الكتاب: الأدلة العقلية على وجود الله لأحمد الخليلي
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
الأدلة العقلية على وجود الله
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي
وراء كل صِنعة صانع
هل الكون وجد مصادفه؟
فلينظر الإنسان مما خلق
فلينظر الإنسان إلى طعامه
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
نعمة البيان من أجلّ النعم ودليل على وجودالله
وفي الأرض آيات للموقنين
حوار مع طبيب
أسئلة الجمهور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين أما بعد:
فأحييكم في هذا اللقاء الأول من هذا الفصل الدراسي) بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسأل الله تعالى أن تكونوا في هذا الفصل الجديد أكثر نشاطاً، وأبعد همة وأحرص على التحصيل منكم في الفصل الماضي.
وقد تكلمت في الدروس السابقة في الإطار العام للعقيدة الإسلامية ونوهت بأركان الإيمان الستة التي جاء بها حديث جبريل عليه السلام، وفي هذا الفصل وما بعده سيكون حديثي إن شاء الله عن الركن الأول من أركان الإيمان، عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى مع بعض التفصيل والبيان بقدر ما يسمح به الوقت.
في الهامش ألقيت هذه المحاضرة في الفصل الدراسي الربيعي 1408هـ 1988م
وراء كل صِنعة صانع
لا ريب أن كل عاقل يدرك أن وراء كل صنعةٍ صانعًا، والكون بأسره هو من ضمن الصناعات، بل هو الصنعةُ الكبرى فلا بد له من صانع ومن شواهد افتقار الكون إلى الصانع هو علامات حدوث الكون فإن العلامات الدالةُ على حدوثه بارزة في كل شيء منهُ، فتراكيب هذا الوجود كلها دالة على أنه حادثٌ، كما أن تناقصَ الحرارة الديناميكيةُ فيه تدل على أنه سينتهي، وعلى أنه لو وجد قبل الفترة التي وجد فيها بملايين من السنين لكان قد انتهى، وهذا يعني أن الكون منتهٍ وكل ما كان منتهياً فله بدايةٌ.
(1/1)
فإن كل ما ثبت قدمهُ استحال عدمهُ وإذا كان الكون حادثاً فلا بد له من محدثٍ أحدثهُ، والناس تكلموا بحسب عقولهم المحدودةُ في حدوث الكون وفي محدثهِ، وقد بحثوا في المحدث بوسائل مختلفةٍ، من هذه الوسائل الطرق الفلسفية التي نهجها كثير من الفلاسفة وتبعهم عليها جماعة من علماء الكلام وهذه الوسائل في الحقيقة هي وسائل معقدةٌ، وهناك وسائل مبسطةٌ جدًا هذه الوسائل هي التي جاء بها القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم خاطب العقل البشري ليقيم عليه الحجةُ بوجود خالقة تعالى من خلال وجود الإنسان نفسه، ومن خلال البيئةُ التي يعيشها الإنسان، ومن خلال طبيعةِ هذا الكون بأسره.
فالله سبحانه وتعالى يقول {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) ويقول الحق تبارك وتعالى
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (2) ويقول سبحانه {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (3) ويقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وانتم تعلمون} (4) ويقول عز من قائل {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون. هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماواتٍ وهو بكل شيء عليم} (5).
(1/2)
في هذه الآيات وأمثالها يقيم الله سبحانه وتعالى علينا الحجة من أنفسنا ومن البيئة التي نعيش فيها، ومن طبيعة الكون الذي نقلب الطرف في جزء صغير جداً من أجزائه الواسعة الدالة على وجوده تعالى وعلى صفاته العظيمة وهذه الطريقة ميسرة للفهم، ولذلك عندما سئل أعرابي بم عرفت ربك؟ قال: البعرةُ تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافةُ، ومركز سفلي بهذه الكثافةُ، أما يدلان على الصانع الخبير هذه إجابة من أعرابي لم يدرس في جامعة، بل لعله لم يفتح عينيه على صفحةٍٍ مكتوبةٍ.
(1/3)
وهذه الطريقة اهتدى إليها بعض الفلاسفة وهو سقراط(6) عندما كان يقيم الحجةُ على أستاذهِ الذي كان ينكرُ وجود الله تعالى على أن لهذا الخلق خالقاً ولهذا الكون مكونا. فقد تحدث إلى أستاذهِ في يومٍ ما، تحدث الطالب المتأدبُ أمام أستاذهِ، فقال له: يا أستاذ هل أعجبتَ ببعضِ الناس الذين ابتكروا شيئاً من الصناعاتِ؟ فقال له نعم قال بمن أُعجبتَ؟ فقال له: أعجبتُ بفلانَ، وأعجبتُ بفلانَ، وأعجبتُ بفلانَ، فأخذَ يحدثُ عن جماعةٍِ من الصناعِ، قال له: ما صنع هؤلاءِ؟ فقال له: هؤلاءِ صنعوا كذا وصنعوا كذا، قال له: من ترى أولى بالإعجابِ هل الذي صنعَ الجسم الميتَ الذي لا حراكَ لهُ ولا إرادةَ ولا حياةَ، أم الذي صنعَ الإنسانَ الحيّ المتكلم، الذي يعبرُ عن إرادةٍ، ويتحركُ بإرادةٍ ويتصرفُ بإرادةٍ، وله حياةٌ تنبضُ، وله مشاعرُ تحس، وله عقل مفكر قال له: لوثبت عندي أن الإنسانَ صنعةُ صانعٍ لكان الذي صنعَ الإنسانَ أولى عندي بالإعجابِ من الذين صنعوا هذه الأشياء التي ذكرتها لك قال له وإذا أقمتُ لك الشاهدَ من الإنسانِ نفسهُ على أن صانعاً صنعهُ، قال له ائتني بهذا الشاهدِ، قال له: انظر إلى عيني الإنسانِ كيف يلتقطانِ الصورَ المختلفةَ ذواتِ الألوانِ المتنوعةِ ولا تشتبهُ عليهما هذه الصور، وتميزان ما بين صورةٍ وصورة، وانظر إلى أذنيهِ اللتينِ تتلقيانِ الأصواتَ المتنوعةَ المتعددةَ ولا تتخافتُ عليهما هذه الأصواتُ، ولا تمتلآن بهذه الأصواتِ مع صغرهما وكثرةِ الأصواتِ، وانظر إلى طعام الإنسانِ كيفَ يطعَمهُ، فإن هذا الخالقَ الذي خلقهُ جعل لهُ أسناناً في المقدمةِ كالسكاكينِ تقطعُ الطعامَ، ثم يلقيه الفم إلى الأضراس الخلفيةُ التي هي كالرحى وتطحن. أما يكفيكَ ذلك شاهداً على أن للإنسان خالقاً وأن لهذا الكون كله خالقاً فقال له: بلى، فسلم بهذا المنطق الذي خاطبه به تلميذه.
---------------------------------
1-سورة إبراهيم إيه 10
(1/4)
2- سورة الذاريات اية 20، 21
3- سورة ابراهيم 32 - 33 - 34.
4-سورة البقرة الايتان 21، 22
5-سورة البقرة 28، 29
6- سقراط: فيلسوف يوناني بدأ بمذهبه التحول من النزعة الطبيعية المادية إلى المثالية، وقد عاش ودرس في اثينا وكان من بين تلاميذه العديدين افلاطون وانتيشينون واريستبوس واقليدس الميجارى ولم يكتب سقراط شيئاً غير أن عقيدته عرفت عن طريق كتابات اأفلاطون وأرسطو. الموسوعة الفلسفية. عبد الرحمن بدوي. ص
هل الكون وجد مصادفه
وفي العصر الحديث شاعت بين الناس فكرة الإلحادِ، واعتبروا إنكارَ وجودِ الله سبحانهُ وتعالى والاعتماد على الاعترافِ بما أدركتِ الحواسُ واعتبرت هذه الفكرةُ فكرهٌ تقدميةٌ، والاعترافُ والإيمانُ بوجودِ خالقٍ وراء هذا الكون، والاعترافُ والإيمانُ بحقائق غيبية وراء هذا الكون اعتبر ذلك من الخرافاتِ التي يترفع عنها العقل الواعي المتفتحُ.
وتحدثوا كثيراً عن طبيعةِ حدوثِ الكونِ، ومن النظرياتِ الجدليةُ العقيمةُ التي جاءوا بها أنهم قالوا: بأن الكونَ حدثَ بطريقةِ المصادفة لأن هذه الذرات ذرات الكون كلها تتحرك، فبتحركِ هذه الذراتُ وقعَ التلاقي فيما بينها، فتركبت ووجد منها الكون.
(1/5)
أحد الفلاسفةُ الفرنسيين الذين كانت عقولهم متفتحةٌ على فهم الحقائقِ التي هي وراء المحسوسات فقال: يلزم هؤلاءِِِِِ ِالذين يقولونَ بهذه النظرية يلزمهم أنه لو جاء أحدٌ وكتبَ رد على هؤلاءِ الحروف الهجائيةُ مقطعةٌ في أوراقٍ متقطعة كل حرفٍ في ورقةٍ صغيرةٍ، ثم جمعَ فيما بينها في صندوقٍ ثم أخذاَ يهزُ هذا الصندوقَ هزاً، يلزمهم أن يمكن أن تتولد من هذه الحروف قصيدةٌ عصماء أو خطبةٌ بليغةٌ أو كتاب في الفلسفةِ أو في علمٍ من العلومِ؛ لأن جميعَ العلوم التي تكتبُ إنما تكتبُ من هذهِ الحروف كما أن الكونَ تكوّنَ من هذهِ الذرات، فإذا أمكنَ المصادفةُ العمياءُ أن تجمعَ ما بين هذهِ الحروف فتوحد بينها حتى يتكوّنَ منها كتابٌ أو قصيدةٌ أو خطبةٌ أو تتكونَ منها كلمةٌ أمكنَ أن تكونَ هذه المصادفةُ العمياءُ هي التي سببت تلاحم هذه الذرات حتى وجدَ منها هذا الكون الفسيح الذي ترتبَ لهُ ترتيباً دقيقاً والذي هو وحدةٌ متكاملةٌ بحيث يكملُ كل جزء منه سائرَ الأجزاء.
وهذا المنطق وإن كانَ هو منطقا سليماً إلا أن منطقَ القرآنَ أبلغُ منهُ فانظروا كيفَ يخاطبنا القرآنُ {قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنباً وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم} (1).
(1/6)
انظروا إلى هذا المنطق، منطق القرآن ويقيمُ الحجة على الإنسانِ بوجودِ خالقه من وجودِ نفسه، ويقيم الحجة أيضاً على الإنسانِ بوجودِ خالقٍ خلقهُ تعالى من هذا الكون الذي سخر لهُ، فالكون مسخرٌ للإنسان، ويعلمُ الإنسانُ أن كل مُسَخرٍ لابدّ لهُ من مُسَخرٍ وكلَ مُدَبرٍ لا بدَ لهُ من مُدَبِّرٍ، وكل مُحَدَثٍ لابدَ لهُ من مُحَدِثٍ، وكل مصنوع لابد له من صانع، فإن أحدنا لو جاء مثلاً إلى هذا المسجد فألقى عليه نظرةً من أولِ الأمرِ لم يسبقها نظرة، ليعلمَ قطعاً أن هذا المسجد بَنتهُ يدٌ بانية، وأنه لم يصنعَ نفسهُ هكذا، مع أن جميعَ المواد التي تكوّن منها هذا المسجد موجودةٌ من قبلِ، فالأسمنتُ موجودٌ، والرخامُ موجودٌ، والرملُ موجودٌ، والحديدُ موجودٌ، والألمنيومُ موجودٌ، والأخشابُ موجودةٌ، وكل شيء كان موجوداً قبلَ أن يتكوّنَ المسجدُ، لكن لا يصدقُ عقل أحدٍ أن هذه الأشياء تجتمعُ بنفسها حتى تتصنعَ فيتكونُ منها هذا المسجدُ.
وكذلك كل جهازٍ من هذهِ الأجهزةُ مثلاً - فإن كل مركباتهِ كانت موجودةً من قبل، ولكن لا يمكن لعقلِ أحدٍ أن يصدقَ أنها جاءت بنفسها والتأمت من غير أن تكونَ هناك إرادة دبرت صُنعها، ويدا تَولّت صُنعها، فكيف بالإنسانِ الذي لم يكن شيئاً مذكورا، فإن الإنسانَ الذي بلغَ من العمرِ ثلاثين سنة فيما قبلَ هذا الوقت لم يكن شيئًا مذكوراً أي قبلَ ثلاثين عاماً لم يكن شيئاً مذكوراً، والذي بلغ خمسين سنهً قبلَ الخمسينَ لم يكن شيئاً مذكوراً، والذي بلغَ الأربعينَ قبلَ الأربعينَ لم يكن شيئاً مذكوراً، وهكذا.
---------------------------------
1- سورة عبس الايات 24 - 32
فلينظر الإنسان مما خلق
(1/7)
فكيف يمكنُ لهذا الإنسانَ الذي كان عدماً أن يخرجَ نفسهُ من عالمِ الغيبِ إلى عالمِ الشهود ومن عالمِ العدم إلى عالمِ الوجود، كل عقلٍ يدركُ تعذّرَ ذلك، ثم لينظر الإنسان إلى المادةِ التي خلقَ منها، الله سبحانه وتعالى سمى هذه المادة نطفه من منيٍ يمنى {ألم يكُ نطفةً من منىٍ يمنى} (1).
هذه النطفةُ أو كما يعبرُ عنها العصريون بالحيوان المنوي أو بالخليةِ المنوية هي من الحقارةِ والدقةِ بحيث لا تكادُ تبصرُ حتى بأشعةِ المجهرِ، فإن الإنسان يتكون من حيوان منوي، هذا الحيوانُ هو واحدٌ من مائتي مليون حيوان منوي يقذفها الإنسانُ في المرةِ الواحدةِ، وذلك عندما يلتقي هذا الحيوان بالبويضةِ، هذا الحيوان الواحدُ أو كما يعبر الله تعالى عنها بالنطفةُ هذه النطفةُ فيها جميع الخصائص البشريةُ مع صغرها وليست الخصائصُ البشريةُ العامةُ فحسب، بل الخصائصُ البشريةُ الخاصةُ أيضاً فان الخصائصَ الوراثية تكون مجتمعةً فيها ولذلك يشابهُ الإنسانُ أباهُ وعمهُ وجدهُ وأبا جدهِ إلى ما وراء ذلك من الخصائص الوراثية؛ سواء كانت هذه الخصائص جسميةٌ، وهي الخصائص الظاهرةُ، أو كانت نفسيةٌ وهي الخصائص الباطنة، فكيف جمع هذا الحيوان الصغير لهذه الخصائص الوراثية الواسعة، مع هذه الخصائص البشرية العامة، الخصائص النفسية والخصائص الجسدية.
(1/8)
ثم لا يلبث هذا المصنوع أو المخلوق الجديد المهين كما وصفه الله سبحانه وتعالى – لا يلبث أن يتطور من طور إلى طور، وفي سلسلة هذه الأطوار يمر بمراحل مختلفة، كل مرحلة منها يتكون تكوناً عجيباً حتى يخرج من رحم أمه خلقاً آخر غير الخلق الأول، خلقاً آخر لأنه يخرج وهو إنسان كامل تبرز فيه معاني الإنسانية الظاهرة والباطنة ثم يتدرج هذا الإنسان شيئا فشيئا حتى يبلغ نموه إلى منتهاه، ثم يتدرج بعد ذلك في النقص شيئا فشيئاً، هذا الإنسان جمع الله سبحانه وتعالى فيه من عجائب صنعه الشيء العجيب الغريب، فإن تركيب الإنسان تركيب معقد إلى أقصى حدود التعقيد، وصفات الإنسان صفات مستغربة إلى أقصي حدود الغرابة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في جسم كل إنسان ستين مليون مليون خلية في هذه الخلايا وهذه الخلايا جعلها الله سبحانه وتعالى لها وظائف وتحتاج إلى مدد، ومن عجيب أمر الله سبحانه وتعالى أن الطعام الذي يسره للإنسان يأتي إلى المعدة فيتوزع على هذه الخلايا كلها، ويسد حاجتها من الغذاء.
--------------------
1- سورة القيامة اية 37
فلينظر الإنسان إلى طعامه
(1/9)
وهذا الطعام علينا أيضاً أن نفكر كيف جاء إلينا {فلينظر الإنسان إلى طعامه - إلى قوله - متاعا لكم ولإنعامكم} (1) ييسر الله سبحانه وتعالى لنا هذا الطعام تيسيراً مع شدة حاجتنا إليه، ويسر الله سبحانه وتعالى من الأيدي التي تعمل تيسر هذا الطعام مالا نحيط به علما، فالزارع والحارث والساقي والحاصد والتاجر والطاحن والطابخ، كل هؤلاء يعملون لأجل أن يصل هذا الطعام إلى من قد أن يكون رزقه، يمر بهذه المراحل كلها، وهذه المراحل التى يمر بها كلها بحسبان، مقدرة تقديرا عند الله سبحانه وتعالى، ومن عجائب الأمور أن هذه الخلايا المتعددة جميعها لها طابع صاحبها. فخلايا الذكر عليها طابع الذكورة، وخلايا الأنثى عليها طابع الأنوثة، واسمحوا لي إن تدخلت في مثل هذه الأشياء العلمية طبعا وهي ليست من اختصاصي وخصوصاً مع وجود الدكاترة المتخصصين فيها، ومع وجود الطلبة الذين يسعون إلى تحصيلها، ولعلي أخطىء كثيراً في الحديث عنها فإن الشيء صعب على من ليس يحسنه، ولكن إنما قصدي هذا إقامة الحجة والشاهد على وجود الله وبيان الطريق، طريق الاستدلال لوجود الله سبحانه وتعالى عند من يلحد في أسمائه وينكر آياته تعالى التي في الأنفس وفي الآفاق.
--------------------------
1- عبس 24 0 32
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
(1/10)
هذه الخلايا لها وظائف وهي مقدرة في جسم الإنسان تقديراً دقيقاً فالدماغ يتكون من ( أربعة عشر ملياراً من الخلايا ) هذه الخلايا خلايا الدماغ لها وظائف متنوعة، جعل الله سبحانه وتعالى هذه الخلايا هي مركز الجسد كله فجميع خلايا الجسد تؤدي إلى هذه الخلايا الدماغية لأن أنسجة من هذه الخلايا تمتد إلى الجسد كله وتلك الأنسجة هي التى يعبر عنها بالأنسجة العصبية فبواسطتها نسمع ونبصر ونحس بالحرارة ونحسن بالبرودة ونشم ونتذوق ونحس بالتعب أو بالألم، إنما جعل الله ذلك كله بواسطة هذه الخلايا فإذا انعكس في شعاع البصر شيء فإنما تلتقط صورة ذلك المرئي من كل عين مائة وثلاثون مليون خلية هذه الخلايا تؤدي إلى الدماغ فتفرز خلايا الدماغ مابين مبصر وآخر مابين الألوان ومابين المقادير الصغر والكبر إنما كل ذلك وظيفة الخلية الدماغية، والأصوات تلتقطها عشرة آلاف خلية لتؤديها أيضاً بدورها إلى الدماغ.
وكذلك البرودة فإن البرودة عندما تؤثر على الجسد تلتقط حس هذا البرد خلايا تقدر بربع مليون لتؤدي أثر أو حس هذا البرد إلى الدماغ، وعندما يشتد البرد تحصل الرعشة وتتنفس الشرايين، فالدورة الدموية هناك أيضاً تؤدي وظيفتها بحيث تزيد هذه الشرايين قدراً من الدم بقدر ما يسد ذلك الفراغ الحاصل فيها، وكذلك عندما يحس أحد بالحرارة أيضاً عدد من الخلايا تنقل أثر هذه الحرارة إلى الدماغ، وهناك الغدد العرقية تتنفس ليتصبب هذا العرق في هذا الجسم، ويقدر عدد هذه الغدد بثلاث ملايين من الغدد، هذه العجائب في صنع هذا الإنسان، الأمور هذه ميسرة للإنسان تيسيراً لا يحس به ولألفته هذه الأشياء يراها هينة ولا يعرف مقدار نعمة الله سبحانه وتعالى فيها، بل لألفة الإنسان للنطق يرى أن النطق أمر هيّن.
نعمة البيان من أجلّ النعم ودليل على وجودالله
فلذلك لا يكترث بنعمة النطق، الله سبحانه وتعالى ذكرنا هذه النعمة العظيمة عندما قال:
{
(1/11)
الرحمن، علم القرآن، خلق الانسان علمه البيان} (1)ذكر أولاً إنزال القرآن ثم ذكر سبحانه وتعالى ثانياً خلق الإنسان ثم ذكر عز وجل ثالثا تعليمه البيان، لأن نعمة البيان نعمة عظيمة، كيف يعرف الإنسان مافي ضمير صاحبه لو لا أن الله سبحانه وتعالى يسر لنا الكلام، يسرلنا النطق، يسر لنا الفهم، فهم مقاصد صاحب هذا النطق، فكل واحد يستمع من غيره، ويؤدي أيضاً ما في نفسه إلى غيره، لما آتاه الله تبارك وتعالى من البيان، والنطق ليس بالأمر الهيّن، فإن النطق يمر بحلقات متعددة، ولكن مروره بها مرور سريع ولذلك لايهتم الإنسان بهذا المرور لأنه مرور سريع فالإنسان عندما ينطق يستوي ذلك النطق من الدماغ، وماوراء ذلك لايعلمه الا الله سبحانه وتعالى، وهنا ترتفع الطاقة الهوائية الموجودة في الرئتين بمقدار مايقدره الله سبحانه وتعالى لأداء هذا الحديث فيرتفع في الشعب ثم إلى الحنجرة، وهناك يمكن للإنسان أن ينوع الصوت حسبما يريد إن أراد مديدا أواراده متقطعا أو أراده رفيعا أو نازلاً، وتشترك مع ذلك الأضراس واللسان والحنك والشفتان والهواء يمر النطق هذا المرور السريع بهذه الحلقات كلها أوبهذه المراحل كلها بأمر الله سبحانه وتعالى من غير أن يشعر الإنسان بعظم بهذه المنة العظيمة عليه.
{قتل الانسان ماأكفره} (2 ) مع هذا كله يتطاول هذا الإنسان المهين الحقير على رب العالمين الذي أقام عليه شاهداً من نفسه عليه من وجوده حجة على وجوده.
فوا عجبا كيف يعصى الإله=أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكه=وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية=تدل على أنه الواحد( 3)
(1/12)
وكل مافي الإنسان آيات دالة على وجود الله سبحانه، هناك أشياء أدق من الخلايا وهي الجسيمات وماهو أدق من الجسيمات، يمكن أن نعبر أن كل واحد من هذه هو لسان ناطق بتسبيح الله تعالى وتمجيده وإن أعجب ما قرأته ماكتبه الإمام العلامة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي( 4)رحمه الله في إحدى قصائده النورانية قبل نحو مائة وخمسين عاماً من وقتنا هذا أو ما يزيد على ذلك قال في هذه القصيدة:
... ...
أعاين تسبيحي بنور جنان=فأشهد منى ألف ألف لسان
وكل لسان أجتنى من لغاته=إذا ألف ألف من غريب أغان
ويهدي إلى سمعي بكل لغية=هدى ألف ألف من شتيت معان
وفي كل معنى ألف ألف عجيبة=يقصر عن إحصائها الثقلان
ولم أذكر الأعداد إلا نموذجاً=كأني في أوصاف ميططران
وإلا ففوق العد أمرمنزه=عن الحد يفنى دونه الملوان(5 )
ولا تتعجب إن عجبت فإنها=حقائق صدق ليس بالهذيان
هذه حقائق موجودة في الإنسان، هدى الله سبحانه وتعالى إليها العلماء النورانيين الذين يبصرون بنور الله تعالى قبل أن يكتشفها العلم، ومثله ذلك وإن كنت أوصل حديثا في حديث آخر، فهذا حديث كما يقال بين قوسين ) إنني في الأيام القريبة قرأت كتابا في مضار التدخين، فوجدت أن كثيرا من الأطباء يظنون الآن بأن التدخين مؤثر على الصحة الجنسية ثم وجدت بعد ذلك كتاباً آخر كتبه الدكتور محمد على البار وهو من الأطباء الكبار في المملكة العربية السعودية في مستشفى الملك عبدالعزيز، قال بأنه ثبت أن التدخين يؤثر على الصحة الجنسية، وهذا كلام قاله بعض علمائنا منذ وقت طويل فالإمام السالمي( 6)- رحمه الله- يقول في جوهره:
هنا ابيات ناقصه
يضعف الشهوة في الجماع )( 7)
(1/13)
حقائق يهدي إليها الله سبحانه وتعالى من يختار من عباده، هذه طبيعة الإنسان وهذه حالة الإنسان، وهذا جزء صغير من العجائب الموجودة في الإنسان وشرح ذلك يطول، فالإنسان هو عالم أصغر في هذا العالم الأكبر، وهذا العالم الأصغر انطوى فيه العالم الأكبر ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان العقل ما هو العقل نرى أثره ولا نعرف حقيقته نسلم الأمر فيه لله سبحانه وتعالى وجعل الله سبحانه وتعالى في الانسان الروح، ما هي الروح؟ انما الروح هي من امر ربي، وانما يمكن ان يقال ان الإنسان ينطوي على عوالم لا على عالم واحد، فعجائب تكوينه عالم، وأفكاره عالم، ومشاعره عالم، والروح التى هي من أمر الله سبحانه وتعالى عالم غيبي.
فجدير بالإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأسبغ عليه هذه النعم، ويسر له هذه المطالب، أن يكون هذا الإنسان موصولاً بالله سبحانه وتعالى في عقيدته وفي عمله، ثم ننتقل إلى المناخ الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للإنسان وهو الأرض، فالأرض فيها ما لايحصى من آيات الله {وفي الأرض آيات للموقنين} ( 8 )نستطيع أن نقول في هذه الأرض، وفي الكون بأسره ماقاله الإمام ابن أبي نبهان( 9 ) حيث يقول كل ذرة في هذا الكون هي كلمة من كلمات الله، ناطقة بوجود الله وما بقي فكالشرح لتلك الكلمة، فما من ذرة في هذا الكون إلا وهي كلمة تعبر عن افتقارها إلى الله، وعن وجود الخالق سبحانه وتعالى، بل نستطيع إن نقول كل ذرة هي سجل حافل بآيات الله سبحانه وتعالى.
---------------------------------------------------
1-الرحمن 1-4
2- سورة عبس الاية 17.
3-الأبيات لأبي العتاهية، ونسبت أيضا للبيد بن ربيعة العامري بلفظ واحد بدل الواحد.
(1/14)
4- العلامة المحقق سعيد بن خلفان بن احمد بن صالح الخليلي الخروصي ينتهي نسبه الى الامام الخليل بن شاذان ابن الامام الصلت بن مالك بن بلعرب الخروصي وقد لقبه العلماء بالمحقق لشهرته بتحقيق المسائل وتأصيلها واقترانها بالأدلة وكانت ولادته ببوشر عام ستة وثلاثين ومائتين بعد الألف، ونشاء نشأة مباركة فطلب العلوم والمحامد ومعالي الأمور فنالها وكان كثير الخلوة والتبتل الى الله والتلاوة للأسماء الحسنى حتى صارت له اليد الطولى في علم الاسرار وكان وطن ابائه بهلا ثم ازكي ثم انتقل من ازكي الى بوشر ثم اتخد هذا الشيخ بلد سمائل وطناً وكان قائماً بدولة الامام عزان بن قيس وشاداً عضده وبيده الحل والعقد وله مناقب حميده ومآثر جميله
وكانت وفاته رحمه الله تعالى عام سبعة وثمانين ومائتين بعد الآلف سنة 1287 هـ. شقائق النعمان لمحمد بن راشد الخصيبي،
ج2 ص 133..
5 -الملوان: الليل والنهار. مختار الصحاح ص 634.
6- الامام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى.
هو الشيخ العلامة نور الدين ابو محمد عبدالله بن حميد بن سلوم السالمي ولد سنة 1286 هـ ببلدة الحوقين من توابع الرستاق بسلطنة عمان وكان منذ صباه قوي الذاكرة وقد كف بصره في الثانية عشره من عمره حفظ القرآن الكريم ثم سافر الى الرستاق وانقطع الى العلم والأخذ عن مشايخ كثيرين حتى بلغ درجة عالية من التحقيق والاجادة في التأليف، وكان خطيبا مصقعاً شديد الغيرة على الاسلام، انتهت اليه رئاسة العلم في عمان واليه يرجع الفضل في اعادة الامامه، ترك هذا العالم الجليل مالايحصى من التلاميذ المستفيدين كما انه ترك الكثير من المؤلفات اهمها:
- شرح المسند ( مسند الامام الربيع بن حبيب الفراهيدي رضي الله عنه )
- جوهر النظام
- مدارج الكمال
- تلقين الصبيان
- مشارق انوار العقول
- تحفة الاعيان
توفي رحمه الله تعالى سنة 1332 هـ ببلدة تنوف بعمان ( الأعلام للزركلي ج4 ص 84 )
(1/15)
7- يقول الشيخ السالمي في جوهر النظام –باب الأشربة-ج1 ص170 وهو يعدد مضار التدخين:
فمائة وبعده عشرونا =من علل في ذاك يذكرونا
يصفر اللون ينتن الفما=يسود الأضراس أيضا فاعلما
ويورث السل مع الوباء=ويخرق الكبد في الأحشاء
ويورث الجذام ثم البرصا=ومن له يشرب ربه عصا ... ...
يفتر الشهوة في الجماع=ونحو هذا سائر الأنواع
بعدّها طرا يضيق الحال=ويكتفي ببعضها العقال
8- سورة الذاريات الاية 20.
9-ابن ابي نبهان: هو ناصر بن ابي نبهان جاعد بن خمبيس بن مبارك الخروصي وله اسم اخر ايضا وهو عبدالرحمن ولد ببلد العليا من العوابي في عام 1192 هـ في اسرة علمية فقد كان ابوه الشيخ ابو نبهان عالماً بحر في علوم الدين عامة اشتهر الشيخ ناصر بمقارعة الظلمة والطغاة عن طريق العلم ولقد انتقل رحمه الله من عمان الى ساحل افريقيا وكان زاهداً في معاشه وحياته ومنه قوله:
معيشتنا خبز لغالب قوتنا = وماء وليمون وملح وقاشع
فان حصلت مع صحة الجسم والتقى= فيا حبذا هاذ بما هو قانع
له من الكتب ( ديوان المصطفى ) وهو نظم على حروف المعجم في الصنعة الفلسفية والحكمة الربانية وكتاب طرف الالطاف.
توفي رحمه الله في زنجبار يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى من سنة 1263 هـ من ( تحفة الاعيان الجزء الثاني ص 172 - 175 )
وفي الأرض آيات للموقنين
(1/16)
الأرض فيها آيات للموقنين لأن الله سبحانه وتعالى هيأها الأن تكون قراراً للإنسان {الذي جعل لكم الأرض قراراً} ( 1 )فخلق هذه الأرض بكل طبائعها تمكين للإنسان لأن يستقر فيها فإن الله سبحانه وتعالى جعل كل شيء فيها بمقدار ما ينفع الإنسان جعل حجمها بمقدار وجعل حرارتها بمقدار، الحرارة التي تصل إليها من الشمس هي بمقدار، وجعل المسافة التي بينها وبين الشمس بمقدار، وجعل المسافة التي بينها وبين القمر بمقدار وجعل دورتها حول نفسها بمقدار، وجعل الغلاف الهوائي الذي يحيط بها بمقدار، وجعل حرارة الأكسجين فيها بمقدار، وجعل الله سبحانه وتعالى البحر فيها بمقدار، كل ذلك بمقدار ما ينفع الإنسان، فإن الأرض بمقدارها الحالي فيها من الجاذبية بقدر ما يتمكن الإنسان من الاستقرار عليها من غير معاناة تعب، فالضغط الهوائي على كل بوصة منها بمقدار خمسة عشر رطلاً، والإنسان يحمل من الهواء مقدار اثنين وعشرين ألفاً وثمان مائة وأربعين رطلا لو كانت هذه الأرض أكبر حجماً مما هي عليه بحيث لو كانت بحجم الشمس مثلاً لكان الضغط الهوائي على كل بوصة بمقدار طن ولما أمكن أن تنموا الأجساد في الأرض ولما أمكن أن تكون للناس عقول فيها بحسب ما جعل الله سبحانه وتعالى من طبائع هذا الكون في هذا العالم عالم الوجود الأول.
أما الوجود الآخر
(1/17)
- الدار الآخرة - فقد جعل الله سبحانه وتعالى فيه من الطبائع ما يتلاءم مع تلك الدار، وسعتها ووجود الإنسان فيها، وذلك مرده إليه سبحانه وتعالى، فالله على كل شيء قدير، ولو كانت الأرض فيها مقدار حجمها كالقمر لانعدمت الجاذبية التي تمكّن الإزنسان من الاستقرار عليها، إذ هي من الضعف بحيث لا يقوى الإنسان على الاستقرار عليها، جعل الله الغلاف الهوائي بمقدار خمسمائة ميل تحيط بالأرض من كل ناحية، ولو كانت الأرض أكبر من هذا المقدار لتلاشى هذا الغلاف وهنا تحل الكوارث بالأرض ومن فيها لأن الله جعل سبحانه وتعالى جعل هذا الغلاف الهوائي هو كقبة مضروبة على الأرض تقيها وتقي من فيها الشهب المترامية في هذا الفضاء هذه الشهب التي يقدر سرعة الواحد منها إذا انطلق بسرعة الرصاصة بتسعين ضعفاً فقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الغلاف يقي هذه الأرض ومن فيها وما فيها ( نقذاً الخطورة )مع وقايته لها من الأهوية الحارة الممتزجة في الفضاء ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل حرارة الأكسجين فيها بنسبة واحد وعشرين في المائة كيف لو كانت هذه الحرارة بنسبة خمسين في المائة فإن شرارة واحدة تكفي بأن تشعل غابة بأسرها بمجرد لمعان برق، ولو كانت هذه النسبة منخفضة إلى مقدار العشرة في المائة لتعسر على الإنسان أن يجد النار التى يطبخ بها طعامه ذلك كله جعله الله بمقدار، والنباتات متلائمة مع هذا الغلاف الهوائي، ودوران الأرض حول نفسها بمقدار ألف ميل في الساعة هذا الدوران السريع الذي تدوره الأرض نحن لانشعر به وهو يسير بنا إلى غاية محتومه فإن سير الأعمار بسرعة هذا الدوران والإنسان لايشعر بذلك، هذا الدوران السريع جعله الله تعالى بمقدار.
(1/18)
فلو كان الدوران أسرع من ذلك لكان الإنسان في اضطراب، ولو كان الدوران أقل سرعة من ذلك بحيث تدور الأرض بمقدار مائتي ميل في الساعة لتجمدت الأرض في الليل وانصهرت في النهار، المسافة التى بين الأرض والقمر هي أيضا مسافة مقدرة تقديراً فإن الأرض لها أثر على حركة المد والجزر فلو كان القمر أقرب إلى الأرض لطغت المياه على الأرض، ولو أن القمر كان أبعد لنضبت، وجعل الله سبحانه وتعالى أيضا المسافة بين الأرض والشمس بمقدار فلو كانت الشمس أقرب إلى الأرض من هذا المقدار لانصهرت الأرض، الطاقة الحرارية التي تصلنا من الشمس بمقدار بنسبة واحد من مليونين كيف ولو كانت الطاقة الحرارية تصل بمقدار أكبر من هذه النسبة، إنما هذه الطاقة جعلها الله سبحانه وتعالى بقدر ما تزود الأجسام بالطاقة الحرارية وبقدر مايكفي لنمو النباتات في الأرض، تلك هي مشيئة الله سبحانه وتعالى، وحجم الشمس جعله الله سبحانه وتعالى أيضا بمقدار، فلو كان نجم آخر من النجوم الضخمة حالاً محل الشمس لتصدعت الأرض وتبخرت، فإن هناك من النجوم ما هو أكبر من الشمس بكثير، فالشعرة اليمانية فيما يقول بعض الكتاب من العلماء بأنها أكبر من الشمس بعشرين ضعفا ومنهم من يقدر الشعرة بأنها أكبر من الشمس فوق المقدار بكثير، مع أن الشمس حجمها يبلغ حجمها ( مليون ضعف ) حجم الأرض، والسماك الرامح أيضاً ضعف الشمس ( ثمانين مرة ) ونوره أقوى من نور الشمس بثمانية الآف ضعف، وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة ضعف، إنما ذلك مقدر تقديراً.
(1/19)
جعل الله سبحانه وتعالى - أيضاً الرباط مابين هذه المجموعة الشمسية كلها بمقدار ودوران الشمس بمقدار، وهناك أيضا رباط مابين المجموعات المختلفة المتعددة التي تنتسب إلى هذه المجرة التي تنتسب إليها هذه المجموعة، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا الرباط مابين هذه الأبعاد الكثيرة بمقدار ما يحفظ توازن سنة الجاذبية فلو أن شيئاً من ذلك زاد، أوشيئا من ذلك نقص لكان كارثة على الكون فالله سبحانه وتعالى يبين لنا أن نهاية الكون يكون معه انحلال هذا الرباط الذي يربط بين أبعاده حيث يقول لنا {إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت} (2 ) وذلك عندما تنعدم سنة الجاذبية والكون ما اكتشف منه أمر هائل مع أنه جزء صغير بالنسبة إلى ما لم يكتشف وفي كل وقت يكتشف العلماء مجرات جديدة وأبعاداً جديدة لهذا الكون فالآن تقدر أبعد مجرة عن الأرض بعشرة آلاف سنة ضوئية، والسنة الضوئية ستمائة مليون مليون من الأميال. هذا الرباط لا يمكن من قبل طبيعة عمياء ميتة لاحس لها ولا حراك لها كيف يمكن أن يوجد هذا الكون بهذه الطريقة لو كان الأمر كما يقول الملاحدة ( إن مجرد الطبيعة هي التى خلقت ) ولقد اعترف العلماء الماديون بأن لهذا الكون مكونا وأنه لا يمكن أن يوجد بدونه.
وقد تحدثوا عن ذلك فيما كتبوه عندما درسوا طبيعة الكون في عدد من أعداد صحيفة تايمز الأمريكية؛ طرح سؤال:
هل تعتقد أن لهذا الكون إلها؟
(1/20)
فأجاب عن هذا السؤال اثنان وثلاثون من العلماء الماديين وكل واحد أجاب بحسب تخصصه العلمي فأثبت وجود الله سبحانه وتعالى من العلم الذي تخصص فيه حتى أن أحدهم تحدث عن وجود الله سبحانه وتعالى من خلال دراسته لشجرة الورد، وقد جمعت مجموعة مقالاتهم في كتاب عنوانه ( الله يتجلى في عصر العلم )، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية وهو في متناول أيدي الطالبين والحمد لله، ومع هذا كله فان هناك فوجاً من العلماء الماديين لا يزالون إلى الآن يجادلون بغير برهان في وجود الله سبحانه وتعالى.
________________
1- سورة غافر اية 64
2 سورة الانفطار اية 1، 2.
حوار مع طبيب
(1/21)
كنت في الولايات المتحدة الأمريكية مريضاً، وكان يجلس إلي طبيب إمريكاني فكان يتحدث إلي حول توصياته فيما يتعلق بصحتي وكنت أقول له على إثر كل توصية إن شاء الله، فتعجب من هذه الإجابة وقال لي: كيف تقول إن شاء الله، هذا أمر راجع إلى مشئتك، فقلت: لا؛ إنما هو راجع إلى مشيئة الله، فمشيئتي بدون مشيئة الله لا يمكن أن تحقق شيئا {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (1 )فقال: أما أنا فأرتّب أمراً ( ان تحسب حساباً لامر تعمله ثم تفاجئك المنية قبل ان تعمله؟ ) قال:، نعم، قلت له: ذلك من مشيئة الله؛ لأن الله سبحانه لم يشأ أن تعمل ذلك، قلت له: إن الأمراض والأحداث التي تقع كثيراً ما تحول بين الإنسان وبين مايريد صنعه؛ وذلك لأن الله تعالى لم يشأ أن يصنع ما كان في خلده أن يصنعه، وأخذت أحدثه عن دلائل وجود الله سبحانه وتعالى في الكون وقال بعد هذا: أنا آمنت أن لهذا الكون خالقاً ولكن بعد خلقه تخلى عنه وهو لا يديره، قلت له: لو كان الأمر كذلك هل يمكن هذا الكون أن يدبر نفسه؟ هل يمكن للأجرام الفلكية ان تدير نفسها؟ الإنسان العاقل المدبر يحسب حساباً لأمر يفعله في وقت ما من زيارة أحد أو عيادة مريض أو علاجه أو صنع شي أو إكرام أحد أو إهانته أو نفعه أو ضره فإذا جاء ذلك الوقت منعه دون ما خطط له مانع فلا يمكن أن يحقق ما أراده إلا بعد وقت، فمواعيد الإنسان كثيراً ما تختلف وضربت له مثلاً بالطائرات كثيراً ماتختلف مواعيدها.
(1/22)
بينما هذه الأجرام الفلكية التي تدور بمشيئة الله سبحانه وتعالى لا يمكن لأي جرم من هذه الأجرام أن يختلف ميعاده أبدا لأن إرداة الله سبحانه وتعالى من ورائه ولأن تدبير الله سبحانه وتعالى يحيط بهذا الكون بأسره، وقد كنت أتحدث إليه حول بعض الأشياء التي ذكرتها لكم قال من أين ذلك لك؟ هذه أمور لا علاقة لها بالدين فقلت له لاعلاقة لها بالدين الذي لم يأت به النبيون وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الدين الذي أنزله الله والذي أكمله لخلقه وأتم به نعمته عليهم بمبعث عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم له علاقة بهذه الأشياء فإن القرآن الكريم يفتح أبصارنا على هذه الأمور كلها - وكان رجلاً دمث الأخلاق - فقلت له: إنني لآسف جداً أن تكون على دماثة خلقك وسعة صدرك لا يتسع يقينك بأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: أنت تريد أن تقحمني في هذه المتاهات بسرعة فإنني لم أومن بوجود خالق لهذا الكون إلا بعد سنين فكّرت فيها، فكيف تريدني أن أومن في ظرف هذه المدة القصيرة بذلك كله، فقلت له: إن كان الله قد كتب لك الخير فستؤمن فيما هو أسرع منها؛ فإن سحرة فرعون آمنوا بما جاء به موسى عليه السلام في أسرع ظرف مدة قصيرة ولم يكن بين كفرهم وإيمانهم إلا وقت صغير جداً بقدر ما يفكرون في معجزة موسى عليه السلام ففكّر أنت في معجزة القرآن، هذه معجزة بارزة للإنسان فأنى لك أن تجحدها، ولكنّ الرجل أصر على ما هو عليه وكتب إليّ أسئلة بعد ما عدت إلى هنا.
(1/23)
وأجبت على أسئلته وكررت دعوته إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم جاء إلى عمان مرة أخرى، وجلس معي جلسة جاملني فيها، وأقمت له الحجة، وإلى آخر وقت خرج من عندي وهو غير مؤمن بما أنا أدعوه إليه أسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق وأعوذ به من الخذلان، فإن إنكار الله تعالى أو إانكار آياته أو إنكار رسله أو إنكار كتبه أو إنكار كل ما أخبر عنه لا ينشأ إلا عن خذلان بعد وجود هذه الشواهد وقيام هذه الدلائل على وجود الحق تبارك وتعالى الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المؤمنين، اللهم إنا نسألك إيماناً بك، ووفاء بعهدك، وتصديقا بكتابك، واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نعوذ بك من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وسوء المنقلب وسوء المنظر في المال والأهل والولد، اللهم إنا نعوذ بك من عضال الداء، ومن جهد البلاء ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن غلبة الدين وقهر الرجال، ومن سؤ الحال في الدنيا والاخرة، ومن شر مهالك الدينا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وإنك بالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وأكرر مرة أخرى اعتذاري إلى المتخصصين في هذه المجالات العلمية فقد أقحمت شيئا لا يعنيني، الأحرى بهذه الأشياء أن يتكلم المتخصصون فيها.
___________________________
1- سورة الانسان اية رقم 30.
الأسئلة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ورد إليّ سؤالان الأول يقول السائل فيه: توصل العلماء مؤخرا إلى أنه بإمكان الرجل أن يحمل جنينا في أمعائه وفي الكلية، ثم تتم الولادة بعملية قيصرية، فما مدى تعارض هذه الحقيقة العلمية مع عقيدة المسلم السوال الاول-وما حكم الأطفال الذين يولدون بهذه الطريقة؟
(1/24)
الجواب: قبل كل شيء هذه نظرية والنظرية شيء والواقع شيء آخر وعلى الإنسان أن لا يسابق الزمن في الحكم على الشيء، فهذه حالة غير طبيعية طبعاً والحالة الطبيعية حالة معروفة أراد الله سبحانه وتعالى للرجل أن يكون رجلاً، وأراد الله تعالى للمرأة أن تكون امرأة كل منها له خصائصه التكوينية وخصائصه التشريعية أيضا ولعل الذين قالوا بهذه الإمكانية بلغت بهم شطحات الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل إلى هذا القول بأن إمكانية الرجل أن يحمل كل ماً بلغت بهم شطحات الدعوة إلى المساواة مابين الرجل والمرأة في الأحكام التشريعية إلى ذلك وهم في كلا الحالين في دعواهم المساواة في الأحكام التشريعية وفي دعواهم المساواة في الطبيعة يعارضون حكم الله عز وجل ويعاكسون الفطرة الإنسانية التى فطر الله تعالى عليها الناس فالله خلق الرجل ليكون ذكراً وخلق المرأة لتكون أنثى لأن كل واحد من الذكر والأنثى مخصص له وظائف معينة من حيث التكوين ومن حيث التشريع فلا يمكن أن ينسلخ الرجل من خصائص الذكورة أو تنسلخ المرأة من خصائص الأنوثة أما ما حدث أخيرا مما سمي بالجنس الثالث فما هو إلا تمرد على الفطرة ومبالغة في مكابرة أمر الله سبحانه وتعالى وأنا لا أشك أن مثل هذا لو حاول الناس أن يكون.
(1/25)
فان منتهاه الفشل كل شيء لا يكون على الطبيعة فمنتهاه الفشل من أين للكلية أو للامعاء المغذيات التى في الرحم التى تغذي الجنين الله سبحانه وتعالى جعل للجنين تغذية خاصة، لو سلمنا لأن يمكن أن يكون لقاح ثم يكون لقاحاً بين أي شيء وأي شيء آخر هل هناك بييضة في هذا الرجل حتى يتم اللقاح ما بينهما ومابين الحيوان المنوي من الماء الدافق الذي يسيل من الرجل الآخر عند العملية الجنسية من أين يؤتي بهذه البييضة، فهذا عمل مهما كان هو عمل معاكس للفطرة وأنا لا اشك وإن كنت لا أريد أن أسابق الزمن في الحكم على الأحداث ولكنني لا أشك أن هذه العملية فاشله، كما أنني أيضا أرى أن الطفل الذي يولد بهذه الطريقة طفل غير شرعي، نعم يمكن أن يولد إنسان يبدو أول ما يبدوا بأنه ذكر أو يبدو أول ما يبدو أنه أنثى، ثم تنكشف الحقيقة عن خلاف ذلك عند النمو، وهذه من الخنوثة التى أفرد لها الفقهاء حكماً في أبواب المواريث وغيرها، فقد تكون الخنوثة باجتماع الآليتين، آلة الذكورة وآلة الأنوثة في الإنسان، وقد تكون بظهور إحدى الآليتين وخفاء الآلة الأخرى بحيث تكون الآلة الظاهرة ساترة للآلة الباطنة، حتى تتجلى أو تبرز مع الزمن، وتحتاج مع ذلك إلى عملية قيصرية - أي عملية جراحية - وقد حدث مثل ذلك مراراً، وقد سجل الأطباء كثيراً مثل هذه الأحداث، وآخر ما علمت عنه ما حدث بمدينة الطائف من المملكة العربية السعودية حيث تحولت فتاة - فيما قيل - إلى شاب وليس الأمر كذلك وإنما هناك آلة خفية ما كانت منكشفة، تبينت فيما بعد مع نمو الجسد.
السؤال الثاني: يقول السائل فيه: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وقدر له أعماله فيقول قائل: كيف يحاسب الله تعالى هذا الإنسان بعد أن قدّر له أعماله، وهو يعلم ما ينوي على فعله؟
(1/26)
الجواب: - هذه المسألة كان ينبغي أن لا نتكلم عنها الآن حتى يأتي حديث في موضوع القضاء والقدر، وذلك سيأتي إان شاء الله. وأريد أن أقول بأن الناس انقسموا في هذه القضيةإالى ثلاثة أقسام: إفراط وتفريط واعتدال، فهناك من إفرط في تنزيه الله سبحانه وتعالى بقصد التنزيه، ولكن كانت النتيجة بالعكس، حاول أان ينزه الله تعالى فانقلب إلى ضد ذلك، وهم المعتزلة الذين قالوا بأن الإنسان ليس مقضياً عند الله وإنما يعمل الإنسان ما يعمل باختياره بنفسه من غير أن يكون الله تعالى اختار له ذلك الأم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق