الكتاب: الإباضية في موكب التاريخ. الحلقة الثالثة، الإباضية في تونس
المؤلف: علي يحيى معمر
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الشيخ العلامة
علي يحيى معمر
الإباضية في موكب التاريخ الحلقة الثالثة
الإباضية في تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
عندما وضعت تخطيطا لإصدار كتاب (الاباضية في موكب التاريخ) لم أقدر لإنجاز عملي زمنا محددا وإنما كنت اجمع المادة التاريخية من مصادرها التي تتيسر لي سواء كانت في الكتب أو عند الرجال أو على الآثار. وكنت وضعت في تخطيطي الا اجهز أية حلقة من حلقاته للنشر إلا بعد زيارة للموطن الذي أتحدث عنه. ولقد يسر الله لي العمل فأصدرت الحلقة الأولى على الصورة التي رآها القراء الكرام وهي اقل مما قدرته في نفسي ودون ما يتطلبه الموضوع مني وخير مما زعمه ناس في ليبيا حسبوا إن تأليف الكتب لا يقدم عليه شخص إلا بعد أن يأذنوا له، لان الإنتاج مقصور على أقلامهم السيالة. ثم أصدرت في نفس الوقت قسمين من الحلقة الثانية وقد جرى الحديث فيهما عن الاباضية في ليبيا التي أتيح لي الاطلاع على كثير من البلاد فيها والاتصال بكثير من الشخصيات ودراسة عدد غير قليل من الكتب لا سيما كتب النوازل كاللقط والمعلقات وغيرها، وقد اضطر إلى إعادة قراءة بعض هذه الكتب عدة مرات لاستخلاص حادث تاريخي. وقد يسر الله لي العمل فأخرجته على ما رآه القارئ الكريم، وأنا اليوم أتمنى لو يتاح لي من الوقت ما استطيع فيه إعادة هذه الحلقات من جديد لان ملاحظات كثيرة بدت لي من بعد وأوه لو تناولتها مرة أخرى على أن هذه الأمنية هي أمنية كل مؤلف فيما أحسب لطبيعة النقص البشري، وقد بقي القسم الثالث من هذه الحلقة وهو يتناول الحديث عن الاباضية في العهدين العثماني والإيطالي جمعت له ما تيسر لدى من مادة تاريخية ولا زلت أجمع وعندما تتم لي الصورة التي أرتضيها سوف يخرج هذا القسم إن شاء الله.
(1/1)
أما هذه الحلقة التي أقدمها إليك اليوم (الاباضية في تونس) فقد جمعت ما تيسر لي من مادة تاريخية عنها ولكني كنت عزمت أن لا أتقدم لطبعها إلا بعد أن أزور الجمهورية التونسية وأشاهد بصفة خاصة الوسط والجنوب وجربة بالذات لأتحقق من كثير من المشاهد والوقائع التي كنت أتصورها على صورة ما.
وقمت فعلا بهذه الزيارة مع بعض الأصدقاء في الصيف الماضي 1965 فسافرنا إلى تونس العاصمة واقتضتنا ظروف خاصة أن نزور الجزائر فسافرنا إليها ورجعنا إلى تونس عن طريق (تقرت) ومررنا بوادي سوف ثم ببلاد الجريد إلى قابس ومنها إلى جزيرة جربة ولكن هذه الرحلة قد استغرقت مدة الإجازة وكنت مضطرا إلى العودة.
بقيت في جربة يومين فقط فكانت زيارتي لها زيارة خاطفة لم أتمكن من تحقيق أهدافي من هذه الزيارة ولكنني في نفس الوقت حاولت أن استفيد منها ما يمكن، فقمت بجولة سريعة خاطفة، في الجزيرة لاشاهد أحياءها وحاراتها وبعض مساجدها وبعض ما بها من الآثار وتمكنت من الإطلاع على فهرس المكتبة البارونية القيمة وزرت العلامة الشيخ سالم بن يعقوب وفتح لي مكتبته القيمة التي تحتوي على مجموعة ثمينة من المخطوطات نقل أكثرها بخطة حينما كان بمصر، وقد نقلت منها على استعجال أشياء كثيرة واستفدت من الشيخ فوائد جمة، كما إنني اجتمعت بعدد غير قليل من أهل الجزيرة الكرام وبالطبقة المثقفة منهم على الأخص علماء ومدرسين وطلابا وتحدثوا إلي طويلا، واستفدت منهم في جميع ميادين المعرفة فوائد قيمة كان لها أثر كبير في نفسي. وسافرت من الجزيرة وأنا أشد رغبة وشوقا إلى البقاء فيها، وكنت أمني النفس بالرجوع إليها في فرصة قريبة، ولكن ذلك لم يتحقق لي.
(1/2)
ورأيت أن أنجز عملي وأخرج الكتاب على ما هو عليه، وأنا على يقين أن صورا قيمة كثيرة تنقصه، ولكنني مضطر إلى إصداره على هذا الوضع لأن مسودات كتاب الاباضية في الجزائر هي الأخرى تتنزى في الأدراج تريد الخروج، وإذا يسر الله لي العمل أيها القارئ الكريم فأخرجت لك هذه الحلقة فأنا أقول لك بصراحة الأخ إلى أخيه الذي لا يتكلف معه الحديث ولا يستر عنه مواطن الضعف فيه، أن هذا الكتاب لا يعطيك الدراسة التاريخية الكاملة للمذهب الاباضي في تونس، ولا يضع بين يديك كل المعلومات التي تحتاجها عن هذه الفرقة الأمة الإسلامية الكبرى ولا يعرض عليك جميع الصور التي يحيط بها إطار واحد عن الاباضية في الجمهورية التونسية ولكنه ولا شك يضع بين يديك صورا من حياة مجتمع مسلم عاش على هذا الوطن الكريم ولا يزال أبناؤه يعيشون محافظين على كثير من أخلاقه ومثله.
وسوف تلحظ أيها القارئ الكريم وأنت تتنقل بين فصول الكتاب بعض الإعادة والتكرار وقد يكون ذلك مما يثقل على القارئ المستعجل والباحث المتقصي الذي تهمه الأحداث المجردة وأنا أعتذر إلى هؤلاء القراء الكرام ولكنني مصمم على طريقتي في العرض، ذلك إنني حين فكرت في إصدار هذا الكتاب وبدأت العمل فيه، لم أتناوله بقلم المؤرخ الذي يهتم بالأحداث البارزة وتسجيلها على المنهاج العلمي لكتابة التاريخ، ولكني تناولته بقلم من يريد أن يعرض صورة من حياة مجتمع عاش طيلة قرون يرسمه من عدة زوايا لتكتمل الصورة العامة لذلك المجتمع بجميع مناظرها. وهي طريقة لا شك لها عيوبها، ولكنني مع ذلك أفضلها في عملي هذا على السرد التاريخي الزمني المجرد الذي يعني بالأسماء والأرقام، أكثر مما يعني بالمعاني الاجتماعية للتاريخ. فإذا سئمت أيها القارئ الكريم من ذلك فما عليك إلا أن تضع الكتاب على الرف وأمرك لله فيما ضاع لك من وقت ومال.
(1/3)
إن الكتاب لم يؤلف ليكون مرجعا يعتمد عليه الباحثون في التاريخ، ولكنه صورة لحياة جانب من الأمة المسلمة بما فيها من ألوان أضعها بين أيدي أبنائها البررة حتى يتعرفوا على الأسباب الحقيقية التي انحدرت بالأمة الإسلامية إلى ما تعانيه اليوم.
وأنا عندما أقدم هذه الصورة عن الاباضية في تونس لا شك إنها صورة تنطبق على جميع طوائف الأمة الإسلامية في مختلف البلاد. ولذلك فما يهمني أن يعرف الأخوة إنني عندما أكتب عن طائفة معينة أو بلد معين فليس الغرض من ذلك إنني أعتبر أن تلك الطائفة أو ذلك البلد هو أرفع من غيره وأكرم وإما الغرض أن يعرف أبناء الأمة المسلمة بجميع طوائفها وفي جميع أماكنها انهم أمة واحدة، لم تنفك عن الكفاح في سبيل الله منذ أشرقت قلوبها بنور الله وإنما لم تتوقف يوما عن الجهاد رغم ما بذرته السياسة الماكرة والشهوة الغالبة من عراقيل في طريقها.
والكاتب المسلم حين يكتب عن طائفة أو عن بلد يجب أن يحرص على الرباط المتين الذي يربط بين الأمة الإسلامية بمختلف مذاهبها وديارها، وأن يبعد عن قلبه وعن إحساسه وعن شعوره معاني التفرقة والعنصرية والعصبية تلك المعاني المنتنة التي استغلتها المصلحة الخاصة غير المؤمنة، وقامت بها في أحداث الزمن، مطامع فردية، وسجلتها في التاريخ أقلام مأجورة أو مغرورة أو مخدوعة، على حساب العناصر أو الأجناس أو المذاهب.
(1/4)
وإنني وأنا أقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب عن فرقة من فرق الإسلام في جزء من وطن الأمة المسلمة الكبير يسرني جدا أن أعلن هنا كما أعلنت من قبل إنني لا أعتز إلا بالأمة المسلمة أمة واحدة، ولا أعتز إلا بالوطن المسلم وطنا واحدا وأن ما قدمته وأقدمه من أبحاث عن طوائف صغيرة أو بلدان ضيقة فإنما أكشف عن صورة من حياة هذه الأمة العظيمة في جانب من جوانبها أو قسم من أقسامها فإذا بدا للقارئ الكريم في أثناء قراءته ما يشعر بغير هذه الحقيقة الثابتة أو أحسن أن عبارة من العبارات تشعر بغير هذا المعنى أو تدعو إلى عنصرية أو تفرقة فليضرب بذلك عرض الحائط فإن كيان الأمة المسلمة والوطن المسلم أكرم على الله وعلى الملائكة وعلى المؤمنين وأعز من جميع الكتاب والدعاة وإنني أحسب أن إيماني بهذه الحقيقة من وحدة الأمة في مذاهبها وأجناسها وأوطانها قربة أتوسل بها إلى الله تعالى.
عصمنا الله من الزيغ والزلل ووفقنا إلى خير العمل إنه نعم المولى ونعم النصير.
تونس
كلمة تونس فعل مضارع مشتق من الإيناس، وهو من الإنسان، المؤالفة والملاطقة، ومن الأمكنة سكون القلب بها وارتياح النفس إليها. وقد أطلق المسلمون هذه الكلمة على المدينة الصغيرة الجميلة التي تقع جنوب قرطاجنة، على ربوة يحيط بها خندق طبيعي هو كالحصن لها (1) أما قبل الفتح الإسلامي، فقد كانت هذه المدينة تسمى (ترشيش) على ما يقوله المؤرخون.
__________
(1) 1 - - راجع تاريخ المغرب الكبير - ص 115 الجزء الثاني تأليف الاستاذ محمد على ديوز.
(1/5)
وأنا في هذا الفصل لا أريد أن أتحدث عن مدينة (ترشيش) الصغير التي سمها المسلمون الفاتحون (تونس). ولا على هذه المدينة العظيمة التي أصبحت اليوم، من أعظم المدن في المغرب الإسلامي، وأصبحت عاصمة يطلق اسمها على جمهورية مزدهرة تكون جزءا هاما من المغرب الإسلامي، وعضوا حيا من جسم الوطن الإسلامي الفسيح الأرجاء. فإن تونس هذه المدينة العظيمة الجميلة هي إحدى العواصم الإسلامية التي حملت أمانة العلم وكانت مثابة لأبناء المسلمين في مختلف الأقطار والتي شادت معهد الزيتونة العامر وحافظت على الثقافة الإسلامية قرنا طويلة – هذه المدينة لا يفي بحقها فصل في كتاب. ولا يكفي للحديث عنها استطراد في مقال. على أن الحديث عن هذه المدينة ليس من غرض هذا الكتاب، وإنما أريد أن يعرف القارئ الكريم إنني قد أستعمل كلمة تونس وأنا أقصد به هذا القطر المسلم الذي يقع بين ليبيا والجزائر والبحر، ويكون حلقة من الحلقات المترابطة، للوطن الإسلامي الشاسع، ويسكنه قسم من الأمة المسلمة كافحت كثيرا لحفظ المجد الإسلامي، منذ بدأ الإنسان ينحرف عن دين الله إلى اليوم. ولا تزال فيها بقية من عزيمة للكفاح عن دين الله وفي سبيل الله. وهذه الأمة في أدوار التاريخ الإسلامي وإن تفرقت بها المنازع السياسية والمذاهب الدينية والزعامات الفردية والقبلية في كثير من الأحيان إلا إنها حافظت في مجموعها على الأصالة الإسلامية واستمسكت بعرى الدين الحنيف وسارت على هديه ولا تزال فيها بقية تسير على ذلك الهدى. إلى أن يأذن الله بعودة الأمة المسلمة إلى ما كانت عليه في الصدر الأول من قيادة البشرية الحائرة وتوجيهها إلى سبيل الخلاص، خلاص الإنسانية من أسباب الضلال.
(1/6)
والحقيقة أن إطلاق كلمة تونس على هذا القطر، أو هذه الجمهورية، بهذا الوضع الجغرافي هي تسمية متأخرة جدا. فعندما كانت الجيوش الإسلامية تجوب هذه البلاد فاتحة وكانت الدول الإسلامية تتركز هنا أو هناك من بلاد المغرب. وكانت المعارك الطاحنة تدور بين الجيوش المتقاتلة في كثير من الأنحاء، لم يكن يرد اسم تونس إلا كما يرد اسم أي مدينة يقع فيها حدث من الأحداث التاريخية، التي يتناقل الناس أخبارها. ولعل الأحداث التي وقعت في تونس أو في (ترشيش) نفسها أبان الفتح، لم تكن أكثر من الأحداث التي وقعت في غيرها من المدن والقرى في هذا القطر الكريم، في ذلك الحين.
ومهما كان الأمر، فقد أصبحت كلمة تونس تدل – فوق دلالتها على هذه المدينة الكبيرة التي أصبحت اليوم إحدى العواصم الكبرى- على حقيقة جغرافية تعني هذه الجمهورية أو هذا القطر الإسلامي المجيد بحدوده التي ذكرناها سابقا.
ويعنيني في هذا الفصل أن أبين للقارئ الكريم، إنني أريد أن أكشف عن صور مجيدة. لحياة أمة مسلمة، عاشتها طائفة منها، في هذا القطر الكريم. ولا تزال تعيش.
إنني أريد أن أضع بين يدي القارئ الكريم، صورا عن حياة الاباضية، منذ الفتح الإسلامي إلى الاحتلال الفرنسي للقطر التونسي العزيز. وأنا عندما أتحدث عن هذه الطائفة من المسلمين في هذا القطر من بلد الإسلام. لا ادعي أبدا أن هذه الطائفة قدمت في خدمة دين الله ما لم تقدمه غيرها من الطوائف، ولا أزعم أبدا أن هذا القطر قد أختص بأمجاد إسلامية ليس لها مثيل أو شبيه في غيره من البلاد.
(1/7)
ذلك إنني أحسب أن الأمة الإسلامية أمة واحدة بجميع طوائفها وأن الوطن الإسلامي وطن واحد بجميع أجزائه. وأن ما يقوم به الفرد أو الفرقة من المسلمين فإنما هو راجع إلى مجد الأمة الكبرى وإن ما يحدث في بلد من بلاد الإسلام – رغم انقساماته السياسية – فإنما هو حدث في الوطن الإسلامي الكبير. وإن في المسلمين بجميع فرقهم وطوائفهم وأوطانهم – من يجعل نصب عينه الدعوة إلى سبيل الله والمحافظة على دين الله والكفاح لإقامة شريعة الله، كما أراد الله.
القيروان
القيروان مدينة إسلامية أنشأها عقبة بن نافع وهو يفتتح المغرب الكبير، وصاحب فكرة إنشاء هذه المدينة، في قلب الجمهورية التونسية، لتكون مركزا للجيوش الإسلامية الفاتحة، إنما هو معاوية بن خديج. ولكنه اختطها في موضع يسمى القرن فلما ولى بعده عقبة لم يعجبه الموضع، فنقلها إلى موضعها الذي أنشئت فيه.
(1/8)
وقواد الجيوش الإسلامية الفاتحة، أرادوا أن يجعلوا من المملكة التونسية نقطة تجمع وانطلاق لها وهي تحمل الرسالة الكبرى رسالة الإسلام إلى هذه البلاد الفسيحة الأرجاء التي تتصل بتونس من الغرب والشرق والجنوب بل والشمال بعد اجتياز البحر. ومنذ انشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان في قلب المملكة التونسية أصبحت مطمع أنظار المتحاربين، ولقد استطاع الإسلام أن يطهر الأراضي التونسية من أدران الشرك والوثنية في مدة قصيرة غير أن سيطرة الإسلام على البلاد وتولى المسلمين لقضايا الحكم وتركز الدولة في القيروان. لم ييسر نشر السلام والأمن والطمأنينة بين الناس، وذلك لعدم محافظة كثير من الحكام على تطبيق أحكام الإسلام في الدماء والأموال وموافق الحياة، وحرص بعضهم على الوصول إلى الحكم والاستقرار فيه بمختلف الوسائل والسبل. وقد تعاقبت الأحداث على القيروان بسرعة وبشدة وكانت لا تستقر تحت حكم معين. فما تتولى فيها أسرة الحكم حتى تقبل عليها حملة أخرى من أسرة ثانية فتخرجها من حكم السابقين. فكانت تتعاقب عليهم الجيوش والدول والإمارات، جيش بعد جيش، ودولة بعد دولة، وإمارة بعد إمارة. وما يقع ذلك إلا بعد نكبات، وحتى عندما يطول عليهم حكم أسرة أو دولة، فإن الأمن لا يستقر، والسلام لا يطول، لأن الثورات لا تتوقف والحروب لا تنفك تتجدد أما من مناهضي الأسرة الحاكمة، أو الدولة القائمة، أو حتى من العناصر المتنازعة على الحكم من نفس الدولة ومن نفس الأسرة، فيذهب نتيجة لذلك، كثير من الأرواح، وكثير من الخيرات التي تنتجها تلك الأرض الطيبة.
(1/9)
فكان سكان القيروان المدنيون يعانون من ذلك، أشد الويلات والمصائب، حتى أصبحوا تحت أزمة نفسية مؤلمة. من ذلك الوضع المتقلب الذي لا يستقر، وأصبحوا لا يهتمون للداخلين أو الخارجين. ولا للمنهزمين أو المنتصرين، وبسبب الآثار المختلفة، من نتائج الحروب المؤلمة، والألوان المتعددة للحكومات المتعاقبة، كان سكان القيروان، يتوقون إلى سنوات من الاستقرار والسلام، ولو في ظل حكم ظالم، ولكنهم لم يظفروا بهذه الأمنية، لأزمنة طويلة.
والذي نريد أن نتحدث عنه في هاذ الكتاب من تاريخ القيروان الطويل الحافل المجيد، إنما هو فترة قصيرة بمقدار ما كان لها من دخل في حياة المذهب الاباضي الذي نكتب عنه في هذه المحاولة التاريخية القصيرة. فلقد كانت القيروان من المدن التي استقر فيها الحكم للاباضية في فترتين تاريخيتين كما إن هذه المدينة العظيمة بضواحيها كانت مقرا لكثير من علماء الاباضية وأنجبت كثيرا من الفحول وتولى فيها التدريس والفتوى إعلام منهم، وسوف يرد ذكرها وذكر ضواحيها لا سيما الجبال المشرفة عليها في كثير من فصول هذا الكتاب.
دخول المذهب الاباضي إلى تونس
في مطلع القرن الثاني الهجري بدأ المذهب الاباضي ينتشر بسرعة في تونس، كما انتشر في مصر وليبيا وبقية المغرب، وأهم سبب لانتشاره بسرعة، إن أتباعه والدعاة إليه، حافظوا على صفاء الرسالة الإسلامية، فلم ينحرف عن النهج القويم الذي عرفه الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه الراشدين. لم تلتصق به البدع الدخيلة، ولم يشنه ظلم الطغاة من الولادة، فكانت المبادئ التي يدعو إليها هي المبادئ السمحة الكريمة الصافية التي يدعو إليها الإسلام منذ كان محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت السيرة التي يسير عليها ولادته هي السيرة التي حافظ عليها المهتدون من خلفائه عليه السلام.
(1/10)
ولقد كان للداعية المسلم الكبير – سلمة بن سعد – أثر كبير في نشر هذه الدعوة- طريقا وسطا في بلدان المغرب الشاسعة، فلم يكن طريقه في صحراء، كما لم يكن في الشريط الساحلي. وأعتقد إنه تجنب الطريق الساحلية، في رحلته الطويلة، لنشر دعوته القويمة، حتى لا يصطدم بأعوان الدول الظالمة التي كانت تسيطر على تلك الجهات فيتعرض لمصائب قد تعوقه عن القيام بمهمته، كما إنه يتجنب الطريق الصحراوية، لما يتعرض له من مشاق قطع الصحارى الواسعة واجتياز أخطارها، دون أن يكون له يكون له ما يساعده على ذلك من رفقة. ثم إن معظم السكان كانوا على المناطق الجبلية التي تخترق كلا من ليبيا وتونس والجزائر. ومروره بهذه المنطقة المتوسطة الآهلة بالسكان، ييسر له الاتصال بالناس – ويساعده على إيضاح الرسالة الإسلامية لهم، وتنظيمها لحياتهم – أكثر من أية جهة أخرى.
(1/11)
ولقد كانت المهمة الأولى التي يريد أن يعطيها للناس، هي أن يقرر في أذهانهم، الصورة الصحيحة للإسلام، الصورة الصحيحة في الإيمان والعبادة والمعاملة. ذلك أن الناس، تلقوا الرسالة الإسلامية من كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة أصحابه رضوان الله عليهم فآمنوا بها وأطمأنوا إليها ووثقوا بها، فلما رأى الناس الصورة العملية، عند كثير ممن يحكم باسم الإسلام، بعيدة عما عرفوا من الإسلام كون ذلك عند بعضهم رد فعل جعلهم ينحرفون أو لا يبالون. وقد استطاع سعد بن سلمه أن يقنع الناس أن نظام الإسلام، ليس هو هذا النظام الذي يقوم عليه الولاة الظالمون ومن يسير في ركابهم من قادة وجنود وأتباع، وليس هو هذا التنطع الذي يدعو إليه المبتدعة ممن يفرق كلمة المسلمين ويبث الشقاق بينهم ويحكم على مخالفيهم بأحكام المشركين، فيستبيح منهم ما يستباح من أعداء الله. ولا هو في التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة الظهور. وإنما هو في الإيمان الذي يمتلئ به قلب المؤمن، فتستبيح من أعداء الله. ولا هو في التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة الظهور. وإنما هو في الإيمان الذي يمتلئ به قلب المؤمن، فتستجيب له جوارحه، فيكون عبدا لله، لا يغره مظهر، ولا يخدعه منصب، ولا تغلبه نفس أمارة بالسوء، ولا يخضع لشهوة غالبة، مهما كان الدافع إليها.
واستجاب الناس لهذه الدعوة الصافية الخالصة، وكان سلمة ينتقل بين المدن والقرى يوضح للناس تشريع الإسلام في أعداد فرص الحياة، ونظامه في الحكم، ومساواته بين الناس من جميع الأجناس.
(1/12)
ولعل السكان في القطر التونسي كانوا أكثر فهما لهذه الدعوة، وتعلقا بها، واستجابة لها في ذلك الحين، ولذلك فقد كونوا البعثة العلمية إلى البصرة، لتتم دراستها في ذلك المركز من مراكز الإشعاع الإسلامي، وسافر الطالبان النجيبان عبد لرحمن بن رستم من القيروان وأبو داود من قبلي، ليغترفا العلم من شيخ الاباضية في العراق أبى عبيدة مسلم بن أبي كريمة. ولقد درس الطالبان على الإمام الكبير خمس سنوات كاملة ثم رجعا مع زملاء لهم. فقام عبد الرحمن بكفاح سياسي بدأه في ليبيا ثم انتقل به إلى تونس ثم انتقل به إلى الجزائر. حيث أسس الدولة الرستمية الشهيرة، أما أبو داود فقد انقطع عن الكفاح السياسي والعسكري إلى الكفاح العلمي والإصلاح الديني، وكان لكفاحه هذا أكبر الأثر في تكوين جيل مثقف ثقافة إسلامية صحيحة، حريص على المحافظة على دين الله كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسباب الثورات
(1/13)
حمل الفاتحون الأول رسالة الإسلام إلى تونس، كما حملوها إلى بقية البلاد، نقية صافية، كما جاءت في كتاب الله، فأقبل الناس عليها، يعتنقونها، ويتمسكون بها في حرص واعتزاز. ولكن لم يمض وقت طويل على انتشار الإسلام، في المملكة التونسية حتى تغيرت أنظمة الحكم عن زمن الفتح، وانحرف الولاة الظالمون، فشوهوا الصورة الجميلة لعدالة الإسلام ونزاهته، ومساواته – بين الناس في جميع وسائل الحياة- المساواة المطلقة، التي تجمع بين الأمير والفقير، في كل الحقوق والواجبات، كما تجمع ببينهما في المسجد لأداء الصلاة. لا يطمع قوي في شئ إلا أن يكون حقا له، ولا يخشى ضعيف أن يسلب شيئا إلا أن يكون ليس من حقه، أما الكرامة والعزة والعظمة، فتلك حقوق طبيعية يتساوى فيها جميع المؤمنين تحت العبودية لله، فما يصح أن يقال فلان أعظم من فلان أو أعز منه، الآن يقال أخشى لله واتقى، أو أشد اتباعا لأحكام الله واستمساكا بدينه، فيكون اكرم على الله وأحق برضاه عنه. وكرامة المؤمن عند الله ورضاه عنه هي غاية العز والعظمة.
والأفراد في الأمة الإسلامية، كما يتساوون في المسجد وفي الطواف، وفي عرفة وفي المشعر الحرام وفي كثير من مظاهر العبادات كذلك يتساوون في المجتمع، فهم كأسنان المشط، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
(1/14)
أما المظاهر التي ينخدع بها الناس، كالمال والقوة والسلطة، فلا قيمة لها في نظر المؤمن إلا بمقدار ما يعود منها على الأمة – مجتمعا وأفرادا – من فوائد. إن الأموال، لا قيمة لها إلا بالمقدار الضروري للحياة. أو بما ينفق منها في سبيل الله، وإن القوة لا قيمة لها إلا بمقدار ما يستطيع به الإنسان الحياة، أو بمقدار ما يصرف منها في الصالح العام. أما السلطة، فلا تخلو أما أن تكون داخلة في التشريع الإلهي دون طغيان، فهي صيانة لحقوق الأمة، وحفظ توازن بين القوي والضعيف، وتوزيع عادل لفرض الحياة بين الناس، وإتاحة الحياة الكريمة لكل فرد، وتنظيم للمحافظة على الأمن والسلام، ورعاية لحدوده، وتطبيق لأحكامه، واستمرار في الدعوة إليه بالوسائل التي شرعها. وما إلى ذلك، فهذه هي السيرة التي وضعها الإسلام لسير الحكام. وأما أن تكون تعديا لحدود الله، وحكما بغير ما أنزل الله، فهي ظلم وجبروت، يجب أن يوقفها المؤمنون، وإن يضربوا على يد صاحبها، وأن يطالبوه بالتزام حدود الله.
تلك هي الصور التي عرفها الناس، لنظام الحياة تحت حكم الإسلام، فلما انحرف الأمراء والولاة، بالحكم عن طريقة البين الواضح، وانحرف المفكرون، بالعلم عن مجرى السنة إلى البدعة، وعن نصاعة الحق إلى ظلمه الشبهة – ثار الناس.
ثاروا على انحراف بأنظمة الحكم، وثاروا على الانحراف بحقائق العلم، فحاربوا الظلم بالسيف والقوة، وحاربوا البدعة بالبرهان والحجة، واثبتوا صلاحية الإسلام لتنظيم الحياة، بصدق الدعوة، وعدالة السيرة. وليست هذه الحركة الثورية ضد الانحراف في الحكم أو في العلم، قاصرة على ليبيا أو تونس أو الجزائر ولا على الاباضية.
(1/15)
ولكنها كانت قائمة في جميع البلاد التي دخلها الإسلام ثم انحرف الناس عن هديه، وحادوا عن سبيله ولقد تختلف بعض الثورات عن بعض في القوة والاتجاه والغرض. ولكن الباعث على أهم الحركات الثورية في الإسلام لا يبعد أن يكون سببه انحرافا في تطبيق الحكم، وأنا حين أقول هذا لا أنفي أنه قامت ثورات لم يدع إليها الإخلاص للدين والمحافظة عليه وإنما كان سببها حب السيطرة والوصول إلى الحكم. ولا سيما في العصور المتأخرة عندما كان يتوق إلى الحكم ناس لم يتثقفوا الثقافة الإسلامية، بل لم يكن لهم في المجال العلمي نصيب.
على أن هناك ظاهرة يجب أن نشير إليها ونحن نتكلم عن نظام الحكم في الإسلام، وعن أسباب الثورات الكثيرة التي قامت في البلاد الإسلامية سيما بعد تمام دولة الخلفاء الراشدين.
(1/16)
إن نظام الحكم الإسلامي هو النظام الذي جاءت قواعده الأساسية في كتاب الله ثم طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريقة عملية وسار به خلفاؤه الراشدين. ثم قامت بعد ذلك دول إسلامية كثيرة، استطاع بعضها أن يسيطر على جميع الوطن الإسلامي، وانقسم الوطن الإسلامي في بعض الأحايين إلى دول متعددة تحكم كل دولة منها قسما من هذا الوطن الكبير، ومن تلك الدول من حاول أن يسير بالنظام الإسلامي في الحكم حتى كاد أن يكون امتدادا للخلافة الرشيدة. ومنا من بعد عن أنظمة الحكم الإسلامي حتى كاد يخرج بها عن دائرة الإسلام. وإنما كان هم القائمين بالحكم أن يصلوا أو يوصلوا إلى غايات معينة دون مراعاة للقواعد التي جعلها الإسلام لبناء الحكم، كما إنهم لم يراعوا أحكام الله في الدماء والأموال والأعراض. ولكن أولئك الحكام مع ذلك البعد عن دين الله، استطاعوا بوسائل كثيرة، أن يضفوا على دولهم وحكوماتهم صيغة شرعية، وأن يجعلوها معتبرة من الدول التي تقوم بأمر الله، وقد توصلوا إلى إضفاء هذه الشرعية على دولهم بطرق مختلفة فمنهم من حصل عليها بالقوة والعنف، ومنهم من حصل عليها بالدهاء والحيلة، ومنهم من حصل عليها بالوعود والرشوة، وأنا حين استعمل كلمة الرشوة في هذا المقام، فإنما أقصد بها ما يغدقه الحكام على رؤساء الطوائف والقبائل لينضموا إلى صفوفهم، وما يجازون به الشعراء والكتاب لينشروا لهم الدعاية، ويحملوا الناس على الالتفاف حولهم، والسر في ركابهم. وما يمنحونه لضعاف العلماء، ليعترفوا لهم بالإمارة، ويستخلصون منهم فتاوي توجب على المسلمين طاعتهم، وتحرم عليهم نقدهم ومطالبتهم بالعدل، وتجعل الخروج عليهم باطلا تحل به الدماء والأموال، وما إلى ذلك من ألوان العقاب. ثم ما يقطعونه لأصحاب المطامع من القواد والأجناد ليكونوا آلة بايديهم يضربون بها من يطالبهم بالحق أو يحاسبهم على العدل.
(1/17)
وقد نتج عن ذلك مباحث قيمة بين علماء الشريعة في جواز الثورة على الدولة الظالمة وعدم جوازها. ومع أن الإسلام يحرم الظلم ويحاربه في جميع أشكاله وألوانه فإن كثيرا من علماء الإسلام دعوا إلى الرضا بالحكم القائم اتقاء للفتنة، وخوفا من أن تؤدي الثورة على الظالمين إلى إراقة دماء، والحاق مضار بالأمة، قد تكون أعظم مما يرتكبه الظالمون في أحكامهم. وإذا كان هذا الفريق من علماء الشريعة يرى هذا الرأي، ويذهب هذا المذهب، خوفا على الأمة، وإشفاقا عليها، فإن غيرهم من العلماء يرى أن إيقاف الظلم، وتغيير الحكم الجائر، من أول ما يجب على الأمة مهما كانت النتائج، لأن الاستسلام للظلم لا يولد العدل، ثم إن استمرار تحمل الضيم، أو قبول الجور، يورث الذلة، ويربي النفوس على الخنوع، ويجرئ الظالمين على الاسترسال في طغيانهم، ويجعل من البشر آلهة يحمون كما يريدون، فتطول عهود الحكم الظالم وتنشأ على ذلك أجيال فتتعوده وتعتقد إن ذلك هو الحق. لا سيما وإن الحكام الظالمين أعرف الناس وأقدرهم على تثبيت أقدامهم في الحكم، وتوجيهه لمن يريدون، وذلك بما يصطنعونه من الحواشي والاتباع، ويشترونه من الذمم والضمائر، وينزلونه من ألوان العقوبة على من يقاوم ظلمهم. ويطالبهم بإتباع الحق والعدل. ولذلك فإن هذا الفريق من العلماء يرى أن ثورة الأمة على انحراف الدولة مهما كانت النتائج أهون من الرضا بالحكم الجائر المسترسل الطويل.
(1/18)
ولو أردنا أن نعتبر كل واحد من هذين الاتجاهين، مبدأ لحزب، وبحثنا عن أحد كبار التابعين لنجعله على راس الحزب لاستطعنا أن نجعل على رأس القائمة الأولى أحد الإمامين الحسن أو الزهري ولجعلنا على رأس القائمة الثانية أحد السعيدين ابن المسبب أو ابن جبير. وأنا حين أشير إلى هذين الاتجاهين، اتجاه مسالمة الدولة الظالمة الذي يمثله الحسن، أو اتجاه مقاومتها والثورة عليها الذي يمثله ابن جبير. لا أدخل في حسابي أولئك المنزلفين من القدماء والمحدثين، الذين بهرهم البريق، فاندفعوا أو يندفعون في ركاب السلطان، وقد جعلوا علمهم ودينهم وخلقهم ثمنا لما يحصلون عليه من متعة المال أو الشهرة أو اتجاه أو المنصب، وسخروا ذكاءهم وكفاءتهم وبراعتهم، لخدمة المنحرفين عن سبيل الله، فإن هؤلاء، وإن بلغوا في العلم مبالغ سامقه إلا إنهم لا حساب لهم في التفكير الصحيح. ذلك إنهم مالوا إلى الدنيا من أول يوم واتخذوا مناصرة الظالمين مبدأ ثم أصبحوا يبحثون عن البراهين والحجج ليؤيدوا ما ذهبوا إليه.
إن هذا الاختلاف في الرأي، بين علماء الإسلام، مراعاة لمصلحة الأمة، وإشفاقا عليها، لا يرتفع إلى أن يكون خلافا مذهبيا بين الطوائف الإسلامية، وإن كان أصحاب كل مذهب قد يميلون إلى أحد الاتجاهين أكثرهما يميلون إلى الاتجاه الآخر.
(1/19)
وإذا كان بعض أئمة الاباضية يميلون إلى اتجاه المقاومة، ويرون وجوب محاربة الظلم، ومكافحة الباطل، ما كان إلى ذلك سبيل، فإن عجزت الأمة عن مقاومة الظالمين بالثورة الشاملة التي تقلب أنظمة الحكم، وتبعد غير أهل الكفاءة والاستقامة، عن التصرف في مقدرات الأمة، فإنه يجب أن تقوم فدائية تذكر الدول الظالمة، أن الأمة غير راضية للحكم القائم، وإن استسلمت للقوة والقهر، وإنها لا تزال تطالب بتنفيذ أحكام الله، وإن الرجوع إلى حكم الإسلام والتزامه والسير على منهجه، أولى لهما وأحق بها وإن المؤمن لا يهادن الظلم وإن غلبه الظلم. أقول إذا كان بعض الأئمة يرى هذا الرأي فإن البعض الآخر يميل إلى المسالمة، كما فعل الإمام الأكبر جابر بن زيد. ومنهم من يرى سلوك طريق وسط في الموضوع وذلك بالنظر إلى حالة الأمة فإذا خشى إن تكون المقاومة سببا إلى فتنة تكون المضرة فيها على الأمة أكثر مما يلحقها من حكم الظالمين فإن الاستسلام أولى وإذا كان للمقاومة أسباب تؤيد نجاحها وترجع صلاح القائمين بعدها ففي هذه الحالة يرون إن الإطاحة بالحكم الظالم أولى.
ولقد عانى المسلمون من الظلم والجبروت شيئا كثيرا في المملكة التونسية بسبب انحراف الولاة عن حكم الله، وكان ذلك من الأسباب التي دفعت الناس إلى اشتعال نار ثورات كثيرة قامت في تلك الجهات، وطال بها الأمد، وامتدت وتسلسلت مع التاريخ، حتى جعلت الناس مستعدين للانضمام إلى كل ناعق رسمي للوصول إلى الحكم.
وبما أن هذا الكتاب موضوع لإعطاء صور عن حياة الاباضية في تونس، فإنه من حق القارئ الكريم علينا أن نحدثه عن الثورات التي إشترك فيها الاباضية طالبين أو مطلوبين والدوافع إليها ونتائجها. وفي الفصل الآتي وما بعده من الفصول سوف يجد القارئ الكريم صور عن هذه الحياة التي تمتاز بكفاح طويل ..
أبو الخطاب في القيروان
(1/20)
يقول أبو المباس الشماخي في كتابة القيم (السير):» فزحت عاصم واخوه مكرم إلى القيروان فدخلوها بعد حرب، وفر حبيب إلى قابس، ثم إلى جبل أوراس، فاستحكمت ورفجومية على القيروان، وعتوا وطغوا وجاروا، وساموا الناس بسوء العذاب، وربطوا دوابهم في المسجد الجامع، فخرج إليهم أبو الخطاب غضبا لله ولدينه «.
أما كيف وردت الأخبار إلى أبي الخطاب فيظهر مما يأتي:
أرسلت إليه امرأة أن لها بنتا جعلتها في مطمورة خوفا عليها من ورفجومية، وحكى ابن الرقيق عن ابن حسان إن رجلا من الاباضية دخل القيروان، فرأى ناسا من الورفجوميين كابروا امرأة على نفسها – ولناس ينظرون – ولم ينكروا ذلك عليهم خوفا منهم – فترك حاجته فأتى أبا الخطاب –
ونقل آخرون إن ورفجومية أخرجوا امرأة وهي تصيح! ..
يا معاشر المسلمين أغيثوني!. فلم يغثها أحد، وبلغ الخبر أبا الخطاب.
وذكر بعض المؤرخين إن أهل القيروان بعثوا يستغيثون بابي جعفر المنصور ... وأهل القيروان وهم في هذا وهم الوضع الشاذ الذي استبيحت فيه كل الحرمات، يحق لهم أن يستنجدوا بأبي الخطاب وبأبي جعفر وبكل مؤمن يرجون منه النجدة، ويأملون فيه الإنقاذ. فإنه لا شر أعظم من أن تعيش أمة مسلمة صانت كلمة التوحيد، دماءها وأموالها وأعراضها، تحت حكم ناس ينتسبون إلى الإسلام ثم هم يرتكبون من الفواحش وألوان الظلم، ما جاء الإسلام ليطهر البشرية منه. وقد اجتمع على أهل القيروان في أحداث ورفجومية، استباحة المساجد حتى ربطت فيها الدواب، واستبيحت الأموال والدماء بدون حساب، وانتهكت حرمات الأعراض حتى أصبحت الفاحشة تؤتي علنا، وتقاد إليها الحرائر كرها بين الناس، وهي حالة لا ترضاها حتى الضمائر الوثنية فكيف والناس يعيشون في نور الإسلام.
(1/21)
وهذه الفظائع التي ارتكبها عبد الملك الورفجومي واتباعه، جعلت أهالي القيروان ينظرون إلى حكم الأمراء السابقين على ما فيه من ظلم وعدوان، كأنه العدل المطلق. كان أبو الخطاب المعافرى من أولئك العلماء الإعلام الذين يرون إنه لا يحق لامرئ مسلم، إن يسكت عما يرتكبه الظالمون، باسم الإمارة والحكم، فلما بايعه المسلمون ف ليبيا إماما، واسندوا إليه القيام بشئون الدولة في هذا الجزء من الوطن الإسلامي الكبير، أعد نفسه لحمل الأمانة، وعزم أن ينتهج بالمسلمين ذلك النهج الذي سار عليه الخلفاء الراشدون، وسار عليه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فلما بلغه ما يقع في القيروان من المناكر وتحقق أن الحالة بلغت من السوء إلى الحد الذي تنتهك فيه حرمات الله، جهارا نهارا، دون تستر أو تأويل، والناس خوفا على أنفسهم وأعراضهم ينظرون ولا يستطيعون أن ينكروا لما تحقق من ذلك جمع الناس وخطب فيهم يقول: إنني أطمع الجنة لمن يستشهد في هذه الوقعة ما لم يكن مصرا على كبيرة ولما خرج من الاجتماع سل سيفه، وكسر غمده، كناية عن العزم الأكيد على الكفاح في سبيل الله، ونصرة الإسلام، والمحافظة على عدالته ونزاهته وصفائه.
(1/22)
وقاد جيشه المتطوع في سبيل الله وارتحل إلى القيروان، فمر بقابس فجعل عليها واليا من قبله وسار حتى بلغ القيروان فحاصرها مدة اختلف المؤرخون في تحديدها ثم لانت له، وخرج اليه عبد الملك الورفجومي بمن معه من الاتباع، وكانت معركة حاسمة انتصر فيها أبو الخطاب ودخل القيروان، وكان أهالي القيروان ينتظرون نهاية الحرب في ترقب وخوف، فقد مر بهم عد من الحروب والوقائع، وهم يعرفون نتائجها، وما تسفر عنه، ويخشون ما يقاسونه بعد كل معركة من ويلات وصائب، وعندما كانت المعارك تدور بين أبي الخطاب وعبد الملك الورفجومي كان أهل القيروان ينتظرون نهاية هذه الوقائع في إشفاق وخوف، وكانوا يحبون أن أقل ما يلحقهم من ضرر، أن تكون الجيوش المحاصرة، قد أتت على مزارعهم وبساتينهم، وما فيها من ثمار وغلال، مدة حصارهم لهذه المدينة الحصينة، وعندما انجلت المعركة عن هزيمة عبد الملك، بدت لأهل القيروان المفاجأة الأولى، وقد كانوا ينتظرون ما تعودوه بع الحروب السابقة من التتبع والقتل والانتقام والغنيمة، ولكن يدا واحدة لم تمتد إلى سوء بع المعركة، فكان هذا من أعجب العجب في ذلك الحين، وعندما خرجوا إلى ساحة القتال ظهرت لهم المفاجأة الثانية، فقد كان القتلى هناك صرعى على أوضاع مختلفة. ولكن أحدا لم يمس ما عليهم من أسلاب، فكأنهم نائمون في ليلة صائفة حتى وصفتهم واصفة بقولها كأنهم رقود، أما المفاجأة الثالثة فقد وجدوها عندما خرجوا إلى مزارعهم، وهم يتوقعون لها كل شر، فإذا بها لم تمس، ولم يتحرك فيها شئ من موضعه، اللهم إلا ما حركته عوامل الطبيعة من وحش أو ريح.
وذاق أهل القيروان حكم الإسلام النظيف، حين يطرد الباغين ويقيم حكم الله على المسالمين فقال قائلهم، بعد أن ذهب أبو الخطاب، وقام أمراء آخرون يدعون الحكم بالإسلام» تشبهون دينكم بدين ابن الخطاب وأين مثل أبي الخطاب في فضله وعدله! «.
(1/23)
ولعله من المناسب إن أنقل للقارئ الكريم في ختام هذا الفصل كلمة للإستاذ محمد المرزوقي، قال في كتابه القيم (قابس جنة الدنيا) ما يلي:» والظاهر أن قابس نعمت في ظل الاباضيين خلال ثلاث سنوات بشيء من الطمأنينة، وكثير من العدل والمساواة بالحق، والقيام على نصرته والزهد في الدنيا «
عبد الرحمن بن رستم
حج عبد الرحمن بن رستم وهو صبي مع أبويه من فارس إلى البلاد المقدسة، فلما كان بمكة المكرمة توفى أبوه وتزوجت أمه رجلا من القيروان.
كان صبيا يطل الذكاء من عينيه وتبدو النجابة على مخائله، ويطالعك الظروف والأدب وخفة الروح في حركاته وسلوكه، فاحبه زوج أمه وسهر على تربية. رجع ذلك القيرواني الكريم إلى بلده يحمل معه أسرة متكونة من شخصين هما عبد الرحمان وأمه، واستقر بهم المقام في القيروان وطاب، وكان الصبي من عشاق المعرفة، فتندرج في المدارس البسيطة الموجودة في هذه القرية الناشئة حتى لم يجد عند مدارسها مزيدا. ولم تكن تلك المدارس الصغيرة والدروس المتقطعة في تلك القرية الناشئة لتطفئ غلته، وتروى ظمأه، فإن القيروان حينئذ كانت أشبه بقلعة حربية منها بعاصمة علمية، وكانت أمه وزوجها لا يفتئان يحرضانه على المزيد من طلب العلم. واتصل به سعد بن سلمة وحدثه عن المعاهد العلمية في الشرق الإسلامي. ولذلك فقد كان يشغله التفكير في الطريق الذي يسلكه ليستكمل دراسته، والمكان الذي يقصده ليحقق فيه غايته، والعدة التي يجب أن يستكملها ليصل إلى أمله الغالي في دراسته العلمية الطويلة، وترامى إلى سمعه الشهيرة الذائعة للمعاهد العلمية في العراق، وبلغه ما تتمتع به البصرة من شهرة تطغى على بقية العواصم الإسلامية لذلك الحين وحدثه متحدثون عن فطاحل العلماء من بقية التابعيين وتابعي التابعيين الذين تزدان بهم حلق الدراسة.
(1/24)
كان عبد الرحمن يؤمن أن الفتى الذي يريد طلب العلم لا تصده العقبات، ولا ترده الصعاب، فإن الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، والرغبة الملحة، كفيلة أن تقرب المسافات البعيدة، وتيسر الطرق الصعبة، وتبعد التفكير في النفقات للزمن الطويل وما يحتاج إليه الإنسان في كثيرة الاستعداد وإحضار الأموال، وصمم الفتى الغض الإهاب، الطرى العود على السفر بعد أن أذنت له أمه.
اتخذ الأهبة ليلتحق بالعراق، ويستقر في البصرة تلك العاصمة العلمية التي قيل فيها» باض العلم في المدينة، وفرخ في البصرة، وطار إلى عمان «أنه يريد أن يعيش في ذلك العش الذي فرخ فيه العلم فإن طارت منه طيور إلى عمان فهو سوف يتخذ لنفسه مطارا ويختار لحياته مسبحا، وسار الفتى وهو ما يزال في غضارة الصبا حتى وصل البصرة، واتصل بالزملاء وطلاب العلم من مختلف بلاد العالم الإسلامي، أولئك الزملاء الذين يقصدون البصرة كما قصدها هو، وحدثهم وحدثوه، وناقشهم وناقشوه، وفاضلوا بين مجالس العلم، وبين المشائخ والعلماء، حسب مداركهم وحسب منازعهم. وأراد عبد الرحمن أن يتأكد من موقفه، ومن سلامة اختياره، فجال بين المساجد ودور العلم، واستمع إلى كبار تابعي التابعيين، وهم يشرحون كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وانتقل من حلقة إلى حلقة، ومن عالم إلى عالم، حتى حضر دروسا على أولئك الإعلام الدين يقومون بالدفاع عن دين الله في حرص وأمانة، واختار من بينهم واحد ليتلقى عنه العلم. ويقتبس منه نور الهداية.
اختار مجلس أبى عبيدة مسلم من أبي كريمة مولى بني تميم ذلك الإمام العظيم الذي يطارده طغيان الحجاج وأعوانه، ويضيق عليه الخناق، ويحاول أن يحول دونه ودون إبلاغ رسالة الإسلام إلى المسلمين.
(1/25)
اختار عبد الرحمن هذا الإمام استاذا له ليتلقى عنه رسالة الدين وفنون المعارف الإسلامية، لأنه يمتاز عن غيره من إعلام تابعي التابعي الذين كانوا يتولون التدريس في تلك البقاع – بروحه الحية المتحررة التي لم يستطيع الطغيان إن يطفئ فيها جذوة الكفاح، ومناصرة الحق، والدعوة إلى تحطيم الأنظمة الفاسدة التي أقامتها دول انحرفت عن الإسلام في نظام الحكم.
(1/26)
واستقبله أبو عبيدة كما يستقبل الأب الحنون العطوف ولذا بارا عزيزا واحتفى به احتفاء كريما، وأضفي عليه من حبه ورعايته الشيء الكثير، وذلك لأسباب كثيرة منها ما طالع منه من أدب جم، وذكاء وقاد، وفهم كثير، واستعداد للتلقى، ولطف في السلوك، ورغبة حقيقية في العلم. ومنها أنه كان أصغر طلابه المغاربة سنا، ومنها إن هذا الفتى قد وجد من عنت الدهر ما أحس معه الألم والمرارة وهو صغير، فقد تكبد مشقة السفر من فارس إلى مكة المكرمة مع أبويه ليؤديا فريضة الحج، فتوفى أبوه في هذا الموسم الذي يعج بالناس من كل جنس، لا يهتم الشخص منهم إلا بنفسه، وعلاقته بربه، وترك للقدر مصير أرملة وطفل صغير في محنة الغربة البعيدة في ذلك الحين الذي تعز فيه وسائل النقل واسبابه. وقد إنحلت هذه المشكلة بطريقة لم يفكر فيها لا هو ولا أمه، فقد انقضى موسم الحج وبدأ الناس يعودون إلى بلادهم وكانت الأرملة العاجز تفكر في مصيرها ومصير ولدها وتدرس لطريقة التي تمكنها من الرجوع إلى بلده. ولكن تفكيرها الطويل ودراستها للمواقف وانشغالها به لم يوصلها إلى حل. وإنما جاءها الحل لحكمة يعلمها الله بطريقة لم تفكر فيها وإنما ساقها القدر إليها. فقد تقدم إليها رجل من المغرب يخطبها لنفسه، ويعدها إن يربط مصيره بمصيرها إن شاءت، ويعمل على إسعادها وإسعاد ولدها ال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق