الإمام ناصر بن مرشد الإباضي يخلص أموال الشيعة من أيدي النصارى ل - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الإمام ناصر بن مرشد الإباضي يخلص أموال الشيعة من أيدي النصارى ل

 





الإمام جابر بن زيد ومنهجه في الاجتهاد الفقهي
إعداد:
عبد الله بن باعلي بعوشي
المشرف:
الدكتور محمد خالد منصور
قدمت هذه الرسالة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في الفقه وأصوله
كلية الدراسات العليا
الجامعة الأردنية
آب 2004
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الإمام جابر بن زيد ومنهجه في الاجتهاد الفقهي
إعداد:
عبد الله بن باعلي بعوشي
المشرف:
الدكتور محمد خالد منصور
قدمت هذه الرسالة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في الفقه وأصوله
كلية الدراسات العليا
الجامعة الأردنية
آب 2004
______________________________
[19 صفحة الأولى غير مرقونة]
الفصل الأول
حياة الإمام جابر بن زيد وشخصيته
تمهيد.
المبحث الأول: ... عصر الإمام جابر.
المبحث الثاني: ... نشأة الإمام جابر وحياته.
المبحث الثالث: ... شخصية الإمام جابر ومكانته العلمية.
تمهيد:
من المعلوم أن الإنسان ابن بيئته، وقد ثبت أن للبيئة والظروف المحيطة بالإنسان آثارا واضحة في نفسيته وطريقة تفكيره، بل وعلى حكمه على الأشياء.
ولذلك يحسن قبل عرض منهج الإمام جابر تناول شيء من حياته، والظروف المحيطة به، لبيان المؤثرات التي أثرت فيه، ولتفسير كثير من الظواهر المميزة لحياته، لأن لحياة الفقيه من حيث تعلمه وشيوخه وتأثيرهم عليه، وكذلك تلاميذه وأثره فيهم علاقة بالمنهج الفقهي.
ولأجل هذا اهتم الفقهاء بالكتابة في مراحل تطور الفقه والحديث عن الشخصيات الفقهية، وأثرها في الفقه، وما الذي أضافته، والكتب التي عنيت بكل فن من فنون علم الفقه وفروعه. وهذا ما أصبح يسمى بتاريخ الفقه، أو تاريخ التشريع.
وفي هذا الفصل الأول أعرض للعصر الذي عاش فيه الإمام جابر، ولحياته الشخصية، وأثره في الحياة العامة، وآثاره التي خلفها من بعده.
وأسبق إلى القول بأن المادة التاريخية عن الإمام جابر، أي المعلومات عن نشأته الأولى وتعلمه، قليلة، لا تعطي صورة كاملة وافية عن مراحل حياته، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن الاهتمام بأئمة العصر الأول قليل ولا يسجل من حياتهم إلا تاريخ وفاتهم وما تركوا من تلاميذ وكتب بعد ذهابهم، أضف إلى ذلك أن أتباع الإمام جابر لم يهتموا بكتابة جوانب الحياة الشخصية والعلمية لعلمائهم وأئمتهم، إلا عند المتأخرين، إذ شغلهم عن ذلك محاولاتهم لإقامة الدول في أماكن تواجدهم، ثم إن للعوامل السياسية أثرا في ضياع جزء من تراثهم، وانشغالهم عن الكتابة والتأليف.
ومع ذلك فإن المعلومات الموجودة في كتب التاريخ والتراجم والسير رغم قلتها، تقدم صورة تقريبية عن حياة الإمام جابر وظروف نشأته وتعلمه.
(1/1)
ويعتبر الجانب السياسي أهم مؤثر في الحياة العامة، إذ باستقرار السياسة تزدهر المدنية بكل فروعها، وبالاضطراب تختل موازين كل الأمور، وللسياسة تأثير في الحركة العلمية لا يخفى. فكيف كانت الحياة السياسية في عصر الإمام جابر؟ ثم كيف تميزت الحياة العلمية وما خصائصها؟ هذا ما يجيب عنه المبحث الأول.
المبحث الأول: عصر الإمام جابر.
المطلب الأول: الحياة السياسية.
المطلب الثاني: الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
المطلب الثالث: الحياة العلمية.
المطلب الرابع: التشريع وخصائص الفقه.
المطلب الأول: الحياة السياسية.
عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه معلما ومربيا وموجها، وداعيا إلى الله، ومبلغا شريعة ربه. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - ، يأخذون عنه الأحكام، ويتعلمون منه طريقة الاجتهاد، بل كانوا يجتهدون في غيابه وفي حضرته، وهو يصوبهم، و يقرهم على اجتهاداتهم أحيانا.
وكان - صلى الله عليه وسلم - هو القائد والحاكم في الدولة الإسلامية التي أسسها، (1) فوضع القواعد الكبرى للحكم، وترك ما سوى ذلك للاجتهاد الذي يظل قائما إلى قيام الساعة، لأن الضرورة إليه ملحة في كل وقت.
وبانتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، تحمل الصحابة - رضي الله عنهم - المسؤولية وقاموا بأعباء الدولة خير قيام. واجتمع الصحابة للبث في قضية الرجل الذي يحكمهم خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واجتمعت كلمتهم على الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - ، خليفة لرسول الله. (2)
__________
(1) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ط7، مكتبة النهضة المصرية مصر، 1964م، ج1، ص 103.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 205.
(1/2)
وبدأت بذلك فترة الخلافة الراشدة، الفترة الذهبية للمسلمين، والصفحة الناصعة في تاريخهم. فحَكَمَ المسلمين بالعدل والحكمة كل من الصحابة الصديق أبي بكر، والفاروق عمر، وذي النورين عثمان، وعلي كرم الله وجهه، - رضي الله عنهم - أجمعين. فقادوا المسلمين إلى الانتصارات الكبيرة، وفتحوا بلاد الله يقيمون فيها شرعه.
ثم تنتهي فترة الخلافة الراشدة، وتبدأ فترة الحكم الأموي على البلاد الإسلامية.
ولقد عاش الإمام جابر فترة مهمة من التاريخ الإسلامي، تميزت بعدة مميزات وشهدت أحداثا كثيرة، وهذه الفترة هي ما بين حكم سيدنا عمر بن الخطاب، إلى غاية بداية حكم خامس الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، ولذلك سوف يتم التركيز على أحداث هذه الفترة فقط.
لم تكن الأوضاع السياسية في حكم بني أمية، مستقرة تمام الاستقرار، فقد تهدأ زمنا، ثم لا تلبث أن تثور في إحدى الأقاليم التي تحكمها الدولة الأموية، إلا ما كان من استقرارها في زمن عبد الملك بن مروان، بعد سبع سنين من حكمه، ولذلك يعد المؤسس الثاني للدولة الأموية (1) .
وقد كان للعراق نصيبها من الفتن والصراعات التي شهدتها الساحة الإسلامية، ابتداء من معركة الجمل وصفين والنهروان، إضافة إلى ما دار فيها من حروب الخوارج، والخارجين على الدولة الأموية. (2) فقد كانت الفتن والاضطرابات السياسية سمة عامة تميزت بها بعض فترات الحكم الأموي، إذ اشتعلت الحركات المناهضة للأمويين وهددت الدولة الأموية سياسيا واقتصاديا. (3)
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج 1، ص 292.
(2) أحمد أمين، فجر الإسلام، ط8، مكتبة النهضة المصرية مصر، 1961م، ص 183.
(3) فوزي فاروق عمر، تاريخ العراق في عصور الخلافة العربية الإسلامية، ط1، مكتبة النهضة، 1988م، ص 23.
(1/3)
أما فترة حكم معاوية، فإنها تميزت بالاستقرار، فقد استطاع معاوية بفضل خبرته وحنكته وحسن سياسته أن يبسط حكمه على الأقاليم كلها، وسمحت له متابعته الدقيقة لما يجري فيها أن يسيطر على أحداثها، أضف إلى ذلك اختياره الموفق لكثير من ولاته على الأقاليم. (1)
وكما كانت الحالة قبيل توليه للسلطة مضطربة فقد اضطربت في الأيام الأخيرة من حكمه وبعد وفاته، بسبب فكرة ولاية العهد من بعده، وجعلها في ولده يزيد. (2)
تميز عهد يزيد بن معاوية، أو يزيد الأول كما يسمى أيضا، بالفتنة، حتى سمي ما وقع في عهده بالفتنة الثانية، فقد ورثه أبوه حكم المسلمين وهم ساخطون لسيرته، غير راضين عنه، وكان فريق من الصحابة والتابعين وبعض الأقاليم ترفض البيعة له، وكان هو شديدا على مخالفيه، لم يسر سيرة والده في المداهنة والأخذ باللين (3) ، فوقعت في عهده ثلاث وقائع جسام مؤسفة وهي:
__________
(1) العش يوسف، الدولة الأموية والأحداث التي سبقتها ومهدت لها ابتداء من فتنة عثمان، ط2، دار الفكر دمشق، 1985م، ص 136 – 157.
(2) المصدر نفسه، ص 159 – 164.
(3) العش، الدولة الأموية، ص 165. سالم السيد عبد العزيز، التاريخ السياسي والحضاري للدولة العربية، دار النهضة العربية مصر، ص 386.
(1/4)
1. مقتل الحسين: (1) حين ولي يزيد الحكم أرسل إلى عامله في المدينة يُعلمه بوفاة والده وبتوليته الحكم من بعده، وأراد منه أن يأخذ البيعة بالقوة من الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، ففر ابن الزبير إلى مكة مستعيذا بها، وبايع ابن عمر وابن عباس. وغادر الحسين المدينة أيضا فلما سمع بخروجه أهل الكوفة كاتبوه يعلمونه بأنهم قد خلعوا الطاعة من الخليفة الجديد وأنهم مستعدون لمبايعته. وعلى كل فقد أعطى زياد أوامره بالتحرك نحو الحسين وتروي الرواية التاريخية أن الحسين بقي مع نفر قليل جدا ثابتين، وأجهز عليهم والي العراق ابن زياد وانتهت الموقعة بشكل هو أدعى ما يكون للأسف.
2. واقعة الحرة: (2) أما الواقعة الثانية المؤسفة أيضا في عهد زياد فهي وقعة الحرة، وتبدأ حين أقبل الناس على ابن الزبير يبايعونه سرا بعدما توفي الحسين، وخلع الناس علنا في المدينة بيعة يزيد، وكان ابن الزبير في مكة، وأرسل يزيد جيشا إلى الحجاز بقيادة مسلم بن عقبة وكان شديد الإخلاص لبني أمية، وأوصاه يزيد بوصية شديدة، فدخل المدينة بعد حرب ضارية، وعاث فيها فسادا واستحلها ثلاثة أيام بلياليها.
__________
(1) انظر تفصيلاتها في: حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 286 – 287. العش، الدولة الأموية، ص 165 – 172. سالم السيد، التاريخ السياسي، ص 386 – 390. قلعه جي محمد رواس، موسوعة فقه إبراهيم النخعي عصره وحياته، دار النفائس، ج1، ص 22.
(2) انظر تفصيلاتها في: حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 286 – 287. العش، الدولة الأموية، ص 173 – 177. سالم السيد، التاريخ السياسي، ص 396 – 398. قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 23.
(1/5)
3. هدم الكعبة: (1) لما فرغ جيش يزيد من المدينة توجه إلى ابن الزبير في مكة ليرغمه وأهلها على البيعة، وكان ابن الزبير معتصما ببيت الله الحرام، فرماها جيش يزيد بالمنجنيق فأصابت أحجاره الكعبة فتهدم بعض أجزائها، واشتعلت فيها النار.
بعد وفاة يزيد بن معاوية بايع أهل الشام معاوية بن يزيد، وهو يختلف عن والده بأنه كان معتزلا السياسة ولا يحب الخصام، فلم تمر إلا عشرون يوما حتى خرج إلى الناس وخلع نفسه ثم توفي بعد ذلك بقليل. وشب الصراع على الخلافة، فأهل الحجاز على بيعة ابن الزبير، وبايعه بعد ذلك أهل العراق، وتأرجحت الشام بين ابن الزبير وغيره، وظهر الصراع بين القيسية واليمانية. (2)
ثم انتهى الأمر على مبايعة مروان بن الحكم، ولكن الأمر لم يستقر بالكامل له فهناك ابن الزبير الذي ينازعه الملك، فلئن استرجع مروان مصر من ابن الزبير، فإن العراق كانت مضطربة بينهما، لا هي خالصة لابن الزبير إذ اختار ابن الزبير البقاء في الحجاز، ولا أهل العراق قدموا البيعة لمروان بن الحكم. (3)
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 287. العش، الدولة الأموية، ص 177. قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 23.
(2) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 287 – 288. العش، الدولة الأموية، ص 184.
(3) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 288 – 291. العش، الدولة الأموية، ص 184 – 191.
(1/6)
وحين صار الحكم إلى عبد الملك بن مروان، الأديب والفقيه والمحنك السياسي، أعاد الأمور إلى ما كانت عليه زمن جده معاوية. فلم يلبث حتى تحكم في زمام الأمور، وقضى على الحركات والثورات المعارضة، وبايعه أهل العراق والحجاز، واستقرت الأوضاع في زمنه، بفضل سياسته الحكيمة، وحسن تعامله مع ولاته، فهو لم يرسل لهم الأمر في التصرف كما يشاؤون. وتميزت هذه الفترة من التاريخ بأعمال والي عبد الملك على العراق، ذلك هو الحجاج بن يوسف الذي وطد أركان الدولة الأموية، وكان يحكم في النصف الثاني من الدولة، فقد أدخل تحت حكمه كل البلاد المفتوحة من جهة الشرق مع العراق، ولم يسلم من قبضة الحجاج الحديدية، ومن تجبره وطغيانه الناس والعلماء، فقد لاقوا في عهده ضيقا شديدا، ودخل من دخل منهم السجن وقتل من قتل. (1)
واصل بعده ولده الوليد المسيرة تقريبا كسيرة والده، واتسعت الدولة في عهده كثيرا واستمر الفتح شرقا وغربا، كما خفف أعباء الحياة على جمهور المسلمين بسخائه وعطفه على الفقراء والمعوزين.
ثم حكم بعده أخوه سليمان، ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، الفقيه والعالم العابد، الذي سار بالمسلمين سيرة الخلفاء الراشدين، فاستحق لقب خامس الخلفاء. وابتدأ عصر حكم بني أمية يضعف شيئا فشيئا حتى انتهى بانتقال الحكم إلى العباسيين. (2)
ويبقى بعد ذلك أن أعرض في كلمات للخوارج والشيعة، الفرقتين اللتين كان نشوؤهما في العصر الأول نتيجة لأحداث الفتنة الكبرى، وكان لهما أثر في التاريخ الإسلامي.
1. الخوارج: (3)
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 291 – 299.. العش، الدولة الأموية، ص 210 – 236.
(2) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 299 – 331 وما بعدها. العش، الدولة الأموية، ص 241 – 277 وما بعدها.
(3) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 375 - 394. الخضري محمد، تاريخ التشريع الإسلامي، ط1، دار القلم، 1983م، ص 119 – 121.
(1/7)
افترقت جماهير المسلمين إثر موقعة صفين وقبول الإمام علي - رضي الله عنه - للتحكيم وظهور نتيجته، إلى ثلاثة فرق أساسية، فرقة التفت حول الإمام علي، وصارت بعده تبايع الحسن ثم الحسين، وسموا بالشيعة، والفرقة الثانية هم أنصار معاوية والواقفين في صفه، وفرقة كانت في صفه ولكنها عابت عليه قبوله التحكيم وطلبت منه بعد ظهور الخديعة أن ينزل لحكمهم بعدما زالت بيعته من أعناقهم في نظرهم، ثم اعتزلته ونزلت موضعا يسمى حروراء، فسموا بالحرورية، ورفعوا شعار لا حكم إلا لله، فسموا بالمحكمة. وكان لهذه الفرقة أثر كبير في الحياة السياسية، فهم كانوا السبب في ضعف جيش علي، ثم لقد حاولوا مرات الثورة على الحكم الأموي الذي كانوا ساخطين عليه، ففي فترة معاوية استكانوا لما عرفوا من ذكاء والي العراق المغيرة بن شعبة الذي كان في العراق وبعده كان فيها زياد بن أبيه، حيث كان أكثر نشاط الخوارج. وظهر نشاطهم بعد ذلك وفي عصر عبد الملك سلط عليهم الحجاج فأرسل إليهم الجيوش حتى أتى عليهم.
وكان الخوارج أشداء على مخالفيهم، فحكموا عليهم بالكفر، واستباحوا دماء الموحدين وأموالهم، وقد تفرقوا فرقا منها: الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، والنجدات، أتباع نجدة بن عامر الحنفي، والبهيسية أصحاب أبي بهيس بن جابر، والصفرية أصحاب زياد بن صفرة، وهؤلاء أشهر فرقهم، وكانوا يمتازون بكثرة العبادة، والبطولة النادرة، وعلى كل فقد بادت فرق الخوارج ولم يعد لها ذكر، ولعل ذلك يرجع إلى تطرفهم الشديد في فهم الإسلام، وغلوهم في الحكم على أنفسهم وعلى مخالفيهم.
2. الشيعة: (1)
هؤلاء كانوا في البداية أنصار الإمام علي - رضي الله عنه - ، واعتقدت بعد ذلك أن عليا كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان.
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 394 وما بعدها. الخضري، تاريخ التشريع، ص 121- 122.
(1/8)
ولما قتل سيدنا علي بايع الشيعة ابنه الحسن، ثم تنازل بها لمعاوية حقنا للدماء. وأثارت سياسة ولاة بني أمية في لعن الإمام علي على المنابر حنق الشيعة، ولما ثار حجر بن عدي كانوا معه، ثم قضى على ثورته زياد بن أبيه، وحين ولي يزيد بن معاوية الخلافة وخرج عليه الحسين دعته الشيعة إلى الكوفة لتبايعه، وكان ما كان من مأساة كربلاء، ومن ذلك الوقت أصبح التشيع تصورا راسخا وتغلغل إلى أعماقهم بعدما كان رأيا نظريا.
والشيعة أيضا تفرقت فرقا، فمنهم الزيدية وهم من تولى زيد بن علي، ومنهم الجعفرية وهم على ولاية جعفر الصادق، والكيسانية وكانوا أول الأمر وهم من اختاروا محمد بن الحنفية بعد مقتل الحسين.
أما في الحياة السياسية فقد كانت الشيعة وراء ثورات كثيرة، منها ثورة المختار الثقفي، وحركة التوابين، وخروج زيد بن علي زين العابدين أيام هشام بن عبد الملك، وكانوا وراء انقلاب الحكم الأموي إلى العباسيين.
هكذا كانت الحالة السياسية عصر الإمام جابر، فقد عاش بين حكم العمرين، عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وعايش كل تلك الأحداث. فكيف كانت الحالة الاجتماعية والاقتصادية؟
المطلب الثاني: الحياة الاجتماعية والاقتصادية
اعتمد الخلفاء الراشدون والأمويون من بعدهم على العرب في إدارة شؤون الدولة، وقد ظهر الموالي في هذا العصر، وكان له تأثير في الحياة السياسية والعلمية، وكان ظهورهم نتيجة للفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد بني أمية، فبعض هؤلاء الموالي كانوا أسرى استرقوا ثم أعتقوا، فكان ولاؤهم لمن أعتقهم، وبعضهم لم يكونوا رقيقا وإنما أسلموا وعقدوا حلفا مع بعض القبائل العربية ليعتزوا بنصرتهم، وكان عددهم في العراق أكثر من غيرها. (1)
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 529. قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 46 – 47.
(1/9)
كان بنو أمية لا يستخدمون إلا من كان عربيا لتولي أمور السياسة والحكم في الإدارات والإمارات، واستعانوا ببعض أهل الذمة أيضا الذين تمتعوا بحريتهم في ظل الحكم الأموي. أما الرقيق فكانت معاملتهم حسنة لأن الإسلام قد أوصى بحسن معاملتهم. (1)
مظاهر الترف:
لقد ظهرت بعض مظاهر الترف في عصر بني أمية، وخاصة عند الملوك والأمراء ومن يستعملونهم، وكان من بين مظاهر الترف التوسع في المطاعم والمشارب وغيرها من المظاهر التي كان يتخذها بعض الولاة والأمراء. (2)
والحق أن في هذا العصر انتشرت أيضا مجالس العلم التي يعقدها العلماء والفقهاء في المساجد، ومجالس السمر التي يقيمها بعض ولاة العراق مثلا حيث يحضر بعض وجوه القوم، فيتناولون الطعام ويسمرون في سماع الشعر والقصص. (3)
ومن ناحية أخرى فإن العراق كانت تعيش عيشة رخاء، فازدهرت الزراعة بسبب قوانين الإسلام في إحياء الموات والخراج والمزارعة، وعناية بعض الولاة بها، وازدهرت بعض أنواع الصناعة كالثياب، والخشب، والبناء حيث استطاع العراقيون بناء ثلاث مدن هي الكوفة والبصرة وواسط. (4)
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 530. قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 50 – 51. سالم السيد، التاريخ السياسي، ص 357.
(2) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 532 –536. سالم السيد، التاريخ السياسي، ص 423، 426 –428. الراشدي، الإمام أبو عبيدة، ص 92 – 96.
(3) قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 56 – 57.
(4) قلعه جي، موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ج1، ص 63.
(1/10)
وكانت البصرة تعد ممرا تجاريا مهما، لذلك فقد نشطت فيها التجارة نشاطا ملحوظا، وجاء إليها الناس بحثا عن موارد الرزق والثراء، وأدى ذلك أيضا إلى توجه بعض المعارضين إليها. (1)
في ظل هذه الأوضاع واختلاف هذه الظروف، نشأ الإمام جابر وعاش. أما ولادته فقد كانت في عُمَان، ولكن المصادر التاريخية لا تذكر عن نشأته الأولى شيئا ذا بال. (2) وعلى كل فقد كانت عُمَان كحال معظم البلاد الإسلامية، زيادة على أنها كانت تعيش نوعا من الاستقلال السياسي في أغلب فترات الدولة الأموية. (3)
هذه الحياة السياسية المتقلبة، والرفاه المادي، يساعد كثيرا على تنشيط الحركة العلمية، وعلى نشوء الآراء المختلفة، فكيف كانت الحياة العلمية في عصر الإمام جابر؟
المطلب الثالث: الحياة العلمية
__________
(1) العلي صالح احمد، التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، ط2، دار الطليعة، 1969م، ص 18 – 19. فوزي، تاريخ العراق، ص 24. الجغبير عمر عبد العزيز، الحسن البصري وحديثه المرسل، ط1، دار البشير، 1992م، ص 37 – 38.
(2) الصوافي صالح بن أحمد، الإمام جابر بن زيد وآثاره في الدعوة، ط3، وزارة التراث سلطنة عمان، 1997م، ص 34.
(3) وزارة الإعلام، عمان في التاريخ، سلطنة عمان ودار إميل، 1995م، ص 123.
(1/11)
لقد كان للحالة السياسية أثرها الكبير في الحياة العلمية في العراق، وفي البصرة خصوصا. يقول أحمد أمين في ذلك: " ...كان من أثر ذلك طبيعيا أن يتساءل الناس: من المخطئ ومن المصيب؟ هل أخطأ قتلة عثمان أو أصابوا؟ هل لعلي يد في دم عثمان؟ هل لطلحة والزبير وعائشة حق في قتال علي؟ هل أصاب علي في التحكيم؟ هل يصح الخروج على عبد الملك لظلم واليه الحجاج وسفكه للدماء؟ وهل أصاب من فعل ذلك وخرج مع ابن الأشعث؟ كل هذه الأسئلة كانت تثار، وكانت تثار بكثرة حتى في دروس الأساتذة في المساجد ... " (1) ويضيف أنه من الطبيعي أن يكون العراق منبعا للكثير من المذاهب (2) ، ففيها فرق الخوارج والشيعة، ومدرسة أهل الرأي، ومدرستا النحو،( مدرسة الكوفة والبصرة) حتى اعتبر العراق أكثر البلاد الإسلامية ثروة علمية وأدبية. (3)
ومن جهة أخرى فقد سكن البصرة جمع كبير من الصحابة، أمثال عتبة بن غزوان وأبو بردة الأسلمي، وعمران بن الحصين، وكان أشهرهم في العلم أبا موسى الأشعري وأنس بن مالك الذي بقي فيها حتى وفاته. (4)
__________
(1) أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 183.
(2) المصدر نفسه، ص 183.
(3) المصدر نفسه، ص 182.
(4) المصدر نفسه، ص 184.
(1/12)
وقد أسهم فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - الذين نزلوا البصرة في تأسيس مركز البصرة العلمي، وقد كان مقدم الصحابي الجليل عمران بن الحصين إليها لسبب علمي إذ كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد بعثه يفقه أهل البصرة. وقد لاحظ أحد علماء البصرة ذلك فقال: " والله ما قدم البصرة خيرا لهم من عمران." (1) وكان أنس بن مالك رضي الله عنه من بين الصحابة الذين استوطنوا البصرة، وقام بدور مهم في نقل ورواية ما سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو ما سمعه من كبار الصحابة، وكان حريصا على التدوين خشية النسيان وربما كان ذلك في آخر حياته حينما صار التدوين أمرا مقبولا. (2)
وقد نشطت الحركة العلمية في هذا العهد نشاطا كبيرا، وازدهرت فيها بعض العلوم، كعلم اللغة والنحو والأدب الذي حظي بعناية الأمويين وكان للقبائل العربية دور في تنشيط بعض فنونه كالشعر والقصص (3) ، أما علم اللغة فنشأ في هذا العصر وظهرت مدارس اللغويين، وكان الداعي إلى ذلك ضرورة تقويم اللسان العربي حتى لا يتعرض القرآن إلى تحريف، بعدما دخل الإسلام أجناس مختلفة اللغات. وكان أول من اشتغل بها أبو الأسود الدؤلي. (4)
... وأما العلوم الشرعية فقد كان الاشتغال بها ملفتا للنظر في هذا العصر (5) ، بحيث مهد لعصر التدوين والولادة الحقيقية لهذه العلوم. فظهر الاهتمام بعلم القراءات، ثم التفسير، (6) والفقه الذي صار له طابعه الخاص كعلم في هذا العصر بفضل اشتغال كبار التابعين به. (7)
__________
(1) حميدان بن عبد الله الحميدان، الحركة الفقهية ومشاهير الفقهاء في العراق خلال عصر التابعين، مجلة الدارة، عدد 4، 1989م، ص34.
(2) المصدر نفسه، ص 35.
(3) أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 145، وما بعدها.
(4) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 505.
(5) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 496.
(6) المصدر نفسه، ج1، ص 496، 502.
(7) سيأتي في العنصر الآتي مزيد بيان للاهتمام بالفقه.
(1/13)
وكان للبصرة حظ وافر من تلك النهضة، فقد نشأ فيها علم النحو، وكانت مجاورة الكوفة حيث مدرسة أهل الرأي الفقهية. (1)
ويلاحظ أن الحياة العلمية تنتشر في المدن وتزدهر فيها، وبالجملة فقد كانت أهم المراكز العلمية في ذلك العصر، مكة والمدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، والفسطاط في مصر. (2)
ومن أشهر من خرجته البصرة في هذا العهد: الإمام التابعي الجليل الحسن البصري، وكذلك التابعي الجليل ابن سيرين. ومن بين هؤلاء أيضا الإمام جابر بن زيد. (3)
في هذه البيئة العلمية الزاهية، عاش الإمام جابر، وقد شارك علماء عصره في الحياة العامة، ويعد من علماء مركز البصرة. ولما كان الموضوع عن المنهج الفقهي، فإنه ينبغي التحدث عن التشريع في عصره، وعن ملامحه العامة والفقهاء المعاصرين للإمام جابر، وهذا ما يخصص له العنصر التالي.
المطلب الرابع: التشريع وخصائص الفقه.
للزمان والمكان دور مهم في فهم أفكار الإنسان، لذلك يحسن وضع الأفكار في إطارها الزماني، والمكاني، فذلك يساعد في حسن فهمها، ومن هذا الباب قرر الفقهاء أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأعراف.
ولذلك أيضا يدرس العلماء في كل علم تاريخه، بتتبع الأدوار التي مرت بها مبادئه، إلى أن تكامل نموها، ويقدم صورة للمحاولات التي بذلت في سبيله، والمناهج التي اتبعت للوصول إلى غاياته. (4)
وقد مر الحديث عن البيئة التي نشأ فيها الإمام جابر والظروف التي تأثر بها، والحركة العلمية التي عاصرها عموما، وهنا أتحدث عن الفقه في عصره، وأهم الفقهاء الذين عاصروه، ومنهجهم الفقهي، وخصائص التشريع في هذا العهد. وهذا ما يعرف بتاريخ التشريع.
__________
(1) حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج 1، ص 505.
(2) أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 171.
(3) سيأتي في العنصر الآتي أسماء العلماء الذين عاشوا في هذا العصر.
(4) أبو زهرة محمد، الشافعي، ط2، 1948م، دار الفكر العربي، ص 6.
(1/14)
وتاريخ الفقه، فن يعنى بدراسة أطوار الفقه الإسلامي، وتتبع مراحل نشأة الاجتهاد الفقهي، مرحلة مرحلة، بمعرفة الأسباب والعوامل المؤثرة، ومصادر الاجتهاد في كل مرحلة، ورجالات الفقه فيها، وبيان مناهجهم، والآثار التي تركوها، وما أسدوا للفقه الإسلامي من خدمات.
ودراسة تاريخ الفقه الإسلامي دراسة تحليلية أمر مهم للفقيه، حتى يتكون لديه تصور واضح لاستمداد الفقه، ويسير على منهج أصيل كما سار من قبله من الفقهاء، ويعرف أسباب اختلافهم في الأحكام الفقهية. (1)
وقد أفرد الفقهاء المعاصرون موضوعات تاريخ الفقه بالتأليف، وذهبوا مذاهب في تقسيم أدواره وتناول موضوعاته. (2)
__________
(1) انظر فوائد دراسة تاريخ التشريع عند الطريقي، وقد حصرها في 6 فوائد: الطريقي عبد الله بن عبد المحسن، تأريخ التشريع ومراحله الفقهية، 1415 هـ، ص 13- 14.
(2) انظر على سبيل المثال: الحجوي محمد بن الحسن الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، تخريج عبد العزيز عبد الفتاح القاري، ط1، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، 1396هـ. الخضري، تاريخ التشريع. : محمد يوسف موسى، تاريخ الفقه الإسلامي، معهد الدراسات العربية العالية، 1954م. الطريقي عبد الله، تاريخ التشريع. الفرفور محمد عبد اللطيف صالح، تاريخ الفقه الإسلامي، ط1، دار ابن كثير، 1995م. وأبحاث ومقالات في الموضوع كثيرة.
(1/15)
وسيكون من المهم لو أفردت كل مرحلة، (1) أو كل منطقة بتاريخ الفقه فيها ودور فقهائها، وما أسهموا به من آثار، وسيساعد ذلك كثيرا في فهم كثير من القضايا، وحل كثير من الإشكاليات التاريخية، وإظهار مميزات تلك المرحلة بتفصيل وبيان لا تتسع له الكتب الجامعة.
والإمام جابر بن زيد من أئمة التابعين، فقد ولد في فترة خلافة عمر، وأدرك عددا كبيرا من الصحابة أخذ عنهم، لذلك سيكون الحديث عن مرحلة التابعين في الفقه الإسلامي.
هذا وقد قسم الفقهاء تاريخ الفقه الإسلامي إلى مراحل مختلفة، حسب الصفة العامة، أو الأزمنة المختلفة، ولعل تقسيم الفقه إلى مراحل حسب التسلسل الزمني، ثم تفصيل تلك المراحل وتعديدها، حسب أهم المؤثرات، أليق وأحسن في تناول تاريخ الفقه، وأكثر فائدة لبيان محاسنه، وإبراز دور كل مرحلة في مسيرة الفقه الإسلامي. (2)
وإن الدراسات التي يقوم بها الباحثون حول الشخصيات الفقهية، أو تتبع المسائل الفقهية في كل عصر يساعد كثيرا في تحديد الفواصل بين كل مرحلة من مراحل تاريخ الفقه الإسلامي. (3)
مرحلة صغار الصحابة وكبار التابعين هي مرحلة التأسيس للفقه الإسلامي:
__________
(1) كصنيع الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه تاريخ الفقه الإسلامي، فقه الصحابة والتابعين، عصر نشأة المذاهب. والشيخ محمد زاهد الكوثري، في كتابه فقه أهل العراق وحديثهم،( تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة)، المكتبة الأزهرية للتراث مصر. والبحث الذي قام به الدكتور وهبة الزحيلي، اجتهاد التابعين،ط1، دار المكتبي،2000.
(2) انظر في اختلاف تقسيم مراحله: الطريقي عبد الله، تاريخ التشريع، ص 23 –27. الفرفور، تاريخ الفقه، ص 14.
(3) على سبيل المثال الدراسة التي قام بها الدكتور محمد الفرفور، ابن عابدين وأثره في الفقه الإسلامي. فإنها ساعدته في بيان أن دور النهضة الفقهية يبدأ من ابن عابدين. وهذه الدراسة عن الإمام جابر لعلها تساعد مع غيرها من الدراسات في تحديد مرحلة التابعين.
(1/16)
تعتبر هذه المرحلة في الفقه الإسلامي، من أهم المراحل، ثراء وخصوبة. إذ فيها اتضحت معالم الفقه وصار صناعة قائمة بذاتها، وفيها ظهرت أكبر الفرق الإسلامية، والمذاهب الفقهية، وأكبر المراحل التي غذت الفقه الإسلامي بآراء فقهية، وفيها تبلورت عملية الاجتهاد ومهدت لمرحلة التدوين والتأصيل لها. (1)
هذه المرحلة لم تلق عناية كافية من الباحثين، إذ إن الاهتمام ينصب غالبا على فترة المذاهب الفقهية السائدة إلى اليوم، رغم أنها تعتبر النتيجة للفترة التي سبقتها، وهي الفترة محل الدراسة.
أولا: التحديد الزمني:
أما تحديدها، فقد اختلف في ذلك كُتَّاب تاريخ الفقه، حيث يدمجها البعض في مرحلة الصحابة، ويختار البعض الآخر إدماج مرحلة المذاهب الفقهية معها، (2) فيسميها الحجوي: طور الشباب، ويقصد من عهد الخفاء الراشدين إلى نهاية القرن الثاني، (3) وسماه الدكتور امبابي: بطور النشأة، ويبدأ عنده بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستمر إلى منتصف القرن الأول الهجري. (4)
غير أن الأصح فيما يبدو تمييز هذه المرحلة عن فترة الصحابة، وتمييزها عن فترة المذاهب الفقهية أيضا.
وأسبق بقول: إن مثل هذا الترتيب اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، ثم إن لكل كاتب وجهة نظر في تقسيمه، وفكرة يريد أن يصل إليها بما اختاره من ترتيب، غير أن أهمية هذه الفترة محل الدراسة، وأثرها فيما بعدها، يجعل إفرادها بالبحث أصح.
__________
(1) الزحيلي، اجتهاد التابعين، ص 11. الحميدان حميدان بن عبد الله، الحركة الفقهية ومشاهير الفقهاء في العراق خلال عصر التابعين، عدد 3، سنة 14، 1989، مجلة الدارة، ص 90.
(2) أنظر : امبابي محمد مصطفى، الجديد في تاريخ الفقه الإسلامي، 1986، دار المنار، ص 43.الشافعي أحمد محمود، تاريخ الفقه الإسلامي وبعض نظرياته العامة، ص 65. الطريقي عبد الله، تأريخ التشريع، ص 24.
(3) الحجوي، الفكر السامي، ج1، ص 222.
(4) امبابي، الجديد في تاريخ الفقه، ص 45.
(1/17)
وسمى هذه الفترة الدكتور الفرفور: بالدور التأسيسي للفقه. (1) وهي حقا تعتبر المرحلة التي تأسس فيها الفقه الإسلامي، وأصبح بعد ذلك صناعة يشتغل بها علماء مختصون، كما سيأتي بيانه.
أما غيره فيسميها: عصر صغار الصحابة وكبار التابعين. (2)
والسبب في جعل صغار الصحابة مع كبار التابعين، أن الفترة الراشدة تعتبر فترة مهمة أيضا، ولها مميزاتها الخاصة، وفيها كان للصحابة الدور الكبير في الحياة العلمية، والأثر الكبير في الاجتهاد الفقهي. وبعد فترة الخلافة الراشدة، ارتبط اسم صغار الصحابة بتلاميذهم من التابعين، بحيث تفرق صغار فقهاء الصحابة في الأمصار، وراحوا ينشرون مروياتهم، ويعلمون تلاميذهم من التابعين الفقهَ، وكان للتابعين أيضا دور مهم في مسيرة الفقه، بما تلقوه من أساتذتهم من الصحابة، وبما أضافوه من اجتهادات أثروا به الفقه الإسلامي. وسوف يظهر كيف كَوَّن صغار الصحابة مع كبار التابعين مدارس فقهية.
أما المرحلة الزمنية التي تحد بها، فهي من سنة 41 هجرية، إلى سنة 100 تقريبا، أي من بداية العصر الأموي، إلى أوائل القرن الثاني الهجري. (3)
ثانيا: مميزات هذه المرحلة:
تميزت مرحلة صغار الصحابة وكبار التابعين بمميزات، جعلتها فترة مهمة في تاريخ الفقه لا تقل أهمية عن الفترة الأولى فترة النشأة، أو فترة نشاط المذاهب الفقهية. وهذه المميزات هي التي تدعو إلى إفراد هذه المرحلة بالبحث، وهي: (4)
? تفرق الفقهاء في الأمصار الإسلامية:
__________
(1) الفرفور، تاريخ الفقه، ص 15.
(2) الحجوي، الفكر السامي، ج 1، ص 269. الخضري، تاريخ التشريع، ص 95. الطريقي، تأريخ التشريع، ص 27.
(3) الحجوي محمد، الفكر السامي، ج 1، ص 269. الخضري، تاريخ التشريع، ص 95. الشافعي، تاريخ الفقه، ص 96. الطريقي، تأريخ التشريع، ص 145.
(4) أول المميزات الحالة السياسية وقد سبق بيان أثر النشاط السياسي في حركة الفقه الإسلامي.
(1/18)
في هذا العهد بدأ تفرق الصحابة في الأمصار التي فتحها المسلمون وسكنوها، وكان عمر - رضي الله عنه - يبعث إلى كل مصر يفتح، ومع كل جيش، فقيها يعلم الناس أمر دينهم، فقد أرسل ابن مسعود إلى الكوفة معلما. وبهذا الانتشار للصحابة في كل مصر انتشر العلم والفقه خاصة. (1)
ثم تحمل المسؤولية مع هؤلاء جيل آخر من الصحابة، كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم - ، فانطبع كل مصر بمنهج وطريقة من نزل بها من الصحابة، وانتشرت روايات هؤلاء الصحابة في تلك الأمصار فمثلت فقههم. (2)
وقد عاصر صغار الصحابة جيل جليل من التابعين، أخذوا عنهم الفقه، وتأثروا بهم، فكان فقهاء المدينة من التابعين مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وأبان بن عثمان، وغيرهم على طريقة فقهاء المدينة من الصحابة كعائشة وعبد الله بن عمر، وكان فقهاء التابعين بمكة مثل مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح والأسود بن يزيد النخعي وعمر بن شراحيل بالكوفة على طريقة ابن مسعود، وكان فقهاء البصرة مثل الحسن البصري على طريقة فقيه مكة ابن عباس، وكان فقهاء الشام مثل رجاء بن حيوه وأبي إدريس الخولاني ومكحول بن أبي سالم، على طريقة فقهاء الشام من الصحابة مثل معاوية ومعاذ ابن جبل وغيرهما، وكان يزيد بن أبي حبيب ومرثد بن عبد الله في مصر على طريقة فقيهها عبد الله بن عمرو، وكان طاووس بن كيسان في اليمن. (3)
__________
(1) موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي، 1386هـ، المقدمة، ج1، ص 25 –26. الطريقي عبد الله، تأريخ التشريع، ص 158.
(2) الخفيف علي، الاجتهاد ونشأة المذاهب الفقهية، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، 1971م، ص 217.
(3) الخفيف، الاجتهاد، ص 218 – 219.
(1/19)
وأوجد هذا التفرق للصحابة مع نشاط التابعين حركة علمية واسعة الانتشار، وأنتج أيضا ثراء في الآراء والأفكار، فتفاوتت مدارك العلماء في استنباط الأحكام الشرعية، وانتشرت فتاوى كل من الصحابة والتابعين في البلاد التي تواجدوا فيها، وتبعا لذلك ظهرت المدارس الفقهية.
? نشأة المدارس الفقهية:
ظهرت في هذا العهد نزعتان مختلفتان في تناول القضايا الفقهية، والتعامل مع الروايات والنصوص الشرعية. طريقة أهل الحديث، وطريقة أهل الرأي. ويُرجع فريق من الباحثين بذور تلك النزعتين إلى عهد الصحابة - رضي الله عنهم - (1) يقول مصطفى الزرقا:" وإن المتتبع للحركة الفقهية منذ عهد الخلفاء الراشدين يبدو له أن البذرة الأولى التي نبتت منها المدارس الفقهية ثم تكونت المذاهب الفقهي، كانت ظهور اتجاهين بين الصحابة في فهم النصوص التشريعية." (2) ويرى الفريق الآخر أن ظهور تلك النزعتين كان زمن التابعين (3) ، يقول الشيخ الخضري:" ولما جاء هذا الخلف وُجِد منهم من يقف عند الفتوى على الحديث ولا يتعداه، يفتي في كل مسألة بما يجده من ذلك وليست هناك روابط تربط المسائل بعضها ببعض، ووُجِد فريق آخر يرى أن الشريعة معقولة المعنى ولها أصول يرجع إليها فكانوا لا يخالفون الأولين في العمل بالكتاب والسنة ما وجدوا إليهما سبيلا ولكنهم لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا فيه نصا ... " (4)
__________
(1) الزرقا مصطفى أحمد، الفقه الإسلامي ومدارسه، ط1، دار القلم، 1995م، ص 53. موسوعة جمال عبد الناصر الفقهية، ص 29 –30.
(2) الزرقا، الفقه الإسلامي، ص 53.
(3) الحجوي، الفكر السامي، ج1، ص 315. الخضري، تاريخ التشريع، ص 102. الفرفور، تاريخ الفقه، ص 31.
(4) الخضري، تاريخ التشريع، ص 102.
(1/20)
ولكن يبدو بالتتبع الدقيق لاختلاف طرائق الفتوى في هذا العهد، وظهور مراكز علمية مختلفة، أن هذا العهد عهد المدارس الفقهية، وليس نزعتا أهل الرأي وأهل الحديث حصرا.
فإما أن تكون المدارس وفق اختلاف الأمصار، فنقول المدارس ستة: مدرسة المدينة، ومدرسة مكة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة البصرة، ومدرسة الشام، وأخيرا مدرسة مصر.
أو تكون المدارس تبعا لأئمتها من الصحابة وكبار التابعين، فنقول: مدرسة عبد الله بن مسعود، ومدرسة عبد الله بن عباس، ومدرسة عبد الله بن عمر، ومدرسة فقهاء المدينة السبعة وهكذا، ولعل هذا التقسيم الأخير هو الأحسن. إذ إن لهؤلاء الصحابة ومن كان حولهم من التابعين الذين تأثروا بهم، الأثر الكبير والمهم في تعدد نزعات الفقهاء، وتغير مناهجهم في الفتوى، أكثر من عامل البلاد التي استوطنوها، والأستاذ الزرقا بين خطأ من يذهب إلى التفسير الجغرافي لنشوء المدرستين الفقهيتين المشهورتين أهل الرأي وأهل الحديث. (1)
وأضيف إليه تأكيد بعض الباحثين بأن وصف مدرسة بأنها مدرسة رأي، ووصف الأخرى بأنها مدرسة حديث، فيه تغليب لأحد الأوصاف على تلك المدرسة، فقد وُجِد الرأي في مدرسة الحديث ووُجِد الحديث والوقوف عنده في مدرسة الرأي. (2)
وعلى كل فإن تقسيم المدارس الفقهية حسب أهم فقهاء الصحابة، يحتاج إلى بحث مستقل لبيان مناهج هؤلاء الصحابة، وخصائص كل مدرسة التي تميزها عن الأخرى، ومادامت نزعة أهل الحديث ونزعة أهل الرأي، هما الغالبتان على الفقهاء وربما حتى إلى اليوم، فسأذكر مميزات المدرستين على حسب ما تذكره كتب تاريخ الفقه الإسلامي.
مدرسة أهل الحديث:
__________
(1) الزرقا، الفقه الإسلامي، ص 59 – 62.
(2) الخفيف، الاجتهاد، ص 222. السايس محمد علي، تاريخ الفقه الإسلامي، (ضبط محمد الفاتح بن ولي الدين الفرفور)، ط1، دار الفرفور دمشق، 2002م، ص 173.
(1/21)
قد كان أثر الصحابة على هذه المدرسة كبيرا مما ميز هذه المدرسة على غيرها، وأخذ الفقهاء بعد ذلك يبحثون عن مرويات الصحابة لا يتعدونها إلى الرأي فهي تغنيهم كثيرا، فبالحجاز زيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وابن عباس قبل انتقاله إلى العراق، واكتسبت مدرسة الحجاز بهؤلاء شهرتها، وصار بها بعد ذلك تلاميذ الصحابة من سار في نفس منهاجهم، كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وغيرهم من فقهاء أهل المدينة السبعة، فأصبح لمدرسة الحجاز صداها في باقي أجزاء الدولة الإسلامية.
وكان طلبة العلم يشدون الرحال إلى تلك البقاع ليتعلموا من علمائها، وفي نفس الوقت تعتبر زيارتها والسكن بها عبادة.
وكان علماء أهل الحجاز وقافون عند النصوص والآثار، لا يحيدون عنها، ولا يلجؤون إلى الرأي إلا عند الضرورة القصوى، وكان على رأسهم: سعيد بن المسيب، وباقي الفقهاء السبعة، فقد رأى أن أهل الحجاز أثبت فانكب على فتاوى الخلفاء الراشدين يجمعها، وقضايا قضاة المدينة وحفظ من ذلك شيئا كثيرا. (1)
وأهم مميزاتها ما يلي: (2)
- نشأت في موطن التشريع، ومهبط الوحي، فرواية الحديث فيها شائعة، وأسباب النزول لا زالت معلومة، وبها كان الصحابة كثرة، وإليها يأتي الناس ويقصد.
- كان فقهاء مدرسة الحجاز يكرهون السؤال عما لم يقع من الأمور، ولا يجيبون إلا عن الحوادث الواقعة إلا في اليسير، ولا يحبون تفريع المسائل.
- خلو المدينة في العصور الأولى عن البدع المحدثة، سواء في الآراء أو في الأعمال.
- تبوأت المدينة مركزا علميا مرموقا، ويرجع الفضل فيه إلى من كان بها من العلماء، فقد خلفوا علما ظهرت آثاره، واعترف لهم بالتفوق في سائر الأمصار.
مدرسة أهل الرأي:
__________
(1) السايس، تاريخ الفقه، ص 169.
(2) السايس، تاريخ الفقه، ص 169 – 170. الطريقي، تأريخ التشريع، ص 171- 176.
(1/22)
لقد نزل العراق جمع كبير من الصحابة من يوم فتحها المسلمون زمن عمر - رضي الله عنه - ، وكان لهم دور كبير في تفقيه أهلها، كما كانوا مصدر حديث وآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فعليهم كان مدار الرواية في العراق.
وعلى رأس مدرسة الرأي إبراهيم النخعي، وكان أصحاب هذه المدرسة يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على مصالح راجعة إلى العباد، وأنها بنيت على أصول محكمة، وعلل ضابطة، فبحثوا عن تلك العلل، وجعلوا الحكم دائرا عليها وجودا وعدما، وربما ردوا بعض الأحاديث لمخالفتها لهذه العلل. (1)
وقد انتقلت عاصمة الخلافة إلى العراق، زمن علي - رضي الله عنه - ، وانتقل معه عدد من الصحابة مما قوى أمرها، وكان أهل الكوفة مثلا يجمعون آثار ابن مسعود وعلي، وفتاواهم، وقضايا شريح القاضي، وصنعوا في آثارهم مثلما صنع أهل المدينة في آثار من قبلهم.
وأهم مميزات مدرسة الرأي هي: (2)
- يميل أصحاب مدرسة الرأي إلى الافتراض والتقدير لمسائل ل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *