الأمهات الصالحات لعلي الحجري - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الأمهات الصالحات لعلي الحجري

 





الكتاب: الألم المعاصر لأحمد الخليلي
الألم المعاصر
محاضرة سمعية لسماحة الشيخ العلامة
أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله
منقول من مجلة رسالة المسجد ، التي تصدر عن مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. سبحانه الجلي برهانه القوي سلطانه العظيم شأنه ، أحمده تعالى حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله رحمة للعلمين ، وسراجا للمهتدين وإماما للمتقين ونعمة على الخلق أجمعين ، بلّغ رسالة ربه وأدى أمانته ونصح هذه الأمة وكشف الله به عنها الغمة ، جمع به شتاتها ووحد به صفها ورأب به صدعها وألف به بين قلوبها المتنافرة وجمع به بين فئاتها المتدابرة ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فالسلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته ، أحييكم بهذه التحية الطيبة المباركة ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في جمعنا هذا وأن يؤلف بين قلوبنا وقلوب جميع المسلمين وأن يوحد شتاتنا وأن يجمع أمرنا على ما يحبه ويرضاه .
(1/1)
هذا ولا ريب أن الواقف على حال الأمة في هذه المرحلة الحاسمة التي تمر بها، يجد من الأمر ما يثقل على نفسه، يجد ما يدعو إلى الإعتبار ويبعث على الإستعبار، فالأمة تمر بمرحلة حاسمة دقيقة، فشرايينها تنزف وجروحها تثعب وأشلاؤها تتمزع وأوصالها تتقطع والعدو يحيط بها من كل حدب وصوب صدق عليها ما آذنها به الرسول عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام عندما قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها). قالوا: أمن قلة يا رسول الله. قال: (لا. إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن الوهن في صدوركم). قيل له: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: (حب الدنيا وكراهة الموت).
إن الله تبارك وتعالى جعل للنصر أسبابا، وكل من أتى الشيء من غير طريقه لم يصل إليه، فما وصلت إليه الأمة من الإنحطاط والتمزع والتمزق إنما هو نتيجة ما كسبت أيديها ونحن نرى أن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يجعل النصر لمن نصره من عباده فيقول سبحانه: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/7) ويقول: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/40 - 41) فالأمة إذاً مطالبة أن تصدق الله تبارك وتعالى في نصرها إياه عندئذ تستحق نصر الله سبحانه وتعالى وعندئذ تكون الجديرة بأن تتبوأ مكان القيادة والريادة ما بين الأمم جميعا.
(1/2)
فالله تبارك وتعالى يقول : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (النور/55) ، فهذه الأمة موعودة بهذا النصر عندما تكون مؤمنة حقا وتكون مصدقة إيمانها بالأعمال الصالحة التي يزكيها الإخلاص والتي تكون وفق أمر الله تعالى في كل دقيقة وجليلة .
هذا ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى وعد بمعية المتقين ، فالمتقون هم الذين يستحقون معية الله سبحانه وتعالى ، فالله تبارك وتعالى في مقام الدعوة إلى الجهاد في سبيله من أجل إعلاء كلميه ومن أجل الوقوف في وجوه المعتدين يبين أن معيته للمتقين فقد قال عز وجل : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (البقرة/190-194).
(1/3)
إذاً معية الله تبارك وتعالى إنما هي للمتقين من عباده ، فالعنصر الأول الذي هو سبب للوصول إلى نصر الله سبحانه وتعالى أن يستمسك المسلمون بحبل التقوى وأن لا يفرطوا في شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه .
ومن أجل هذا نرى السلف الصالح كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التمكين والإستخلاف في الأرض والسيادة في الكون والقيادة ما بين الأمم ، وصلوا إلى ذلك باستمساكهم بتقوى الله ، فقد كانوا يحرصون على التجرد من أهوائهم ويحرصون على محاسبة نفوسهم محاسبة دقيقة ويحرصون على الحذر البالغ من أن يتورطوا بالوقوع في مخالفة أمر الله في أي شيء كان في دقائق الأمور وجلائلها حتى أنهم كانوا يحذرون من معاصي الله أكثر مما يحذرون من مؤامرات أعدائهم ، ولا أدل على هذا من أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جند الأجناد لمواجهة امبراطورية فارس وقد كان المسلمون في نفس ذلك الوقت يواجهون إمبراطورية أخرى هي ند لهذه الامبراطورية وهي امبراطورية الروم بماذا زود ذلك الجند وقائد الجند إنما زود تاجند النصيحة بالتقوى .
(1/4)
فقد قال لقائد الجند سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه : (أوصيك ومن معك بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة على العدو ، وأوصيك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، فإن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، وإن لم ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا ، واعلموا أن في سيركم عليكم من الله حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم قي سبيل الله ولا تقولوا : إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا ، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم كما سلط على بني إسرائيل إذ عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا ، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ، أسأل الله ذلك لي ولكم) .
هذه هي النصيحة التي وجهها الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، وكانت هي القوة الفاعلة التي تضاءلت بين يديها جميع القوى ، كانت هي السلاح الفتاك الذي فتك بأعدائها .
(1/5)
ولذلك ما لبث عدو الاسلام أن انهارت قواه وخارت عزائمه وأخذ يتقهقر أمام هذا المد الإسلامي مع ما يبدو من قوة ذلك العدو وضعف هذا المد حتى أن يزدجرد الذي هو امبراطور فارس آنذاك في نفس الوقت من هول ما لقيه أرسل رسالة إلى امبراطور الصين يستنجده فيها على المسلمين ويصف له ما وصل إليه جيشه من الوهن وما آل إليه أمره من الضياع ، وقد حمل هذه الرسالة رجلا خبيرا حصيف الرأي من أصحابه ، فذهب بالرسالة إلى امبراطور الصين ، ولما قرأ امبراطور الصين الرسالة سأله عن العديد من الأشياء ، وكان فيما سأله : هل هؤلاء القوم الذين خرجوا عليكم أكثر عددا منكم أو أقل عددا؟ فقال له : بل هم أقل عددا. قال له : هل هم أكثر عدة أو أقل عدة؟ قال له : بل أقل عدة. قال أخبرني عن حالهم؟ قال : هم رهبان بالليل فرسان بالنهار. فقال له : أخبرني عن لباسهم. قال له : يلبسون بقدر ما يستترون. قال له : أخبرني عن حالهم فيما بينهم. قال له : قلوبهم كقلب رجل واحد. فأجابه بقوله : إنهم لم ينتصروا عليكم مع قلتهم وكثرتكم إلا بما ذكرته من أوصافهم. ثم كتب رسالة جوابية إلى امبراطور فارس جاء فيها : قد وصلني كتابك وفهمت ما عند رسولك ، ولا يمنعني من إرسال جيش أوله بمرو وآخره بالصين إلا أن أولئك القوم الذين خرجوا عليكم لا يقاومهم شيء ، فلو وقفت في وجوههم الجبال لدكدكوها ، ولو أرادوني لانتزعوني من مكاني هذا ، فإن شئت أن تستمر فاستسلم لهم .
(1/6)
يقول لا يمنعه من إرسال جيش أوله بمرو والمراد بمرو خراسان في أرض فارس وآخر الجيش في الصين إلا أن أولئك القوم لا يقف في وجوههم شيء لأنهم موصولون بحبل الله المتين ، ولأنهم قلوبهم كقلب رجل واحد ، فهم من حيث صلتهم بالله سبحانه وتعالى صلتهم صلة الخائف الراجي ، فهم يعرضون أعمالهم جميعا على أمر الله سبحانه وتعالى ، لا يقدمون على أمر ولا يحجمون عن أمر إلا ببينة من الله سبحانه وتعالى ، وهم من حيث تعاملهم فيما بينهم قلوبهم كقلب رجل واحد ، ومعنى ذلك أن قلوبهم صفت من أكدارها وتخلصت من كل سخائمها وأحقادها فعادت قلوبا متآخية مترابطة متواصلة ، وهذا هو الإيمان الواجب بين عباد الله تعالى المؤمنين.
فإن الإيمان إنما يوحد مشاعر المؤمنين ويؤلف بين قلوبهم المتنافرة ويجمع بين صفوفهم المتدابرة ويجعل منهم أمة واحدة تحس بأحاسيس واحدة وتهدف إلى غاية واحدة وتسلك سبيلا واحدا وتتألم آلاما متحدة وتأمل كذلك آمالا موحدة ، فهم من كل ناحية متوحدون ، هذا الذي يجسده قول الله تبارك وتعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (التوبة/71) .
(1/7)
نحن نرى كيف أن الله تبارك وتعالى لما وصف المؤمنين هنا بكونهم بعضهم أولياء بعض ذكر صفاتهم التي يتصفون بها ، ماهي هذه الصفات؟ بدأ هذه الصفات كلها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي ينتزع من بين هذه الأمة ما عسى أن يمون من خلاف وشقاق ، ويوحد بين صفوفها ويرأب صدعها ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما ركنان يأوي إليهما من أراد الإيواء إلى ركن الله سبحانه وتعالى ، إذ هما جند الله تبارك وتعالى في هذه الأرض ، والقلوب المتنافرة إنما تتآلف عندما تفهم المعروف وتأمر به وتأتمر به وتدرك المنكر وتنتهي عنه وتنهى عنه .
وهذا واضح جدا عندما نتأمل كيف أن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم فرض أولا على عباده المؤمنين أن يظلوا مسلمين إلى الممات ، ومعنى ذلك أن يوحدوا الله تبارك وتعالى توحيد يجعلهم يمتثلون أوامره ويزدجرون عن نواهيه ويقفون عند حدوده ولا يطيعون أهواءهم مع مخالفة أمره بل يخالفون أهواءهم لطاعة أمره سبحانه وتعالى ، وذلك عندما قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران/102) ، ثم أتبع ذلك دعوته إلى أن يعتصموا بحبله وأن يتوحدوا بينهم وأن لا يتفرقوا حيث قال : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران/103).
(1/8)
بعد هذا دعا هذه الأمة إلى أن تكون أمة أمر بمعروف ونهي عن منكر إذ قال : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/104) ، وليس المراد بقوله : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) أن يسلك هذا المسلك جانب من الأمة مع تخلي جانب آخر عنه ، بل معنى هذا أن تكون هذه الأمة بأسرها أمة هذا شأنها ، وذلك بأن يوجد من بينهم جميعا من يتصف بهده الصفات ، أي لتكونوا أمة هذا شأنها ، فمن هنا للبيان وليست للتبعيض كما يتصور البعض ويدل على ذلك أن الله تعالى حصر الفلاح في هذا الصنف من الناس حيث قال : (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وذلك بتعريف المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهما ، فهذا مما يدل على أن الفلاح إنما هو منحصر في هذا الصنف من الناس الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، الذين يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .
ثم بعد ذلك أتبع هذا التحذير من التفرق حيث قال : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/105)، فليس توسيط الدعوة إلى أن تكون الأمة أمة أمر بمعروف ونهي عن منكر فيما بين أمرها بإعتصامها بحبل الله وعدم تفرقها وبين تحذيرها من التفرق الذي وقعت فيه الأمم من قبلها إلا من أجل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لوحدتها وتآلفها وتآزرها واجتماع شملها وتعاطفها .
(1/9)
هذا ونحن نرى كيف يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نكون أخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/110) ، بل نجد التوجيهات الربانية في القرآن الكريم تدعوا إلى أن يكون المسلم متخلقا بالأخلاق التي تدعوا إلى الألفة وتدعوا إلى الوحدة وتدعوا إلى نسيان كل الأحقاد والسخائم التي تمزق الشمل وتشتت الصف ، فالله تبارك وتعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/11-13).
هكذا يوجهنا القرآن الكريم لأن نتآلف ونتحاب ونتصالح وبهذا تتم الوحدة ما بين الأمة ، وبهذا تكون الأمة حقيقة بالنصر فإن التشتت عذاب وإن الإتحاد رحمة ، فالله تعالى يقول : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الانفال/46) ، ولننظر إلى أحوال أمتنا اليوم ، هذه الأمة التي نكبت بطمع أعدائها في قلبها وأطرافها والتي تتلقى الضربات من هنا وهناك في شتى بقاع الأرض .
(1/10)
تتلقى الضربات في أرض فلسطين المحتلة حيث تنتهك الحرمات ويقتل الرجال والنساء والأطفال ويخرج الناس من بيوتهم وتهدم منازلهم عليهم وكذلك يتعرضون للكثير الكثير من ضربات العدو في شرق الأرض وغربها ، لننظر إلى حال هذه الأمة ، هل هذه الأمة أمة معتصمة بحبل الله؟ هل هي تابعة لأمر الله؟ ، فإن الأمر يستدعي حساب النفس والوقوف مع أحوالها وقفة تأمل ، وقفة نظر واعتبار .
الأمة أصبحت اليوم تتسارع في إرضاء عدوها بكل ما تملك من قوة وبكل ما عندها من مال وبكل ما عندها من حيلة ، تتسارع في إرضاء عدوها ، نسيت ربها سبحانه وتعالى وكأنما عزتها منوطة برضا عدوها عنها كأنما عزتها ليست منوطة برضا الله تبارك وتعالى ، فعندما يتوجه العدو إلى حرب طائفة من الأمة بدعوى أن هؤلاء إرهابيون وأن هؤلاء هم الفاعلون التاركون وأنهم وأنهم وأنهم ، إذا بالأمة تتسارع إلى ترديد هذا الصوت وإرضاء العدو وتبرير ما يسعى له ، بل لم يقف الأمر عند هذا الحد ، وجدنا أن المسلم يقتل المسلم إرضاء للعدو ، بل يردد بأنه قرير العين مطمئن النفس ، هادئ البال عندما يرى العدو يقصف المسلمين وينزل بهم النكاية وينزل بهم الحروب ، أليس هذا داعيا للتشتت؟ ، وداعيا إلى تفرق الكلمة؟.
وأولئك الذين سارعوا في إرضاء أولئك ماذا كانت عاقبة أمرهم؟ . الذين قدموا ما قدموه من الخدمة والتنازل عن المبادئ والتنازل عن العز والكرامة إنما كانت عاقبة أمرهم خسرا في هذه الدنيا بحيث خسروا ما كانوا يأملونه من تبوئهم المناصب التي كانوا يطمحون إليها ، وإذا بهم يهمشون ويلقون كالًّلقى جانبا. (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (القلم/33).
(1/11)
هكذا وصل الأمر بالمسلمين ، وصل الضياع بهم إلى هذا الحد ، نسوا الله تبارك وتعالى فنسيهم ، مع أن الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (الحشر/18-19) ، هؤلاء نسوا الله فأنساهم أنفسهم بحيث سارعوا في إرضاء عدو الله تعالى بإسخاطه سبحانه وتعالى ، فكانت عاقبة أمرهم ما وصلوا إليه من التردي وما وصلوا إليه من الضياع وما انقلبوا إليه من ذل ومن هوان .
قد يقول قائل بأن هذا الأمر إنما كان من بعضهم ولم يكن من جميع الأمة فكيف ترزأ الأمة جميعا بعواقبه؟ . الجواب : نعم . هذه الأمة كما ذكرنا هي أمة واحدة ، ولما كانت أمة واحدة فإن فساد عضو من أعضائها إن لم تتسارع الأمة إلى إصلاح ذلك العضو يؤدي إلى أن يستشري في جميع أعضائها ، ومن أجل ذلك أمرنا بالتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر ، إذ لا يمكن لهذه الأمة أن ترضي ربها سبحانه وتعالى وأن تصل إلى ما تبتغيه من العز والنصر والتمكين والظهور في الأرض إلا عندما تحرص على علاج جميع أدوائها وعللها حتى تكون أعضاؤها جميعا أعضاء صحيحة ليس فيها داء يخشى أن يستشري وينتشر في بقية الأجزاء ، فلذلك كان من الواجب إذا أن تعود الأمة لتحاسب نفسها من جديد .
وقد قلت قبل اليوم ولا زلت أكرر : بأن الأمة هي بحاجة إلى أن تصاغ من جديد ، هي بحاجة إلى أن تصاغ فكريا ، وهي بحاجة إلى أن تصاغ اجتماعيا وأدبيا ، وهي بحاجة إلى أن تصاغ سلوكيا وعمليا حتى تعود الأمة إلى ما كانت عليه من قبل ، فبدون هذا العلاج وبدون هذه المعالجة الدقيقة إلى أن تنتهي هذه الأدواء والأمراض وتتلاشى هذه الأسقام فإن الأمة في ضياع .
(1/12)
نحن على أي حال نرى في تاريخ الأمم كيف عندما يدب الضياع فيها تنقلب إلى هوان ، تنقلب إلى أن تؤول إلى الإنحطاط في دركات الذل وهذا أمر تفشى في جميع الأمم ، مع أن الله تبارك وتعالى له سنن في هذا الكون تحكم نظام هذا الوجود ، وسنن الله تعالى لا تتبدل (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الاحزاب/62) ، فسنن الله تبارك وتعالى تظل هي هي في جميع الأمم ، إذ لا محاباة من الله تبارك وتعالى لأح من خلقه ، فإنه ليس بين العباد وبين ربهم سبحانه وتعالى نسب ، وليس بينه وبينهم سبب إلا الصلاح والتقوى ، فعندما يكون الصلاح والتقوى يستجمعون الخير .
وقد قلت إنما تحتاج الأمة إلى علاج فكري لأن التصور هو أساس الإستقامة أو الإنحراف ، ومن أجل هذا نرى أن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل رسله وأنزل كتبه إنما قامت دعوة الرسل أول ما قامت على التصور الصحيح ، على نفي التصورات الباطلة والإستعاضة عنها بالتصورات الصحيحة لتسلك الأمة الطريق الصحيح .
نحن نرى أن دعوات المرسلين جميعا قامت أول ما قامت على توحيد الله تبارك وتعالى ، ولا يعني هذا التوحيد مجرد نظرية يتصورها الإنسان أو يعتقدها ، وإنما توحيد الله سبحانه وتعالى هو عقيدة راسخة في النفس يجسدها العمل ، بحيث يكون العبد عابدا لله تبارك وتعالى ، ومعنى عبادته لله تعالى الخضوع المطلق له عز وجل بحيث لا يقدم على شيء ولا يحجم عن شيء إلا ببينة من ربه سبحانه ، فالله تعالى يقول : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/25)، فكل رسول يوحى إليه بهذا لبتصور الصحيح وهو أنه لا معبود بحق إلا الله ، (فَاعْبُدُونِ) معنى العبادة الطاعة المطلقة لله تعالى في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه .
(1/13)
وكذلك يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ) (النحل/36) ، فهناك طريقان طريق الله تعالى وطريق الطاغوت ، فعبادة الله هي سلوك طريقه سبحانه المؤدي إلى سلامة الدنيا وسعادة العقبى. وطاعة الطاغوت إنما هي بعكس ذلك .
كذلك نرى أن الله تبارك وتعالى يحكي عن كل من هود وصالح وشعيب –عليهم السلام- أنهم قالوا لقومهم (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف/85) ، هؤلاء كلهم إنما دعوا الناس إلى عبادة الله وأنه لا إله إلا هو سبحانه وتعالى ، فالعبادة المطلوبة من هؤلاء هي العبادة التي تعني الطاعة المطلقة له عز وجل في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، فعندما تكون العبادة على هذا النحو تتآخى النفوس وتتآلف القلوب وتتوحد المشاعر ويصدق على الناس ذلك الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم الأمة المؤمنة عندما قال : (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ، فأين هذه المشاعر؟ وأين هذه الأحاسيس؟ .
المسلم يقتل المسلم ، بل يتقرب إلى عدوه بقتله إياه ، ويبدي فرحه وبهجته بما يصيبه ، أين ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (المسلم أخو المسلم لا يقتله ولا يخذله ولا يحقره ولا يسلمه ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) .
فكيف تباح هذه الحرم جميعا؟ يباح دم المسلم ، ويباح ماله ، ويباح عرضه ، كيف يكون ذلك بين المسلمين؟
(1/14)
مع أن حرمة قتل النفس بغير حق ولو كانت نفسا غير مسلمة . حرمة عظيمة . فالله تبارك وتعالى يقول : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/ 32) ، فكيف إذا بهذه الجرأة على الله تبارك وتعالى ، تقطع الأوصال بين عباد الله تعالى المؤمنين والمسلمين لبدا الهوى ، الهوى الذي استولى على هذه النفوس ، فإن هذه النفوس بحاجة إلى أن تصاغ صياغة فكرية ، بحيث يكون التصور عندها تصورا صحيحا ، التصور الصحيح إنما هو تصور الحقيقة كما هي سواء ما كان منها متعلقا بمبدع الوجود وما له من حقوق على عباده أو ما كان منها متعلقا بنظام الكون ووجزب خضوع هذا النظام لأمر الله سبحانه وتعالى لأنه خالقه ومبدئه ومصوره أو ما كان متعلقا بالعلاقات بين المسلمين ، وأن هذه العلاقات إنما هي علاقات إخاء ومودة ورحمة تجيش بها مشاعرهم وتتحرك بها ضمائرهم .
ثم مع هذا هم بحاجة كما قلت إلى أن يصاغوا من جديد إجتماعيا وأدبيا بحيث تكون العلاقات بين المسلمين قائمة لا على المصالح الدنيوية ولكن على أساس هذه العقيدة الإيمانية التي تؤدي إلى هذا الترابط الأخوي ، وكذلك من حيث الآداب ومن حيث الأخلاق يجب أن يكون ذلك كله منبثقا من هذه العقيدة بحيث تكون الأخلاق أخلاقا قرآنية كما تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان خلقه القرآن .
(1/15)
فإذا هذه الأمة هي بحاجة إلى هذه الوحدة الإيمانية ، ومع هذا كله هي بحاجة إلى أن تعرف أن عزها إنما هو منوط بجهادها في سبيل الله لأجل إعلاء كلمة الله تعالى ، لا لأجل غرض دنيوي أو هوى نفساني أو منصب يطمع فيه المرء أو مطمح يتطلع إليه وإنما لأجل أن تكون الغاية هي أن تكون كلمة الله تعالى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، هذه هي الغاية التي يجب أن يهدف إليها المسلمون .
وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا ، الذل منوط بترك الجهاد ، والجهاد إنما هو جهاد بالنفس وجهاد بالمال ، فالله تبارك وتعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الصف/ 10-13) ، فالناس مطالبون إذا أن يكونوا إخوانا متصافين وأن يكون جهادهم لأجل إعلاء كلمة الله ، لأنهم عباد الله تبارك وتعالى ، وأن يكون الباعث على الجهاد هو الحرص على أن يكون الدين لله .
(1/16)
الله تبارك وتعالى يحذر الأمة المسلمة من أن تتقرب إلى عدوها بموالاة ، يقول سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) (الممتحنة/1-2)
ثم إننا نجد أن الله سبحانه وتعالى يبين ما هو المنهاج الذي يسير عليه المؤمن تجاه ذلك حيث يقول : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة/4-5).
(1/17)
الله تبارك وتعالى يجعل للمسلمين أسوة حسنة في أولئك الذين نابذوا قرابتهم إلا في كلمة إبراهيم عليه السلام لأبيه : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ، فإن التأسي في ذلك إنما هو ممنوع لأن هذا القول إنما هو صادر عن موعدة وعدها إياه كما قال الله تعالى : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (التوبة/114).
ونجد أن الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ) (المائدة/51-51) ، هذا دليل على أن هذه المسارعة إنما هي ناشئة عن مرض نفساني وداء مستحكم في القلب (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ) (المائدة/52-53) ، بعد هذا يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة/54) معنى هذا أن الآية الكريمة تشير إلى أن الإسترسال في هذه الموالاة يفضي إلى الخروج من دين الله بحيث إن المسترسل لا يقف عند حد حتى يرتد عن دينه .
(1/18)
ولذلك حذر الله تعالى من الإرتداد عن الإسلام في مقام التحذير من موالاة هؤلاء الكافرين ، ونجد أن الله سبحانه وتعالى يبين بعد ذلك من الذي يواليه المسلم ، أي يجب عليه أن يواليه ، حيث يقول : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة/55) ، ويبين عاقبة هذه الموالاة حيث يقول : (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة/56) .
هذا التصور الصحيح الذي يجب أن يكون في خلد المسلم ، وأن يطبقه في حياته ، على أن هذا التصور كما قلت يحتاج إلى تربية عملية وسلوكية وأخلاقية ، وذلك لأن هذا التصور إلى ماذا يؤدي؟ .
هذا التصور يؤدي إلى أن يكون المسلم معتزا بموارثه الفكرية والسلوكية والأخلاقية ، وأن يقيس كل ما عسى أن يأتيه من قبل غيره على هذا المقياس الشرعي ، بحيث لا يتهالك على المستوردات الفكرية والسلوكية من قبل أعداء الإسلام ، كما وقع المسلمون اليوم ، فالموالاة إنما تتجسد في التبعية العمياء التي تكون من المسلم لغير المسلمين ، هذه التبعية العمياء إنما هي دليل هذه الموالاة ، وأليس عند المسلمين من التبعية العمياء ما نزل بهم إلى الحضيض الأدنى .
(1/19)
كم لو فكرنا في أحوال المسلمين كم تنازلوا عن ثوابتهم وأساسياتهم من أجل رغبتهم في تقليد أولئك المسلمون كلما سمعوا عن شيء أتاهم من قبل الغرب تهالكوا عليه حتى الدنايا الدنيئة ، عندما سمعوا عن كذبة إبريل قالوا بأن هذه الكذبة إنما هي عنوان الرقي وشارة التقدم فتهالكوا عليها وتفننوا في الإبداع فيها من غير أن يبالوا بأمر الله ، مع أن الكذب ليس من شأن المؤمن بحال من الأحوال ، فالله تبارك وتعالى وصف المنافقين بالكذب وتوعدهم عليه بالعقاب الأليم ، حيث قال : (وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة/10) ، في معرض ذكر صفات المنافقين قال ذلك ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء : (آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أتمن خان) .
فالكذب إذا إنما هو من صفات المنافقين ، كذلك نجد أن رسول الله صلى الله عبيه وسلم يقول : (يطبع المؤمن على الخلال كلها ليس الخيانة والكذب) ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل : أيكون المؤمن كذابا؟ يقول : لا . أي ليس من شأن المؤمن أن يكذب بحال من الأحوال ، فكيف يتهالك المسلم على تقليد الآخرين في الكذب ، والكذب خلق دنئ يترفع عنه العاقل ، بل وصل الأمر بأهل الجاهلية أتهم كانوا يخشون أن يسجل عليهم كذب ، فأبو سفيان عندما كان يجيب هرقل عن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يمنعه من الكذب إلا أن يسجل عليه أصحابه شيئا من الكذب قاله .
(1/20)
هكذا كان الناس يترفعون عن الكذب فما بال المسلمبن يتهالكون على الكذب ويبدعون فيه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص كل الحرص على تربية الأمة على الإستقلال الفكري والسلوكي والأخلاقي حتى أنه كان يأمر بمخالفة الكفرة في الأمور العادية المألوفة ، عندما مر به يهودي وكان في حال دفن ميت وكان واقفا وكان أصحابه وقوفا وقال هكذا تصنع أحبارنا قعد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالقعود لألا يتأثروا بعادات اليهود ، فما بالنا نتهالك على اتباع عاداتهم والإقتداء بهم في أحوالهم .
كم من الأمور نحن نأسف لها كثيرا أن نجد المسلمين يتهالكون عليها مع أنها في الحقيقة تعد من الأساسيات ، نحن عندما نتساءل الآن في وقتنا هذا أي يوم هذا؟ ما هو تاريخ هذا اليوم؟. الكل يسابق إلى أن يقول : هذا اليوم هو اليوم السابع من الشهر الرابع من عام 2002 وينسى ما عدا ذللك ، ينسى التاريخ الإسلامي الذي أجمع عليه المسلمون لمدة ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن من الزمن وساروا عليه ، مع أن ذلك التاريخ يرتبط بعزة الأمة القعساء ، يرتبط بميلاد الدولة الإسلامية ، يرتبط بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك الحدث التاريخي الذي قلب موازين الحياة إلا أن المسلمين لا يعرفون ذلك .
(1/21)
مع أن تاريخهم إنما تقوم عليه عباداتهم جميعا ، فالصيام والزكاة والحج وغير ذلك من العبادات إنما هي منوطة بهذا التاريخ ، والله تعالى ينص في كتابه عليه حيث يقول : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة/36) أي أربع حرم في الأشهر الحرم التي يعتمد عليها الناس والله تعالى يقول : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة/189) ، هذا إنما يعد انتكاسة لذلك تحتاج الأمة كما قلت إلى صياغة جديدة حتى تكتشف هويتها وتعرف ثوابتها وأساسياتها .
أنا لا أقول بأن كل شيء هو من الثوابت ، هنالك متغيرات ولكن هذه المتغيرات إنما تقاس وتقدر بالمقياس الشرعي على أن يكون الفيصل في ذلك إنما هو شرع الله تبارك وتعالى وأمره ، هذا وإننا علينا أن نتوجه إلى الله تبارك وتعالى جميعا بقلوب مؤمنة وألسنة صادقة ، وأن نتوجه إلى الله تعالى ليهدي قلوبنا أولا ويصلح لنا أمر ديننا ودنيانا وأن ينصرنا على أعدائنا .
(1/22)
اللهم اهدنا للهدى ووفقنا للتقوى وعافنا في الآخرة والأولى ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، واصرف عنا شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واقطع دابر أعداء الدين ، واستأصل شأفتهم يا رب العالمين ، اللهم شتتهم كل مشتت ومزقهم كل ممزق ، اللهم فل حدهم وأقلل عددهم ، واردد كيدهم في نحورهم ، وأعذنا وجميع المسلمين من شرورهم ، اللهم امحو آثارهم وأورثنا أرضهم وديارهم ، واطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم .
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك ، اللهم مزق شمل اليهود ومن والاهم ومن ناصرهم ، ومزق شمل جميع أعداء الإسلام من كانوا وحيث كانوا وأين ما كانوا ، اللهم مزقهم كل ممزق ، اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ، اللهم عليك بهم فإنهم لايعجزونك ، اللهم افعل بهم كما فعلت بثمود وعاد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، اللهم صب عليهم سوط عذاب ، اللهم ربنا افعل بهم كما فعلت بأشياعهم يوم بدر ويوم لأحزاب ، اللهم انصرنا وانصر المسلمين في كل مكان ، اللهم انصرنا نصرا مؤزرا واجمع كلمتنا ورد إلينا ألفتنا واجمع شتاتنا ووحد صفنا وألف بين قلوبنا .
اللهم إنا نسألك أن تنزع من قلوبنا السخائم والأحقاد ، اللهم انصرنا على القوم الكافرين ، اللهم خلص بيت المقدس أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين من أيد اليهود ، وطهره من رجسهم ، وخلصه من أيديهم ، واجعله في أيدي عبادك الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
(1/23)
اللهم أبرم في هذه الأمة أمر صلاح ورشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويحكم فيه شرعك ويتبع فيه كتابك ويقتدى فيه بنبيك صلى الله عليه وسلم ، اللهم اهد قلوبنا ، وأصلح سرائرنا ، ونور بصائرنا ، اللهم وأحي ضمائرنا ، إنك ربنا على كل شيء قدير ، وإنك بالإجابة جدير ، نعم المولى ونعم النصير .
اللهم انصر عبادك المسلمين في فلسطين ، وانصر عبادك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، اللهم انصر المسلمين حيث ما كانوا ، وألف بين قلوبهم ، واجمع شتاتهم ، إنك ربنا على كل شيء قدير ، وإنك بالإجابة جدير ، نعم المولى ونعم النصير ، سبحانك ربنا لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، نستغفرك ونتوب إليك ، ونعول في إجابة دعائنا عليك ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
(1/24)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *