الإمام الوارث بن كعب الخروصي لعبد الحميد البطاشي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الإمام الوارث بن كعب الخروصي لعبد الحميد البطاشي

 





الكتاب : الإمام الربيع مكانته ومسنده لـ؟؟
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الكتاب : الإمام الربيع مكانته ومسنده
المقدمة
في تعريف السنة والحديث والخبر والأثر والمحدث وحجية السنة.
1-السنة
أ- السنة لغة:
1- هي الطريق المسلوكة، قال الله تبارك وتعالى: (( قد خلقت من قبلكم سنن فسيروى في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين))(1) .
وأصلها من قولهم: سننت الشيء بالمسن، إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سننا؛ أي طرائق.
وتطلق على السيرة؛ حميدة كانت أو مذمومة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن في الإسلام حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) (2)
__________
(1) سورة آل عمران آية 137.
(2) في هذا الحديث دلالة واضحة جلية على أن ما يأتيه الناس من أقوال أو أفعال بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كله من البدع السيئة كما تزعم الحشوية المجسمة، بل منه ما هو حسن؛ يؤجر قائله وفاعله وإن اختلفت في تسميته بدعة ومنه ما هو سيء يؤثم قائله وفاعله، والحاصل أن جمهور الأمة اتفقوا على أن بعض الأمور الحادثة بعده صلى الله عليه وسلم سواء كانت قولية أو فعلية: منها ما هو حسن يؤجر من فعله أو قاله، ومنها ما هو سيء يؤثم من فعله أو قاله، وإن اختلفوا في إطلاق اسم البدعة عليه، فقيل لا يطلق عليه ذلك، وقيل يسمى بدعة، وقسم هؤلاء البدعة إلى قسمين: بدعة حسنة، وبدعة سيئة، وهذا كما تراه خلاف لفظي ليس تحته كبير معنى.
وما يحتج به الحشوية على أن كل الأمور الحادثة بعده صلى الله عليه وسلم التي لها تعلق بالدين غير جائزة؛ كحديث ((فإن كل محدثة بدعة)) وهو حديث صحيح ثابت؛ لا حجة لهم فيه البتة لأنه عام مخصوص بهذا الحديث ونحوه، أو أنه مجمل مبين بهذا الحديث ونحوه.
(1/1)
ومن المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم قد أحدثوا بعض الأمور التي لم تكن معهودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك كتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين، وكتابة التاريخ، وزيادة الأذان الأول لصلاة الجمعة، وكتابة القرآن، وجمع الناس على مصحف واحد، إلى آخر ذلك، ولم يقل أحد منهم ولا من بعدهم ممن يعبأ بقوله إن هذه الأمور بدع غير جائزة، وقد نص علماء المذاهب ممن يعتبر بأقوالهم على جوازه ومشروعيته، وأنه ليس كل محدث بدعة غير جائزة، ولولا خوف الإطالة لأوردت طائفة منها، ولعلنا نذكر ذلك في مناسبة أخرى- إن شاء الله تعالى- والله ولي التوفيق.
(1/1)
.
رواه مسلم 1017 (70) والنسائي 5/75- 77 والترمذي 2675 وابن ماجة 203 والطيالسي 670 وأحمد 4/357 و 358- 359 وابن حبان 3308 وابن أبي شيبة والطحاوي في " مشكل الآثار" وابن الجعد في مسنده 531 والطبراني 2372 و 2373 و 2374 و 2375 والبيهقي 4/ 175- 176 والبغوي في شرح السنة 1661.
وقول لبيد بن ربيعة:
من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها
وقول خالد بن زهير الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
2- وقيل: أصلها الطريقة المحمودة؛ فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة؛ كقولهم: من سن سنة سيئة، والأول هو المشهور.
3- وقيل: معناها الدوام، فقولنا: (سنة) معناه: أمر بإدامته، من قولهم سننت الماء؛ إذا واليت في صبه.
ب- وفي اصطلاح المحدثين:
ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية أو سيرة، وقيل: إن الصفات الخلقية والخُلقية لا تدخل في ذلك، والخلاف لفظي(1).
ج- وفي اصطلاح الأصوليين:
ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، وأريد به إثبات حكم شرعي أو نفيه.
والصواب أن يقال ما يثبت؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بغير الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - .
د- وفي اصطلاح الفقهاء:
(1/2)
ما في فعله ثواب، وفي تركه عتاب لا عقاب.
2-الحديث
أ- الحديث لغة:
يأتي بمعاني كثيرة من بينها ما يلي:
الحديث من الأشياء؛ أي نقيض القديم.
ما يحدث به المحدث.
كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه.
ب- واصطلاحها:
1- ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية، فهو بهذا مرادف للسنة.
__________
(1) وتحقيق القول في ذلك، لأنه لا يمكن لأن يقال إن الصفات الخلقية مطلقا لا تدخل في السنة يطول به المقام والبحث لم يوضع لمثل ذلك، وإنما ذكرنا هذه المصطلحات من باب التوطئة لغيرها.
(1/2)
2- وقيل: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابي والتابعي من قول أو فعل....الخ.
وقيل غير ذلك.
3-الخبر
لغة:
النبأ.
اصطلاحا:
فيه مذاهب كثيرة وهي:
هو مرادف الحديث - أي أن معناهما واحد اصطلاحا -: وهو ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير....الخ.
مغاير له: فالحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخبر ما جاء غيره.
أعم منه: أي أن الحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخبر ما جاء عنه أو عن غيره من صحابي أو تابعي، وهو بهذا مرادف للحديث على التعريف الثاني للحديث. وقيل غير ذلك.
4-الأثر
أ- لغة:
بقية الشيء.
ب- اصطلاحا:
فيه أقوال وهي:
هو مرادف للحديث - أي أن معناهما واد اصطلاحا - : وهو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير ...الخ. وهو المراد بقولهم: لا حظ للنظر مع وجود الأثر.
هو مرادف للحديث على التعريف الثاني للحديث: وهو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى الصحابي أو التابعي.
مغاير له: وهو ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي أو إلى عالم من العلماء السابقين، وهو المشهور في عصرنا هذا. وقيل غير ذلك.
5-المحدث
(1/3)
هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها وعللها إلى غير ذلك مما له تعلق بهذا الفن الشريف.
وقيل: من يحفظ ألف حديث فصاعدا، وقيل: من يحفظ عشرة آلاف حديث، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من ذلك، والله أعلم.
6-حجية السنة
السنة حجة شرعية باتفاق المسلمين، على خلاف بينهم في بعض الشروط التي يجب توافرها فيها، والأدلة على ذلك كثيرة جدا، من ذلك قول الله سبحانه: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))(1).
__________
(1) سورة النساء آية 59.
(1/3)
وقوله تعالى: ((وما كنا لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسول أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)) (1).
وقوله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) (2).
وقوله تعالى: ((ومن يطع الرسول فقد أطاع الله))(3).
وقوله تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا))(4).
وقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم))(5).
وقوله تعالى: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون))(6).
وقوله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما))(7).
وقوله تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(8).
وقوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))(9).
(1/4)
وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكثير الطيب من الأحاديث الدالة على حجية السنة؛ لا نطيل المقام بذكرها. وقد أجمعت على ذلك الأمة الإسلامية(10)
__________
(1) سورة الأحزاب آية 36.
(2) سورة النور 63.
(3) سورة النساء آية 80.
(4) سورة النساء 69.
(5) سورة الحجرات آية 1.
(6) سورة النور آية 51.
(7) سورة النساء آية 65.
(8) سورة الحشر آية 7.
(9) سورة آل عمران آية 31.
(10) ومنهم الإباضية أهل الحق والاستقامة، ومن نسب إليهم خلاف ذلك فقد كذب عليهم، وإن شئت أن تتحقق من ذلك فارجع إلى كتبهم، وهي كثيرةجدا، والحمد لله. واسمع إلى الإمام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى حيث قال:
--والأصل للفقه كتاب الباري ** إجماع بعد سنة المختار
والاجتهاد عند هذي منعا ** وهالك من كان فيها مبدعا
- حد أصول الفقه علم يقتدر ** به على استنباط أحكام السور
وسنة الرسول والإجماع ** كذلك القياس مع نزاع
- نقدم الحديث مهما جاء ** على قياسنا ولا مراء
- حسبك أن تتبع المختارا ** وإن يقولوا خالف الآثارا
- ولا تناظر بكتاب الله ** ولا كلام المصطفى الأواه =
= معناه لا تجعل له نظيرا ** ولو يكون عالما خبيرا
- فقولهم عند وجود الأثر ** لا حظ فيه أبدا للنظر
معناه ما أتى عن المختار ** ينفي خلافه من الأنظار
- إذ ليس ما قيل جميعا يقبل ** إلا الذي عن النبي ينقل
- أو كان أصله من الكتاب ** ينزعه فهم أولي الألباب
- لا نقبل الخلاف فيما وردا ** فيه عن المختار نص أبدا
(1/5)
نعم لا نرى الاحتجاج بأخبار الآحاد في مسائل العقيدة، وهذا القول لم ننفرد به، بل وافقنا على ذلك جمهور الأمة، كما حكاه عنهم الإمام النووي في شرح مسلم وفي التقريب وفي الإرشاد، وإمام الحرمين في البرهان، والغزالي في المستصفى، والسعد في التلويح، وابن عبد البر في التمهيد، وابن قدامة في الروضة، وابن السبكي في جمع الجوامع، وابن عبد الشكور في مسلم الثبوت، وغيرهم، كما أوضحته في "السيف الحاد" وهو مذهب أحمد بن حنبل على الصحيح وطائفة كبيرة من أصحابه، فانظر إن شئت أن تتحقق من ذلك الكتاب الآنف الذكر. وفي ذلك يقول ابن تيمية في منهاج سنته 1/133:( الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به).
ونص قريب من ذلك في "نقد مراتب الإجماع"، ونص على ذلك أيضا السفاريني الحنبلي، حيث قال في "لوائح الأنوار السنية" 1/ 149- 150 ، و "لوامع الأنوار" 1/ 5: (وأما تعريفه – يعني علم التوحيد – فهو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أي العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية، والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد - صلى الله عليه وسلم - من السمعيات وغيرها، سواء كانت من الدين في الواقع ككلام أهل الحق، أو لا ككلام أهل البدع، واعتبروا في أدلتها اليقين لعدم الاعتداد بالظن في الاعتقاديات)اهـ.
فماذا تقول الحشوية في مثل هذا الكلام ونحوه؟؟.
وانظر أدلة هذا القول في "السف الحاد" وأضف إلى ما هناك: كثرة الرواية بالمعنى من كثير من المحدثين، بل من أكثرهم، والرواية بالمعنى لا يؤمن معها من الغلط، ولا سيما إذا نظرنا إلى أن كثيرا من الرواة ليس عنده كبير فقه، بل بعضهم من الأميين وأشباههم، وبعضهم من الأعاجم الذين لا معرفة لهم بلغة العرب.
(1/6)
أضف إلى ذلك أن الخلاف في هذه المسائل قد وجد منذ أوائل القرن الثاني، ومن اعتقد شيئا يمكن أن يعبر عما دل عليه بعض الأحاديث على حسب ظنه بعبارة قد يفهم غيره الحديث بخلافها، بل قد يكون اللفظ الحقيقي للحديث لا يدل على ذلك من قريب ولا من بعيد.
هذا ومن أوضح الأدلة التي ذكرتها في "السف الحاد" على أن الحديث لا يستدل به في مسائل العقيدة الأمران الآتيان: 1- أن التصحيح والتضعيف والحكم بالوضع ونحوها أمور ظنية، وما دام الأمر كذلك فلا يمكن أن يقطع بثبوت حديث آحادي.
2- أن العلماء جعلوا خبر الثقة الضابط من باب الخبر المظنون صدقه، ومعنى ذلك أنه لا يمكن القطع بثبوت روايته، والله أعلم.
- هذا وقد أوجبنا في الرسالة المذكورة على أدلة القائلين إن أخبار الآحاد تفيد القطع، وأضيف إلى ما هناك: أن أغلب تلك الأدلة نفسها من أخبار الآحاد، فكيف يمكن أن يستدل بخبر آحادي على أن الأخبار الآحادية تفيد القطع؟ مع أننا لا نقطع بثبوت تلك الأدلة نفسها.
وأما ما استدلوا به من الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة: فمنها ما هو عام الدلالة، ومنها ما لا يستفاد منه ذلك إلا من باب دلالة المفهوم، والعام دلالته على أراده ظنية، وكذا عند القائلين بالاستدلال به، وهذا مما لا يمكن الاستناد إليه في مثل هذه المسألة، على أن تلك الأدلة مخصصة بما ذكرناه.
(1/7)
ثم إن ما استدلوا به من بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - للرسل لا دليل فيه أصلا، لأن أولئك الرسل لم يكونوا يبلغون الناس شيئا من أمثال هذه المسائل المتداولة في عصرنا، كمسألة الرؤية، والخلود، والشفاعة، ونحوها، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل، وإنما غاية ما كانوا يبلغونهم إياه وجوب إفراد الله بالعبادة، وأنه لا إله إلا هو وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول من عنده، وهذا ثابت بالتواتر القطعي، بل هو معلوم من الدين بالضرورة، وانظر الرسالة المذكورة، وكذا كانوا يعلمونهم المسائل العلمية، ولا نزاع أنها تثبت بأخبار الآحاد، والله أعلم.
(1/4)
؛ إذ لم يخالف عليها أحد في ذلك، فلا حاجة لإطالة الكلام في هذه المسألة.
هذا وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن السنة تأتي تارة مخصصة لعموم الكتاب ومقيدة لمطلقاته ومفصلة لمجملاته، وتأتي تارة أخرى دالة على بعض الأحكام التي يتعرض لها الكتاب العزيز، وهذا هو الحق الذي دلت عليه الأدلة، ولم يأت من قال بخلاف ذلك بما يستحق الذكر. ((ونظرا لهذه الأهمية البالغة للسنة المطهرة هيأ الله لها رجالا أعلاما ورواة أئمة قاموا بحفظها وروايتها كابرا عن كابر في مراتب يدركها العلماء الذين يعرفون قيم الرجال ومنازلهم وأقدارهم)).
((هؤلاء الرجال الذين كانوا يقطعون الفيافي والقفار، يبحثون عن حديث سمعوا أنه عند فلان أو فلان في ذلك المكان القصي من الأرض، في وقت لم تعرف فيه الرفاهية في المركب؛ وإنما كانت أسفارهم قطعة من العذاب، ولقد سجلوا بهذه الجهود المضنية أسفارا ضمنوها السنة الغراء على صاحبها أفضل الصلاة والسلام)). ومن بين هؤلاء العلماء الأعلام الإمام الحافظ الحجة الربيع بن حبيب رضي الله عنه وأرضاه.
- - ? -
حياة الإمام الربيع رحمه الله تعالى، ويتضمن:
تعريفه
كنيته
نسبه
تاريخ مولده
مكان ولادته
نشأته
تحول الإمام الربيع رحمه الله من عمان إلى البصرة
طلبه للعلم
وفاته
- - ? -
(1/8)
- في حياة الإمام الربيع رحمه الله تعالى -
تعريفه:
هو الإمام الكبير المحدث الشهير الحافظ المتقن الحجة الربيع بن حبيب بن عمرو بن الربيع بن راشد بن عمرو الفراهيدي العماني البصري - رضي الله عنه - (1).
كنيته:
أبو عمرو.
نسبه:
__________
(1) شرح الجامع الصحيح للإمام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى ج1 ص3 ، ورسالة لشيخنا الخليلي- حفظه الله – حول المسند.
(1/5)
ينتسب الإمام الربيع رحمه الله تعالى إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عدنان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبدالله بن مالك بن نضر بن الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ابن هود النبي - عليه الصلاة والسلام-(1).
تاريخ مولده:
لم أجد تاريخا محددا لمولده - رضي الله عنه - وقد اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته، والذي يظهر لي أنه ولد في النصف الثاني من العقد الثامن من القرن الأول، أي بين سنتي 75- 80 هـ.
والدليل على ذلك: ما ذكره الإمام محمد بن محبوب - رحمهما الله تعالى - أن الإمام الربيع رحمه الله تعالى أدرك الإمام جابرا - رضي الله عنه - والربيع شاب، ومن المعلوم أم الإمام جابر - رضي الله عنه - قد توفي في سنة 93هـ على أشهر الأقوال وأصحها، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى- والله أعلم.
مكان ولادته:
ولد الإمام الربيع رحمه الله تعالى بعمان في منطقة الباطنة على السهل الساحلي بمنطقة غضفان التابعة لولاية لوى.
(قال أبو عبدالله رحمه الله تعالى: الربيع من فراهيد من غضفان من عمان)(2).
وأبو عبدالله هذا هو: محمد بن محبوب بن الرحيل، أخذ العلم عن أبيه، وأبوه من جملة تلامذة الإمام الربيع المشهورين - كما سيأتي- فهو أدرى الناس بحال الإمام الربيع رحمه الله تعالى.
(1/9)
ويؤيد ذلك: أن الإمام الربيع رحمه الله تعالى عندما عاد إلى عمان في آخر حياته سكن غضفان حتى توفي بها، وقد جاء في بعض الآثار أنه رجع إلى بلده وسكن بها.
وقيل: ولد بودام، ولم أجد دليلا على ذلك.
__________
(1) تحفة الأعيان للإمام السالمي رحمه الله تعالى ج1 ص20، وإسعاف الأعيان بنسب أهل عمان للشيخ سالم بن حمود السيابي ص92.
(2) شرح المسند للإمام السالمي رحمه الله تعالى ج1 ص4.
(1/6)
وذكر الإمام السالمي رحمه الله تعالى رواية عن بعضهم تفيد: أن الإمام الربيع رحمه الله تعالى ولد في البصرة، ثم انتقل إلى عمان وسكن بغضفان من أهل الباطنة(1)، وهذه الرواية ضعيفة جدا، لا أعرف لها مستندا، إلا أن يكون قائل ذلك أخذ ذلك من نسبة الإمام الربيع رحمه الله تعالى إلى البصرة، ولا يخفى أن هذا لا دليل فيه البتة، فإن هناك طائفة كبيرة من المحدثين قد نُسبوا إلى أماكن لم يولدوا بها؛ كما لا يخفى من تتبع كتب الرجال والتاريخ.
نشأته:
نشأ الإمام الربيع رحمه الله تعالى في عمان مسقط رأسه وموطن آبائه وأجداده، وبها أمضى طفولته فيما يظهر، ثم سافر إلى البصرة؛ حيث كانت تغص بفطاحل الرجال من محدثين وفقهاء وغيرهم، وفي مقدمتهم الإمام الكبير جابر بن زيد التابعي الجليل رضي الله عنه الذي تتلمذ على يديه والد الربيع الشيخ حبيب بن عمرو الفراهيدي رضي الله عنه.
تحول الإمام الربيع رحمه الله من عمان إلى البصرة:
لم أجد في شيء من الكتب التاريخية التي تحدثت عن حياة الإمام الربيع رحمه الله تعالى دليلا يعين السنة التي سافر فيها رحمه الله تعالى إلى البصرة، والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن رحلته كانت في سنة اثنتين وتسعين أو ثلاث وتسعين؛ بعد أن تلقى علمه الأول في موطنه عمان على يد والده حبيب؛ الذي كان تلميذا للإمام جابر بن زيد رحمه الله.
__________
(1) نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
(1/7)
(1/10)
والدليل على اختيارنا هذا: هو قلة رواية الربيع رخمه الله تعالى عن الإمام جابر بن زيد رضي الله عنه وعدم روايته مباشرة عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه الذي كان موجودا بالبصرة؛ بل لم نجد ما يمكن الاستناد إليه في ثبوت رؤية الإمام الربيع رحمه الله تعالى لأنس رضي الله عنه؛ أنه رحمه الله رحل إلى البصرة قبل هذا التاريخ لأكثر من الرواية عنهما؛ لما علم من مزية علو الإسناد، فلا يعقل أن يترك الربيع رحمه الله تعالى ذلك مع ما عرف عنه من الهمة العالية في تحصيل العلم، والله أعلم.
هذا وقد سكن الربيع رحمه الله تعالى في البصرة بمنطقة الخريبية(1) التي كان يسكنها قومه الأزد، والله أعلم.
طلبه للعلم:
أ- في عمان:
لم نجد في المصادر التي بين أيدينا نصا صريحا يكشف لنا عن أول أمره، وكيفية توجهه إلى طلب العلم، وهل كان ذلك باعتناء والده أو أحد أقاربه أو أحد أبناء أسرته أو لا؟ وما مدى علم مشايخه الذين أخذ عنهم؟
والذي يظهر لنا: أنه لم يأخذ الحديث عن أحد في عمان، بدليل أنه لم يرو عن أحد منهم؛ لا في المسند ولا خارجه - على إطلاعنا – ولعله درس في عمان العلوم الابتدائية؛ كبعض المسائل العقائدية والفقهية بالإضافة إلى قراءة القرآن الكريم، والله تعالى أعلم.
ب- في البصرة:
قلنا - فيما سبق – إن الإمام الربيع رحمه الله تعالى رحل إلى البصرة في ريعان شبابه، وقد التقى هناك بجماعة كبيرة من التابعين وأتباع التابعين، وفي مقدمتهم الإمام الحجة المحدث البارع علم الحفاظ جابر بن زيد رحمه الله تعالى وتلميذه الإمام المحدث الحافظ الحجة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة رحمه الله تعالى وقد أخذ عنهما وعن غيرهما علوم التفسير والحديث والفقه، وقد برع فيها جميعا، ولاسيما الحديث والفقه؛ فإنه أحرز فيهما قصبات السبق؛ بحيث صار أعلم أهل زمانه بعد وفاة شيخه الإمام أبي عبيدة رحمه الله تعالى.
__________
(
(1/11)
1) منهج الطالبين للشيخ خميس الشقصي ج1 ص 628.
(1/8)
وفاته:
انتقل الإمام الربيع رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه إلى جوار ربه تبارك وتعالى بعد جهاد كبير وكفاح مرير خاضهما دفاعا عن الإسلام وانتصارا للحق وإعلاء لكلمة الله تعالى، فتخرج على يديه أفواج من طلاب العلم؛ الذين صاروا بعد ذلك أئمة أناروا بقعة شاسعة من العالم الإسلامي بعلمهم الغزير؛ كما ترك رحمه الله تعالى المسند الصحيح؛ الذي هو من حيث الجملة أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
إلا أننا لم نجد رواية تدل على السنة التي توفي فيها هذا الإمام - رضوان الله تعالى عليه - وقد اختلف الباحثون في ذلك، والذي عندي أنه توفي بين سنتي 175- 180هـ تقريبا، بدليل أن الإمام عبد الوهاب بن عبد الحمن الرستمي - رضوان الله عليهما - قد تولى الخلافة في المغرب سنة 171هـ، وأن هذا الإمام رحمه الله تعالى قد بعث برسالة إلى الإمام الربيع رحمه الله تعالى بعد ذلك بمدة يسيرة؛ يستفتيه فيها بخصوص ما ادعاه ابن فندين الزائغ أحد المتمردين على الإمام عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم بعث إليه الإمام عبد الوهاب بسؤال آخر بعدما استقرت الأوضاع واستتب الأمن، وكانت هذه الفتوى تتعلق بجواز الإنابة في الحج، ولا يخفى أن هذه المراسلات تحتاج إلى مدة طويلة بالنظر إلى ذلك العصر.
فإذا نظرنا إلى هذا وما وقع من الحروب بين الإمام وابن فندين؛ علمنا أن ذلك يحتاج إلى مدة لا تقل عن أربع سنوات تقريبا، وقد ثبت أن موسى بن أبي جابر رحمه الله تعالى قد صلى على الإمام الربيع رحمه الله تعالى ومن المعلوم أن موسى رحمه الله تعالى قد توفي عام 181هـ(1) وبذلك تعرف صواب ما قلناه، والحمد لله رب حق حمده.
هذا وقد كانت وفاة الإمام الربيع رحمه الله تعالى بموطنه الأصلي غضفان؛ حيث إنه رجع إليها رحمه الله تعالى في آخر حياته؛ كما تقدم نقله عن الإمام ابن محبوب - رحمهما الله تعالى -(2) والله تعالى أعلم.
- - ? -
(1/12)
__________
(1) الربيع بن حبيب محدثا ص263.
(2) تقدم ذكره.
(1/9)
شيوخ الإمام الربيع رحمه الله وتلامذته وآثاره:
شيوخ الإمام الربيع رحمه الله تعالى:
الإمام جابر بن زيد الأزدي.
أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي بالولاء.
ضمام بن السائب.
أبو نوح صالح الدهان.
تلامذة الإمام الربيع رحمه الله تعالى.
آثار الإمام الربيع رحمه الله تعالى.
- - -
- شيوخ الإمام الربيع رحمه الله وتلامذته وآثاره -
لقد أخذ الإمام الربيع رحمه الله تعالى العلم عن جماعة كبيرة من العلماء من التابعين وأتباعهم، وقد أوصلهم بعض المؤرخين إلى ما يزيد على ثلاثين عالما؛ إلا أنني أكتفي هنا بذكر أربعة منهم فقط، وهم:
جابر بن زيد الأزدي العماني - رضي الله عنه - .
أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي - رضي الله عنه - .
ضمام بن السائب رحمه الله تعالى .
أبو نوح صالح بن نوح الدهان رحمه الله تعالى .
وذلك لما كان لهؤلاء الأئمة من تأثير كبير في تكوينه العلمي والفكري والاجتماعي والسياسي، ولما لهم من منزلة عظيمة في الفقه والحديث وغيرهما من العلوم.
- ? - ? -
هو الإمام الحافظ الحجة المتقن جابر بن زيد الجوفي البصري، من قبيلة اليحمد العمانية، كان مولده في بلدة فرق لولاية نزوى في المنطقة الداخلية من عمان، وقد اختلف في سنة ميلاده، فقيل: إنه ولد سنة 18هـ(1)، وقيل: سنة 21هـ، وقيل: سنة 22هـ في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وقد تلقى المرحلة الأولى من تعلمه في وطنه الأصلي عمان، ثم ارتحل مع أسرته إلى البصرة؛ التي كانت في ذلك الوقت أهم مركز علمي، واستقر بين أقاربه من الأزد؛ الذين سكنوا أحد أحياء البصرة.
__________
(1) الجواهر المنتقاة للبرادي ص155.
(1/10)
(1/13)
ولم أجد تاريخا لهذه الرحلة، والظاهر أنها كانت في مرحلة مبكرة من حياته - رضي الله عنه - وقد تتلمذ على يد جماعة كبيرة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار التابعين؛ منهم: ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وعائشة أم المؤمنين والحكم بن عمرو الغفاري وغيرهم.
وقد أخذ عنه جماعة من التابعين وأتباع التابعين؛ منهم: أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة وضمام بن السائب وأبو نوح صالح الدهان وجعفر بن السماك وقتادة وعمرو بن دينار ويعلى بن مسلم وأيوب السختياني وعمرو بن هرم وآخرون(1).
وقد أثنى عليه جمع من العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم، قال عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس: ( لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما من كتاب الله )، وقال ابن عباس أيضا: ( تسألوني وفيكم جابر بن زيد )(2).
وفي الطبقات(3) ذكر أبو طالب مكي في كتاب " قوت القلوب" أن ابن عباس قال: ( اسألوا جابر بن زيد، فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علما )، وعن إياس بن معاوية قال: ( لقد رأيت البصرة وما بها مفت غير جابر بن زيد )، وعن الحصين بن حيان أنه قال: ( لما مات جابر بن زيد بلغ موته أنس بن مالك فقال: مات أعلم من على ظهر الأرض، أو قال: مات خير أهل الأرض ) وعن ابن عباس أيضا أنه قال: ( جابر بن زيد أعلم الناس )، وعنه أنه كان يقول: ( عجبا لأهل العراق كيف يحتاجون إلينا وعندهم جابر بن زيد؛ لو قصدوا نحوه لوسعهم علمه ).
__________
(1) تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ج2 ص34 وغيره.
(2) تهذيب التهذيب ج2 ص34.
(3) الطبقات للدرجيني ج2 ص205.
(1/11)
(1/14)
وفي تاريخ البخاري(1): عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: ( جابر إنك من فقهاء أهل البصرة )، وفي كتاب "الزهد" لأحمد: لما مات جابر بن زيد قال قتادة: ( اليوم مات أعلم أهل العراق )، وقال العجلي: " تابعي ثقة "، قال لبن معين وأبو رزعة: " ثقة "، وقال ابن حبام في الثقات: (كان فقيها، ودفن هو وأنس ابن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله )(2).
وقال أو العباس الدرجيني(3): ( منهم - أي الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم - جابر بن زيد رحمه الله تعالى بحر العلوم العجاج، وسراج التقوى ناهيك به من سراج، أصل المذهب وأسه الذي قام عليه نظامه، ومنار الدين ومن انتصبت به أعلامه، صاحب ابن عباس - رضي الله عنه - وكان من أمهر من صحبه وقرأ عليه، والمقدم ممن يشار في الفتيا إليه ) ثم ذكر بعض الآثار التي ذكرناها، ثم قال: ( وله آثار كثيرة مذكورة وكرامات ومقامات في العلم تعلو المقامات) 1هـ.
وقال البدر الشماخي رحمه الله تعالى(4): ( ومنهم جابر بن زيد الأزدي رحمه الله تعالى بحر العلم وسراج الدين، أصل المذهب وأسه الذي قامت عليه آطامه، صاحب ابن عباس - رضي الله عنه - وكان من أشهر من صحبه وقرأ عليه ).
توفي - رضي الله عنه - سنة 93هـ على الصحيح، وهو قول أبي عبيدة(5) أحمد بن حنبل والبخاري. وقال ابن سعد سنة 103هـ. وقال الهيثم بن عدي سنة 104هـ(6). وفي آخر عمره نفاه الحجاج مع هبيرة - جد أبي سفيان محبوب بن الرحيل - إلى عمان، ثم رجع إلى البصرة وتوفي بها؛ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه وجعل الجنة مستقره ومثواه، آمين.
- - ? -
__________
(1) التاريخ الكبير ج1 قسم2 ص204.
(2) تهذيب التهذيب ج2 ص34.
(3) الطبقات ج2 ص205.
(4) السير للبدر الشماخي ج1 ص67.
(5) الجامع الصحيح ص193.
(6) التهذيب ج2 ص34..
(1/12)
(1/15)
هو الإمام الكبير المحدث الحافظ الثقة الثبت الزاهد المجاهد أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي - بالولاء - كان مولى لعروة بن أدية التميمي، وقيل إن اسم أبيه كورين، وكني بابنته عبيدة، التي كانت لها أخبار وآثار تتعلق بالنساء ترويها عن أبيها رحمه الله تعالى، وقد اختلف في لأصله، فقيل: حبشي، وقيل: فارسي، وقيل: كردي(1).
مولده:
ولد بالبصرة سنة 45هـ أو بعدها بقليل، والأدلة على ذلك ما يلي:
حضوره مجلسا لأبي بلال - رضي الله عنه - قبل خروج طواف بن المعلى عام 58هـ.(2)
أنه كان مولى لعروة، وعروة استشهد عام 58هـ(3) على يد الفاسق ابن زياد، وقبل عام 61هـ.(4)
روايته عن جماعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن ماتوا بين الستين والسبعين؛ بل قيل: إنه روى عن السيدة عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما – وهما ماتا عام 58ه، على المشهور.
نشأته:
نشأ - رضي الله عنه - في مدينة البصرة، وقد كانت يومئذ مدينة العلم والفضل والحضارة احتضنت فطاحل العلماء في كل فن، وقد نزلها جملة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وكان الناس يشدون الرحال إليها لرواية الحديث ودراسة الفقه والتفسير ومختلف العلوم.
وفي هذا الأفق العلمي شب أبو عبيدة رحمه الله تعالى ونشأ وترعرع، وفيه تفقه وأخذ كثير من فطاحل العلماء وفحول الرجال ولازمهم، ودأب في طلب العلم؛ لاسيما الحديث والفقه فقد تفنن فيهما وبرع وفاق فيهما أهل عصره أو أغلبهم.
__________
(1) ذكر ذلك شيخنا علامة العصر ومفخرته الحافظ المحقق أحمد الخليلي حفظه الله في رسالة له حول المسند.
(2) نشأة الحركة الإباضية للدكتور عوض خليفات ص68.
(3) الكامل لابن الأثير ج4 ص95.
(4) الطبقات ج2 ص232.
(1/13)
(1/16)
وقد عاش رحمه الله تعالى في مبدأ أمره في كنف شيخه ومولاه عروة بن أدية رحمه الله تعالى فورث عته شجاعته وزهده وتقواه، ثم انتقل إلى الإمام جابر بن زيد رحمه الله تعالى فأخذ عنه الحديث والفقه والسياسة؛ ثم خلفه بعد وفاته في رئاسة المذهب، فدرس الطلبة وأرسلهم إلى البلدان الشاسعة لتعليم أهلها ولإقامة العدل فيها متى أمكن ذلك، وناظر المخالفين فأقام عليهم الحجة، وأوضح لهم المحجة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء.
شيوخه:
أخذ الإمام أبو عبيدة العلم عن جماعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما رواه الإمام الربيع رحمه الله تعالى عنه أنه قال: سمعت ناسا من الصحابة يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حكم بين اثنين فكأنما ذبح نفسه بغير سكين ))(1).
وفي حديث آخر قال أبو عبيدة: سمعت ناسا من الصحابة يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( الذنوب على وجهين: ذنب بين العبد وربه، وذنب بين العبد وصاحبه.... الحديث ))(2).
__________
(1) الجامع الصحيح ج2 ص157 حديث رقم 590.
(2) المصدر السابق ج1 ص181 حديث رقم691.
(1/14)
(1/17)
وعن جماعة من التابعين: كجابر بن زيد والحسن البصري وابن سيرين ومجاهد وضمام بن السائب وأبي نوح الدهان وجعفر بن السماك؛ الذي قال عنه الدرجيني رحمه الله تعالى: ( شيخ الصيانة والنزاهة، وركن الديانة والفقاهة، المحافظ على طريق الصديقين، والمطرح في حرمة الخالق حرمة المخلوقين، الآتي بيت الصلاح من بابه إلا فيما ليس باللائق بأضرابه، له الكعب العالي في أهل زمانه، والتقدم في فضله ومكانه، قال أبو سفيان: وكان شيخ أبي عبيدة، وكان ما حفظ عنه أبو عبيدة أكثر مما حفظ عن جابر )(1). وأخذ أبو عبيدة أيضا عن صحار العبدي، الذي قال عنه الدرجيني رحمه الله تعالى ( ذو المآثر الأثيرة، ومن كان يدعو إلى الله على بصيرة، حمل فقها جزيلا، وكان باعه في العقائد طويلا، وكان أحد الزهاد، وأحد الزاهدين عن معتقد فاسدي الاعتقاد )(2) وقد عده غير واحد من العلماء من الصحابة(3).
تلاميذه:
__________
(1) الطبقات ج2 ص232.
(2) نفس المصدر ج2 ص232.
(3) الطبقات لابن سعد ج5 ص562، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج2 ص272، وفقه الإمام أبي عبيدة لشيخنا الفاضل سعيد بن عبدالله العبري حفظه الله تعالى ص45.
(1/15)
(1/18)
لقد أخذ العلم عن أبي عبيدة رحمه الله تعالى خلق كثير لا يحصى عددهم؛ منهم: ضمام بن السائب والربيع بن حبيب وسلمة بن سعد و عبدالله بن يحيى الكندي الإمام العادل وأبو أيوب وائل الحضرمي وأبو المهاجر الحضرمي وأبو المؤرج وأبو حمزة المختار بن عوف وأبرهة بن الصباح الحميري و عبدالله بن خيران وأسد بن كثير وأبو سفيان محبوب بن الحيل القرشي وبلج بن عقبة الفراهيدي والجلندى بن مسعود الإمام العادل والفضل بن جندب ويحيى بن نجيح و عبدالرحمن بن رستم الفارسي الإمام العادل وعاصم السدراتي وأبو داود القبلي النفزاوي وإسماعيل بن دردار الغدامسي ومحمد بن عبد الحميد النفوسي وأبو الخطاب عبد الأعلى ابن السمح المعافري الخليفة الراشد وأبو غسان مخلد بن العمرد الغساني وخلف ابن زياد البحراني والمعتمر بن عمارة الهلالي و عبد السلام بن عبد القدوس والمثنى ابن المعروف وحيان بن حاجب وسهل بن صالح وقرة بن عمر و عبدالله بن عبد العزيز وشعيب بن المعروف وابن عباد عبدالله بن عباد المصري وآخرون(1).
عدالته وثناء العلماء عليه:
لقد كان أبو عبيدة رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه ثقة حافظا ضابطا ورعا زاهدا تقيا نقيا، وقد أثنى عله جمع من العلماء، ووصفوه بما ذكرنا وزيادة.
قال العلامة الدرجيني رحمه الله تعالى: ( كبير تلامذة جابر، وممن حسنت أخباره والمخابر، تعلم العلوم وعلمها، ورتب الأحاديث وأحكمها، وحافظ في خفية على الدين؛ حتى ظهر على يده الخمسة الميامين، حسب ما تقدم ذكر دراستهم وحملهم العلوم وما شفى الله به وبهم من الكلوم، كان عالما مع الزهد في الدنيا، والتواضع مع نيل الدرجات والاعتراف بضيق الباع؛ مع ما عليه من اتساع )(2).
__________
(1) فقه الإمام أبي عبيدة ص45 وص46، وشرح الجامع الصحيح ج1 ص4.
(2) الطبقات ج2 ص238.
(1/16)
(1/19)
وقال البدر الشماخي رحمه الله تعالى: ( تعلم العلوم وعلمها، ورتب روايات الحديث وأحكمها، وهو الذي يشار إليه بالأصابع بين أقرانه، ويزدحم لاستماع ما يقرع الأسماع من زواجر وعظه، وقد اعترف له بحوز قصب السبق في العلوم؛ واعترف مع ذلك بقصر الباع؛ مع ما عليه من الاتساع)(1).
وقال القطب رحمه الله تعالى: ( كان رجلا ذا علم ووعظ نافذ وفقه وحديث )(2).
والنقول في ذلك كثيرة لا نطيل المقام بذكرها.
وقد سأل أحمد بن حنبل يحيى بن معين -إمام الجرح والتعديل- عن أبي عبيدة رحمه الله تعالى حيث قال له: ( شيخ حدث عنه معتمر يقال به أبو عبيدة عن ضمام عن جابر بن زيد: كره أن يأكل متكئا، من أبو عبيدة هذا؟ قال: رجل روى عنه معتمر ليس به بأس، قلت: من حدث عنه غير المعتمر؟ قال: البصريون يحدثون عنه، وسأل أحمد بن حنبل عن عمارة بن حيان، فقال يحيى بن معين: رجل روى عنه أبو عبيدة؛ هذا من أصحاب جابر بن زيد وقد حدث أبو عبيدة عن صالح الدهان )(3).
فهل خفي هذا المعترض الآتي ذكره؛ مع أنه موجود في جزء الفهارس ص82 حيث قال صاحب الفهارس: أبو عبيدة الذي حدث عنه معتمر وحدث عن ضمام ليس به بأس، أو أنه تجاهل ذلك؟!
إذا كنت لا تدري... ** وإن كنت تدري...
هذا ومن المعلوم أن ابن معين من المتشددين في الجرح والتعديل؛ كما نص على ذلك الذهبي وغيره، وأن قوله: " لا بأس به " هو بمنزلة قوله " ثقة " على ما ذهب إليه كثير من أئمة الحديث.
قال العراقي في ألفيته؛ عند ذكره لمراتب الجرح والتعديل:
وابن معين من أقول لا ** بأس به فثقة.....الخ(4)
__________
(1) السير للبدر الشماخي ج1 ص78.
(2) شرح عقيدة التوحيد ص95.
(3) كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل ج3 ص11- 12 ترجمة رقم 3922.
(4) ألفية العراقي بشرح السخاوي ج1 ص361.
(1/17)
(1/20)
قال السخاوي في شرحه عليه: ( وابن معين هو يحيى الإمام المقدم في الجرح والتعديل؛ سوى بينهما - أي ثقة ولا بأس به - إذ قيل له : إنك تقول " فلان لا بأس به " و " فلان ضعيف " قال من أقول فيه " لا بأس به فثقة " )اهـ(1) المراد منه.
كما أنه من المعلوم أن الجرح والتعديل يكتفى فيهما بواحد على الصحيح؛ كما هو مذهب المحققين من المحدثين والأصوليين، قال السيوطي في ألفيته:
واثنان إن زكاه عدل والأصح ** إن عدل الواحد يكفي أو جرح(2)
وقال الصنعاني:
ويكتفى في الجرح والتعديل ** من واحد ولو بلا تفصيل(3)
فإذا عرفت ذلك تبين لك أن ما ذكره المعترض عن أبي حاتم ومن تابعه من جهالة أبي عبيدة رحمه الله تعالى(4) لا قيمة له، وأبو حاتم معروف عنه التسرع في هذا الباب، فكم من ثقة حكم بجهالته؛ منهم بعض رجال الشيخين.
__________
(1) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ج1 ص367.
(2) ألفية السيوطي بتعليقات الشيخ أحمد محمد شاكر ص97.
(3) إجابة السائل ص117.
(4) على أن مسلم بن أبي كريمة الذي حكم بجهالته أبو حاتم غير الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة قطعا؛ لأن مسلما الذي ذكره أبو حاتم يروي عن الإمام علي؛ وأبو عبيدة الإمام راوي المسند عن الإمام جابر لم يرو عن علي شيئا؛ بل لم يكن أبو عبيدة مولودا في حياة علي، والله أعلم.
(1/18)
(1/21)
قال السيوطي في " التدريب ": ( جهل جماعة من الحفاظ قوما من الرواة لعدم علمهم بهم؛ وهم معروفون بالعدالة عند غيرهم، وأنا أسرد ما في الصحيحين: من أحمد بن عاصم البلخي؛ جهله أبو حاتم؛ لأنه لم يخبر بحاله ووثقه ابن حبان وقد روى عنه غيره، و..أسباط أبو اليسع؛ جهله أبو حاتم وعرفه البخاري، وبيان ابن عمرو؛ جهله أبو حاتم ووثقه ابن المديني وابن حبان وابن عدي وروى عنه البخاري وأبو زرعة و...والحسين بن الحسن بن يسار؛ جهله أبو جاتم ووثقه أحمد وغيره، والحكم بن عبدالله؛ جهله أبو حاتم ووثقه الذهلي وروى عنه أربعة ثقات، وعباس بن حسين القنطري؛ جهله أبو حاتم ووثقه أحمد وابنه وروى عنه البخاري و..و..و..ومحمد بن الحكم المروزي؛ جهله أبو حاتم ووثقه ابن حبان )اهـ(1).
وقد حكم بجهالة آخرين من غير رجال الشيخين؛ مع أنهم معروفون، وتابعه الذهبي في كثير من ذلك، والأغرب من ذلك أنه جهل جماعة من الصحابة والتابعين المشهورين، قال ابن أبي حاتم في ترجمة مدلاج بن عمرو السلمي: ( قال أبي: مجهول )، وتابعه على ذلك الذهبي؛ فقال في " الميزان " ج4 ص86: ( مدلاج بن عمرو السلمي لا يدرى من هو )اهـ، قال الحافظ في " اللسان " ج6 ص13: ( والمصنف - يعني الذهبي- تبع ابن الجوزي في ذكره في الضعفاء، لكن صنيع ابن الجوزي أخف؛ فإنه قال: قال أبو حاتم " مجهول "، وكذا هو في كتاب ابن أبي حاتم )اهـ. هذا ومن المعلوم أن مدلاج بن عمرو هذا صحابي بدري، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها.
وقال الحافظ ابن حجر في " التهذيب " ج3 ص356 في ترجمة زياد بن جارية التميمي: ( يقال: إن له صحبة؛ روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من سأل وله مال يغنيه...الخ)) قال أبو حاتم: شيخ مجهول، وذكره ابن أبي عاصم وأبو نعيم الأصبهانيان في الصحابة، وجزم بكونه تابعيا ابن حبان وغيره، وأبو حاتم قد عبر بعبارة " مجهول " في كثير من الصحابة)اهـ.
__________
(1) تدريب الراوي ج1 ص271- 272.
(
(1/22)
1/19)
وقال أيضا في " التهذيب " ج4 ص335 في ترجمة صالح بن جبير الصدائي: ( أبو محمد الطبراني قال: ويقال الأزدي، كان كاتب عمر بن عبد العزيز على الخراج، روى عن أبي جمعة الأنصاري وأبي العجفاء السلمي وأبي أسماء الرحبي ورجاء بن حيوة، وعنه أسيد بن عبدالرحمن ومعاوية بن صالح وأبو عبيد حاجب سليمان ومرزوق ابن نافع وغيرهم، قال عثمان الدارمي عن ابن معين " ثقة "، وقال أبو حاتم " شيخ مجهول "، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال رجاء بن أبي سلمة: قال عمر ابن عبد العزيز: ولينا صالح بن جبير فوجدناه كاسمه )اهـ المراد منه. ومن المعلوم أن جمعة الأنصاري صحابي؛ فيكون صالح بن جبير بروياته عنه تابعيا.
ونظرا لتسرع أبي حاتم في الحكم بالجهالة؛ نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتماد على حكمه بالجهالة؛ ما لم يوافقه غيره.
قال العلامة اللكنوي: ( لا تغتر بقول أبي حاتم في كثير من الرواة - على ما يجده من يطالع "الميزان" وغيره- " إنه مجهول "، ما لم يوافقه غيره من النقاد العدول؛ فإن الأمان من جرحه بهذا مرتفع عندهم، فكثيرا ما ردوا عليه: بأنه جهل من هو معروف عندهم، فقد قال الحافظ ابن حجر في مقدمة " فتح الباري ": الحكم بن عبدالله البصري؛ قال ابن أبي حاتم عن أبيه " مجهول " قلت: ليس بمجهول من روى عنه أربع ثقات ووثقه الذهلي ) اهـ.
وقال أيضا: ( عباس القنطري؛ قال ابن أبي حاتم عن أبيه " مجهول " قلت: إن أراد العين؛ فقد روى عنه البخاري وموسى بن هلال والحسن بن علي المعمري، إن أراد الحال؛ فقد وثقه عبدالله بن أحمد؛ قال: سألت أبيح فذكره بخير )اهـ.
وقال ابن دقيق العيد: ( لا يكون تجهيل أبي حاتم حجة ما لم يوافقه غيره )اهـ.
ولا يخفى عليك أن موافقة الذهبي ومن يقلده لا عبرة بها؛ لما علم بها؛ لما علم من متابعة الذهبي لأبي حاتم في هذه القاعدة؛ كما صرح به في أول " الميزان ".
(1/20)
(1/23)
على أن قول أبي حاتم عن شخص إنه " مجهول " وبين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *