الكتاب : الآيات المتشابهات لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الآيات المتشابهات لسماحة الشيخ أحمد الخليلي
جميع حقوق الطبع والتوزيع محفوظة
الطبعة الأولى
1422هـ -2002م
مكتبة الضامري للنشر والتوزيع
هاتف وفاكس620855/9330027
ص ب 2 السيب الرمز البريدي121
سلطنة عمان
لسماحة الشيخ العلامة
أحمد بن حمد بن سليمان الخليلي
مكتبة الضامري للنشر والتوزيع
هاتف وفاكس620855/9330027
ص ب 2 السيب الرمز البريدي121
سلطنة عمان
الحمد لله رب العالمين ، احمده وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، ولا شبيه ولا نظير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله بالحجة القاطعة ، والحجة الواضحة ، فبلغ الرسالة وأدى الامانة ، ونصح الأمة وكشف الغمة صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين .
أما بعد : فقبل كل شيء أبدأ بشكر والدنا واستاذنا الشيخ عامر بن علي بن عمير المرهوبي على هذه الكلمة التى جسدت مشاعره الرقيقة ، التي تفتلج بين ثناياه ، ولا ريب أن هذه الكلمات إن دلت على شيء فإنما تدل على اهتمام معاليه بما يلقى في هذه الجامعة عموما ، وفي هذا الجامع خصوصاً من دروس تتصل بعقيدة الإسلام وفقهه العظيم ، والشكر إنما هو على الأمر الذي يتفضل به الإنسان وما قمت به ليس تفضلا مني ، وإنما هو جزء من الواجب الملقى على عنقي وقد حاولت تأدية هذا الواجب كما ينبغي ، ولكنني وجدتني مقصراً دونه بمراحل فالمقام مقام اعتذار مني لا مقام شكر لي ، وأسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعلنا من حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأهيل الجاهلين ، أنه سبحانه وتعالى القادر على كل شيء .
(1/1)
في بعض الإجابات على بعض الأسئلة التي وجهت بعد الدرس الماضي، ذكرت أنني سوف أتحدث إن شاء الله في هذا الدرس عما يتصل بالآيات المتشابهات ، وكيف يكون معتقدنا وقولنا حيال هذه الآيات .
لاريب أن دلائل العقل والنقل ، متظافره على أن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الوجود وكان قبل وجوده ( أي قبل وجود الوجود ) كان الله سبحانه وتعالى متصفاً بكل الصفات الجلالية ، والكمالية اللائقة بعظمته ، وكبريائه ، فقد كان سبحانه تعالى ولا سماوات ، ولا أرض ، ولا فوق ، ولا تحت ، ولا يمين ، ولا شمال ، ولا أمام، ولا وراء ، كان سبحانه وتعالى ولا شئ من هذا الوجود ، وعندما خلق الله سبحانه وتعالى هذا الوجود خلقه مخالفاً لما هو متصف به ، لاستحالة ان تشابه الصفة صانعها، وقد أخبرنا - عز وجل - أنه مخالف لمخلوقاته في كل صفاته فقد قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1) .
وجود الله تعالى سابق على وجود الزمان والمكان ، وعندما خلق الزمان والمكان لم يختلف سبحانه وتعالى في شيء مما عليه كان قبل ذلك ، بل هو سبحانه وتعالى متصف بكل ما اتصف به من قبل ، فالفوق ، والتحت ، واليمين ، والشمال ، والأمام ، والوراء ، إنما هي صفات مكانية ، هذه الجهات الست تكتنف الشيء المحد، الشيء الذي يمكن أن يتحرك ، وينتقل من مكان إلى مكان .
__________
(1) سورة الشورى آية رقم 11
(1/2)
والله سبحانه وتعالى تستحيل عليه الحركة ، ويستحيل عليه الانتقال ، لأن ذلك من صفات المخلوقين التي لا تليق بالخالق ، ومما يدل على ذلك ما كان من احتجاج ابر اهيم - عليه السلام - على قومه ، فعندما نشأ ابراهيم - عليه السلام - نشأ بين قوم يقدسون الظواهر الطبيعية ، ويعبدون الأجرام السماوية ، فكانوا يألهون الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وقد لقنه الله تعالى الحجة وهو في صباه فعندما رأى الكوكب { قال هذا ربي } (1) ولم يعني - عليه السلام - بذلك الأخبار بأنه معتقد بربو بيته ذلك الكوكب، فما كان لرسل الله سبحانه وتعالى وهم الذين صنعهم الله تعالى على عينه ، وطهرهم بسره ، وأعدهم لأن يكونوا وعاء لكلماته التى يؤدونها إلى خلقه وحملة لأمانته التي يبلغونها عباده ، ما كان لهم أن يشركوا بالله تعالى شيئا في أي وقت من الأوقات فما كان لإبراهيم - عليه السلام - أن يؤله الكواكب وأنما أراد بذلك أن يقيم الحجة على قومه ، فلما أفل الكوكب { قال لا أحب الآفلين } (2) أفول الكوكب لا يعني انعدامه ، فإن الأفول يعني الانتقال من أفق إلى أفق ، فبعد ما كان بارزاً أمام الأفق من هذه الجهة اختفى بعد ذلك وراء الأفق من الجهة الغربية ، ومن المعلوم عند علماء الهيئة منذ القديم أن الأجرام السماوية تختفي تتواري وراء الأفق ، وما كان - عليه السلام - ليحتج على قومه بوهم من الأوهام ، ولكنه احتج على قومه بحقيقة واقعة ثابتة احتج على قومه بأمر معلوم واقع وهو انتقال هذا الكوكب من أفق إلى أفق ، وبين أن هذا الانتقال تحول لا يليق بالمعبود ، وقد قال كذلك لما رأى القمر بازعاً هذا ربي فلما أفل { قال يا قوم إني برئ مما تشركون } (3)
__________
(1) سورة الأنفال آية رقم 76 ، 77 ، 78 .
(2) سورة الأنعام آية رقم 76 .
(3) سورة الأنعام آية رقم 78 ..
(1/3)
ومثل ذلك كان مقاله عندما رأى الشمس بازغة فقد { قال هذا ربي هذا أكبر } وهكذا أقام حجة ابراهيم - عليه السلام - من خلال تحول هذه الأجرام الفلكية وانتقالها إلى مكان أو موارات الأفق لها أقام بذلك الحجة على قومه أنها لا تصلح بأن تكون إلهة معبودة .
بهذا يتبين لنا أن الإله الحق المعبود الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير لا يمكن أن يكتنفه بحال ، وإذا كان المكان متعذرا بالنسبة إليه سبحانه وتعالى لأنه سابق على المكان ، فكذلك التجزؤ متعذر عليه فلا يوصف سبحانه وتعالى بشيء من صفات المخلوقين، لا يوصف بأن له يد حقيقية ، ولا يوصف بأن له وجه حقيقي، وأن تكون له عين حقيقية ، لأنه لو كان كذلك للزم أن يكون الله سبحانه وتعالى متبعضاً متجزئا ، والتبعض من آثار الصفة ، وآثار الصفة دالة على أن ذلك الشيء الواضحة فيه تلك الآثار هو مصنوع ، إذا ما هو موقفنا من كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟ ما هو موقفنا من قوله سبحانه وتعالى { الرحمن على العرش استوى } (1) . وما هو موقفنا من قوله سبحانه وتعالى: { آأمنتم من في السماء } (2) وما هو موقفنا من قوله سبحانه : { يد الله فوق أيديهم } (3) وما هو موقفنا من قوله تعالى : { تجري بأعيننا } (4) وما هو موقفنا من قوله : { ولتصنع على عيني } (5) وما هو موقفنا من قوله تعالى : { ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله } (6) إلى غير ذلك من الآيات التى ظاهرها أنه سبحانه وتعالى متحيز في جهة ، وأنه سبحانه وتعالى متبعض له يدان ، وله أعين وله جنب إلى غير ذلك .
__________
(1) سورة طه آية رقم 5 .
(2) سورة الملك آية رقم 16 .
(3) سورة الفتح آية رقم 10 .
(4) سورة القمر آية رقم 14 .
(5) سورة طه آية رقم 39 .
(6) سورة الزمر آية رقم 56 .
(1/4)
علينا أن ندرك بأن القرآن الكريم كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى باللسان العربي المبين ، جاء ليخاطب الإنسانية باللغة العربية ، التي ارتقت في ذلك الوقت إلى أوجها الشامخ بما مرت عليه من التطورات الكثيرة ، حتى وصلت إلى هذا المستوى لتستأهل بأن تكون وعاء لكلام الله سبحانه وتعالى الذي خاطب به عباده ، وأول من قرأ هذا الخطاب وسمعه هم العرب الإفصاح ، الذين نشأوا على هذه اللغة، وتعودوها سماعاً وخطاباً ، شعراً ونثراً وسبروا أغوارها ، وعرفوا مقاصدها في الخطاب ، واللغة العربية تشتمل على الحقيقة والمجاز كغيرها من اللغات، فإن كل لغة من اللغات فيها الحقيقة وفيها المجاز ، الحقيقة هي أن تستعمل الكلمات في ما وضعت له ، والمجاز أن تستعمل الكلمات لمعاني غير المعاني التى وضعت لها مع وجود قرائن تصرفها عن تلك المعاني الأصلية الموضوعة لها إلى المعاني المقصودة بها ، ومما يدل على أن المجاز موجود في جميع اللغات هو استعمال الكلمات المستخدمة التي وضعت لمعاني معينة في غير هذه المعاني التى تواضع الناس في هذا العصر الجديد على وضعها لها ، مثل ذلك ما نسمعه أحياناً في الكلمات المترجمة من اللغة الأصلية التي استعملت فيها إلى لغة أخرى .
(1/5)
سمعت في يوم من الأيام في القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية بلندن نقلاً لكلام عن لغة أجنبية فيه أخبار عن رئيس دولة أنه أعطى الضوء الأخضر لعملية . ما هو المقصود بالضوء الأخضر ؟ هل وأضاء ضوءً أخضر ؟ لا ولكن بما أن الناس تعودوا استعمال الضوء الأخضر في مقام إباحة استعمال الشيء ، استعملت هذه الكلمة باللغة التى استعملت فيها لإباحة أو تجويز استعمال عملية معنية ، لغرض معين ، وإن لم يكن هناك ضوء أسود أو أخضر ، أو أحمر ، أو أصفر ، أوغير ذلك ، كذلك قرأت مقالاُ لأحد الكاتبين الأجانب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والكاتب غير مسلم ، وغير عربي ، بل هو مستشرق فرنساوي يسمى ( لامرتين ) كتب عن تأثير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العالم بدعوته التوحيد حتى تكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان ، استعمل كلمة الكهرباء التي ما كانت موجودة من قبل إلا بعد اكتشاف الكهرباء ، وليس مقصده بذلك الطاقة الكهربائية ولكن استعار هذه الكلمة للأثير المعنوي الذي يشبه الأثير الحسي للطاقة الكهربائية ، وكذلك أصبحت كلمات كثيرة تستخدم من هذا القبيل كالذرة ونحوها ، تستعمل في غير المعاني التي وضعت لها بهذا نتبين أن المجاز موجود في لغات العالم ، ولا يتوصل إلى تأكيد المقاصد وتعميق المعاني في النفوس إلا بالمجاز ، لأن المجاز يعطي عمقاً للمعنى في النفس واللغة العربية لها النصيب الأوفر من ذلك .
والقرآن الكريم أوفرها نصيباً فإذا جئنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى ، وجدنا الحظ الأوفر للمجاز في القرآن الكريم ، ولا يمكن لمنصف ينظر للحقائق بعين الإمعان لا بعين التقليد ، والمعاكسة أن ينكر المجاز في القرآن الكريم وإلا فكيف نفسر كثيراً من آيات الكتاب .
(1/6)
الله سبحانه وتعالى يقول لنا في كثير من الآيات : { اتقوا الله } (1) هل يمكن أن نفسر هذا الأمر بحسب معنى التقوى الحقيقي الذي وضعت له كلمة التقوى ؟ لا لأن أصل الاتقاء الاجتناب فكلمة اتقى مأخوذه من وقاه يقيه – فإتقاه أي جنبه – يجنبه فأجتنبه ، أذاً الفعل الذي هو اتقى مطاوع للفعل الذي هو وقع ومن المعروف في القواعد العربية التصريفية ، أن الفعل إذا كان مصدراً ، إذا كان على وزن فعل ، وكان مصدراً بحرف من هذه الحروف الخمسة التي هي اللام ، والميم ، والنون ، والراء ، والواو، التى يجمعها قول ( لم نرو ) فإن الفعل الذي يقابله في المطاوعة يأتي على وزن افتعل ، ولعلكم اطلعتم أخيراً على كتاب مقاليد التصريف وشرحه للعلامة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله الذي تفضلت بطبعه وزارة التراث القومي والثقافة ، في هذا الكتاب يقول المؤلف وفعل التضييق المطاوع وحيث ( لم نرو ) الشائع يعني إذا كان حرف من هذه الحروف الخمسة في أول الفعل أي أن أول ما ينطق بالفعل ينطق بما ليس لفاء الكلمة اعتباراً بالحرف الموجود بلفظة فعل فلذلك الحرف الأول يعبر عنه بالفاء ( وحيث لم نرو ) الشائع أي شائع ذلك حيث يوجد حرف من هذه الحروف الخمسة التي يجمعها قول أحدنا ( لم نرو ) .
__________
(1) هذه الاية كثيرة في القرآن الكريم مثلا البقرة آية 194 ، 196 ،203 ، 223 ،231 ،233 ، والنساء أية 1 والمائدة 4 ، 7 ، 8 ،11 }
(1/7)
فإذاً التقوى بمعنى الاجتناب والأصل إذا قلت اجتنبت هذا الشيء أي اجتنبت عينه ولكن في حق الله سبحانه وتعالى إذا قلت اتقيت الله هل يمكن أن يكون قصدك من هذا أنك ، اجتنبت ذات الله تعالى ؟ كل أحد يدرك استحالة ذلك فإذا ما هو المجتنب إنما المجتنب هو سخط الله بإتباع أوامره واجتناب نواهيه ، المجتنب هو سخط الله ، وإنما عدي هذا الفعل إلى اسم الجلالة لأجل المبالغة في التأكيد . ويقول سبحانه وتعالى : { وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (1) .
كلنا يدرك أن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا في هذا الآية أن نعتصم بحبل تمسكه بأيدينا ، وإنما المقصود بالحبل الدين ، دين الله سبحانه وتعالى لأنه يصل بين العبد وربه كما يصل أيضا بين الفرد ومجتمعه ، فأمر عباد الله سبحانه وتعالى أن يعتصموا بحبل الله ، أن يتمسكوا بالدين الذي يوحد شملهم .
ويقول الله عز من قائل : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } (2) ومن المعلوم قطعاً أنه ليس المراد من ذلك أنه أخذ القلم وسطر الإيمان في قلوب هؤلاء الناس كما يأخذ أحدنا القلم وسطر في اللوح ، أو في الورق الكلمات التى يكتبها ، إنما المراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل الإيمان في قلوبهم ثابتاً ، كما تثبت الكتابة في اللوح ، ويقول الله عز من قائل في وصف نفسه : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } (3) .
__________
(1) سورة آل عمران آية رقم 103 وتكملة الآية { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم اياته لعلكم تهتدون} .
(2) سورة المجادلة آية رقم 22 وتكملة الآية { وايدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خلدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون } .
(3) سورة هود آية رقم 65 .
(1/8)
مع أنه مما يدركه كل أحد أنه ليس المراد بذلك إن الله سبحانه وتعالى ممسك إمساكاً حقيقياً كما يمسك أحدنا شعراً من رأسه بناصيته كل دابة ، وإنما مراد الله سبحانه وتعالى بذلك أنه يعرف كل دابة تعريفاً كما يشاء ويختار هذا التعريف مر به إلى الأذهان بشبيهه وهذا من باب تشبيه الأعلى بالأدنى بشبيهه إمساك أحدنا بناصية إنسان أو ناصية دابة وكذلك قوله سبحانه : { إن ربي على صراط مستقيم } (1) يدركه كل أحد أن الله سبحانه وتعالى واقف على الصراط ، قاعد على الصراط تعالى الله عن ذلك ، ثبات الصراط هو الطريق وليس المراد من هذا أن الله سبحانه وتعالى واقف على طريق مستقيم ، أو قاعد على طريق مستقيم ، ويقول الله تعالى : { ويرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته } (2) وهل للرحمة يدان ؟ لا . ويقول الله تعالى في القرآن : { لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } (3) وهل للقرآن يدان ؟ لا .
ويقول الله سبحانه وتعالى في الأرض : { فامشوا في مناكبها (4) والآيات في ذلك كثيرة من تدبر كتاب الله سبحانه وتعالى وجد من ذلك العجب العجاب فأذاً المجاز لا يمكن أن ينكر والمجاز في كلام العرب موجود بكثرة فإنه الوسيلة التي يتوصل بها المتكلم إلى تعميق المعاني في النفوس ، كما قلت والله سبحانه وتعالى وإن لم يكن في حاجة إلى وسيلة ، فإنه استعمل هذا الأسلوب في مخاطبة الناس لأجل أن يكون هذا الخطاب مفهوماً لعباده، حتى لا يخرج القرآن عن الأسلوب العربي ، ومن أمثلة ما جاء من المجاز في كلام العرب قول الشاعر :
وغداة ريح قد كشفت وقرة - إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
هل للغداة زمام ؟ وهل للشمال يد ؟ لا . ويقول آخر
وفي يدك السيف الذي امتنعت به - صفاة الهدى من أن تدق فتخرقا
__________
(1) سورة هود آية رقم 65 .
(2) سورة الروم آية رقم 46 .
(3) سورة فصلت آية رقم 42 .
(4) سورة الملك آية رقم 15 .
(1/9)
كل أحد يدرك أنه ليس المقصود هنا بالصفاة الصخرة ، وأنه يخشى عليها أن تدق فتخرق بمسمار وهكذا الشعر العربي حافل بالمجاز ، الإمام الشافعي من أبلغ العرب قد كان بليغاً في العربية جداً ، كما أنه كان من أئمة الفقهاء ، ونجد له من الشعر المشتمل على المجاز العجب العجاب ، وقد جاء شعره في منتهى الروعة ، من أمثلة ذلك قوله :
فيا بومة قد عششت فوق هامتي - على الرغم منى حين طارغرابها
ما مقصده بالبومة ؟ قصده الشيب . وما قصده بالغراب ؟ قصده الشباب لأن البومة بيضاء والغراب أسود ، ويقول في هذه القصيدة نفسها في وصف الدنيا :
وما هي إلا جيفة مستحيلة - عليها كلاب همهن اجتذابها
هي ليست جيفة بالمعنى الذي نفهمه ، وإنما هي جيفة بالمعنى الذي قصده وهو أنها ينبغي بل يجب على الإنسان أن يتجنبها فلا يغتر بها ثم يتبع ذلك قوله :
فإن تجتنبها كنت سلماً لا هلها - وان تجتذبها نازعتك كلابها
(1/10)
وهكذا نجد في أشعار بلغاء العرب في القديم ، والحديث ، المجاز في كلامهم ، فلا محيص عن إثبات المجاز ومما يستغرب جداً أن العلماء الذين أنكروا المجاز ليتوصلوا بذلك إلى إنكار تأويل الآيات المتشابهات وقعوا في أمر مريج بسبب اضطرابهم ، من أمثلة ذلك ما نجده في مؤلفات العلامة ابن القيم فإنه قد أنكر المجاز حتى يتوصل إلى إقرار هذه الكلمات التي وردت في القرآن على ما هي عليه ، ولكنه وقع في اضطراب نجده في كتابه ( الصواعق المرسلة ) ينكر المجاز من اثنين وخمسين وجهاً هذه الوجوه إذا تدبرها الإنسان يراها ينقض بعضها بعضا اكتفى بنقل مثال مما جاء في بعض هذه الوجوه قال ما معناه أن الذين يثبتون المجاز يفرقون بين الحقيقة والمجاز بإعتبار الحقيقة لا تحتاج إلى قرنية والمجاز يحتاج إلى قرنية ، وهذا كلام باطل فإن كل كلام يحتاج إلى قرنية إذ لولا قرنية تركيب الكلام ممن سمع كلمة الباطل أن المراد بها الحق ، أوسمع كلمة نور أن المراد بها الظلمة أو سمع كلمة الظلمة المراد بها النور ، أو سمع كلمة أمام المراد بها وراء ، أو سمع كلمة وراء المراد بها أمام ، أوسمع كلمة فوق المراد بها أسفل ، أوسمع كلمة أسفل المراد بها فوق ، أوسمع كلمة يمين المراد بها شمال، أوسمع كلمة شمال المراد بها يمين ، وهكذا ، ولعل ذلك يفصل وأستغفر الله من هذا المثال إلى أن يقول أحد اذا سمع كلمة الله أن المراد الشيطان أو سمع كلمة شيطان المراد بها الله ، مادامت الكلمات المفردات لا يتصور لها أي معنى من المعاني .
(1/11)
ابن القيم هذا الذي ينكر المجاز استعمل المجاز في نفس إنكاره للمجاز سمى كتاب الذي أنكر فيه المجاز ( الصواعق المرسلة ) ولفظة الصواعق هنا مجاز ثم عندما ترجم لرد المجاز قال الجزء الثاني في كسر الطاغوت الثالث وهو المجاز سمى المجاز طاغوتاً ، وهذا التسمية نفسها مجاز بجانب ذلك وقع في اضطراب غريب عندما جاء إلى بعض الآيات المتشابهات ووجد نفسه مضطراُ إلى تأويلها وقع في اضطراب ، واضطر إلى إثبات المجاز من أمثلة ذلك قال في قوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } (1) عندما رأى أنه لا محيص له من إثبات المجاز وإلا لزمه ما دام يثبت لله تعالى وجهاً ويثبت لله تعالى يدين ويثبت لله سبحانه وتعالى جبين .
__________
(1) سورة القصص آية رقم 88 .
(1/12)
ويثبت لله سبحانه وتعالى أصابع ، إلى غير ذلك ، وجد نفسه مضطراً إلى إثبات المجاز ، وإلا لزمه أن الله تعالى ينفي كله ، وتفنى هذه الأشياء كلها التى يثبتها لله ويبقى الوجه وحده ، هنا رجع وقال : لا بل الوجه هنا مجاز عن الذات ، ولكن الكلمات لا يستعمل في غير حقائقها ، إلا إذا كان معنى المستعمل فيه موجود فيه أصل تلك الحقيقة فلا يستعمل لفظ الوجه بمعنى الشيء إلا فيما فيه وجه ، ولا تستعمل لفظة يد بمعنى آخر غير هذه الجارحة إلا فيما فيه يد ، ولا تستعمل لفظة عين مثلاً بمعنى الحفظ الا فيما فيه غير هذا منقوض لأننا نجد في القرآن الكريم استخدام كلمات في معاني لم توجد فيها أصول معانيها الحقيقية ، منها { وأعتصموا بحبل الله جميعا } (1) هل هناك حبل صحيح ؟ لا . كذلك قوله سبحانه وتعالى في القرآن : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } (2) ليست للقرآن يدان حقيقتان فأين هذا المعنى الحقيقي الموجود فيها استعمل فيه المجاز . وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { ويرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته } (3) كلنا يدرك أن الرحمة ليست لها يدان ، ابن القيم نفسه الذي اعترف بالمجاز هنا بعد ما أنكره نجد يثبت المجاز أثباتاً في كتبه الأخرى من دون تقييم ، ففي ( أعلام الموقعين ) وفي ( زاد المعاد ) يثبت المجاز من غير تحفظ .
__________
(1) سورة آل عمرآن آية 103 .
(2) سورة فصلت آية رقم 42 .
(3) سورة الروم آيه 46 .
(1/13)
والأغرب من ذلك أن يؤلف نفسه كتاباً في علم البلاغة يسمى الكتاب ( الجامع لعلوم القرآن وعلم البيان ) ويتحدث في هذا الكتاب عن المجاز بمختلف أنواعه ، ويستشهد لكل نوع من هذه الأنواع عشرات من آيات القرآن الكريم ، فاذاَ الذي ينكر المجاز يبقى مضطربا جداً ، وقد سمعت من كثير من الناس ومن بين الذين سمعت منهم أستاذنا الشيخ عبد الرحمن عميرة إن أحداً من العلماء الذين ينكرون المجاز حاور أحد العلماء الأزهريين في هذه المسألة وكان المنكر للمجاز ضريراً ( أعمى لا يبصر ) فقال له الشيخ الأزهري : ليس إنكار المجاز من صالحك يا شيخ فإن الله سبحانه وتعالى يقول : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى واظل سبيلاً } (1) ما معنى إذا جاء اسم فاعله على وزن أفعل فهو عمى البصر لا عمى البصيرة لأن الجلي الظاهرة يأتي اسم الفاعل المصوغ من فعلها على وزن أفعل ، الأمور الطبيعية الظاهرة يأتي اسم الفاعل المصوغ من فعلها على وزن أفعل كعمي فهو أعمى وصم فهو أصم وعور فهو أعور ، أما ما كان باطناً كعمى القلب فإن اسم فاعله إنما يأتي على وزن فعيل كجزل فهو جزيل وفرح فهو مرح ويأتي كذلك على وزن فعلان كفرحان وجزلان فالذي أصيب فعمى القلب إنما يقال فيه عمي إلا إذا تجوز : يقول الشاعر :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله - ولكنني عن علم مافي غد عمي
على أي حال وضعنا الآن القاعدة لتأويل الآيات المتشابهات لنرجع إلى القرآن الكريم كيف يحدثنا عن هذه الآيات المتشابهات يقول سبحانه وتعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } (2) سمى الآيات المحكمات أم الكتاب أي هن أصل الكتاب ، والفرع يرد إلى أصله ، فأذاً الآيات المتشابهات ترجع إلى أصولها وهي الآيات المحكمات .
__________
(1) سورة الاسراء آية رقم 72 .
(2) سورة آل عمران آية رقم 7 .
(1/14)
وبهذا يتضح معناهن المستحيل المتعذر أن يكون الله سبحانه وتعالى قد خاطبنا بما لا يريد أن نفهمه فقد أمرنا بتدبر القرآن الكريم ولم يفرق بين شئ وآخر فيبيح لنا تدبر شئ منه ويحظر علينا أن نتدبر غيره كل القرآن علينا أن نتدبره فأذاً الآيات المتشابهات هن أيضا آيات داخله في ما أمرنا بتدبره وفيهم معانيه وقد تحدث العلامة ابن تيميه في تفسير سورة الإخلاص حديثا طويلا عن الآيات المتشابهات وحقق أن الله سبحانه وتعالى أراد لنا فهم معانيها غير أنه حمل معانيها الى حسب ما يظهر ويتبادل من هذه المعاني لأنه أيضا يمنع رد المتشابه من المحكم ويحمل الألفاظ على ظواهرها ويتبنى أيضا ذلك كتلميذه ابن القيم على قاعدة إنكار المجاز وقد نقل كلامه هذا صاحب المنار في تفسير هذه الآية في سورة آل عمران كثير من العلماء ذهبوا الى أن مذهب السلف السكوت عن الآيات المتشابهات والسكوت عن الأحاديث المتشابهات أيضا وعدم تأويلها وقالوا أن التعويض هو مذهب السلف وهو أسلم والتأويل هو مذهب الخلف وهو أعلم نحن إذا رجعنا إلى أقوال السلف نجد في أقوالهم ما يدلنا على تأويل المتشابهات فقد روي عن الإمام علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنه - تفسير لهذه الآيات المتشابهات بما يتفق وما يؤيده العقل من المعاني التي يجب أن تصرف إليها هذه الألفاظ بحسب ما يقضيه أسلوب استعمال الكلام المجاز .
(1/15)
وروي مثل ذلك عن مجاهد وغيره وأما كان السلف غير محتاجين لبحث هذه الأمور لأن السليقة العربية كانت تمكنهم من فهم المعاني فكانت المعاني واضحة لهم وألا فردوا المتشابه إلى المحكم ولنا عليه كلام الله سبحانه وتعالى الذي يحدثنا عنه . أمين وحيه وعبده ورسوله سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أخبر بإن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده يا عبدي مرضت فلم تعدني فيقول له العبد وكيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول له ربنا سبحانه وتعالى مرضى عبدي فلان فلم تزره ولو عده لو جتني عنده تأويل في أول الحديث الشريف الحديث القدسي الرباني إسناد المرضى إلى سبحانه وتعالى نفسه مع إنه يستحيل عليه المرض عقلا ونقلا ثم جاء من بعد ذلك بيان إعداد وإن هذا الإسناد إنما جاء بطريق الإسناد العقلي بطريق ما يسمى بالمجاز العقلي والمراد بمرضه الله سبحانه وتعالى عن ذلك مرض عبده ثم يقول في آخر الكلام ولو عدته لوجدتني عنده ليس المراد أن يجد الله سبحانه وتعالى عنده إنما يجد غيابه الله سبحانه وتعالى .
ثم يقول الله سبحانه وتعالى يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني فيقول العبد وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا عبدي استقيتك فلم تسقني فيقول له العبد وكيف أسقيك وأنت رب العالمين فيقول له استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ولو سقيته لوجدت ذلك عندي هذا هو التأويل يبينه ثم إن رد الآيات المتشابهات إلى المحكمات هو الذي يجعلنا نتفادى التناقض في القرآن الكريم ولو حملنا الألفاظ على ظاهرها لأدى ذلك إلى التناقض ، التناقض العجيب كيف لعبد ذلك .
(1/16)
الله سبحانه وتعالى يقول في آية واحدة { وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى } في أول الكلام ينفي الرمي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وفي وسطه يثبته له وفي آخره يسنده إليه سبحانه وتعالى فلو حمل الكلام على ظاهره لقال الذين يريدون الطعن في القرآن الكريم أن هذا كلام متناقض ولكن مع تأويل هذا الكلام وحمله على ما يراد به يتبين أن المراد وما فسرت الرمي حين رميت ولكن الله هو الذي سرد الرمي أنت لم تستطع تسديد الرمي ولكن الله هو الذي استطاع تسديد الرمي هو الذي قدر على تسديد الرمي ثم إن حمل الألفاظ على ظاهرها وعدم التأويل يفتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب العقائد المنحرفة الظالة بإختلافها هذه الآية الكريمة يمكن فيها مع عدم تأويلها أن يجد صاحب عقيدة وحده الواجبة.طريقا إلى إثبات معتقده فيقول بما إن الله سبحانه وتعالى جعل وحي نبيه - صلى الله عليه وسلم - راميا له الله هو الرسول والرسول هو الله أو الخالق هو المخلوق والخالق هو الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكذلك يجد القائم بوحدة الوجود مستندا إلى إثبات معتقده من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكيه عن الله سبحانه وما يزال عبدي يتقرب إلّى بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التى يمشي بها . ويجد أيضاً النصارى حجة الإثبات معتقدهم من قوله سبحانه وتعالى { وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه } .
(1/17)
فإذا التأويل أمر لابد منه تتوقف عليه سلامة العقيدة لتشبيه الله تعالى بمخلوقاته ويتوقف عليه دفع طغيان المغرضين في القرآن الكريم أنه متناقض ويتوقف عليه دفع استدلال ذوى العقائد الفاسدة بآيات الكتاب العزيز على معتقداتهم المنحرفة البعيدة عن الحق ثم لوعدنا إلى الآيات المتشابهات نفسها التى تتعلق بذات الله سبحانه وتعالى وجدنا إن اثباتها جميعا إجيرتها على ظاهرها يؤدي إلى التناقض في نفس مدلولاتها الله سبحانه وتعالى يقول { فأينما تولوا فثم وجه الله } فثم بمعنى هناك مع إن الذين يمنعون التأويل يحصرون الذات العلية في الجهة الفوقية ويقولون بأن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه استواءً حقيقيا ولا يضرب بالاستواء الاستيلاء ولا يفسرون الاستيلاء بالاستواء أو يفسرونه بإنه كناية عن سيطرته سبحانه وتعالى على مخلوقاته كما يقال قعد الله على العرش أو قعد السلطان على العرش بمعنى ملك وحكم .
فإذا كيف يقولون في قوله سبحانه وتعالى { فإنما تولوا فثم وجه الله } في مثل هذا الموقف يضطرون إلى التأويل وإن قالوا بأن كلامهم ليس تأويلا لننظر في قوله سبحانه وتعالى { ولتصنع على عيني } إذا قلنا بأن العين هي جارحة بدى بها الله سبحانه وتعالى كما يرى الناس بأعينهم هل من الممكن أن يحمل هذا الكلام على ظاهره فيقال إن موسى صنع فوق عين الله تجري بأعيننا هل يمكن أن يقال إن تلك الأعين كالمقود لتلك السفينة تجري بها وإن يكن السفينة تجري فيها أن قيل بإن الباء بمعنى في ذلك مستحيل .
(1/18)
ومن مكابرة الحقيقة ما يقوله الشيخ ابن باز رداً على الشيخ الصابوني في المعركة الجدلية الحادة التى كانت بينهما في الآيات المتشابهات يقول الشيخ ابن باز بإن هذا ليس تأويلا لأنه حمل الكلام على ما يتبادر من معناه طيب اذن ينفي قبل كل شيء أن نتبين ونستفسر الشيخ ما هو مفهوم العين لغة ؟ ثم بعد ذلك نقول للشيخ أيضا إنك تثبت لله سبحانه وتعالى عين من خلال هذه الآيات ما رمت نقول إن الأعين هنا بمعنى الحفظ وإن ذلك ليس تأويل فإذا ما هو دليلك على إثبات العين وكما قلت لكن إن ابن القيم نفسه عندما جاء إلى قول الله سبحانه وتعالى { كل شئ هالك إلا وجه } اضطر إلى التأويل وقال بإن الوجه هنا بمعنى الذات العلية والشيخ ابن باز كذلك تحدث في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ما يحكيه عن الله سبحانه وتعالى إنه قال لا يزال عبدي يتقرب إلّى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشي بها فقال : إن هذا ليس تأويلا يعني إن هذا اعتباره من المعنى إذا ما هو مفهوم اليد لغة وما هو مفهوم الرجل لغة ؟
(1/19)
وما هو مفهوم البصر وما هو مفهوم السمع ما دام هذا أليس تأويلا ونقول مثل ذلك إذا لم يكن هذا تأويلا في كلا الآيات المتشابهات إذا حملت على ما تدل عليه الآيات المحكمات من تنزيل الله سبحانه وتعالى بإن ذلك أيضا ليس تأويلاً فلماذا يقال في هذه بأن ذلك تأويل وفي هذه ليس تأويل هذا من التنعت قول الله سبحانه وتعالى { الرحمن على العرش استوى } إنما هو كناية عن حكم الله سبحانه وتعالى لكل شيء وقهره لكل موجود وتصريفه هذه الكائنات بأسرها بأن من المعروف في استعمال العرب إنهم يقولون قعد الملك على العرش أو عندما قعد الملك على العرش ولو لم يكن له عرش يقعد عليه ويقصدون بذلك إنه عندما حكم قد يعترض معترض وفعلاً وقع هذا الأعتراض بأن ذلك منقرض بعطف استوى على العرش على ما قبله ثم في قوله سبحانه وتعالى { الذي خلق الارض في ستة ايام ثم استوى على العرش } ويبرر هذا الاعتراض لأن ثم هنا للمهلة الترتيبية وليست هي للمهلة الزمنية وقد قال كثير من المحققين بإن ثم إذا عطفت جملة على جملة لا تكون إلا للمهلة الترتبية وأنا لست أوافقهم على هذا الإطلاق ولكن مجئ ثم للمهلة الترتبية عند عطف الجمل بعضها على بعض كثير في القرآن الكريم وفي كلام العرب .فالله سبحانه وتعالى يقول { ويقول الإنسان إذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان انا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة ايهم اشد على الرحمن عتيا ثم لنحن اعلم بالذين هم أولى بها صليا } .
(1/20)
فقال الله سبحانه وتعالى بالذين أولى بها صليا ليس مناضراً وقول الله تعالى { يد الله فوق أيديهم } إنما هو قدرته فوق قدرتهم ، اليد تستعمل بمعنى القدرة وتستعمل بمعنى النعمة يقال لفلان على يد يعني النعمة { بل يدان مبسوطتان } أي نعمتاه الظاهرة والباطنة وقول الله سبحانه وتعالى { ولتصنع على عيني } { تجري بأعيننا } بمعنى بحفظنا وعلى حفظنا وقول الله تبارك وتعالى { علاما فرطت في جنب الله } يعرض الله وقد ورد ذلك في الشعر العربي
أما تتقين الله في جنب عاشق - له كبد حرى وعين ترقرق
أي في حق عاشق وهكذا كل الآيات المتشابهات يجب أن ينحى بهما هذا المنحى وإذا حملت الآيات المتشابهات على حسب ما تدل عليه ظواهر ألفاظها أدى ذلك إلى أمر صريح الله سبحانه وتعالى يقول نسوا الله فنسيهم وفي عجائب الأمور إني وجدت ابن القيم في الصواعق المرسلة يثبت النسيان لله تعالى مع ان الله تعالى يقول { وما كان ربك نسيا } . { نسوا الله فنسيهم } كيف يجمع ما بين قوله ماكان ربك نسيا وبين نسوا الله فنسيهم إن لم يكن هناك تجوز نسوا الله فيهم بمعنى أهملوا حق الله سبحانه وتعالى ولم يكترثوا به فأهملهم الله سبحانه وتعالى لم يوفقهم للجبر ويقول الله سبحانه وتعالى { أم أصبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } علم الله سبحانه وتعالى لا يحدث ولكن يحدث ملومة وإلا فالله سبحانه وتعالى اعلم .
منذ الأزل عليم بمن سيجاهدون وعليم بالصابرين وعلم بالجاز عين وعليم بكل أحد وعليم بكل دقيقة وجليلة من هذا الكون وما يجري فيه { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ..
(1/21)
فإذا الرجوع إلى الآيات المحكمات هو الأصل الأصيل الذين منعوا التأويل قالوا أن الله سبحانه وتعالى له مجيء إلى المحشر يوم القيامة مجيء حقيقي أخذ من قوله تعالى { وجاء ربك والملك صفا صفاً } وقوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } .ولم يتفكروا في قوله سبحانه وتعالى في اليهود فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . ما معنى فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ؟ آتاهم آمره وكذلك المجيء يوم القيامة هو مجيء أمره وليس مجيء ذاته سبحانه وتعالى ويقول الله أيضا { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } ويقول تعالى { وقدمنا إلى ما عملناه من عمل فجعلناه هباء منثورا } ليس هنا مجيء حقيقي وإنما هو مجيء فعل من الله تعالى مجيء أمر من الله - عز وجل - وهكذا في سائر الآيات التي تشبه هذه الآيات يجب أن تحمل على ما يليق بتنزيه الله سبحانه وتعالى.
(1/22)
كثيراً ما يشد الذين ينكرون المجاز وينكرون التأويل في النزول ويقولون لابد من اعتقادات الله سبحانه وتعالى ينزل نزولاُ حقيقياً آخر كل ليلة عندما يبقى الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له بحسب ما جاء به ظاهر الحديث ولم يتفكروا أن الحديث لو حمل على ظاهره لأدى إلى اضطراب الناس خصوصاً في هذا العصر الذي اكتشفت فيه الناس طبيعة الكرة الأرضية وإن الليل والنهار متلاحقان في الكرة الأرضية { يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا } يتلاحقان باستمرار فما من وقت من الأوقات إلا في جزء من الكرة الأرضية ثلث الليل ما من لحظة من اللحظات إلا في جزء من الكرة الأرضية ثلث الليل إذا باعتبار أي ليل إذا بقي الثلث من الأخير من الليل ينزل الله سبحانه وتعالى نزولاً حقيقيا إلى سماء الدنيا وينادي بهذا النداء بإعتبار أي ليل هل بإعتبار ليل سكان استراليا واليابان والصين مثلاً أو ما بعد ذلك ، ما كان عربي ذلك من البلدان كالهند أو البلد نحن هنا أو ليل أهل الحجاز أو ليل أهل مصر أو ليل أهل أوربا أو ليل أهل أمريكا أنا بنفسي كنت في لوس أنجلوس وكنت مؤقتا ساعة بنفس توقيت هذه البلاد وكنت أتابع الأوقات فإذا غروب شمس يوم الخميس هناك هو نفس طلوع شمس يوم الجمعة هنا فضلا عما بعد ذلك في الأماكن التي هي أناى كجزر هاواي فإذا الليل والنهار يلفان في هذه الكرة الأرضية باستمرار وإذا حمل الحديث على ظاهره وقيل إن اعتقاد ذلك أمر ضروري لابد فيه وإنه من صميم الإسلام فإنه يؤدي ذلك عن لا يمكن إن لفهم الإسلام إلى الاضطراب وقد يؤدي به ذلك والعياذ بالله إلى الارتداد عندما يرى هذه الحقائق العلمية الكونية نكذب ذلك .
(1/23)
ومثل هذا الذي وقع في أوربا عندما اكشف العلم الحديث الحقائق الكونية التي يخالف ما كان يسمى بالجغرافية المسيحية فأن ذلك أدى بهم إلى الكفر بكل دين من حيث إنهم لم يفهموا الدين إلا من خلال تلك النظريات الباطلة فإذاً المقصود بنزول الله نزول أمره سبحانه وتعالى فإن الله تعالى يستجيب لأهل كل بلد على اختلاف أوقاتهم عندما يدعونه في الثلث الأخير من الليل ويتوب عليهم عندما يتوبون إليه ويستغفرونه والمتحدثون الذين تحدثوا حول هذه المواضيع من منطلق منبع التأويل نجدهم بأنفسهم متناقضين فإن ابن القيم مثلاً يقول في نزول الله سبحانه وتعالى بأن هناك خلافا ما بين العلماء التي ارتقت في ذلك الوقت إلى أوجهها الشامخ بما مرت عليه من التطورات الكثيرة حتى وصلت إلى هذا المستوى لتستأهل بأن تكون دعاء الكلام الله سبحانه وتعالى الذي خاطب به عباده وأول من قرأ هذا الخطاب وسمعه هم العرب الاقحاح الذين نشأو على هذه اللغة وتقودها سماعاً وخطاباً شعراً ونثراً وسبروا أغوارها وعرفوا مقاصدها في الخطاب .
واللغة العربية تشتمل على الحقيقة والمجاز كغيرها من اللغات فإن كل لغة من اللغات فيها الحقيقة وفيها المجاز لا الحقيقة : هي أن تشتمل الكلمات في ما وضعت له والمجاز أن تستعمل الكلمات لمعاني غير المعاني التي وضعت لها مع وجود قرائن تصرفها عن تلك المعاني الأصلية الموضوعة لها إلى المعاني المقصودة بها ومما يدل على أن المجاز موجود في جميع اللغات هو استعمال الكلمات المستحدثة ، التي وضعت لمعاني معينة في غير هذه المعاني التى تواضع الناس في هذا العصر الجديد على وضعها لها مثل ذلك ما نسمعه أحيانا في الكلمات المترجمة إلى اللغة الأصلية التي استعملت فيها أي لغة أخرى .
(1/24)
سمعت في يوم ما من الأيام في القسم العربي من الهيئة الإذاعة البريطانية بلندن نقلاً لكلام عن لغة أجنبية فيه أخبار عن رئيس دولة أنه أعطى الضوء الأخضر لعملية ما هو المقصود بالضوء الأخضر هل أضاء ضوءا اخضر لا ولكن بما أن الناس تعودوا استعمال الضوء الأخضر في مقام إباحة استعمال الشيء استعملت هذه الكلمة باللغة التي استعملت فيها الإباحة أو تجويز استعمال عملية معينة لغرض معين وأن لم يكن هناك ضوء سواء أخضر أو أحمر أو أصفر أو غير ذلك كذلك قرأت مقالاً لأحد الكاتبين الأجانب عن الرسول عليه الصلاة والسلام والكاتب غير مسلم وغير عربي بل هو مستشرق فرنساوي سمي ( لا مرتين) كتب عن تأثير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العالم بدعوته وقال انه لم يمضي ثلث قرن من الزمان منذ نادى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بدعوة التوحيد حتى تكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان استعمل كلمة الكهرباء التي ما كانت موجودة من قبل إلا بعد اكتشاف الكهرباء وليس قصده بذلك الطاقة الكهربائية ولكن استعاد هذه الكلمة للأثير المعنوي الذي يشبه الأثير الحسي للطاقة الكهربائية .
وكذلك أصبحت كلمات كثيرة تستخدم من هذا القبيل كالذرة ونحوها تستعمل في غير المعاني التي وضعت لها بهذا نتبين أن المجاز موجود في لغات العالم ولا يتوصل إلى تأكيد المقاصد وتعميق المعاني في النفوس إلا بالمجاز لأن المجاز يعطي عمقاً للمعنى في النفس واللغة العربية لها النصيب الأوفر من ذلك والقرآن الكريم ادخرها نصيبا فإذا أضفنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وجدنا الحظ الأوفر للمجاز في القرآن الكريم ولايمكن لمنصف ينظر للحقائق بعض الإمعان لا بعين التقليد والمعاكسة ان ينكر المجاز في القرآن الكريم وإلا فكيف نظر كثيراً إن آيات الكتاب .
(1/25)
الله سبحانه وتعالى يقول لنا في كثير من الآيات { اتقوا الله } هل يمكن أن تفسر هذا الأمر حسب معنى التقوى الحقيقي الذي وصف له كلمة التقوى ؟ لا لأن أصل الاتقاء الاجتناب فكلمة اتقى مأخوذه من وقاه ، يقيه ، فاتقاه أي جنبه ، يجنبه ، فإجتنبه إذاً الفعل الذي هو اتقى مطاوع للفعل الذي هو وقع ومن المعروف في القواعد العربية التعريفية أن الفعل إذا كان مصدراً عندما ينزل في الثلث الأخير من الليل هل يخلو منه العرش أو لا يخلوا منه ونجد كثيراً من كلامهم يدل على ان الله سبحانه وتعالى محدود الجهات كالذين يريدون بأن الله سبحانه وتعالى ينزل يوم القيامة عن عرشه إلى كرسي ينصب له في الجنة فيجلس الناس المؤمنون من حوله فإذا هذا يدل على انحصاره في مقابل ذلك نجد كلام عماد الدين الواسطي الذي هو أحد تلامذة ابن تيميه فهو زميل لابن القيم يخالف هذا الكلام ويقول ما معناه بإن الله سبحانه وتعالى كائن وليست له جهة من الجهات لأنه كان قبل خلق الجهات ثم لما اقتضت أرادته سبحانه وتعالى على أن يخلق هذا الكون كان من اللائق أن يجليه في جهة سفلية فكان سبحانه وتعالى أعلى من الكون من غير أن يكون له حدود ولكن من حيث إنه اثبت إنه سبحانه وتعالى كان في الجهة الفوقية والكون في الجهة السفلية لزم من أن يكون الله تعالى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق