الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما لأحمد الخليلي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما لأحمد الخليلي

 





الكتاب: الإيمان مفهومه وتطبيقاته لأحمد الخليلي
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
محاضرة عن :
الإيمان مفهومه وتطبيقاته
لسماحة الشيخ : أحمد بن حمد الخليلي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، أحمده واستعينه واستهديه ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد ...
الإيمان هو جوهر العقيدة الإسلامية
فقد كان حديثنا في الدرس الماضي تمهيداً لهذه الدورة في الحديث عن العقيدة الإسلامية وتبيان أهمية هذه العقيدة في حياة الإنسان ... وننتقل في هذا الدرس إلى الحديث عن الإيمان الذي هو جوهر هذه العقيدة ... فإن العقيدة إنما هي في حقيقتها إيمان ، إذ إن كانت هذه العقيدة على الإيمان فمعنى ذلك أنها غير مبنية على شئ يمكن أن يسمى عقيدة .
(1/1)
الإيمان بالغيب هو الإيمان وهو الفرق بين حزب الله وحزب الشيطان والإيمان إنما هو إيمان بالغيب ، فالإيمان بالشيء الذي يقع تحت الحواس ويدركه الإنسان بحواسه إنما هو أمر ضروري إذ أن الإنسان لا يمكن بحال من الأحوال أن يكابر حسه فينكر ما وقع عليه ولكن الإيمان هو بالغيب وهو نقطة الاقتراف بين حزب الله وحزب الشيطان . فحزب الله سبحانه وتعالى يؤمن بالغيب ولذلك عندما وصف الله تبارك وتعالى المثقفين الذين أخبر عن القرآن الكريم بأنه هدى لهم ... وصفهم بالإيمان بالغيب عندما قال " هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب " (1) . أما الذين لا يؤمنون بالغيب فهم قوم لا يعرفون حياة إلا هذه الحياة والوفاة فلا يرون وجود للإنسان إلا هذا الوجود المحدود القصير ، ولا يعرفون وجود للإنسان إلا هذا الموجود المحسوس الذي يشاهدونه بأبصارهم ويقع تحت حواسهم ، وإن تجاوز هذه الأبصار أو تجاوز الحس فإنهم لا يتجاوزونه إلا إلى ما هو امتداد له وهي آلات الاكتشاف ... فهولاء انغلقت أذهانهم وانحصروا في هذا المضيق من هذا الكون فلم يفسحوا لأفكارهم أن تسبح في خضم هذا الوجود الذي إن دل على شئ إنما يدل على موجد ، بل قصر أبصارهم على ظاهر هذا الكون من غير أن ينفذوا إلى حقيقته .
(1) البقرة 2
( مصير الحضارات المبنية على الفكر المادي )
الانهيارات والتصدع والزوال
(1/2)
ومن أجل ذلك فإن الحضارات التي تنبني على هذا الفكر المادي والفكر الضيق الفكر المتوقع في مضيق المادة ، حضارات لا يكاد يكون لها قرار فما تلبث أن تتهاوى تحت أعاصير الفطرة التي فطر الله تبارك وتعالى البشر عليها بأن هذه الحضارات تكون خاوية الروح ، إذا الحياة ليست مادة فحسب فالإنسان ليس جسماً فحسب ولكنه جسم وروح ولذلك ترون أن الحضارات المبنية على هذا الفكر المادي ، الفكر المنغلق المنحبس في هذا المضيق لا تلبث أن تتهاوى لأدنى مؤثر وفي عصرنا نحن شهدنا فترة من الزمن كان الإلحاد فيه رمز التقدم وشارة الرقي ودليل التحضر . وكان الاستمساك بالفكر الديني في نظر الكثير من هؤلاء استمساك بأمور وهمية لا تلبث حسب نظرهم أن تتلاشى فقد غشيت الناس غاشية من الإلحاد ، هذه الغاشية لم تلبث أن بددت أفكارهم وتركتهم يهيمون في هذه الحياة لا يعرفون قبيلها من دبيرها ولا يفرقون بين ماضيها وحاضرها ، إنما مقياس النفع والضرر عندهم ما يكسبونه أو يكسبونه أو يخسرونه من شهوات هذه الحياة الدنيا ، ولكن ما لبثت هذه الحضارة أن تزلزلت أركانها وتصدع بنيانها ... وكما ترون أن الفكر الشيوعي الإلحادي أصبح يتهاوى اليوم ساعة بعد ساعة بل لحظة بعد لحظة حتى أننا نرجو بمشيئة الله أن لا تبقى له باقية قط ...
( أساطيل الفكر الشيوعي يفسرون بانهياره وبعدم صلاحيته )
وقد حدث بهذا أساطيل هذا الفكر أنفسهم فأصبحوا هم الذين يحملون المعاول لهدم بنيانه ، بل بعدما كانوا سرنثة المحافظين عليه في فترة غير قصيرة من الزمن وليس الوضع في الفكر الرأسمالي الإلحادي المادي الغربي بأحسن منه في الفكر الشيوعي الإلحادي فإنهما جميعاً يصدران عن أصل واحد وينهلان من مورد واحد ، ولذلك فإن هذا الفكر المادي الرأسمالي العلماني لن يلبث حتى يتهاوى أيضا ...
الإنسان جسم وروح
(1/3)
والناس الذين ما كانوا يؤمنون بالروح ويزعمون أن العلم يتنافى كل التنافي مع ما يقال عن الروح ومع ما يقال عن عالم الغيب . أصبحوا الآن ينقضون ما كانوا أسسوه من قبل من نظريات مادية تتعلق بوجود الإنسان في هذه الحياة ... فأصبحوا يثبتون ما يخطونه بأيديهم وما ترسمه أقلامهم أن الإنسان لا يعني أنه جسم فحسب ، بل هو جسم وروح والجانب الروحي منه أهم من الجانب الجسماني .
الإيمان ... معانيه ومدلولاته
إذن ما هو الإيمان الذي هو طاقة روحية والذي هو المعبر الذي يعبر عليه الإنسان إلى أن يصل بعالم الغيب وإلى أن يتصل بحياة أخرى غير هذه الحياة بحيث يستجلي حقائق غيبية تتعلق بما عدا هذا العالم المشاهد المسوس ويتعلق بحياة هذه الحياة كلمة الإيمان من حيث " مدلولها اللغوي " هي مأخوذة من الأمن ، فإن الإيمان مصدر أمن وإنما أخذت من الأمن الآن لأن الإيمان بمعنى التصدق ... كما يدل على ذلك قول الله تعالى فيما يحكيه عن عبادة بني يعقوب عليه السلام من قولهم لأبيهم " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " (1) وإنما كان الإيمان من الأمان لأن المصدق عندما يصدق محدثه فقد أمنه أن يكذبه وهذا المدلول اللغوي هو منظور إليه في نقل هذه الكلمة إلى مدلول آخر شرعي كما أن بقية الكلمات التي نقلها الشرع عن معانيها اللغوية إلى مدلولات أخرى ليست هي تلك المدلولات السابقة ، روعي في هذا النقل في تلك الكلمات أيضاً ما كان لها من معاني من قبل في اللغة .. ( " نقل مدلول الصلاة اللغوي إلى المدلول الشرعي " ) فالصلاة مثلاً هي لغة بمعنى الدعاء ، كما يدل على ذلك قول الشاعر /
تقول وقد قربت مرتحلاً ... يا رب جنب أبي الأوصاب الوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا
(1/4)
فإن قوله " عليك مثل الذي صليت " أي عليك مثل الذي دعوت ... أي لك من الدعاء مثل ما قصدت به ، فما وجهته إلى من خالص الدعاء أردت به إصلاحي وأردت به حفظي يغشاك مثله ، وقد سبق ذلك أن سبق قوله " عليك مثل الذي صليت " قوله فيما يحكيه عن بنته ، يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا " فهذا دعاء وهو الذي قصده بقوله " عليك مثل الذي صليت " .
ونحو هذا أيضاً نقل الشرع معنى الزكاة عن المدلول اللغوي إلى مدلول آخر فالصلاة نقلت إلى هذه العبادة المخصوصة وهي عبادة منفتحة بالتكبير مختمة بالتسليم ، ولكنها بطبيعة الحال تشمل على الدعاء ، والمصلى عندما يتجه إلى القبلة قاصداً وجه الله تبارك وتعالى بصلاته إنما هو في حكم الداعي الله عز وجل بان ينفذه مما يخشاه وأن يوصله إلى ما يحبه ويتمناه .
(1) يوسف 17
( نقل المدلول اللغوي للزكاة إلى المدلول الشرعي )
(1/5)
وكذلك الزكاة نقلت عن معناها اللغوي ... والمعنى اللغوي للزكاة يمكن أن يكون من معاني الألفاظ المتعددة ... فغن الزكاة تكون بمعنى الطهارة أخذاً من زكا الشيء يزكو زكاءً بمعنى طهر ... ويمكن أن يكون معنى الزكاة النماء ، كما يقال زكا الزرع بمعنى نما وهذا المعنى نفسه مراعى في نقل هذه الكلمة من هذا المدلول اللغوي إلى المدلول الشرعي فإن الزكاة هي هذه الفريضة التي فرضها الله تبارك وتعالى في الأموال " وقد جمعت كلا الأصلي ، أصلي معنييها في اللغة ، فلو نظرنا إلى هذه الزكاة من حيث معنى الطهارة ، لوجدناها طهارة .. فهي تظهر النفوس قبل كل شئ من حب الأثرة والاستبداد بالثروات ، وهي تطهر المال من ادرانه . وهي بجانب ذلك نماء باعتبار جانب النفس وباعتبار جانب المال .. فهي نماء باعتبار جانب النفس نظراً إلى أن المركز ينمي ماله لأن الله تعالى جعل هذه الزكاة لنماء المال لما يحصل فيه من البركات فالله تعالى يقول " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " (1) وثروة أن التزكية ذكرت بجانب الطهارة عندما أمر الله سبحانه وتعالى أخذ الصدقة من أموال الأغنياء فقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ( خذ من أموالهم صدقة وتطهرهم وتزكيهم بها ) (2) فإذن هي طهارة للنفس وتنمية لفضائلها ، لأن هذه الزكاة تبعث الإنسان على أن يحافظ على أمور الخير كلها وتجنبه جميع نزعات الشر في نفسه فهي قربى الضمير الإنساني فتحصل بذلك البركة وبحصل بذلك النماء .
( نقل المدلول اللغوي للحج إلى المدلول الشرعي )
وكذلك الحج .. فالحج من حيث المعنى الشرعي هو القصد أو أنه القصد إلى معظم .. كما يقول الشاعر /
فأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجوب سب الزبر كان مزعفرا
فالمقصود بالحج هنا القصد إلى غير معظم ... كما قول الشاعر أيضاً /
يحج مأمومة في قعرها نجف
(1/6)
ولكن الله سبحانه وتعالى نقل هذا اللفظ من معناه اللغوي إلى معنى آخر شرعي يلاحظ بجانب هذا المعنى الشرعي أصل مدلول هذا اللفظ اللغوي ... فالحج في الشرع هو القصد إلى البيت الحرام في زمن مخصوص ويكفيه مخصوصة مع أداء أعمال مخصوصة هناك ، فهذا المعنى يشتمل على القصد كما أنه يشتمل على أمور أخرى بجانب مطلق القصد .
(1) البقرة 276
(2) التوبة 103
( نقل المدلول اللغوي للصوم إلى المدلول الشرعي )
وكذلك الصيام ، فالصيام في اللغة بمعنى الإمساك ، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى فيما يحكيه من الأمر الموجه إلى مريم عليها السلام ( فقولي إلى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا )(1) هذا الصوم ليس هو هذا الصوم الشرعي المعهود وإنما هو صوم عن الكلام ( إني نذرت للرحمن صوماً ) (2) وقد نقل الحق سبحانه وتعالى هذا اللفظ من مدلوله اللغوي المعروف عند العرب إلى نوع آخر من الإمساك ... وهو الإمساك عن الأكل والشرب ومباشرة النساء إلى سائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
( نقل المدلول اللغوي للإيمان إلى المدلول الشرعي )
وكذلك الإيمان روعي فيه أيضاً أصل المعنى اللغوي في معناه الشرعي الذي نقل إليه اللفظ ، فالإيمان هو التصديق وهذا التصديق إنما هو التصديق بأمور معينة ، التصديق بها يؤدي إلى التفاعل مع مقتضياتها بل هذا التصديق يؤدي إلى التفاعل مع كل جريئة من جزيئات ما يقصد بالإيمان ... . فالمؤمن لا بد من أن يتفاعل تفاعلاً تاماً مع بصديقه الذي لم يتردد فيه بما أوجب الله تبارك وتعالى عليه التصديق به ، فنحن لو نظرنا إلى المعنى الشرعي للإيمان وجدنا أنه تصديق جازم لا تردد فيه ولا ريب حوله بكليات معنية ، هذه الكليات تنطوي على الجزئيات .
(رسول الهدى يخبر جبريل عليه السلام بكليات الإيمان )
(1/7)
وقد أعرب الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكليات عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسأله وهو جبريل عليه السلام عندما سأله عن الإيمان فقال له " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله " فهذا تصديق بشيء معين ، والتصديق بالله تبارك وتعالى ويعني ذلك الإيمان القاطع بوجود الله عز وجل ... الإيمان القاطع بكل صفة من صفاته وبكل فعل من أفعاله وبكل حكم من أحكامه ، وكذلك الإيمان بملائكة الله سبحانه وتعالى يعني التصديق بهذا الصنف من مخلوقات الله عز وجل وهو مما يدخل في عالم الغيب ، إذ نحن لا نشهد هؤلاء الملائكة ولا يمكننا أن نتوصل إلى أماكنهم وإلى إدراك طبائعهم بمجرد حواسنا ، وإنما نصدق بما ورد من النصوص
(1) مريم 26
(2) مريم 26
الدالة على صفاتهم سوءاً كانت هذه النصوص في الكتاب العزيز أو نصوصا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أيضاً مما يدخل في باب التصديق .ز وكذلك أيضاً الإيمان بكتب الله والإيمان برسل الله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله سبحانه ، كل ذلك تصديق فإذن التصديق موجود في عنصر الإيمان بل الإيمان نفسه هو عين التصديق ولكنه بجانب ذلك أيضاً يقتضي أن يكون هذا المؤمن متفاعلاً تاماً مع الحقائق التي صدق بها مع إيمانه بهذه الحقائق .
( ثمرات التصديق والإيمان بهذه الكليات الست )
(1/8)
والإيمان الشرعي قد يطلق مراد به هذا التصديق نفسه بدون النظر إلى ما يترتب عليه من التفاعل التام مع مقتضياته .. وقد يطلقها مراد به التصديق وما يتبعه من صالح العمل وزاكي القول .. فالإيمان إذا إطار عام يشمل الأقوال والأفعال ويشمل أيضاً أعمال القلب والراد بذلك التصديق بما فرض الله تبارك وتعالى التصديق به فقد يأتي الإيمان كثيراً في كتاب الله تعالى معطوفاً عليه العمل الصالح والأصل في العطف أن يكون هناك تغاير بين المعطوف والمعطوف عليه أو قد يأتي الإيمان مراد به نفس العقيدة الحقة وما يتبع هذه العقيدة من صلاح العمل وصف القول واستقامة الأخلاق وكل ذلك لأن هذه ثمرات للتصديق كما قلت ، فالقول الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل كل منها ثمرات لهذا التصديق الذي يستولي على النفس الإنسانية لأنه لا يراد به الإيمان الطافي على السطح الذي لا يلبث أن يزلزل ويتلاشى لأي سبب من الأسباب يطرأ عليه ، ولكن يراد به التصديق المكين الراسخ في النفس الذي يستولي على شعاب النفس بأسرها فيقدر الفكر ويضبط الوجدان إذ هو مستول على العقل والقلب معاً وبسبب ذلك يهيمن على الجسم والروح فتكون كل حركة من حركات هذا الجسم لا تخرج عن إطار هذا الإيمان ، وفي كتاب الله سبحانه وفي أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن مفهوم الإيمان الشرعي يتناول هذا الإطار الواسع الذي يشتمل على العقيدة ويشتمل على الأعمال ويشتمل على الأقوال ويشتمل على صادق الأقوال ويشتمل على الأخلاق
( صفات المؤمنين في كتاب والسنة )
ففي كتاب الله تعالى وصف للمؤمنين الذين هم حقاً مما يدل على ذلك ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم
(1/9)
المؤمنون حقاً ) (1) الله سبحانه وتعالى حصر المؤمنين في هذا الصنف من الناس في بداية وصفهم وفي أخره فقد جئ بأداة الحصر في أول وصف في قوله ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) (2) نعم بعد ذلك بعد وصفوا به ( أولئك هم المؤمنون حقاً ) (1) فقوله ( إنما المؤمنون ) (1) إنما من أدوات الحصر فهي تقتضي إنما المؤمنون منحصرون في هذا الصنف من الناس وأن ما عداهم لم يصلوا إلى حقيقة الإيمان ودرجة الإيمان وكذلك جاء هذا الحصر في قوله سبحانه وتعالى من بعد "( أولئك هم المؤمنون حقاً )(2) حيث عرف المسند والمسند إليه ووسط ضمير الفصل بينهما وتعريف المسند والمسند إليه يقتضي الحصر ويؤكد ذلك أيضاً توسيط ضمير الفصل بين المسند والمسند عليه وهو هم في قوله ( أولئك هم المؤمنون حقاً )(2) أما تعريف المسند إليه في قوله " أولئك " فإن "أولئك " من أقسام المعارف وإن أولئك اسم إشارة واسم الإشارة من أقسام المعارف و" المؤمنون " معرفة بأداة التعريف وهي " أل" وضمير الفصل وهو " هم " موسط بين المسند والمسند إليه إذن المؤمنون منحصرون في هذا الصنف من الناس .. وبين الله سبحانه وتعالى " صفات المؤمنون الذين وعدهم بالفلاح في يوم الدين وبين أن صفاتهم تتناول جوانب العمل كما تتناول جوانب العقيدة .. فالله تعالى يقول في سورة المؤمنين ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون ، والذين هم لفروجهم حافظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) (3) فالله سبحانه وصف المؤمنين الذين وعدهم الفردوس بهذه الصفات التي تتناول جوانب الأقوال والأعمال كما تتناول جوانب العقيدة ...
(1/10)
وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم في صلاتهم خاشعون ، وبأنهم عن اللغو معرضون ومعنى ذلك أنهم يهجرون كل هجر من المقال ، فهم ينأون بأنفسهم من أن تنقلت من ألسنتهم كلمات غير طيبة ، فهم يعرضون عن اللغو أي ينأون بأنفسهم عنه ( والذين هم للزكاة فاعلون ) يؤدون الزكاة التي فرضها الله .. هذا هو التفسير أيضاً يتبين دخول الأخلاق في عنصر الإيمان إلى آخر ما وصفهم الله تعالى به ، ويقول الله تبارك وتعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون ) (4) فعد الجهاد من
(1) الأنفال 2-4
(2) الأنفال 2
(3) المؤمنون 1-11
(4) الحجرات 15
مقتضيات الإيمان ، من أعمال الإيمان ويدل على ذلك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى سمى العمل إيماناً فالصلاة سماها إيماناً في قوله ( وما كان الله ليضيع إيمانهم ) (1)
(1/11)
أي ليضع صلاتهم التي صليتموها إلى بيت المقدس ، فالصلاة سميت إيماناً مع أنها عمل ، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد هذا المعنى فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول ( الإيمان يضع وستون شعبه أعلاها كلمة لا إله الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) فترون أن النبي صلى الله عليه وسلم ينص هنا على دخول العمل والخلق الفاضل في مدلول الإيمان كما تدخل في ذلك العقيدة فقد نبه على العقيدة بذكر " لا إله إلا الله " فهذه الكلمة هي أساس العقيدة الحقة ، ولذلك كان رسول- صلى الله عليه وسلم - وكان الرسل من قبل يدعون إليها فمن آمن بها آمن برسالات المرسلين ومن لم يؤمن بها لم يؤمن برسالات المرسلين لأن هذه الكلمة تترجم العقيدة الصحيحة وهو نوع من الأنواع الأعمال الصالحة التي يتقرب بها الناس إلى ربهم عز وجل وذكر الخلق وقال " الحياء شعبة من الإيمان " بذكره الحياء أشاد إلى الخلق ودخوله في الإيمان ، وبين عليه الصلاة والسلام أن الإيمان أكثر من ستون شعبة " بضع وستون شعبة " هذه هي روايات الشيخين البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية لمسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة " وفي اختلاف الروايتين ما يدل على أن العدد غير مقصود وإنما ذكر العدد للتنبيه على كثرة شعب الإيمان ، فالإيمان لا ينحصر في بضع وستين شعبة ، بل الإيمان يشمل على أكثر من ذلك ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى بضعا وسبعين شعبة ، وبهذا نستدل على أن الأعمال الصالحة كلها من الإيمان ، وعلى أن الأخلاق الفاضلة كلها من الإيمان ، وعلى أن كل جزئية من جزئيات العقيدة داخلة أيضاً في حيز الإيمان ، فكل من ذلك يعد إيماناً ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه أيضا الشيخان من طريق أنس رضي الله عنه ، أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسول أحب
(1/12)
إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار " النبي صلى عليه وسلم ذكر في هذا الحديث علامات كون المسلم وصل إلى مرتبة الإيمان ، كون الإنسان رقي إلى ذروة الإيمان ... هذه العلامات أولها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وذلك بأن يستولي حب على نفسه إستيلاءً تاماً وأن يستولي بعده حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه إستيلاءً تاماً ، فلا يزاحم هذين الحبين حب أخر ولو كان المحبون الأخر أقرب قريب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول أيضاً " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " وفي رواية أخرى " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون
(1) البقرة 143
أحب إليه من والده وولده " هذا الحب لله سبحانه وتعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يعني به الحب العاطفي الذي لا يلبث إذ يثور حتى يفور ، إنما هو حب عقيدة مكتبة راسخة في النفس مسؤلية على جميع شعابها ، إذ لو كان هذا الحب حب عاطفي لأمكن أن يحب الإنسان ربه سبحانه وأن يحي نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بجانب ذلك يمنع عن السلوك الذي يؤدي إلى ثواب الله سبحانه الذي يجسد طاعة هذا الإنسان لربه وطاعته لرسوله عليه الصلاة والسلام ولكن هذا الحب ليس حباً عاطفياً وإنما هو حب عقيدة .
( الله عز وجل هو أولى بالمحبة من كل أحد .. النبي صلى الله عليه هو أولى بالحب من جميع الناس )
(1/13)
ولا ريب أن العاقل يدرك من أول وهلة أن الله سبحانه وتعالى هو أولى بالمحبة من كل أحد ، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم - هو أولى بالحب من جميع الناس ، فإن الحب منشأه أمران إما أن يحب أحد غيره من أجل عظيه أي عظمة ذلك المحبون بحيث يرى فيه صفات العظمة وتستهويه هذه الصفات وتشد انتباهه إليه وتحوز على إعجاب نفسه به ، وإما أن يكون منشأ هذا الحب إكرام المحبون لمن أحبه بحيث يسدي إليه معروفاً ويصنع في حقه جميلاً ، فيستهويه ذلك ويستولي على عواطفه وعلى أحاسيسه فيدفعه ذلك إلى أن يحبه هذا يحبه هذا الحب إن كان ناشئاً عن أي سبب من السببين فالله سبحانه وتعالى أولى به ومن ثم من بعده الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى به من سائر الناس .
(الصفات الكمالية لله عز وجل مطلقة لا حدود لها )
(1/14)
أما كون الله عز وجل سبحانه وتعالى أولى بهذا الحب على كلا الاعتبارين " على اعتباره أي واحد من السببين " فإن عظمة الله سبحانه وتعالى عظمة لا يمكن أن يقدر أحد قدرها ، إذ عظمة الله عظمة مطلقة لا حدود لها ، فأي أحد اتصف بأي صفة من صفات الكمال فإن ذلك كمال بشرى محدود وكمال الله سبحانه وتعالى مطلق لا حدود له ، فلو نظرنا إلى الصفات الكمالية في البشر من القدرة والعلم والكرم وغير ذلك من الصفات الكمالية التي توجد في البشر ، نجد بجانب أن الله سبحانه وتعالى اتصف بتلك الصفات اتصافا لا يمكن أ يقارن باتصاف أي أحد من خلقه بها ، فإن اتصاف الإنسان كما قلت اتصاف محدود ، لنا مثلاً صفة العلم ، الإنسان مهما أوتي من العلم فإن كلمة علم نسبي محدود إذ الذي يجهله من الحقائق أكثر مما يعلمه بكثير ، بل الذي يعلمه لا يوازي شيئاً بجانب ما يجهله ، ثم الذي يعلمه لا يعلمه من جميع جهاته ، فلربما استطاع أن يتوصل إلى معرفة بعض الجهات دون بعض ، لربما علم الظواهر منه دون الظواهر دون البواطن ، فإن الإنسان لا ينفذ علمه إلى بواطن الأشياء ، إذن الله تبارك وتعالى وحده هو العليم بكل شئ علماً ، كل ذرة من ذرات الكون إنما هي في حيطة علمه سبحانه بل علم الله عز وجل بجانب إحاطته بها نافذ إلى أقصى دخائلها ، فما من شئ يمكن أن يعبر عنه أو لا يقع حتى تحت مقاييس التعبير إلا وعلم الله سبحانه وتعالى محيط به من تلك الذرة نفسها هذا مع كون الحق عز وجل قد أحاط بهذا الوجود بأسره علماً مع أن علم المخلوق أيضاً علم حادث وعلم الله تبارك وتعالى لم يحدث فهو أزلي فهو يعلم بل هو سبحانه وتعالى علمه على ما كان من قبل ولا يتجدد لأن المتجدد هو حادث وعلم الله تبارك يعلم شئ قبل حدوثه كما سيحدث ويعلم أيضاً في الأزل ماذا سيكون بعد حدوث ذلك الشيء وكيف تكون نهايته وماذا يترتب على هذه النهاية ..
(1/15)
إذ قدرة الخالق قدرة مطلقة لا حدود لها وقدرة الإنسان قدرة نسبية محدودة جداً مهما أوتي سواء في ذلك الإنسان وغير الإنسان ، كل مخلوق من مخلوقات الله قدرته نسبية محدودة ، فهو يقدر على بعض الأشياء ولا يقدر على جميع الأشياء والذي يقدر عليه إنما يقدر على جانب منه ولا يقدر على الجوانب الأخرى ... كذلك لو جئنا إلى ناحية الكرم فإن كرم الإنسان كرم نسبي محدود جداً وكرم الله تبارك وتعالى كرم لا حدود له فالكون كله هبه من الله تبارك وتعالى لمخلوقاته سخر لهم هذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف ورتبة هذا الترتيب ونسقه هذا التنسيق .
الجانب النفع للمحب من قبل محبوبة
ثم إن جئنا أيضاً إلى الجانب الأخر هو جانب النفع لهذا المحب من قبل محبوبة ، فإن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي سخر للناس ما ينفعهم يعني ذلك عندما يذكر الله تبارك وتعالى صفاته لهم ، ويذكرها بطريقة التشويق إلى عبادته والترغيب في هذه العبادة بسبب ءالائه الواسعة التي لا يمكن أن تحيط بها عقول البشر ، فالله تعالى يعرفنا نفسه بقوله ( الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً ، فأخرج من الثمرات رزقاً لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر كلم الأنهار ، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لكم الليل والنهار ، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار ) (1) وعندما يأمرنا الله بعبادته يذكرنا أيضاً بهذه النعم العظيمة إذ يقول ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماءً فأخرج من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) (2) ويقول الحق سبحانه وتعالى عندما يقيم علينا الحجة بأنه إله واحد وينعي على المشركين الذين اتخذوا ألهة أخرى من دون الله سبحانه يقول
(1/16)
الله عز وجل ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون، أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به
(1) إبراهيم 32-34
(2) البقرة 20-21
حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون أو من جعل الأرض قراراً ، وجعل خلالها أنهاراً ، وجعل النهار رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً ءإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ، ءإله مع الله قليلاً ما تذكرون ، أمن يهد لكم في ظلمات البر والبحر ، ومن يرسل الرياح بشرا ًبين يدي رحمته ، ءإله مع الله تعالى الله عما يشركون ، أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (1) فترون أن الله سبحانه وتعالى هو أولى بأن تكون محبته محبة لا تدانيها محبة أحد من خلقه بسبب عظمته عز وجل وبسبب نعمة التي بسطها لخلقه .
(صفات الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت ذروة الكمال البشرى فهو أولى بالإعجاب من غيره )
(1/17)
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أكمل البشر خلقاً ، وبلغ ذروة الكمال البشرى واجتمعت فيه الصفات الكمالية المتفرقة في غيره من الناس فإذن هو عليه أفضل الصلاة والسلام من هذه الناحية أولى بالإعجاب به ، ملئ محبته قلوب جميع الناس ، فإن الذين يعجبون بمن يعجبون بهم فإنهم قد يعجبون بصفات حميدة ولكنها لا تداني صفات الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا إذا كانوا يعجبون بأهل الخير ، إذا كانوا يعجبون برسل الله من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعجبون أيضاً بأولياء الله الصالحين من أهل الفضل والتقوى والعفاف والنزاهة ، وقد يكون هؤلاء معجبين بصفات هي أوهام ، كالذين يعجبون بالأشقياء يعجبون بدعاة الشيء ، فيعجبون برادة الفساد ، وقادة الإلحاد ورواد المجون والخلاعة ، هؤلاء يتشبثون بأوهام لا يتشبثون بشيء من الحقيقة ، يعجبون بنقائص ليست هي في شئ من الكمال أبداً ، بل هي نقائص دينية ولكن هذا الحب الأعمى هو الذي استولى على أفئدة هؤلاء وإلا فأين هؤلاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
( حب الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من قبل المؤمنين هو إسداء للجميل الذي قدمه لهم )
وإن جئنا إلى الناحية الأخرى وهي كون الحب ناشئاً عن إسداء الجميل ، فإن الجميل الذي أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إلى البشرية جميعاً جميل لم يسده أحد من الناس كيف والله تبارك وتعالى بين لنا عظم رسالته وجسامة الأمر الذي قام به عليه أفضل الصلاة والسلام والذي بعث من عند الله عندما يقول تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (2) فماذا عسى أن يكون الإنسان بجانب هذا الوصف
(1) النمل 59-6 (2) الأنبياء 107
(1/18)
الرباني لهذا النبي الأمين وعلى أله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فالله سبحانه وتعالى يقول لنا بأن رسالته رحمة للعالمين ، تشمل العالمين بأسرهم ، أي تشمل الكون بأسره ، هذا وهذه المحبة التي يجب أن تكون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هي كما قلت محبة عقيدة راسخة في النفس ، فمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كانت أيضاً محبة عاطفة ومحبة عقيدة ، فالإنسان يعتقد في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم .. أن الخير كل الخير في إتباعه ، وأن الشر كل الشر في البعد عن منهاجه .
( عباد الرحمن يجسدون محبتهم لله ولرسوله بالطاعة والإذعان لهما )
(1/19)
هذا بجانب الاعتقاد في أن الخير بأسره ، بكل حذافيره ،إنما هو طاعة الله ـ والشر بأسره إنما هو معصيته عز وجل ، فما من طاعة من طباعات الله إلا وهي خير ، وما من معصية ضد معاصيه إلا وهي شئ ولئن كانت طاعة الله تبارك وتعالى خير للإنسان بجانب كون الحق عز وجل جدير بأن يطاع لعظمته وكبريائه وجديراً أن يطاع أيضاً لأجل فضله وإحسانه وجديراً أن يطاع من اجل وعده ووعيده ، فهو القدير سبحانه على كل شئ وقد وعد وهو صادق في وعده وميعاده ، إذ لا خلاف لميعاده كما أخبر عز وجل بذلك في كتابه ، فإذن على هذا العبد أن يجسد هذه المحبة بالطاعة لله تبارك وتعالى ومن أولى بان يطاع من الله الذي خلق السموات والأرض وأحاط بكل شئ علماً وأحصى كل شئ عدداً ، وأحاطت بكل ذرة من ذرات هذا الكون أحاطت قدرته بالصغير والكبير ، أحاطت قدرته بالظاهر والباطن من أجزاء هذا الكون فما من شئ إلا أحيط بقدرته سبحانه وتعالى .. ومن أولى بأن يطاع بعد الله سبحانه وتعالى من رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي دعا إلى هذا الخير العظيم وجاهد في ذات الله وحرص على ابتغاء البشر مما كانوا فيه وعليه من الضلالة العمياء التي كانوا ير تكسون في مهاويها كما أخبر تعالى بقوله ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (1) نعم كانوا في ضلال مبين ، فإن محبة الله ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم - يجب أن تتجسد فالطاعة المطلقة من العبد لله ولرسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه .
( والتواد بين المؤمنين علامة من علامات الإيمان )
(1/20)
ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر بجانب ذلك أيضاً من علامات الإيمان التواد بين المؤمنين لا لأجل قرابة حميمة تشد بعضهم إلى بعض ولا لأجل منفعة عاجلة ينالها المحب من محبوبة إنما هي مودة في ذات الله وأنه يحب المرء لا يحبه إلا لله ، فالعلاقة الإيمانية بين المؤمن التي تطغى على كل علاقة وتجعل المؤمن مشدوداً إلى المؤمن يحبه ويحرص على مصلحته ويسهر من أجل دفع الضرر عنه ، هذه العلاقة هي من مقتضيات الإيمان ومن دلائل هذا الإيمان وبدون هذا الترابط بين المؤمنين لا يصل المؤمنون إلى ذروة الإيمان ، كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) روي ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن طريق أنس رضي الله عنه ، أيضاً فالمؤمن يحب المؤمن حباً جماً كما يجب نفسه ولا ريب أن الإنسان بطبعه لا بد أن يحب نفسه حباً عظيماً ، ولذلك كثيراً من الناس من أجل حب النفس يريدون أن يستأثروا بالخير دون الآخرين ، إلا أن المؤمن من شأنه أن يحس أمنه ، أحاسيس إخوانه في الإيمان فلذلك يحب لهم ما يحبه لنفسه من الخير ، وقد يفدي المؤمن أخاه بنفسه وهذا حصل عندما كان الإيمان ساكناً راسخاً ، فالمؤمنون كان أحدهم يؤثر مصلحة أخيه على مصلحة نفسه بل ربما كان المؤمن أحرص على حياة أخيه من حياة نفسه ، قد استقصى في أولئك النفر الذين أصيبوا في غزوة من الغزوات وعطشوا عطشاً شديداً فجئ إليهم بالماء فلما كاد أحدهم يطفئ سعار ظمأه بقطرات من الماء سمع أخاً له يطلب الماء ، فأمر بأن يقدم إليه ، وسمع الثاني بالثالث يطلب الماء فـ وأخيراً مات الثلاثة قبل أن يبلوا لهواتهم بذلك الماء على حالة/
لو أن في القوم حاتما على جوده لظن بالماء حاتم
هكذا كان السلف الصالح يحرص أحدهم على مصلحة أخيه أكثر مما يحرص على مصلحته ويؤثر أخاه على نفسه .
( خوف الرجوع إلى الكفر من علامات الإيمان )
(1/21)
ويذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علامة ثالثة لوجود حلاوة الإيمان فبالنفس ( أن يكون هذا المؤمن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) فالنار تتلف جسده وروحه ، والنار الدنيوية تتلف دنياه وأخرته فلذلك يحرص هذا المؤمن على أن لا يعود إلى الكفر كما يحرص على أن لا يقذف في النار .
( المؤمن ينأي بنفسه عن النعمة كما ينأى عن كفر الملة )
(1/22)
سواء كان هذا الكفر كفر ملة أو كان كفر نعمة فالمؤمن ينأى عن كفر الملة ، لأن كفر النعمة يتنافى مع الإيمان إذ لا يجتمع الكفر والإيمان ، ومن أجل ذلك جاء بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الذي يغشى معاصي الله سبحانه وتعالى يخلع عن نفسه رداء الإيمان في حال غشيانها فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) فالزاني خلع عن نفسه ثوب الإيمان بزناه وكذلك السارق وكذلك شارب الخمر هؤلاء أعمالهم تتنافى مع الإيمان . هذا وقد يطلق الإيمان كما قلت شرعاً على النفس التصديق ولكن ثمرة هذا الإيمان إنما هي مع التكليف مقتض هذا التصديق فالله تعالى يقول ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) (1) وفي هذا ما يدل على أن الإنسان عندما يؤمن إيماناً تصديقا فقط ولكن يلتبس بجانب ذلك بالظلم لا يكون بالغاً إلى مرتبة الإيمان الحق الذي وعد الله سبحانه وتعالى أصحابه بالفوز والسعادة في الدار الآخرة ، إلا انه بجانب ذلك هو متلبس بالتصديق الذي خرج به عن حيز الإشراك فلا يعد من المشركين ولا يحكم عليه بحكم كفر الملة وإنما هو في حيز العصاة المتمردين على ما يقتضيه إيمانهم ، إلا أن هذا الإيمان عندما يقوى على جانب المعصية بجر صاحبه عما هو فيه من المعصية وينأى به عنها شيئاً فشيئاً إلى أن يلحق بالمؤمنين الذين هم مستمسكون بهدى الله تبارك وتعالى بالعبادة ..
(1/23)
وقد وقع إشكال على كثير من الناس بسبب ما وجدوه في آيات الكتاب العزيز بوصف المؤمنين أحياناً بما يدل على أن إيمانهم لا يكون متلبساً بالأعمال الصالحة وقد يكون بالظلم ومع هذا أيضاً ما جاء من الآيات الكثيرة التي تعطف العمل الصالح على الإيمان والكتاب العزيز مع هذه الدلائل التي دلت على أن الإيمان يشمل الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأقوال الصادقة بجانب شموله للعقيدة .. فنجد أن جانب من العلماء ترددوا في هذا الأمر ومما أشكل عليهم قول الله تبارك وتعالى ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانهم لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانهم خيراً )(2) وكذلك ما جاء في وصف المؤمنين بالتقاتل في قول الله عز وجل ( وإن طائفتك من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (3) وكذلك العطف ،عطف العمل الصالح على الإيمان مع أن العمل الصالح حسب ما تقتضيه الأحاديث التي ذكرت بعضها منها ذكرت بعضا منها الآيات الصريحة داخل في ضمن الإيمان وقد أجاب عن هذا ابن تميمة على أن الإيمان عندما يعطف على العمل الصالح يكون بمعنى التصديق وعندما يذكر مستقلا عن العمل " لا يذكر معه العمل" فهو معنى التصديق مع العمل الذي يجسد هذا التصديق الذي يترجمه ترجمة دقيقة على أن الشيء قد يذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى ( إني نذرت للرحمن صوما) (4) فإن المقصود بالصوم هنا ليس إلا بمعنى مطلق الإمساك وليس هو الصوم الشرعي وكذلك قول الله تعالى ( أيعجب الكفار نباته ) (5) مع أن الكفار هنا بمعنى الزراع فقد لوحظ فيه معنى اللغوي وهو الستر لأن أصل الشر كما يقول الشاعر :
يعلو طريقة متنها متواترا في ليلة كفر النجوم غمامها
أي غطى النجوم غمامها ... وكما يقول الشاعر الأخر /
ألقت ذكاء يمنينها في كافر
(1/24)
ذكاء الشمس والمقصود بالكافر هنا الأفق الذي يحجبها عن الأبصار ، فإذن لا يتعجب بأن يذكر الإيمان بمعنى مطلق التصديق بما فرض الله سبحانه وتعالى عليه ، الآن هذا التصديق قد يكون قوياً وقد يكون هذا التصديق ضعيفاً .
(1) الأنعام 82 (4) مريم 26
(2) الأنعام 158 (5) الحديد 20
(3) الحجرات 9
( بتفاوت درجات التصديق عند الناس .. يتفاوت أثره في حياتهم )
فالناس يتفاوتون فيه ويقدر تفاوتهم فيه يتفاوت أثره في حياتهم فعندما يكون هذا التصديق متمكناً في النفس راسخاً في العقل والقلب مستولياً على الفكر والجدان مهيمناً على الجوارح والأركان ، يكون الإنسان متفاعلاً مع ما يقتضيه تفاعلاً تاماً ... بحيث لا تخرج أفعاله عما يقتضيه هذا التصديق من الاستقامة في الأعمال والأقوال والأخلاق ، والقول بأن الإيمان يشمل هذه الجوانب التي ذكرتها وهي العمال بجانب الأقوال أيضاً وبجانب الأخلاق ، والقول بأن الإيمان يشمل هذه الجوانب التي ذكرتها وهي الأعمال بجانب الأقوال أيضاً وبجانب الأخلاق والعقيدة هو قول السلف بل حكي الإجماع عليه ، وقد أطبق أصحابنا عليه بدون خلاف بينهم فهم جميعاً يقولون بأن الإيمان عقيدة يتبعها العمل الصالح ومع عدم الاستقامة على العمل الصالح لا يعتبر ذلك الإيمان إيماناً صحيحاً يبلغ به الإنسان إلى أن يكون من المؤدين بالفوز يوم القيامة ...
( الإيمان قول وعمل )
(1/25)
وقد أخرج عبد الرزاق عن طائفة من العلماء منهم سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وغيرهم أنهم كانوا يقولون الإيمان قول وعمل والمقصود بالقول هنا ما يترجم العقيدة ، فليس المقصود مجرد قول بالسان من غير أن نكون معناه راسخ في النفس .. وإنما المراد بالقول ما يترجم العقيدة الراسخة في النفس وكذلك روي نحو ذلك عن الإمام الشافعي وأخراج أبو القاسم اللالكائي عن الإمام البخاري أنه قال أدركت نحو ألف من علماء السلف كلهم كانوا يعتقدون أن الإيمان قول وعمل ولم يكونوا يحصرون الإيمان في مجرد الاعتقاد فحسب من غير التفات إلى جانب العمل ، وذكر الحافظ عن كثير في تفسيره عن جماعة من علماء السلف أنهم حكوا الإجماع على هذا القول فإذن السلف كانوا يعتبرون الإيمان قول وعمل ومعنى ذلك الإيمان عقيدة يترتب عليها العمل ، ولم يكونوا يعتبرون الإيمان مجرد تصديق بأمور من غير أن يتفاعل الإنسان ومن غير أن يترجم هذا التصديق إلى واقع محسوس في سلوكه ومعاملاته مع الناس وعبادته لربه سبحانه وتعالى وإنما كانوا يعتبرون الإيمان ما رسخ في النفس من الاعتقاد الحق الذي يؤدي إلى الاستمساك بحبل الله تعالى المتين وعدم التفريط فيما أمر به أو فيما نهى عنه ... وهكذا يجب أن يرسخ في نفوس الناس بخلاف ما يقول بعض الناس الذين لا تهمهم الاستقامة كنت حضرت في هذا العام في أحد المؤتمرات وحضرت شخص من دولة علمانية في ذلك المؤتمر وتحدث عن مشكلات ما يسمى بالتطرف في وقتنا هذا وقال إن ذلك منشؤه أن الناس أخذوا بعقيدة المعتزلة في الإيمان ، كأن هذه العقيدة ما كانت موجودة إلا عند المعتزلة ، أي أن الإيمان قول وعمل ، وان العمل لا بد أن يكون مقترناً بالاعتقاد وإلا كان الاعتقاد نفسه اعتقادا هيتا خاويا ، ودعا إلى فصل العمل عن الإيمان بحيث لا يعد العمل من الإيمان ، هكذا اختلال العقول وطيش الأفكار وهيام هذه الأوهام في هذه المتاهات ، وهكذا يستفز الشيطان والعياذ بالله
(1/26)
أتباعه فنعوذ بالله من الخذلان .
(( الخاتمة ))
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من حزبه المؤمنين المفلحين العاملين بكتابه والمتبعين لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه اللهم أنا على الاستمساك بالحق وإتباعه ، واشرح صدورنا بالعلم والإيمان ، ونور بصائرنا بالعلم والإيمان ، وظهر سرائرنا بالعلم والإيمان ، وأصلح أعمالنا بالعلم والإيمان ، وأصلح أقوالنا بالعلم والإيمان وحصن أخلاقنا بالعلم والإيمان .. إنك ربنا على كل شئ قدير وإنك بالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير - صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبة أجمعين سبحانك ربي رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
( الأسئلة )
س1 ) على ماذا يستدل القائلون بأن الإيمان يزيد وينقص ؟
جـ1 ) زيادة الإيمان ونقصان الإيمان سنتحدث عنه إن شاء الله في

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *