يوحد الله عز وجل إلا إبراهيم، فبما أنه وحد الله تبارك وتعالى ما بين قومٍ وثنيين، ما بين إنسانيةٍ وثنية، كان جديراً بأن يُقال بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام. وهذا لا ينافي أيضاً أن تكون هذه الملة هي ملة النبيين كما دلت الآيات على أن نوحاً عليه السلام وغيره بعثوا بهذا الدين نفسه " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ". على أن العلماء يقولون بأن
(1/6)
مفهوم اللقب لا يُعتد به فكون هذا الدين دين إبراهيم لا يعني أن غيره من النبيين لم يكونوا على هذا الدين، والمفهوم كله لا يعتد به إذا كان ثَمَّ منطوقٌ يعارضه، وقد جاء المنطوق هنا صريحاً يدل على أن الأنبياء كانوا على هذه الملة وكانوا على هذا الدين.
وإذا كان الإسلام – كما قلت – هو الإذعان التام والانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى من غير تفريطٍ في أوامره ولا في نواهيه، فإن المسلم الحق هو الذي لا يرضى إلا أن يتلقى عن ربه تبارك وتعالى ولا يرضى أن يحتكم إلا إلى الله عز وجل، وهو الذي يتحرى مرضاة الله تبارك وتعالى في كل دقيقةٍ وجليلةٍ ويحرص على أن تكون أعماله كلها وفق مقتضيات الإسلام، وفق شريعة الله، فلا يعدل عن أمر الله تعالى في شيء، وهو إن زعزعته زعازع الحياة ووقع في شيء من الاضطراب وفي شيء من الميل والانحراف سواءً ما ، رجع إلى خالقه تبارك وتعالى : " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ".
والإسلام ينبني على أركان كما جاء ذلك صريحاً في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن ابن عمررضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا ً )). ذكر هذه الأركان الخمسة لا ينافي أن تكون جميع الأعمال الصالحة داخلة في مفهوم الإسلام، فإن هذه هي أمهات العبادات، والمحافظة عليها وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى تؤدي بطبيعة الحال إلى أن تكون حياة المسلم حياةً ربانية المصدر والمولد، فإن المسلم الذي يلتزم عقيدة الحق ويلتزم بذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان ويحج بيت الله الحرام مع استطاعته السبيل إليه هو مسلم حري بأن تكون حياته حياة تجسد قيم الإسلام وتعاليم الإسلام وفضائل الإسلام وأخلاق الإسلام، فكل ركن من هذه الأركان له أثرٌ كبير في جعل المسلم يستقيم على الطريقة السواء.. يستقيم على الحنيفية الحقة التي بعث الله تبارك وتعالى بها الأنبياء وجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى على أكمل وجوهها.
فالعقيدة الحقة كما تبين لكم من خلال الحديث عن الإيمان هي مصدر كل خير في هذه الحياة، والإنسان الفاقد للعقيدة فاقدٌ لروح الحياة لأنه إن كانت حياة الأجسام مرهونة بوجود الأرواح فإن حياة الأرواح مرهونة بوجود العقيدة، العقيدة الصحيحة الحقة " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها "؛ وهذه العقيدة جعل الله تبارك وتعالى لها وَقوداً لأن شعلتها قد تخفت أحياناً للمؤثرات الكثيرة التي تؤثر عليها ، ووقود هذه العقيدة هو العبادة الخالصة لله عز وجل؛ هذه العبادة تعطي هذه العقيدة مزيداً من القوة بحيث تتمكن في النفس وإذا تمكنت من النفس هيمنت على نفس الإنسان فكانت أعماله كلها وفق مقتضيات عقيدته وكان في جميع ما يأتيه وما يذره متحرياً لأمر ربه وذلك هو معنى التقوى، فإن كلمة التقوى وإن دلت لغة على الترك والتجنب إلا أن مدلولها الشرعي يشمل الجانبين: جانب الفعل وجانب الترك؛ فالتقوى من حيث المدلول اللغوي كلمةٌ تدل على الاجتناب والترك، ( اتقيت الشيء ) بمعنى تجنبته، لأن ( اتقى ) مطاوعٌ لـ ( وَقَى )، ( وقيته هذا الشيء فاتقاه ) أي جنَّبته فتجنبه؛ والشاعر يقول:
( سقط النصيف ولم تُرِد إسقاطه.......وتناولته واتقتنا باليد ) أي تجنبت رؤيتنا لنا إياها باليد بحيث جعلت يدها حاجزاً بيننا وبينها.
والتقوى من حيث المدلول اللغوي هي بمعنى تجنب سخط الله أو تجنب عقاب الله؛ وتجنب سخط الله وتجنب عقاب الله إنما هو بفعل أوامره وباجتناب نواهيه. ويدل على هذا ما جاء من النصوص القرآنية التي تحدد مفهوم التقوى من خلال وصف المتقين بما وصفهم به القرآن الكريم، فالقرآن يدل على أن المتقين يجمعون ما بين الإيمان الخالص والعمل الصالح ويتجنبون مع ذلك العمل السيء، فالله تبارك وتعالى يقول: " هدىً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * "، وصف المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب ثم بعد ذلك وصفهم بأنهم يقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، فهم يحرصون على الأعمال الصالحة التي تُجَنِّبهم سخط الله سبحانه وتعالى. ويقول الله في آية البر : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون "، الله تبارك وتعالى بين أن هؤلاء هم
(1/7)
المتقين، الذين يجمعون ما بين هذه الخصال المحمودة المذكورة هنا التي تقوم أول ما تقوم على العقيدة الصحيحة عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين. ويقول عز من قائل:" قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{15} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{16} الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ{17}"، هؤلاء هم المتقون، ويقول تبارك وتعالى : " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135} " هكذا وصف الله تعالى المتقين هنا.
فإذن نفهم من مدلول التقوى الشرعي أن التقوى شرعاً إلتزام شريعة الله بفعل أوامره وباجتناب نواهيه، فكما أن مدلول التقوى يدل على تجنب ما يؤدي إلى سخط الله كذلك يدل على فعل ما يؤدي إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
والحديث عن تأثير هذه الأركان الخمسة في حياة المسلم حتى يكون مجسداً لقيم الإسلام وفضائل الإسلام وقائماً بتكاليف الإسلام متجنباً لكل ما ينافي تعاليم الإسلام هو حديثٌ يأخذ وقتاً طويلاً فلذلك نرجؤه عن وقتنا هذا إلى وقتٍ لاحقٍ إن شاء الله، ونفتح الآن باب السؤال على أن تكون الأسئلة تدور حول نفس حديثنا الذي تحدثنا به الآن.
( يقرأ الأسئلة ويجيب عليها سماحة الشيخ )
السائل يسأل: ما هو المفهوم الصحيح لقوله تعالى الذي ورد فيه لفظة الإيمان والإسلام : " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا "؟
جواب الشيخ:
أنا ذكرت هناك من قبل بأن الإسلام والإيمان من حيث المدلول اللغوي مختلفان، فالإسلام يدل على الاستسلام والانقياد، والإيمان يدل على التصديق، ولكنهما من حيث المدلول الشرعي متحدان فهما يدلان على الالتزام بأوامر الله وعلى اجتناب نواهيه سبحانه وتعالى، ولا إشكال في استعمال القرآن الكريم واستعمال السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام الألفاظ في مدلولاتها اللغوية وإن كانت قد نُقِلت شرعاً إلى مدلولات أخرى، كاستعمال الصوم بمعنى مطلق الإمساك مع أن الشارع نقل لفظ ( الصوم ) إلى صومٍ مخصوص..إلى إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والمفطّرات من لدن طلوع الفجر إلى الليل، ولكن قد يأتي لفظ ( الصوم ) في القرآن الكريم بمعنى مطلق الإمساك، ومنه قول الله تبارك وتعالى حكايةً عن مريم عليها السلام : " إني نذرت للرحمن صوماً ". كذلك كلمة ( الكفر ) هي لغةً بمعنى التغطية، كما يقول الشاعر:
( يعلو طريقة متنها متواتراً........في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غمامُها )
فالكافر هو المُغطي، ولكن بما أن الكافر سواءً كان كفره كفراً ملياً أو كان كفره كفر عمل بحيث كان مرتكباً لكبيرة مصراً عليها فكان كافراً كفر نعمة لا يخرجه كفره من ملة الإسلام بحيث إن هذا الكافر يجاحد أو مغطي للحقيقة فيجحد وجود الله تبارك وتعالى إنما هو مغطٍ للحقيقة؛ والذي يعمل بخلاف أمر الله عز وجل هو أيضاً مغطٍ لنعمة الله التي أنعمها عليه والتي تقتضي منه أن يعمل وفق أمر الله عز وجل بسبب ذلك سُمي أيضاً كافراً حسب المدلول الشرعي لهذه الكلمة. ونجد في كتاب الله إطلاق كلمة ( الكافر) على غير هذا الكفر الشرعي، على من لم يكن كافراً كفراً شرعياً، فالله تبارك وتعالى يقول: " يعجب الكفار نباته "، والمراد بالكفّار الزرّاع لأنهم يكفرون البذر أي يغطونه في الأرض. وكذلك الصلاة نُقلت شرعاً إلى هذه الكيفية المخصوصة التي فيها لجوء العبد إلى ربه سبحانه وتعالى وابتغاء مرضاته، مع أن الصلاة لغةً هي بمعنى الدعاء، فالشاعر يقول:
( تقول بنتي وقد قرّبتُ مرتَحَلاً........يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمطي........عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا )...
(1/8)
عليك مثل الذي صليتِ: أي مثل الذي دعوتِ.
والشرع استعمل الصلاة في المدلول اللغوي " يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه "، الصلاة من المؤمنين دعاء للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام " يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً "، فكذلك استعمال الإيمان والإسلام في هاتين اللفظتين فيه التفاتٌ إلى المعنى اللغوي، فمن حيث إن الإيمان الذي هو التصديق..ما دخل في قلوبهم..نُفِي عنهم، ومن حيث إن الإسلام بمعنى الاستسلام هو في الظاهر واقع بحيث إنهم تلبسوا في الظاهر بالاستسلام خاطبهم الله بقوله : " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ".
السائل يقول: هل يصح أن نقول إن الشريعة الإسلامية ناسخة للشرائع السماوية السابقة؟
جواب الشيخ:
نعم، الشريعة التي بُعِث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ناسخة، بل يجب علينا أن نقول ذلك، لأن الشريعة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ناسخةٌ لكل شريعةٍ تقدمتها، والمصدر واحد، فكل هذه الشرائع من عند الله تبارك وتعالى ولكن الشرائع السابقة كانت موقوتة والشريعة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما استقرت على ما هي عليه هي شريعة مستمرة ثابتة.
هذا سؤال غريب، يقول السائل:
لو سأل سائل وقال لماذا لا تصلح الديانتان اليهودية والنصرانية في هذا الزمان فكيف نرد عليه؟
رد الشيخ:
وهل الديانة اليهودية بحسب هذا العرف الذي عرفه اليهود اليوم والنصرانية بحسب مفهوم النصرانية المعروف صلحت في عصرٍ من العصور حتى يقال لماذا لا تصلح في وقتنا هذا؟!! ديانة ليست فيها طاعة لأمر الله، ديانة فيها جَعل أنداد لله تبارك وتعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً "،، فكيف تصلح هذه الديانة في أي عصر من العصور؟!! كيف تصلح ديانة يعتقد المتدين بها أن الله ثالث ثلاثة وأن له شركاء أو يعتقد المتدين بها أن الله تعالى يحسد عباده كما يعتقد اليهود أن الله تعالى حسد عباده على العلم وأنه منع آدم عليه السلام أن يأكل من شجرة العلم لأنه يحسد عباده عن أن يتعلموا شيئاً أو يدركوا شيئاً؟!! ديانة فيها تشبيه لله تبارك وتعالى بمخلوقاته بحيث يعتقدون أن الله يصرَع ويُصرع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً كما يعتقد اليهود أن إسرائيل صرع الخالق تبارك وتعالى ، تعالى الله عن ذلك!! هل هذه الديانة تصلح؟!! هل صلحت لعصرها حتى تصلح لهذا العصر؟!! أنا قلت من قبل أن الديانة الصحيحة التي بُعث بها جميع الرسل ديانة قائمة على عقيدة التوحيد، على عقيدة التنزيه لله تبارك وتعالى، فلم يأت رسولٌ من رسل الله بعقيدة التثليث، ولم يأت رسولٌ من رسل الله تعالى بعقيدة التشبيه.
السائل يقول: تعددت الشرائع السماوية ولم تتعدد الأديان السماوية، فما الأديان الأخرى التي يدل عليها قول الله تعالى : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه "؟
رد الشيخ:
الإنسان بطبيعته أدرك أنه بحاجة إلى ما يسمى ديناً، لأن الإنسان بدون دين يشعر بخواءٍ فكري وفراغٍ روحي فيحاول أن يملأ هذا الفراغ بأي شيءٍ كان، فلذلك أحدث الناس ما أحدثوه من الديانات التي صاغوها من فكرهم المحدود وعقلهم القاصر ونظرتهم المحدودة، فكانت هذه الديانة لا تدل على حقيقة ولا تحل لغزاً من ألغاز هذه الحياة. هذه هي ديانات أيضاً، ولكنها دياناتٌ باطلة، فالزرادشتية دين ..البرهمية دين..كل هذه العبادات وهذه الطقوس التي يصنعها الناس من منطلق تعبدهم حسب ما يعتقدون هي ديانات ولكنها ليست ديانات الحق، هي دياناتٌ باطلة لأنها لا تتفق مع أمر الله سبحانه وتعالى، فمن يبتغ ديناً من هذه الأديان – أي دين من هذه الأديان غير دين الإسلام – فلن يقبل منه. اليهودية أيضا تحريفٌ لدين سماوي..للدين الحق الذي بعث الله به موسى عليه
(1/9)
السلام.. النصرانية هي تحريف للدين الحق..دين التوحيد..دين الإسلام الذي بُعث به عيسى عليه السلام ولكن كان هنالك تحريفٌ وتبديل، فأصبحت ديانات باطلة، فمن يبتغ ديناً من هذه الأديان الباطلة كلها غير دين الإسلام – دين الله تعالى – فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
يقول القائل: ذكرتم أن الإسلام معنيين: معنوى لغوياً وآخر شرعي؛ لماذا لا يكون المعنى اللغوي هو المعنى المراد للإسلام في الشرائع السابقة؟
رد الشيخ:
المعنى اللغوي هو مجرد الانقياد، الإسلام هو مجرد الانقياد، فإذا أسلم أحدٌ لأحد فقد انقاد له، ولكن هل هذا هو المطلوب؟ أو المطلوب أن يكون الإنسان خاضعاً لله سبحانه لا يتلقى إلا عن الله ولا يعمل إلا بأمر الله ولا يحكم إلا بشرع الله؟! هل أي معنىً للإسلام هو المطلوب أو أن المطلوب هو أن يكون الإنسان مسلماً وجهه لله تبارك وتعالى كما قال إبراهيم عليه السلام : " أسلمت لله رب العالمين "؟
السائل يسأل: إذا كان دين كل الرسل هو دين الإسلام، فما مصدر تسمية كل من النصرانية واليهودية إن صحت التسمية؟ وما الدليل على أن النصرانية هي دين الإسلام؟
رد الشيخ:
أنا ما قلت بأن النصرانية هي دين الإسلام، قلت أن النبيين بعثوا بالإسلام " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ". أما تسمية اليهودية والنصرانية فقيل بأن اليهودية سميت يهودية أخذاً من قول موسى عليه السلام : " إنا هدنا إليك " أي ملنا إليك وابتغينا ما أنت تأمر به، من ( هاد ) ( يهود ) بمعنى مال يميل، وقيل هي نسبة إلى ( يهودا ) وهو سبطٌ من أسباط بني إسرائيل، فبنو إسرائيل كانوا يتكونون من اثني عشر سبطاً، ويرى بعض المفسرين المتأخرين أن هذه التسمية وُجدت بعد الانشقاق الذي حصل بين بني إسرائيل أنفسهم بعدما مات سليمان عليه السلام، فانقسمت مملكة إسرائيل إلى مملكتين، مملكة ابنه ( رَحبَعام ) ومملكة غلامه ( يُربعام )، فكثيرٌ من الأسباط مالوا إلى الغلام وسبط ( يهودا ) هو الذي بقي مع الابن فسُمي هؤلاء يهود ثم حصل ما حصل بعد ذلك من الغزو البابلي لهم فأُبيد مَن أُبيد منهم فاجتمعوا جميعاً تحت لواء (يهودا)، وكان ذلك سبب تعديل هذه النسبة إلى أن سُموا ( يهود )، فهذه تسمية الحادثة. ثم أطلقوها على دينهم.
وأما النصرانية فقيل سمي النصارى نصارى لأن المسيح عليه السلام وُلد في قرية ( ناصرة ) على حسب ما يقولون، وقيل بأنهم سموا نصارى لأنهم قالوا له : " نحن أنصار الله "، فهذه التسمية مأخوذة من ( النصر)، ولكن بعد مرور الأيام صارت علماً على هذا الدين الذي مزجوه ببدعهم وضلالاتهم وتحريفاتهم؛ على أن هذا الدين نفسه علينا أن ندرك بأنه متأثر تأثراً كبيراً بعقيدة الروم الوثنية، وقد كتب أحد الكاتبين من النصارى المتأخرين قبل سنوات وصية شهد فيها بهذا، وهو الشاعر العربي النصراني اللبناني المعروف بالشاعر الخوري أو الشاعر القروي، كتب وصية بعدما بلغ من العمر تسعين عاماً سجل فيها هذه الحقيقة؛ جاء في وصيته هذه : (( لقد أثبتت المصارد التأريخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق