الأعمال الكاملة لبدر العبري ج 7 - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الأعمال الكاملة لبدر العبري ج 7

 





الكتاب: الأعمال الكاملة لبدر العبري ج5
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
ملف
أعمال الواعظ بدر بن سالم العبري الجزء الخامس
من محرم وحتى رجب 1431هـ
تقدمة
ونحن نقطف ثمار ستة الأشهر الأولى {من محرم وحتى رجب لعام 1431هـ}، يسرني أن أتحفكم بالجزء الخامس مما ألقت به اليراع من مقالات وخطب وبحوث، راجيا من الله القبول والثواب، وعما قريب سيكون إن شاء الله تعالى الجزء السادس، والحمد لله رب العالمين.
القسم الأول
المقالات والمحاضرات
قراءة قرآنية في الكوارث الطبيعية والبشرية
مع خضم بداية كل عام جديد تجتهد المؤسسات المختلفة، والنوادي المتباينة، والبرامج الإعلامية، في إقامة استقصاء وحصر لما حدث بالعام الماضي، من مجريات وأحداث طبيعية وسياسية، واجتماعية وفكرية، سلبا كانت أم إيجابا.
ومن هذه الأحداث الكوارث الطبيعية والبشرية، وعلى رأسها حوادث السيارات، فما الأسباب لهدر آلاف الأرواح، وترمل عشرات النساء والأطفال، فضلا عن الخسائر المادية والاقتصادية؟ وما هو العلاج؟، فمع إنفاق عشرات الأموال في التوعية وإيجاد البدائل في الطرق، إلا أن الحوادث تزداد بصورة مرعبة، وبوحشية مخيفة، تكاد نتائجها تقابل أو تزيد عن نتائج الحروب المدمرة.
ومنها الأمراض الناتجة عن السلوكيات المحرمة، والأفعال الشاذة، ما أسبابها وآثارها؟ وما طرق علاجها؟ ...
ومع أهمية الاستقصاء، ووضع الدراسات والاستراتيجيات لعلاجها، إلا أنّ قصرها على الجانب المادي لا يزيدها إلا تفاقما، فهذا الإيدز القاتل ثلاثون سنة لمحاربته، الملايين أنفقت، والمختبرات أشغلت، ومجالس التوعية استنفرت، ومع ذلك زاد أضعافا مضاعفة ...
فالعلاج المادي أمر مهم، ووضع التصورات والإحصاءات غاية الأهمية، إلا أن الابتعاد عن العلاج الإلهي، وجهل السنن الربانية، يجعل العلاج قاصرا، والمرض يزاد فحشا وتفاقما ...
(1/1)
فنحن معاشر المؤمنين ... ندرك تمام الإدراك أن لله تعالى سننا في هذا الكون، لا تتغير ولا تتبدل، فكل ذرة من ذراته، تسير وفق هذه السنن الكونية، ومن هذه السنن سنة الله في بقاء النعم الربانية، والحفاظ على المنن الإلهية، فشكرها مرهون بشكر الله تعالى، والتعامل معها وفق حدود الله جلّ وعلا.
فما من نعمة من النعم، في البر والبحر والجو، في الإنسان واليابسة، في السماء والأرض، في المال والطعام، وفي النقل والشراب، في السمع والبصر وسائر الجوارح، إذا شكر الله فيها، ولم يحارب الإنسان بها شرع الله، كانت نعمة له في الدنيا، يباركها الرب، ويجني ثمرة شكرها يوم يلقاه، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
(1/2)
وإذا ما حاول الإنسان الإفساد بهذه النعم، والكفران بها، كانت الآيات الربانية، والإنذارات الإلهية، فتارة يرسل عليهم أمراضا وأوبئة، لعلهم يتوبون أو يرجعون، وتارة بالفيضانات والأعاصير والزلازل، لعلهم يرشدون أو يعقلون، وتارة بالقحط وعدم البركة في المال والأهل والولد، لعلهم يهتدون أو يفقهون، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فإذا ما واصل الإنسان الطغيان، واستمر في الكفران، فانتهكت الأعراض، وانتشر الربا والقمار، وعمت القطيعة والاستغلال، وأكلت أموال اليتامى والمساكين، وعم الفساد البر والبحر والجو، وترك كتاب الله مهجورا، واستبدل بشريعة الغاب والبشر، واستبيح الخمر والميسر، واستخف بالصلاة والزكاة، وبجميع شرائع الله ...
فسبحانك ربي ... من يحارب هذا الإنسان؟!!! وبمن يستخف؟!!! أو يحارب جبار السماوات والأرض؟!!!! أو يستخف بالعزيز المتكبر؟!!! أو يتلاعب بشريعة رب الأرباب؟!!!
(1/3)
فيا ويح هذا الإنسان ... ألا فليستعد للضربة القاصمة، والآية المهلكة، إن لم تجد النذر والآيات الأولى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(1/4)
ألا فليدرك الإنسان، وهو يضع الحلول والاستراتيجيات لعلاج الحوادث المعاصرة ... ألا فليعلم علم اليقين ... أن سنن الله لا تتغير، وقوانينه لا تتبدل ... بالأمس القريب ذكرنا بالفيضانات والأعاصير، واليوم يذكرنا بالقحط والأمراض المرعبة، وحوادث السيارات القاتلة، يذكرنا ربنا بالعاصفة المالية، والتي عمت أكبر الدول اقتصادا، وأغناها دخلا ومالا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، فسقطت نوادي القمار والربا من عليائها، وعاصفة المجاعة بدأت تهب ريحها، وتهدد ملايين الملايين تهديددا مرعبا أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ َفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
من مجريات الأعوام الماضية، واستقصاءات الأيام البالية، أدرك العالم حاجته إلى شريعة الإسلام الناصعة، فمن ينقذ طفلا بريئا مهددا بظلام الشرك والوثنية، ومن ينقذ طفلا كان ضحية الأمراض والعقوبات المتنوعة ... من ينقذ طفلا يصيح ويصرخ نتيجة لدمار الحروب، وآثار المجاعة والاستغلال العالمي.
من لنساء ضعاف، وأرامل الحروب والفقر والجشع، ومن لآهات اليتامى، وصراخ المظلومين ...
من يقف سدا منيعا لنشر الدمار والأمراض في الأرض، من يصرخ بأعلى صوته كفانا فسادا واستكبارا، أحفظوا أعراض نسائنا، وصونوا أخلاق أبنائنا ...
من يعتز بشريعة ربه، ويعتصم بكتاب خالقه ...
(1/5)
نعم، نحن المسلمين نتحمل ذلك، فماذا ينقصنا ... أو ليست آيات الله تتلى علينا بكرة وأصيلا، ماذا ينقصنا عن فهما وإدراكها، فلم الخجل والحياء، ولم الخوف والجبن، ولم الذلة والمهانة، ولم نرض بمبادئ غيرنا، ونرفض شريعة ربنا ...
ها هو العالم ينتظر شريعة ربنا فمن يبلغ ...
وأبناؤنا بحاجة إلى مبادئ ديننا فمن يتمسك ...
فهلا كنا من خيرية هذه الأمة ... علما وخلقا وقدوة ...
فخيرية الأمة لا تتحقق إلا بالحفاظ على النعم، والتمسك بشريعة المنعم، وإذا ما بدأت المعاصي تنتشر، وقف لها الناس منذرين ومذكرين، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، كانت الخيرية لهذه الأمة ...
أما إذا سكت المجتمع، فسكت المعلم في مدرسته، والأب في بيته، والإمام في مسجده، والعامل في معمله، والتاجر في متجره، وارتضوا بما يجري من قبل أبنائنا من انحرافات ومعاصي، فإن هذه الخيرية ترفع عن هذه الأمة، وتستبدل وفق سنن الله تعالى في الكون باللعنة والطرد من رحمة الله تعالى، وإنزال العقوبات والعذاب ... لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ.
فإن عادت الأمة وأفاقت ... رد إليها ميزة الخيرية ... وإن كابرت وعصت استبدل الله قوما غيرها ... يبلغون شريعته ... ولا يخشون أحدا إلا الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ.
(1/6)
فحيا وهلا برجال وفتية من أمتنا، غوث البلاد، ورحمة الله بين العباد، آمنوا بالله صدقا، وصانوا جوارحهم عن الحرام عدلا عدلا، ووقفوا عند شريعة ربهم طمعا ورهبا، فإذا ما مسهم طائف من الشيطان تذكروا ربا عظيما، ويوما مخيفا، فتابوا وأنابوا، وتمسكوا وخضعوا ... فاستمروا يرعاكم الله في التمسك بالدين، وتبليغ شريعة الرب، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإذن الله تعالى ...
فلنكن يدا واحدة وجدارا مرصوصا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ آيات الله تعالى، والتعامل مع السنن الكونية ... ولنكن من الذين مدحهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ...
وبهذا تتحقق الخيرية لهذه الأمة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ.
شكر النعمة
أيها الأخوة الكرام ... نبدأ مجلسنا اليوم بالحديث قليلا عن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام ...
انظروا –رحمكم الله وإياي- إلى سليمان ... أعطي ملكا لم يعط أحدٌ مثله لا قبله ولا بعده، كان له الملك الواسع، والمال الوفير، وسخرت له الريح، واستعبد له الجنّ، ولان له الحديد، ومع هذا كله ما كان منه إلا أن يتواضع لواهب النعم والمنن قائلا: "قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم".
لسان حاله: يا الله وهبت لي من النعم ما وهبت، وسخرت لي من المنن ما سخرت ... فأنت صاحب الفضل والمنّ وحدك لا شريك لك ...
(1/7)
يا الله ... هذا ابتلاء منك ... هل أشكر النعمة فأضعها في طاعتك فأكن من الفائزين ... أم أكفر بها وهي نعمتك أنت وحدك، فأعصيك بها، فتكون شاهدتً علي، فأكن من الخاسرين النادمين ...
يا الله ... لئن شكرت فلنفسي، ولئن كفرت فأنا الخاسر، فأنت غني عني وعن نعمائك.
انظروا رحمكم الله ... هذا سليمان ... ومن كسليمان في التأريخ أعطي ما أعطي من النعم ... وانظروا كيف قابل ربه بهذه النعم ... جعلها في طاعته جلّ وعلا ... فاستحق الثواب العظيم في الدنيا والآخرة.
ولننظر إلى أنفسنا ... كم من النعم التي هبنا الله إياها؟ هل كنا شاكرين الله بها أم من الكافرين؟!!!
تصوروا نعمة الصحة ... نعمة السمع والبصر ... نعمة الحياة ... ماذا لو فقدناها ... أتستطيعون العيش بلا سمع أو بصر؟ أتصبرون على المرض ... ؟
ولننظر الآن هل شكرنا الله بهذه النعم أم كفرنا بها؟ أهي شاهدة لنا يوم القيامة أم علينا؟
وها نحن في شهر الصيام ... انظروا حاجتكم إلى الشراب والطعام ... تصوروا أمما تعيش طول عامها في جوع وبحث عن الشراب ... وأنتم والحمد لله تأكلون وتشربون بكل سهولة ويسر ... فهلا شكرتم الله على هذه النعمة ... فتضعونها فيما يحبُّ ربكم بلا إسراف ولا تقتير ...
وانظروا إلى نعمة اللباس ... كم من الملابس تتباهون بها ... انظروا إلى أمم في العالم يتقاسمون اللباس فيما بينهم لضيق ما في اليد، فهلا شكرتم هذه النعمة، فجعلتموها شاهدة لكم يوم تلقون الله تعالى، لا تسرفون فيها، ولا تتكبرون بها ....
ومن النعم - رحمكم الله – التي تتنعمون بها نعمة الاتصالات، نعمة الهاتف النقال أو المحمول ... تقضون الحوائج في وقت قصير، كم من الناس يعصون الله تعالى بها، تصوروا –هداكم الله وإياي- لو كنتم فاقديها ماذا يكون حالكم، فهلا شكرنا الله تعالى في نعمة الهواتف والانترنت، وجعلناها شاهدة لنا في الخير والبر والصلاح؟!!!
(1/8)
ومن النعم الجليلة التي تتنعمون بها أيضا نعمة التلفزة والقنوات الفضائية، تشاهدون فيها النافع المفيد، وتتابعون العالم وأنتم جالسون في بيوتكم، فاشكروا الله تعالى فيها بمشاهدة ما ينفعكم ويرضي ربكم، وتجنبوا مشاهدة ما يغضب الرب، فهذا من كفران النعم والعياذ بالله من الخذلان.
ومن النعم التي نتمتع بها ليل نهار –أخوتي الكرام- نعمة اللسان، انظروا لو فقدتم هذه النعمة كيف تتكلمون ... أم كيف تفهمون بعضكم البعض، فحذار من وضع هذه النعمة فيما يغضب الرب، في الغيبة والنميمة والبهتان، وحذار من وضعها في الكذب والسخرية والاستهزاء، رطبوا لسانكم بوضعها في كل خير يقربكم إلى الله تعالى، فتكون رحمة لكم دنيا وأخرى.
ومن أعظم النعم إطلاقا نعمة الوقت والزمان، ونعمة الصحة والفراغ، فبدونهما لن تستطيع أن تعمل أدنى عمل تسعد به، تأمل معي حديث حبيبك صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.
فلنعمر أوقاتنا بما يرضي ربنا، ويقربنا إليه، ويشفع لنا عنده جلّ وعلا، ولنحذر كفران النعم، صغيرها وكبيرها، ولنتذكر دائما قوله تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
من صام رمضان إيمانا واحتسابا
نص الحديث:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه الربيع والبخاري ومسلم.
نتطرق اليوم أيها الأخوة الكرام لنقف وقفات ثلاث مع حديث مبارك من أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهاكم الوقفات الثلاث:
الوقفة الأولى: صوم الإيمان
هنا يقول حبيبكم –عليه الصلاة والسلام- من صام رمضان إيمانا ...
فما المقصود بقوله إيمانا؟ وما العلاقة بين الصيام والإيمان؟
والآن أوجه إليكم هذا السؤال: لماذا تصومون رمضان؟ ولماذا لا تأكلون في نهاره؟ ولماذا لا تشربون كأسا واحدا من الماء فقط؟!!!
(1/9)
إذا قلت لكم أنا: لا تأكلوا ... لا تشربوا في شوال مثلا ... أتتبعوني ...
لا شك لن تتبعوني ... لماذا ... لأنكم تؤمنون أن المشرع هو الله وحده لا شريك له جلّ وعلا ...
من هنا ندرك –أخوتي الكرام- إن صيامنا لرمضان ناتج من إيماننا بالله وحده، فنحن نصوم استجابة لله، ونبتعد عن الطعام والشراب استجابة لله، ونترك المعاصي استجابة لله تعالى وحده ...
وهنا نطرح سؤالا آخر: لماذا يكثر الناس من العبادة في رمضان ويتكاسلون بعد انتصاف رمضان؟ أو بعد رمضان؟ ولماذا يبتعدون عن المحرمات في نهاره وينتهكونها في ليله؟
هل يدل هذا على صيامهم لرمضان إيمانا بالله تعالى؟ إذا هؤلاء أيها الأخوة الكرام صاموا رمضان لأمرين: الأمر الأول عادة رأوا الناس يفعلونها، والأمر الثاني: استحضروا في قلوبهم عظمة رمضان، ولم يستحضروا عظمة خالق رمضان، مع أنّ الذي أمر بالصيام والقيام هو الله تعالى لا رمضان.
والآن تأملوا معي رحمكم الله آخر آيات الصيام يقول ربكم سبحانه وتعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، انظروا: قال: تلك حدود الله، ولم يقل: تلك حدود رمضان، فأضاف الحدود إليه جلّ جلاله، ولم يضفها إلى رمضان، فرمضان فترة زمنية خلقها الله تعالى لا تنفع ولا تضر، وإنما نحن نعظم هذه الفترة لأن الله هو الذي أمرنا بتعظيمها، من هنا كان مبدأ المسلم العمل لله وحده، وعدم الإشراك به بأي شرك مادي أو زمني، "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ".
فصم رمضان –رحمك الله تعالى- مؤمنا به وحده جلّ وعلا.
الوقفة الثانية: من صام رمضان إيمانا واحتسابا
ما معنى واحتسابا؟ واحتسابا يعني محتسبا الثواب والأجر من عند الله تعالى وحده ...
(1/10)
فأنت أخي الحبيب تركت لذة الطعام طاعة لله وحده، واجتنبت المعاصي استجابة لله وحده، وحافظت على صلواتك مع جماعة المسلمين، وأخرجت زكاة مالك حبا في مرضاة خالقك، إذا أنت هنا صمت رمضان محتسبا الأجر من عند الله تعالى.
ولكن تعالوا معي –أخوة الإيمان- هل الذي يحافظ على الصلاة في رمضان ... ويهجر المسجد بعد رمضان ... يعتبر صيامه احتسابا لله تعالى وحده؟
هل الذي يجتنب الغيبة والنميمة في نهار رمضان ... ثم لا يبالي بأعراض الناس في ليله يكون محتسبا لله تعالى في صيامه؟
لا شك هؤلاء لم يكن صيامهم احتسابا، بل كان عن عادة وتقليد ...
فليكن صيامنا –أخوة الإيمان- احتسابا له سبحانه وحده، صيامنا وصلاتنا وقيامنا وصدقاتنا وصالحات أعمالنا لله جلّ وعلا، شعارنا قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين".
الوقفة الثالثة: غفر له ما تقدم من ذنبه
ما أجمل هذه الهدية لمن صام رمضان إيمانا واحتسابا، هنيئا لك أخي الصائم أن يغفر الله تعالى ذنبك، ويعتق رقبتك، ويرفع منزلتك، ولكن عليك أن تصوم رمضان إيمانا واحتسابا، لأن من في الحديث شرطية، والشرط أن تخلص العمل لله في رمضان نهاره وليله، وفيه وبعد انقضائه، والجواب يغفر الله لك، ويقبل توبتك، ويرفع عملك الصالح، نسأل الله ذلك لنا جميعا نحن المؤمنين الصائمين.
مع العام الجديد
يعيش الإنسان في هذه الحياة مقيّدا بمرحلة زمنية محددة، وذلك وفق سنة الأجيال، فلكل جيل وقت زمني، حددته المشيئة الإلهية المطلقة، وذلك تطبيقا لسنة البناء والبقاء النسبي، وما يتبعه من عمارة لهذا الكون، وبناء له.
(1/11)
وسنة البناء والعمارة لا يمكن أن يعطي جدواه إلا باستغلال الفترة الزمنية التي يتحصل عليها كلُّ جيل، بما تتوارثه من آثار وثقافات وأمجاد الأجيال الماضية، فالمكتشفات المعاصرة مثلا لم يتحصل عليها أجيال القرنين الماضيين صدفة؛ وإنما كانت تواصلا لما توصلت إليه الأجيال التي سلفتهم، فكانوا خلفا أدركوا قيمة الزمن، فاستثمره لصالحهم، فقطفوا ثمرة جهدهم واستغلالهم له.
وهذا الجيل المعاصر إن لم يدرك قيمة الزمن الذي يعيش فيه، لا شك سيأكله الزمن، وسيخرج من هذه الحياة بلا أمجاد ولا بناء، وسيكتب عنه التأريخ سيرا من الكسل والتخلف والرجعية، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ.
من هناء لبقاء سنة التطور والبناء، والتعمير وصنع الأمجاد لا بدّ من غرس قيمة الزمن والوقت في نفوس الأبناء والأجيال، فسنة الزمن لا تعرف قوما دون قوم، ولا تفرق بين جيل وجيل، فهي سنة وجدت مع بقاء الكون، فمن وقف معها وقفة جد وعمل، واستثمرها استثمار إخلاص ونشاط، كان لهذا الجيل الحظ الوافر من الإبداع والتقدم والتطور، ولبلدانهم وأوطانهم من الرقي والقوة والمدينة الصادقة.
والقرآن الكريم يقرر هذه السنة الكونية في سورة العصر حيث يقول تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
فكل جيل يتصور فترة بقائه في هذه الحياة بفترة العصر، وهو جزء مبارك من أجزاء اليوم الواحد، حيث سرعان ما ينقضي، فمن استثمر عصره من يومه فاز، ومن ضيعه خاب وخسر، واستغلاك له بحاجة إلى إيمان بقيمته، وعمل صالح مثمر فيه، بجانب الصبر والعمل الجماعي المتقن والمنظم والمتحد.
(1/12)
فزمن الأجيال إنما هو كفترة العصر في شدة انقضائه وذهابه، لذا عدم إدراك الأجيال لقيمة الوقت، وسوء تنظيمهم له، وإشغال الزمن باللهو واللعب كعنصر أساسي، والعمل والإبداع كعنصر ثانوي، لما غرس في نفوس الأبناء من استهتار بالوقت، وغفلة عن محدودية الزمن، بجانب الكسل والخمول، كلُّ هذا شر وداء يهدد تقدم المجتمع، ويرجعه إلى دائرة التخلف والرجعية، وإن تظاهر بالتقدم والتطور؛ فهو تقدم وتطور شكلي في شكل اللباس وقصاصات الشعر، وهندسة البيت وفخامة الأثاث، شأنه كالسراب، يحسبه تقدما وفي داخله التخلف والرجعية.
ومن جانب آخر عندما يقلب الواحد منا ورقات التقويم يجدها تتناقص سريعا يوما بعد يوم، كذلك زمن العام يتناقص سريعا في العام الواحد، وزمن العام لا يُقاس بعدد أيامه، وإنما يقاس بما أنتج الإنسان فيه، وبما يقربه من ربه جلّ وعلا، لأنّ هناك ورقة أخيرة سيقطفها أيّ واحد منا، وهي ورقة الوصال بالدار الآخرة، فنحن لا ندري أيّ ورقة من التقويم ستحظى بتأريخ انتقالنا بالدار الآخرة.
هنا نجد أنّ من أعظم النعم التي أنعمها الله على عباده، وأجلّها قدرا، وأرفعها منزلة، وأعلاها مكانة، نعمة الوقت والزمان، حيث أقسم به جلّ وعلا في كثير من آي القرآن، "والليل إذا يغشى"، "والنهار إذا تجلى"، "والليل إذا عسعس"، "والصبح إذا تنفس"، "والفجر، وليال عشر"، "والعصر، إنّ الإنسان لفي خسر".
أقسم الله – سبحانه - بالزمان ليعلم العباد أنّ حياة الإنسان أنفاس تتردد وتتعدد، وآمال تضيع إن لم تتحدد، ودقات قلب المرء تشعره في كلّ لحظة، بأنّ الحياة دقائق وثوان، ولذلك قيل: المؤمن وليد وقته، وقيل أيضا: الوقت أنفاس لا تعود.
والأمم نفسها لن تتقدم في نواحي الحياة المتعددة إلا إذا أدركت أهمية الوقت والزمان، فاستثمرته لصالحها، فأتى إليها طوعا، وباستغلاله يفتح لها آفاق التقدم والرقي.
(1/13)
لذا أدرك السلف الصالح قيمة الزمن وأهميته في الرقي بالذات والمجتمع، فعندما أشير على الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يجعل من ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بداية لعام المسلمين، وذلك مسايرة لما عند النصارى، فقد اختاروا من ميلاد المسيح عيسى عليه السلام بداية لكل عام، رفض رحمه الله تعالى، واختار من الهجرة النبوية بداية لتأريخ وعام جديد، فسنّ لنا الفاروق رضي الله عنة سنة حسنة، سنّ لنا الهجرة منطلقا ننطلق بها في بداية العام الجديد ...
سنّ لنا الفاروق ذلك لنحزم حقيبة الهجرة كلّ عام ...
فلا يريد منا عمر أن نهجر أوطاننا، ونترك أهلنا ومالنا، فلا هجرة بعد الفتح ...
ولكن يريد منا رحمه الله تعالى في كلّ عام أن نهجر الشرك وعبادة المخلوق إلى توحيد وعبادة الخالق وحده جلّ وعلا ...
يريد منا أن نهجر الرياء والأنا، والكبر والغرور والحسد، إلى الإخلاص لله الأوحد، والتواضع والمحبة للبشر.
يريد منا أن نهجر التخلف والتسويف والكسل، لنهاجر إلى التقدم والعمل، والاجتهاد والجد.
نعم يريد منا طيب الله ثراه أن نهجر المعاصي وارتكاب الخطايا، إلى الطاعة المطلقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، متبعين الأوامر الربانية، مجتنبين النواهي المتعددة، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
يريد منا أن نجعل عامنا عام هجرة من الجهل والتخلف الفكري والتربوي؛ لنهاجر إلى العلم والثقافة، ومعرفة طرق التربية الصحيحة، لنكون أمّة قراءة واطلاع، أمّة تربي أولادها التربية الصحيحة، أمّة تهتم بالأولويات في سائر نواحي الحياة العملية.
ويريد منا أيضا أن نجعل عامنا عام هجرة بوضع المال في محله الصحيح، دون إسراف ولا تبذير، ولا طمع ولا بخل ولا جشع، لنعين الفقراء والمحتاجين، ونساعد اليتامى والمعوزين، فلا نضع المال في الأماكن التي يرتكب فيها ما حرم الله من المعاصي والذنوب.
(1/14)
وفوق هذا كله يريدنا أن نهجر هذه الدنيا الفانية لنزرعها ونستثمرها لأجل الآخرة الباقية، هناك هناك سلعة الغالية، إنها الجنة وما أدراكم ما الجنة!.
لذا كان اختياره رحمه الله تعالى يدل على عبقريته الفذة، وإدراكه الواسع!
فالعاقل الأريب، هو الذي يقف مع نفسه في بداية عامه، محاسبا مؤدبا، مهذبا مصلحا، مواصلا لما حققه من خير وراغبا ...
فاطرح لنفسك أخي القارئ في أيامك الأولى من عامك الجديد هذه الأسئلة، وحاول أن تجيب عليها مع نفسك ...
ماذا عن علاقتك بربك في عامك ...
وهل صفحاتك التي قطفتها من عامك المنصرم تقربك إلى رضاء ربك؟
وهل ثمة تقصير في حق خالقك تعالجه في عامك الجديد؟
وماذا عن علاقتك بوالديك وأرحامك، وخلانك وجيرانك؟
وما الذي قدّمته لنفسك ووطنك؟
وهل ساهمت في خدمة دينك وتقدم أمتك؟
وماذا عن قرآنك ومنهج نبيك صلى الله عليه وسلم؟ أتمسكت ونصرت، واتبعت ونصحت ...
وماذا عن أهدافك في الحياة أحققت وأنميت؟
وماذا عن ثقافتك الدينية والدنيوية؟ وعن تربيتك لأولادك؟ ماديا وخلقيا؟
خواطر وأسئلة لا بدّ أن تجيب عليها قبل أن تبدأ عاما جديدا
فإن أحسنت فلتواصل
وإن قصرت فلتصلح
وإن أسأت فلتحسن
فالعمر قصير، والزمن في طيه سريع، ولقاء الله قريب قريب، فالعبرة بالخواتيم ...
فلا تضيّع عامك الجديد إلا وقد حاسبت نفسك أولا، وأعددت جدولك لغدك القريب ...
ولاستثمار الوقت في العام الجديد لا بد من أمرين:
أولا: وضع الخطة للعام الجديد، هذه الخطة تحوي الأهداف التي تريد تحقيقها، والآمال التي تريد أن تهفوا إليها، وحبذا أن تكون مكتوبة ومجدولة.
ثانيا: المحاسبة مع التنظيم والتقيد بالجدول، فلا بد أن تحاسب نفسك يوما بيوم، وعلى الأقل أن تجعل كل جمعة من كل أسبوع وقفة محاسبة.
(1/15)
وبهذين العنصرين –بعون الله – ستكسب قيمة الزمن، وستجد نفسك قد حققت الكثير في زمن بسيط، وساهمت في رقي وتقدم مجتمعك وأمتك، برقي نفسك وأسرتك، واستطعت التفريق بين الأولويات والثانويات من حياتك، لما من الثانويات من ضرر أن أعطيت أهمية أكبر من الأولويات والأساسيات.
جعل الله عامك سعيدا، ويومك مجيدا، وأنار لك دروب الخير والهداية، ومن عليك بالثبات على الصلاح والاستقامة ....
الوصايا العشر في التوراة والقرآن
لقد جاءت رسالات الله تعالى بشريعة واحدة، مصدرها رباني، وغايتها حفظ المجتمع البشري من مزالق الانحراف عن الجادة، لذا تشير التوراة أو العهد القديم الموجود بين أيدينا اليوم المضمن بالكتاب المقدس أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى بعد خروجه من مصر بعشر وصايا، ويتفق الباحثون أنّ هذه الوصايا هي نفسها التي يعتقدها اليهود حتى اليوم، ويعلموها صبيانهم ونسائهم، وهذه الوصايا هي الوصايا الموجودة في سفري الخروج والتثنية، ولعل الوصايا نزلت على موسى أثناء اختلائه بربه في جبل الطور قبل مرحلة التيه، وبعد النزول من مصر متوجها إلى الأرض المقدسة فلسطين، والتي هي جزء من أرض كنعان، ولكن صدوره في سفر التثنية ربما يؤكد أنّ فترة وحي هذه الوصايا كان في مرحلة التيه لا قبل ذلك، وقبل الدخول إلى الأرض المقدسة والله أعلم.
كذلك بالنسبة للقرآن جاء بالوصايا العشر في سورة الأنعام، آية 151 إلى 153، وهناك خلافات بسيطة بين وصايا الكتابين تجمعهما روابط واحدة.
(1/16)
أما بالنسبة إلى إنجيل عيسى، والذي يسمى اليوم بالعهد الجديد لا نرى فيه هذه الوصايا بالترتيب الموجود في العهد القديم والقرآن، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ عيسى لم يأت بشريعة جديدة؛ بل جاء مصححا لشريعة موسى، وكتابه كان مصدقا لما جاء به موسى، وكان عاملا به، فالإنجيل لم ينسخ التوراة كليا، وإنما صحح الأخطاء الواردة والتي أضافها الأحبار إلى التوراة، مما اعتقد بعد ذلك أنها من قبل موسى عليه السلام، وهذا لا يعني عدم وجود الوصايا العشر في العهد الجديد أو الإنجيل؛ بل هي موجودة ولكنها متناثرة بين حناياه، وذلك إذا فقهنا الروابط الكلية للوصايا العشر كما سيأتي بيانه بعون الله تعالى، يقول المسيح عيسى: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ" إنجيل متى، الإصحاح الخامس (17 - 20).
ثم إننا نذكر بداية الوصايا العشر الموجودة في القرآن ثم نتطرق إلى بيان الوصايا العشر الموجودة في سفر الخروج، لندرك الروابط الجامعة بينهما.
(1/17)
يقول الله تعالى في سورة الأنعام آية (151 - 153): قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ندرك من خلال هذه الآيات الوصايا العشر وهي:
الوصية الأولى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا = عدم الشرك بالله (جانب تصوري عقدي، وهو أساس العمل).
الوصية الثانية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا = طاعة الوالدين والإحسان إليهم (جانب خلقي سلوكي).
الوصية الثالثة: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ = عدم قتل الولد خشية الفقر والفاقة، لأنّ الرازق هو الله تعالى وحده (جانب عملي سلوكي من نتائج الجانب التصوري العقدي).
الوصية الرابعة: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ = الابتعاد عن الفواحش الباطنية والظاهرة (جانب عملي خلقي).
(1/18)
الوصية الخامسة: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ = حرمة النفس البشرية، ولا يجوز هدر دمها إلا بحقه الذي أباحه الله تعالى وحده (جانب عملي مبني على أساس خلقي قيمي).
الوصية السادسة: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ = حفظ مال اليتيم من الضياع، وعدم جواز القرب منه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ سنّ الرشد (جانب عملي سلوكي).
الوصية السابعة: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وجوب الوفاء بالكيل والميزان مع التحري وقدر الاستطاعة (جانب سلوكي عملي، ويدخل جملة في دائرة الأخلاق).
الوصية الثامنة: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى = العدل في القول والحكم، ولو كان الحق خلاف القرابة والصداقة، فالحق أحق من أي اعتبارات أخرى (جانب عملي خلقي من نتائج الجانب التصوري).
الوصية التاسعة: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا = الوفاء بشرائع الله تعالى وتعاليمه، وعدم الإيمان ببعضها والكفر بالآخر، فالدين كلّ لا يتجزأ (جانب تصوري عملي).
الوصية العاشرة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ = الدين واحد لا يتجزأ، وما خالف الدين ضلال وباطل، وصراط الله دينه الحق (جانب عملي تصوري).
(1/19)
أما الوصايا الموجودة في العهد القديم أو التوراة والتي ذكرت في سفر الخروج، الإصحاح العشرون (1 - 17): ثُمَّ تَكَلَّمَ اللهُ بِجَمِيعِ هذِهِ الْكَلِمَاتِ قَائِلاً: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ. لأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ. لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ.
(1/20)
لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ».
والآن نفصل الوصايا مبينين الدائرة التي تدور حولها، ومدى ارتباطها بوصايا القرآن الكريم:
الوصية الأولى: لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي = أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا {عدم الشرك بالله تعالى (جانب تصوري عقدي، وهو أساس العمل)}.
الوصية الثانية: لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ = أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا {عدم الشرك بالله بأي نوع من الأشكال (جانب تصوري عقدي، وهو أساس العمل)}.
الوصية الثالثة: لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً = وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا {الوفاء بشرائع الله تعالى وتعاليمه، وعدم الإيمان ببعضها والكفر بالآخر، فالدين كلّ لا يتجزأ (جانب تصوري عملي)}.
الوصية الرابعة: اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ = وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ {منّ الله تعالى على الإنسان يوما يرتاح فيه، حيث يتفرغ فيه لذكر الله تعالى (جانب عملي تصوري)}.
الوصية الخامسة: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ = وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {طاعة الوالدين والإحسان إليهم (جانب خلقي سلوكي)}.
(1/21)
الوصية السادسة: لاَ تَقْتُلْ = وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ {حرمة النفس البشرية، ولا يجوز هدر دمها إلا بحقه الذي أباحه الله تعالى وحده (جانب عملي مبني على أساس خلقي قيمي)}.
الوصية السابعة: لاَ تَزْنِ = وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ {الابتعاد عن الفواحش الباطنية والظاهرة ومنها فاحشة الزنا (جانب عملي خلقي)}.
الوصية الثامنة: لاَ تَسْرِقْ = وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ {تحريم أكل أموال الناس بالباطل، ومنها السرقة، وأكل مال اليتيم، فيجب حفظ ماله من الضياع، وعدم جواز القرب منه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ سنّ الرشد (جانب عملي سلوكي).
الوصية التاسعة: لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ = وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى {العدل في القول والحكم، وتحريم شهادة الزور، ولو كان الحق خلاف القرابة والصداقة، فالحق أحق من أي اعتبارات أخرى (جانب عملي خلقي من نتائج الجانب التصوري)}.
الوصية العاشرة: لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ = وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، {وجوب حفظ أموال وأعراض الآخرين، وخاصة القريب، ومنه الوفاء بالكيل والميزان مع التحري وقدر الاستطاعة (جانب سلوكي عملي، ويدخل جملة في دائرة الأخلاق)}.
(1/22)
من خلال ما سبق ندرك أنّ الله تعال أوحى إلى أنبيائه هذه الوصايا العظيمة لتنظيم حياتهم، ومنها ندرك التقارب بين كتب الله تعالى؛ لأنها جميعا من مشكاة واحدة، وإن حدث التحريف في العهدين القديم والجديد؛ إلا أنّ النور لا زال يفوح منهم مع كثافة ظلمة التحريف.
الأم في الشرائع السماوية
من رحمة الله تعالى في هذا الكون البهيج أن جعل من مخلوقاته العظيمة المرأة المباركة، فأفضى عليها عنصرين عظيمين من عناصر الكون الأعظم، العنصر الأول عنصر الجمال، فجمالها لوحة مصغرة لجمال الكون الواسع، وكلاهما دليل على إتقان صنع الله تعالى وحكمته.
والعنصر الثاني الرحمة والسكينة والاطمئنان، وهذا تبثه المرأة من بين حناياها، فتفيضه إلى شقيقها الرجل، كما أنّ الكون يفيض رحمة وسكينة واطمئنانا على ساكنيه حيا أم جمادا؛ فكذلك المرأة، بما أودع الله تعالى فيها من عظيم الرحمة، وكبير العاطفة الجياشة.
لذا اعتبر الله تعالى المرأة جوهرة من جواهر الكون البهيج، فكما لا بد أن يحفظ الإنسان مكونات الكون وإلا تعرض للهلاك والفساد، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ؛ فكذلك أوجب الحفاظ على الجنس الأنثوي، واعتبرها جزء لا يتجزأ من الذكر نفسه، قال تعالى: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فالذكر والأنثى خُلقا من نفس واحدة، فهما لباسا وجسدا واحدا في أصل الخلق.
(1/23)
وإذا كانت المرأة تتميز بالحنان والرأفة الشديدة تجاه شقيقها الرجل؛ فإنّ الأم هي مصدر هذا الحنان؛ بل هي مصنعه الأول والأخير، فأي حنان أعظم من حنان أمٍ تحملت ما في بطنها أشهرا تسعا، وهي تتألم وتعاني من آثار ذلك الحمل، تحملته وهي كارهة، ولكن الحنان غلب عليها، فصبرت وسكنت، فإذا ما ظهر على الحياة كانت له نعم الرؤوف الحنون، فإن بكى أرضته، وإن اشتكى داوته، وإن اتسخ نظّفته، وإن جاع أطعمته، وإن تعرى سترته، فظلت له وفية كريمة، حتى إذا اشتد عوده، وعظم بناينه، ومع ذلك لم ينقص من ح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *