الكتاب : الإباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالات للحجري
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطلوع
الإباضية
ومنهجية البحث
عند المؤرخين وأصحاب المقالات
علي بن محمد بن عامر الحجري
بسم الله الرحمن الرحيم
" وإن من يمعن نظره في التراث الإباضي الفكري - متجرداً عن العوامل النفسية، والمؤثرات الوراثية - يدرك كل الإدراك أنّ الإباضية أكثر فئات هذه الأمة اعتدالاً، وأسلمها فكراً، وأقومها طريقاً، وأصحّها نظراً، وأصفاها مورداً ومصدراً " (1)
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان
الإهداء
إلى مكتبة ولاية بدية العامة العامرة
جعل الله تعالى حاضرها الزاهر حلقة وصل بين الماضي العريق التليد والمستقبل المشرق الواعد.
شكر وتقدير
لفضيلة الشيخ الأستاذ/ ناصر بن سليمان السابعي على توجيهاته ونصائحه التي بفضل الله تعالى ثم بسببها خرج هذا البحث، فله مني جزيل الشكر والتقدير. وأشكر أيضاً سعادة الشيخ الأستاذ/ أحمد بن سعود السيابي على توجيهاته وإرشاداته التي كان لها الأثر الكبير في إخراج هذا البحث. وأشكر أيضاً الشيخ الأستاذ الوالد/ عامر بن سعيد الحجري والشيخ الأستاذ / خميس بن راشد العدوي والشيخ الأستاذ/ يوسف بن إبراهيم السرحني والشيخ الأستاذ/ عبد الله بن سعيد المعمري والشيخ الأستاذ/ عبد الله بن عامر العيسري والأستاذ/ حمدان بن عامر الحجري والأستاذ/ مسلم بن سالم الوهيبي والأستاذ/ محمد بن حمد بن سعود المالكي والأستاذ/ عبد الله بن سعيد بن علي الحجري والأستاذ/ سالم بن عامر بن محمد الحجري والأخ العزيز/ عامر بن حمدان بن سالم الحجري وكل الأخوة القائمين على إدارة مكتبة ولاية بدية العامة، وكل من مد يد العون إليّ إما بالتوجيه أو بالمعلومة.
تقديم بقلم سعادة الشيخ الأستاذ/ أحمد بن سعود السيابي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
__________
(1) البعد الحضاري للعقيدة الإباضية، ص12
(1/1)
فإنه مما لا يتمارى فيه اثنان، أن الكتابة أو الحديث أو النقاش عن موضوع الطوائف أو الفرق الإسلامية لهو من الصعوبة بمكان، ومن الخطورة في آن. وذلك لأن الدخول في هذا الموضوع يحتاج إلى جمع المعلومات بشكل عميق ودقيق، وإلى منهج استقرائي تام لتكون الحقيقة للكاتب أو الباحث واضحة المعالم بارزة للعيان.
وما ذلك التخبط الذي نجده عند كتاب الفرق والمقالات إلا راجع إلى عدم جمع المادة العلمية الصادقة. حيث إنهم لم تكن لديهم المعلومات الكافية عن الفرق أو الطوائف الدينية التي كتبوا عنها، ولا نبالغ أو لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن المعلومات حول ذلك عندهم معدومة لا وجود لها. فإذا هم يتخبطون تخبط العشواء، ويخلطون الأمور كحاطب ليل.
وعندما كتب أولئك عن الإباضية وفق ذلك المنهج السقيم، والجهل أو التجاهل الفاضح، إذا هم تهوي بهم الريح في مكان سحيق بعيدا عن الحقيقة والمنهج العلمي الإسلامي الصحيح.
فلا غرو أن يرى كثير من الكتاب والباحثين المعاصرين أن كتب الفرق والمقالات ليست جديرة بالمصداقية فهي لا تحمل المصداقية.
ويعجبني هنا أن أنقل ما قاله أخونا وصديقنا الكاتب القدير والباحث الخبير الدكتور عمر محمد صالح با في كتابه ( دراسة في الفكر الإباضي) حيث يقول: " والحق أن كتاب المقالات جنوا على التاريخ، وجنوا على العلم، وجنوا على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(1/2)
جنوا على التاريخ لأنهم زورّوه وكتبوا وقائعه على نحو سقيم، واعتدوا على قوم أبرياء -قلمياً- وزيفوا مبادئهم وقالوا بألسنتهم ما لم يقله هؤلاء. وجنوا على العلم، لأن كتبهم -مع عدم صحة ما ورد فيها وانتفاء الثقة عنها- أصبحت مراجع يرجع إليها من يريد الإطلاع على آراء الفرق الإسلامية والتزود بمادة علمية منها، والحال أنها خالية عن أية مادة علمية. وجنوا على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لمحاولة تفريقها، أو الإمعان في تمزيقها وبالتالي إضعافها. ولم يحاولوا فقط تضييق الهوة الناشئة عن نتائج اجتهادات مجتهديها لمسائل فرعية غير جوهرية في الدين، وهي إلى السياسة أقرب منها إلى الدين" (1)
بيد أنه من العجيب حقاً -مع كل هذا- أن تكون تلك الكتب مصادر علمية أساسية معتمدة يرجع إليها كل من يريد القول أو الخوض عن الفرق أو المذاهب الإسلامية. حتى أننا لنجد كتاباً وباحثين معاصرين تكاد تكون كتاباتهم ومقالاتهم - بل هي كذلك- اجتراراً لما في تلك الكتب ذات التعصب المذهبي البغيض، والافتراء الواضح، ونحن في هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل المواصلات وتوفرت فيه وسائل الاتصالات، وأصبح العالم قرية صغيرة.
__________
(1) دراسة في الفكر الإباضي، ص48
(1/3)
ومن الغريب أن يقول بعضهم أننا لا يمكننا أن نهمل ما كتبه أولئك -أي كتاب الفرق والمقالات- على أي حال، وهو قول عجيب ومنطق غريب. لذلك فإننا نقدر الباعث لأخينا وصديقنا الفاضل/علي بن محمد الحجري على اختيار موضوع منهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالات في كتابه الذي عنون له بـ(الإباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالات) لما قرأه وسمعه من تجن وتحامل غير مبرر على الإباضية، وما ذلك إلا شجة الابتعاد عن استعمال المنهج العلمي الصحيح. وهو يقول في مقدمة بحثه: " ومما يؤسف له حقاً أن هناك كتاباً يخرقون مناهجهم التي تنادي باتباع منهج أهل الحديث في تمييز المرويات. فهم حينما كتبوا عن أهل النهروان والإباضية لم يطبقوا ما نادوا به". فإذا بالكاتب الحجري ينفض كنانة فكره على أسلات قلمه ليميط اللثام ويزيح الستار عن كثير من الحقائق. مبيناً تجاوزات الكثير من المؤرخين والكتاب في طرحهم لقضايا التاريخ ومعالجتهم لها.
وقد اتبع الباحث منهج المحدثين في نقل الوقائع التاريخية، وهو منهج ينادي به الكثير من المفكرين قديماً وحديثاً. وهو -بلا شك-منهج له وجاهته، وإن كنا نتحفظ عليه، لأن نقل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين ولا بد من العدالة في ناقله وراويه. وأما الروايات التاريخية لا تعدو كونها نقل أحداث تاريخية وقعت، فلا يستدعي الأمر فيها اشتراط عدالة الناقل أو الراوي إذا أمن الكذب. أما الكذاب فإنه يرد إليه صدقه فضلاً عن كذبه عقوبة له. وعلى كل حال فإن الباحث له اختياره الذي اختاره، وهو اختيار له وجاهته كما قلت، وهو أيضاً منهج مناسب لا سيما في نقل أحداث الفتنة التي حدثت بين الصحابة، فإنها وإن كانت روايات تاريخية، غير أنها أطرت تأطيراً دينياً وبنيت عليها تصورات عقدية اشتملت على التصويب والتخطئة على أساس مفهوم ديني.
(1/4)
لذلك يقول دفين القاهرة الإمام الشيخ أبو إسحاق اطفيش -رحمه الله- حول قضية التحكيم وهي أم قضايا الفتنة : " لعل مسألة التحكيم من أهم المسائل التي لعبت بها أيدي الهوى وشوهت حقيقتها تبريراً للطعن في المحكمة زوراً وجوراً " (1) . ولقد أعطى أخونا الحجري صورة واضحة المعالم حول كيفية معالجة وتناول تلك القضايا المعقدة من واقع أحداثها التاريخية بأسلوب رصين. وهو يقرر في كتابه هذا بأسلوب منطقي وتسلسل واقعي أن التجاوزات التي حدثت من المؤرخين وأصحاب المقالات في طرحهم واستنتاجاتهم لقضية الفتنة وما بنوه من تصورات حول ذلك، إنما ناشئ ذلك عن عدم تطبيقهم للمنهج العلمي الذي ينادي به كثير منهم في مقدمات مؤلفاتهم.
ونأمل أن يحتل هذا البحث مساحة مناسبة في ساحة الفكر الإسلامي ويسد حيزاً مناسباً في أروقة المكتبة الإسلامية. وهو -ولا شك- إضافة جيدة بين مفردات البحوث والكتب العلمية.
والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد بن سعود السيابي
مسقط
سلطنة عمان
تقديم بقلم فضيلة الشيخ الأستاذ/ ناصر بن سليمان السابعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً على خير المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فكم عانت الأمة الإسلامية من آلام التشتت، وقاست من مآسي التمزق، ولا زالت ترزح تحت وطأة هذه المعاناة وتنوء بأثقالها.
وحقيق بها -وقد حادت عن المنهج السوي ورمت بعوامل وحدتها وأسباب قوتها- أن تذوق مرارة كل ذلك وأن تتضور من الحرمان والعوز والفاقة.
ولا ريب أن المنهج الرباني الذي أنزله الله آيات تتلى وشرعاً يحكم به هو المخلص للأمة من غياهب الضلال وفيافي الضياع.
__________
(1) تحفة الأعيان، ج1/ هامش ص 79
(1/5)
وإذا كانت هذه الأمة المسلمة قد انحرفت كثيراً وحادت طويلاً عن منهج الله، فإن فترات العزة والقوة التي ذاقت فيها حلاوة الإيمان ونعيم العدالة -رغم قصرها- دليل واضح صريح على أن في يد هذه الأمة من القدرة على الوصول إلى المخلص الوحيد لها وللبشرية كلها من مشاكلها ومتاعبها، ما يكفي لها بياناً على عطف عنان هذه المسيرة التائهة.
ولئن كان التاريخ مليئاً بالصور العديدة من مظاهر وآثار ذلك الانحراف الفكري والعملي فلنا منه -نحن المسلمين خاصة- العبرة الناصعة والعظة النافعة، كيف لا وقد وجهنا القرآن الكريم إلى أخذ المواعظ مما قصه لنا من قصص الماضين وأحداث الأقوام السابقين.
وما أحرانا أن نتبين المساوئ والمآخذ التي أفرزتها الخطى المائلة والمناهج الفاسدة إذ خطاها من خطاها من أفراد هذه الأمة سواء منها حاكموها وشعوبها، وعلماؤها وجهالها، وكتابها وحملة علومها عبر الأجيال المتلاحقة، لتكون لنا منهجاً حيَّا فريداً مميزاً يضمن لكل الأجيال اللاحقة الثبات والاستمرار، واليقين بقوة هذا الدين، ومتانة أصوله وثوابته ومبادئه.
أجل كم ثمة انحرافات..
ولكننا -بعون الله - قادرون على تعديل المنهج وتسوية الصراط وذلك بالعودة إلى المصدر الأصيل كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وإن من أهم المناهج التي ينبغي أن تصحح ما رسمته أيادي عدد من المؤلفين والكتاب في شأن ثلة من السلف الصالح لهذه الأمة، متمثلة في الطائفة المسماة بأهل النهروان الذين مشى على خطاهم أتباع المذهب الإسلامي العريق ( الإباضية) الذين كابدوا قروناً طوالاً آثار الانحراف لدى مناهج كثير من علماء وأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.
وإن من غريب الأمور ما نراه على الساحات العلمية من ظهور مؤلفات وكتابات ومقالات تسيء إلى هذا المذهب وأتباعه، بغير دليل ولا واضح سبيل.
(1/6)
ولئن حاولنا الاعتذار عن الأقدمين ببعد الشقة وطول العهد وعدم الاطلاع على مؤلفات هذا المذهب ومصنفات علمائه، فإن العذر يتضاءل في هذا الوقت الراهن الذي تعلو فيه شعارات الوحدة والموضوعية والمنهجية، والتي ما إن تعرض على المحك حتى يتهاوى عدد منها على تراب الأرض.
وقد شاءت الإرادة الإلهية أن أكون على صلة علمية وطيدة بالأخ العزيز الأستاذ/ علي بن محمد الحجري الذي جلَّى لي ولغيري من القراء المنهج السديد الذي يحتكم إليه في مناقشة قضايا هذا المذهب وسائر المذاهب الإسلامية ... منهج يحتاجه عدد وافر من الكتَّاب، ولا يستغني عنه الباحثون والمؤرخون.
وإنه لحري بأن ينال حقه من الدراسة والبحث، ليس على المستوى الثقافي فحسب، بل حتى على المستويات الأكاديمية.
وإن مما ميز هذا الكتاب الرائع الرائق، حسن أسلوب مؤلفه، وتجرده للحق، وحرصه على حرمات المسلمين لاسيما السلف الماضي من هذه الأمة، وتوجيهه عناية القارئ إلى واقع الأمة ومستقبلها. كما امتاز بمزجه بين منهج المؤرخين ومنهج المحدثين، في أسلوب يصل إلى نهاية يجتمع فيها ثبوت حقيقة ما أو نفيها، وبيان مدى أهمية ذلك في ضوء الدعوة القرآنية إلى وجوب الاستظلال بظلال الوحدة الوارفة التي يجتمع تحتها كل أفراد هذه الأمة المسلمة.
أسأل الله عز وجل أن يجزل له الثواب، وأن ينفع بهذا الكتاب القيم وأن يأخذ بيد هذه الأمة إلى سبيل عزتها وكرامتها، وهو ولي ذلك والقادر عليه.
ناصر بن سليمان السابعي
مسقط
سلطنة عمان
مقدمة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن أول يوم شهدت فيه الأرض نور خاتمة الشرائع والرسالات، تغيرت مبادئ واتجاهات، وطلب من الناس اتباع منهج واحد واضح المعالم.. بين المبادئ.. شامل لحياة الناس الظاهرة والباطنة.
(1/7)
جاءت الرسالة الإلهية الخاتمة لترتقي بالبشرية إلى مدارج الكمال الإنساني، الذي يرضاه المولى جل وعلا لهذا المخلوق، صاحب الطباع المزدوجة.
جاءت لتحدد له معالم الطريق، الذي عليه أن يسلكه كخليفة مستأمن في هذه الأرض؛ ليقوم بواجبه خير قيام بلا تحريف لمبادئه ولا تلكؤ عن القيام بواجبات وظيفته ولا تكاسلٍ عن القيام بنصرة دينه.
جاءت هذه الرسالة لتحدد لكل إنسان مواضع خطواته في أدائه لهذه الوظيفة.. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته واضحة بينة أُمر بالقيام بها، وقد قام بها - صلى الله عليه وسلم - وأداها كما أُمر وانتقل إلى الرفيق الأعلى وقد كمل الدين وتمت نعم الله على العباد، والحمد لله رب العالمين.
والصحابة - رضوان الله عليهم - والتابعون وتابعو التابعين ومن جاء بعدهم إلى يوم الدين طلب منهم القيام بهذه الرسالة كل حسب طاقته ووسعه.
التاجر في متجره أمين وصادق في بيعه وشرائه. والمجاهد في سبيل الله يُغبر قدميه ويسل سيفه لله ولوجه الله متمسكاً بآداب الله في السلم والحرب.
والكاتب يكتب كما علمه الله همه خدمة دين الله ومنفعة عباد الله جل وعلا.
والراوي ينقل المفيد مما سمع ووعى بلا زيادة ولا نقصان، حتى تقوم أجيال المسلمين المتلاحقة بمواصلة عملية البناء والتعمير، لهذه الأرض بلا تباطؤٍ ولا توقف.
لقد جاءت آيات الله البينات في القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتحدد لجنس البشر عامة أركان إيمانهم وإسلامهم. وجاءت كذلك لتبين لكل صاحب عمل الإطار الذي حول عمله، والخطوط التي يجب أن يسير عليها حتى يؤدي وظيفته حسب المنهج الإلهي. وفي أجيال المسلمين المتعاقبة قيض الله تعالى لهذه الأمة رجالاً بينوا لكل صاحب حرفة الخطوط التي يجب أن يتبعها في عمله حسب المنهاج الرباني الذي لا يتغير ولا يتبدل مهما طال الزمان وتغير المكان.
(1/8)
وحرفة كتابة التاريخ - إن صح لنا اعتبارها حرفة - تناولتها أيد متشعبة المقاصد والاتجاهات، فبعض الأيدي تناولت موضوع كتابة التاريخ حسب دوافع نفسية أو مادية أو سياسية أو مذهبية أو عقائدية. ومهما يكن من دوافع فكتابة التاريخ لها قواعدها وأسسها وثوابتها التي يستطيع المحقق من خلالها معرفة الصحيح والسقيم من المرويات المشحونة في أمهات كتب الحديث والتاريخ.
لقد طالب كثير من كتاب التاريخ اتباع مسلك علماء الحديث والجرح والتعديل في نقد روايات التاريخ خاصة ما اتصل بتاريخ الرعيل الأول من هذه الأمة - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - حتى تبرز حياتهم الطاهرة لأجيال المسلمين في أجمل صورها وأحسن مظاهرها.
ومع كل الصرخات التي يطلقها المهتمون بكتابة التاريخ لأجل تمييز الصحيح من السقيم من المرويات، فإننا لا نجد محاولة لتطبيق منهج علماء الحديث في عالم الواقع، بل إننا لنجد استرسالاً في اتباع منهج السابقين في النقل المباشر من كتب التاريخ الماضية بدون تدقيق ولا تروٍّ.
ومما يؤسف له حقاً أن هناك كتاباً يخرقون مناهجهم التي تنادي باتباع منهج أهل الحديث في تمييز المرويات. فهم حينما كتبوا عن أهل النهروان والإباضية لم يطبقوا ما نادوا به. وسترى أخي القارئ صدق ما نقوله من خلال مناقشتنا لبعض الكتّاب في بحثنا هذا.
لم يصل الأمر ببعض الكتاب إلى النقل من كتب التاريخ، أو محاولة الابتعاد عما ينادون به من اتباع منهج أهل الحديث فحسب بل تعدوا ذلك إلى تعديل أشخاص اشتهروا في كتب الجرح والتعديل بوضع الحديث وبالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما ذلك إلا ليجدوا آذاناً صاغية بين أجيال المسلمين المتطلعة إلى صدق الرواية وحقيقة الواقع.
(1/9)
والكتابة عن أهل النهروان لم تجد من الموضوعية ما يؤهلها لأن تكون صورة حية للفكر الإسلامي الذي حرر أتباعه من قيد الهوى وألزمهم قول الحق واتباعه. والمتتبع للأخبار الواردة في كتب التاريخ والمقالات والحديث عن أهل النهروان، المحكمة الأولى، يجد أن السمة الظاهرة عليها هي نقل اللاحق من كتب السابق، وهي وإن جاءت تحت أبواب من أبواب كتب الحديث فإنها لم تجد من شراح كتب الحديث حظها من حيث تبيين مواضع القوة والضعف فيها. لهذا يجد القارئ تبايناً واضحاً في عرض تاريخ أهل النهروان بين ما كتب في مؤلفات الإباضية وما سطر في بعض كتب السير والمقالات. فالإباضية لا يقبلون الطريقة التي يتبعها الكتاب الطاعنون في تاريخ وأقوال أهل النهروان، وغير المنصفين من الكتاب لا يلتفتون إلى ما نقل عن أهل النهروان في كتب أتباعهم. لهذا فلا بد للجميع أن يحتكموا إلى الحق الذي يعترف بسلطانه كل مسلم في إثبات ما هو ثابت بالدليل القاطع، وإبطال ما هو باطل بالحجة الواضحة البينة.
(1/10)
وهناك من الكتاب المنصفين الذين وقفوا على كتب ومؤلفات الإباضية فوجدوها صورة حية ممثلة لروح الإسلام وجوهره، لهذا كان منهم قول الحق الذي وجدوه بلا محاباة ولا نكران للواقع، وهم يشكرون على هذا. ولكنهم حينما اطلعوا على ما كتب عن أهل النهروان في كتب التاريخ والمقالات وجدوا واقع الإباضية يكذب تلك الأخبار الواردة في أهل النهروان، فما كان منهم إلا أن يأتوا بحل وسط ينص على أن المذهب الإباضي تطور وأصبح ينسجم مع التيار الإسلامي المعتدل بعد فترة التعايش مع المسلمين (1) .
__________
(1) قال الدكتور محمد أرشيد العقيلي: ".. والإباضية: اتباع عبد الله بن إباض، وقد كنا ناقشنا أن بعض المصادر التاريخية وكتاب الفرق يعتبرون الإباضية من الخوارج، في حين يتبرأ الإباضيون أنفسهم من الخوارج ويعدونهم خارجين على الدين. والحق يقال كما سيأتي أن الإباضية بعد أن انفصلت عن الخوارج في المراحل المبكرة من حياة الخوارج، أصبحت مبادؤها وخط سيرها بعيداً كل البعد عن معظم مبادئ وآراء الخوارج، مما يجعل المرء لا يتردد في اعتبار الإباضية في كلياتها وفي معظم مبادئها، وفي أسلوب تحقيق أهدافها، خارجة عن دائرة الخط الخارجي، باستثناء المراحل المبكرة من حياتها. " ( انظر الخليج العربي في العصور الإسلامية، ص 135 ).
الذي يرفضه الإباضية هو ربط تاريخهم بتاريخ الأزارقة المشهور بسفك الدماء. أما أهل النهروان، المحكمة الأولى، فلم يفكر الإباضية يوماً من الأيام أن يتبرأوا منهم، وكل ما نسب إليهم من أعمال إنما هو باطل لا يصح.
قال الأستاذ الشيخ علي يحيى معمر - رحمه الله - : «وخلاصة البحث أن كلمة الخوارج، أطلقها بعض المؤرخين على أتباع عبد الله بن وهب الراسبي إطلاقاً تاريخياً وأدبياً، بحيث لا تنصرف إلى غيرهم، وليس في هذا كبير بحث، فإن إطلاق اسم على مجموعة من الناس ليس بذي أهمية إذا كان هذا الإطلاق مجرد تسمية. أما إذا روعي فيه مدلول ديني فإنه يحسن بنا أن نتريث قبل أن نطلق هذا الحكم الرهيب، الذي يسلطه التاريخ المغرض على رؤوس بعض الطوائف الإسلامية في قساوة وغلظة ، في الحين الذي نعترف فيه أن هذه الطوائف تؤمن برسالة " محمد " وبتكاملها، وبما جاء فيها، وتستند في آرائها ونظرياتها إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام...» ( انظر الإباضية في موكب التاريخ، ج1/ص31 )
(1/11)
وهذا القول فرض (1) من الفروض التي لا تستند إلى دليل، فهو ناشئ عن تصور خاطئ لحقيقة الأحداث التاريخية التي أعقبت قبول التحكيم من قبل الإمام علي - كرم الله وجهه -. وهذا القول وإن كان منشؤه الرغبة الشديدة من قبل هؤلاء الكتاب في توحيد الصف الإسلامي- وهم يشكرون على ذلك- لكننا نلمس منه محاولة قطع الصلة بين أهل النهروان والإباضية.
لهذا رأيت أن يكون هناك بحث يتناول -ولو بشيء من الاختصار- ذكر المنهج الإسلامي في دراسة الأحداث التاريخية، وكذلك مناقشة الروايات الواردة في كتب التاريخ والحديث في شأن أهل النهروان مع تبيين صحتها من ضعفها.
وعند تحديدي لخطة هذا البحث جاءت النظرة العامة لهذا العمل لتشمل محورين مرتبطين ومتشابكين، وكلاهما يسير على منهج واحد وصوب غاية واحدة. المنهج هو تطبيق "طريقة التلقي" التي جاء بها الإسلام وشرحها علماء الأمة. والغاية هي إبراز الحقيقة بعد عرض الأخبار على الميزان الموثوق بعدالته.
فالمحور الأول : يجيب عن هذين السؤالين:
1) ما المنهج الذي ينبغي أن يتقيد به كاتب التاريخ؟
2) ما نتيجة الانحراف عن منهج البحث السليم؟
وأما المحور الثاني : فيتناول تطبيق منهج علماء الأمة في شأن إثبات الأحداث المنسوبة إلى أهل النهروان أو نفيها.
وقد جاء المحوران معروضين في ستة فصول وخاتمة :
الفصل الأول : يتناول أسس البحث العلمي وقواعده في مجال التاريخ
الإسلامي .
الفصل الثاني : يتناول ذكر بعض من مصادر التاريخ ومعرفة مدى
الاحتجاج بها.
الفصل الثالث: يتناول الأحداث التي سبقت وأعقبت فتنة يوم الدار.
الفصل الرابع: يتناول ذكر مثالين تحرى فيهما أصحاب المقالات الدقة
والتثبت.
الفصل الخامس : يتناول مناقشة الأحداث التاريخية المنسوبة إلى أهل
النهروان.
الفصل السادس: يتناول مناقشة الروايات الواردة في كتب الحديث والتي
اعتمد عليها في النيل من أهل النهروان.
__________
(1) انظر الإباضية بين الفرق الإسلامية، ج1/ص80-81
(1/12)
هذا وأدعو الله عز وجل أن يبارك في هذا البحث، وأتضرع إليه جل وعلا أن يعين أفراد هذه الأمة على اتباع الحق في جميع شؤون حياتهم إنه على ذلك قدير وهو بالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الأخيار وأصحابه الأطهار ومن والاهم إلى يوم الدين.
علي بن محمد الحجري
ولاية بدية
سلطنة عمان
شهر رجب 1420هـ الموافق شهر أكتوبر 1999م
الفصل الأول
أسس وقواعد البحث العلمي في التاريخ
... إن المبادئ والقيم التي جاء بها ديننا الحنيف أزالت غشاوات عن أعين الأمم، وأسهمت في بناء الحضارات على قواعد قوية وأسس متينة، وما كان لهذا التقدم الرائع الرهيب في جميع ميادين العلوم ليحدث لولا تلك الهمم التي تحلى بها علماء الإسلام في العصور الأولى من تاريخ أمتنا. وفي هذا الفصل من هذا البحث نقف عند تراث إسلامي رائد بز كل ما يفتخر به عباقرة الأمم الأخرى في موضوع توثيق الأخبار وتحليل الوقائع.
ولأجل توضيح المنهج السليم في كتابة التاريخ وتقييم الأمم والجماعات، أضع بين يديك أخي القارئ الكريم هذه الأقوال القيمة، لعلها تسهم في تذكير أبناء هذه الأمة بما عليهم من واجبات عند كتابة الأخبار ونقلها وتقبلها.
وهذا الفصل يقع في خمسة أقسام وخاتمة.
القسم الأول:- منهجية البحث عند ابن خلدون
القسم الثاني:- منهجية البحث عند محب الدين الخطيب
القسم الثالث :- منهجية البحث عند محمد صامل العلياني السلمي
القسم الرابع :- منهجية البحث عند الأستاذ سيد قطب
القسم الخامس :- منهجية البحث عند الأستاذ محمد قطب
القسم الأول:- منهجية البحث عند ابن خلدون
قال ابن خلدون في عدة مواضع من مقدمته ما نصه :
1 - " فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه والله الهادي إلى الصواب " (1)
__________
(1) تاريخ ابن خلدون، المقدمة ص 18
(1/13)
2- وقال أيضاً : " فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً وناظره مرتبكاً " (1)
3 - وقال أيضاً : " وتمحيصه [ يقصد الخبر ] إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح " (2)
4 - وقال أيضاً: ".. ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد.. ومنها توهم الصدق... ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع .. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر ... ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران.." (3)
5 - وقال أيضاً: " وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط من الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً.." (4)
__________
(1) المرجع السابق، ص 37
(2) المرجع السابق، ص48-49
(3) المرجع السابق، ص46 - 47
(4) المرجع السابق، ص 13
(1/14)
6 - وقال أيضاً: " إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها.. وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها.. فالتحقيق قليل.. " (1)
حينما قرأت قول ابن خلدون ".. وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها.." تمنيت أن أجد دليلاً على هذا القول مبثوثاً في صفحات مقدمته ولكن في أثناء تجميعي لمادة هذا البحث أدركت ما يشير إليه ابن خلدون وعرفت بعضاً من الأشخاص الذين يعنيهم بقوله هذا، كما سترى أيها القارئ الكريم صدق ذلك في صفحات هذا البحث إن شاء الله تعالى.
من النصوص السابقة التي اقتطفناها لك أيها القارئ من مقدمة ابن خلدون تعرف منهج الكاتب وطريقته في دراسة التاريخ؛ فهو يحدد المواصفات والموازين للروايات والأخبار قبل أن يصح تقبلها والعمل بها. ولكنه حينما تكلم عن أهل النهروان والإباضية خاصة لم يطبق مبدأه هذا بل أخذ بأقوال السابقين له بلا تمحيص أو تمييز فقد قال في مقدمته ما نصه : ".. وشذ بمثل ذلك الخوارج (2) ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم (3) ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم." (4)
__________
(1) المرجع السابق، ص 6
(2) قرن ابن خلدون ذكر الإباضية بذكر الخوارج في عدة مواضع من تاريخه حيث قال:
? ... ".. وكانوا يدينون بدين الإباضية من الخوارج.. " ( ج6/ص150)
? ... " ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الإباضية ودانوا به وانتحلوه.. "( ج6/ص158 )
(3) من المعلوم أن الأزارقة والنجدات لم يخلفوا كتاباً واحداً، والكتب التي أشار إليها ابن خلدون هنا إنما هي كتب الإباضية التي انتشرت في مواطنهم ببلاد المغرب والمشرق.
(4) تاريخ ابن خلدون، المقدمة ص 564
(1/15)
كيف يسوغ لابن خلدون - وقد بين منهجه في كتابة التاريخ - أن ينكر على قوم لم يعرف شيئاً من مذاهبهم؟ وكيف يصح له أن يساير ركب الذين قالوا بما لا يعلمون وهو لم يحفل بدراسة مذهب من وصفهم بالخوارج؟
وخروج ابن خلدون عن القاعدة التي رسمها لنفسه يدركه كل قارئ لتاريخه ؛ فقد قالت الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف : " ولكن مما يؤسف له أنه لم يطبق هذا المنهج حين عرض هو نفسه لكتابة تاريخه المشهور : ( العبر وديوان المبتدأ والخبر) " (1)
وقال الدكتور عوض خليفات : ".. ولا يستطيع باحث في تاريخ أفريقية والمغرب الاستغناء عن تاريخ ابن خلدون، الذي يزودنا بمعلومات قيمة عن تاريخ الإباضية في شمال أفريقية، إلا أنه يخطئ كثيراً في التواريخ ويمتاز بعدم الدقة في ضبط الأسماء البارزة التي اشتركت في الحوادث. كما أنه غالباً ما يخلط بين الإباضية والصفرية. " (2)
القسم الثاني:- منهجية البحث عند محب الدين الخطيب
لقد قام محب الدين الخطيب بالتعليق على مبحث واحد من كتاب "العواصم من القواصم" للعلامة ابن العربي وسماه " العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ولقد بين محب الدين بعضاً من القواعد والأسس التي ينبغي لكاتب التاريخ أن يتبعها ويتقيد بها وهو يعرض حقائق التاريخ. ومن خلال دراسة تعليقاته نجد عدم تقيده بما أشار إليه. وإليك أيها القارئ هذه المقتطفات من تعليقاته:
__________
(1) مصادر التاريخ الإسلامي ومناهج البحث فيه، ص 60
(2) نشأة الحركة الإباضية، ص11. وكذلك ص32
(1/16)
1 - " ومعيار الأخبار في تاريخ كل أمة الوثوق من مصادرها، والنظر في ملائمتها لسجايا الأشخاص المنسوبة إليهم. وأخبار التاريخ الإسلامي نقلت عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم، وهؤلاء رووها لمن بعدهم. وقد اندس في هؤلاء الرواة أناس من أصحاب الأغراض زوروا أخباراً على لسان آخرين وروجوها في الكتب إما تقرباً لبعض أهل الدنيا، أو تعصباً لنزعة يحسبونها من الدين، ومن مزايا التاريخ الإسلامي - تبعاً لما جرى عليه علماء الحديث - أنه تخصص فريق من العلماء في نقد الرواية والرواة.. والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك - لا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم - يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي " (1)
2 - وقال أيضاً: " والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيآتهم فلا يبالغ فيها ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها" (2)
__________
(1) العواصم من القواصم، تحقيق محب الدين الخطيب تعليق 66، هامش ص 75 - 76
(2) المرجع السابق، ص46 - 47
(1/17)
3 - وقال أيضاً: " هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها أسفار الأخبار وكتب الأدب. ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان : أحدهما طريق أهل الحديث في أن لا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم يستعرضوا أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلوا من صادقهم، ويضربوا وجه الكذاب بكذبه. والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، هل هو مما ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا. وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معا يقوم بهما علماء راسخون فيهما " (1)
هذه الأسس والقواعد التي أشار إليها محب الدين هي نفسها التي نادى باتباعها ابن خلدون في مقدمته، والقارئ يستأنس لهذه الأقوال حينما يجدها تصدر من أفواه هؤلاء الكُتاب، الذين لا يتوقع منهم الرجوع عنها بل يرغب في أن يجد مصداق ما قعّدوه في طوايا كتاباتهم.
وحينما تابعت ما سطره محب الدين في تعليقاته على " العواصم من القواصم " وجدته ينقل عن سيف بن عمر التميمي الكذاب المتهم بالزندقة عند علماء الجرح والتعديل، ويصب غضبه على أناس أبرياء شُهد لهم بالاستقامة في كتب الرجال المعتبرة. فقد قال ما نصه في أحد هؤلاء : " ويؤكد شيوخ سيف بن عمر التميمي - وهو أعرف المؤرخين بتاريخ العراق - على ما نقله عنه الطبري أن حكيم بن جبلة (2) كان إذا قفلت الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع.." (3)
__________
(1) المرجع السابق، تعليق رقم 218، هامش ص145
(2) انظر ترجمة حكيم بن جبلة في ص 125
(3) العواصم من القواصم، تحقيق محب الدين الخطيب، تعليق 153،هامش ص124
(1/18)
ولم يكتف محب الدين بالاستسلام لمرويات هذا الكذاب الوضاع ونقلها بدون تبيين لحالها ، بل تجاوز ذلك إلى تعديل هذا الراوي على رغم حكم علماء الجرح والتعديل عليه بالكذب. فقد قال ما نصه: ".. فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف :.. وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين - كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير - رأت من الإنصاف أن تجمع أخبار الأخباريين من كل المذاهب والمشارب - كلوط بن يحيى.. وسيف بن عمر العراقي المعتدل.. " (1)
وستجد أيها القارئ في طوايا هذا البحث تراجم لبعض الرواة الذين اعتمد على رواياتهم في الكتابة عن أهل النهروان والإباضية.
وأنا إذ أذكر هذا ليس رغبة في إنشاء حوار أو جدال مع هؤلاء العلماء، ولكن هو اتباع لمنهجهم الذي بينوه وأفصحوا عنه ونادوا باتباعه والالتزام بخطواته وخطوطه في عرض حقائق التاريخ.
القسم الثالث :- منهجية البحث عند محمد صامل العلياني السلمي
محمد صامل العلياني ألف كتاباً سماه (منهج كتابة التاريخ الإسلامي) بين فيه ما يجب على كاتب التاريخ أن يتحلى به من آداب وما يتقيد به من قواعد. فقد قال في مواضع عدة من كتابه القيم :
1- " وعلى هذا الأساس من الالتزام بالعقيدة تقاس أعمال المؤرخين والباحثين وتوزن مناهجهم ومذاهبهم في التأليف، لأن الباحث المسلم ليس مطلق الحرية في اتخاذ المواقف وتفسير الحوادث وتقييمها كيفما عَنَّ له الخاطر. إنما هو مقيد بالقواعد الشرعية والأصول العلمية المتبعة في إثبات الأخبار وردها. فليس من حقه أن يتهم أحداً بناءً على رواية لم يتأكد من صحتها وعدالة رواتها واتصال سندها.." (2)
2 - وقال: " منهج كتابة التاريخ الإسلامي.. يعطي مدلولين :
__________
(1) المرجع السابق، تعليق 309، ص 179
(2) منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص 91
(1/19)
المدلول الأول : المبادئ والأسس التي يضعها الإسلام لتكون حدوداً تحكم دراسة التاريخ الإسلامي، فهذه نحتاجها عند تفسير الواقعة التاريخية وتحليلها والحكم عليها.
المدلول الثاني: هو القواعد والطرق التي تتبع في إثبات الحقائق والوقائع التاريخية، فهذه نحتاجها في إثبات صحة واقعة تاريخية معينة أو نفيها، ومعلوم أننا أولاً نثبت الواقعة ثم بعد ذلك نفسرها. فمرحلة الإثبات مرحلة سابقة على مرحلة تفسير الحدث وتعليله" (1)
3- وقال أيضاً: " تفسير التاريخ يقصد به معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المتفرقة ودراستها لتبين دوافعها وارتباطاتها ونتائجها واستخلاص السنن والنواميس الإلهية من خلالها والاعتبار بالدروس والعظات فيها. وهو مرحلة تأتي بعد التحقيق والنقد للأخبار فما ثبت من الوقائع والأحداث هو الذي يفسر وتدرس ارتباطاته ويتعرف على دلالته وآثاره.." (2)
4 - وقال أيضاً: ".. وعليه فإنه يمكن القول بأن الرواية التاريخية إذا كانت تتعلق بموضوع شرعي كتحليل أو تحريم أو ما يدخل في باب سب المسلم وتنقصه أو تدليس حاله على الناس فإنه لا بد من التثبت من رواتها ومعرفة نقلتها. ولا يؤخذ في هذا الباب إلا عن العدول الضابطين الذين سلمت مروياتهم من المعارضة." (3)
__________
(1) المرجع السابق، ص101
(2) المرجع السابق، ص 168 -169
(3) المرجع السابق، ص 246 - 247
(1/20)
5 - وقال أيضاً: ".. ثم عليه أن لا يظهر الباطل بمظهر الحق ولا يظهر الخير بمظهر الشر. إنما يسمي الأشياء بأسمائها الشرعية فالحق حق مهما كان فاعله والباطل باطل مهما كان قائله. والميزان هو شرع الله. فإذا رأى غدرة أو ظلماً أو إهانة لأحد أو تعدياً لحدود الله فإنه لا بد أن ينبه على أن ذلك تجاوز ومخالفة لشرع الله. وإذا رأى عدلاً وإحساناً وجهاداً في سبيل الله وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر أشاد به ومدح صاحبه ليكون قدوة في هذا الفعل الطيب وهذا من أعظم غايات دراسة التاريخ وثمراته" (1)
القسم الرابع :- منهجية البحث عند الأستاذ سيد قطب
قال سيد قطب في عدة مواضع من تفسيره (في ظلال القرآن) ما نصه :
1 - " إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك. ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة.
وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك، فإنه يصفهم بالخطأ. وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف. ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم !
__________
(1) المرجع السابق، ص 263
(1/21)
ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أياً كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً، بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم. وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة.. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام، وعلى تاريخ الإسلام ؛ إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه : من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ " الإسلام " ليس هو تاريخ " المسلمين " ولو كانوا مسلمين بالاسم أو اللسان ! إن تاريخ " الإسلام " هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام، في تصورات الناس وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم، ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت، تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت. فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام، أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم : إنهم مسلمون؟!" (1)
__________
(1) في ظلال القرآن، ج 1 / ص 533
(1/22)
2 - وقال أيضاً: " إن الواقع التاريخي "الإسلامي" هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي " الإسلامي" .. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام، خارجاً على أصوله وموازينه فلا يجوز أن يحسب منه، لأنه انحراف عنه" (1)
3 - وقال أيضا: " إن التاريخ - وإن وعى بعض هذه الأحداث - هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف. ونحن نشهد في زماننا هذا - الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص - أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى، وينظر إليه من زوايا مختلفة، ويفسر تفسيرات متناقضة. ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق " (2)
4 - وقال أيضاً:" فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم. ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة ... والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد ... إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً. أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة..
__________
(1) المرجع السابق، ج 1 / ص 583
(2) المرجع السابق، ج 4 / ص 2290
(1/23)
فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هناك شك ولا شبهة في صحتها { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } حقاً وصدقاً.. " (1)
5- وقال أيضاً: ".. فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد، صغير السن، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض ! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل - على قصره - بالأكاذيب والأغاليط؛ وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق