الأعمال الكاملة لبدر العبري ج 5 - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الأعمال الكاملة لبدر العبري ج 5

 





الكتاب: الأصول التاريخية للفرقة الإباضية
المؤلف: عوض محمد خليفات. الجامعة الأردنية. عمان - الأردن
الناشر: وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان
الطبعة: الثانية
التاريخ: [د. ت.]
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الصفحات موافق للمطبوع]
وزارة التراث القومي والثقافة
سلطنة عمان
الأصول التاريخية للفرقة الإباضية
[ترقيم الصفحات موافق للمطبوع]
تأليف
الدكتور عوض محمد خليفات
الجامعة الأردنية
عمان – الأردن
الطبعة الثانية
[د. ت.]
(1/1)
[صفحة بيضاء]
(1/2)
الأصول التاريخية للفرقة الإباضية
تأليف
الدكتور عوض محمد خليفات
الجامعة الأردنية
عمان – الأردن
كانت مشكلة الخلافة أول مسألة اشتد فيها الخلاف بين المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة أنه لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يتم بموجبه اختيار رئيس الدولة، كما أن الرسول عليه السلام لم يعين الشخص الذي سيتولى زعامة المسلمين بعده، وهكذا فقد وضعت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية أمام مشكلة خطيرة ألا وهي مشكلة خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيادة الأمة والإشراف على شؤونها من الناحيتين الدينية والدنيوية، أما الناحية الدينية فقد اكتملت قواعدها ورسخت جذورها، وقد أكد ذلك قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا ".إلا أن هذا الدين لا بد له ممن يحميه ويعمل على انتشاره في مناطق جديدة لم تصل إليها الدعوة من قبل، وخاصة أن الدين الإسلامي دين عالمي ليس مقصورا على العرب وحدهم ولا محدودا بالجزيرة العربية. ومن الناحية الدنيوية لا بد للأمة من قائد وزعيم يحافظ على المكتسبات التي أحرزتها الأمة في ظل الإسلام. وبعد مناقشات – وأحيانا مجادلات
(1/3)
عنيفة – وقى الله الأمة من شر الفرقة والنزاع واجتمعت كلمتهم على انتخاب أبي بكر الصديق أول خليفة للمسلمين. وقبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى عهد – بعد استشارة كبار الصحابة الموجودين في المدينة – إلى عمر بن الخطاب. وبينما كان عمر بن الخطاب يصارع الموت، بعد أن تلقى طعنات خنجر أبي لؤلؤة الفارسي المسمومة، فكر في أمر الأمة من بعده واستقر رأيه على أن يجعل أمر الخلافة شورى، وقد حددها في ستة من الصحابة هم علي بن أبي طالب، عثمان بن عفان، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. وقد بين عمر أسباب اختياره لهؤلاء النفرمن الصحابة حينما قال مخاطبا إياهم ((إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض ... إني لا أخاف اختلاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخاف اختلافكم فيختلف الناس)). وبعد مناقشات واستشارات دامت ثلاثة أيام بويع عثمان بالخلافة في ذي الحجة من عام 23هـ. وفي عهده واجهت الأمة الإسلامية أخطر محنة مرت بها بعد حروب الردة، وهو ما عرف في التاريخ باسم الفتنة.
كانت الفتنة في عهد الخليفة عثمان حدثا خطيرا ساعد في ازدياد شقة الخلاف بين المسلمين حول منصب
(1/4)
الخلافة. وقد أدت التطورات التي حدثت فيما بعد، وخاصة النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، إلى بروز فرقة المحكمة أو الخوارج كما سماها أعداؤها والحرورية أو الشراة كما سمو أنفسهم.
انشقت هذه الجماعة على علي بن أبي طالب عندما أصر على إنفاذ التحكيم، ونادت بانتخاب خليفة للمسلمين عن طريق الشورى دون اعتبار للنسب القبلي أو الأصل العرقي. وكان المحكمة أول من تحدى سلطة قريش عمليا عندما انتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي إماما لهم ونادوا بقية المسلمين للانضمام إليهم. وبعد معركة النهروان، اعتزل أفراد منهم أصحابهم وتوجهوا صوب البصرة حيث أخذوا يدعون لمذهبهم سرا خوفا من بطش الولاة الأمويين. وقد تزعم هذا الفريق أبو بلال مرداس بن حدير بن أدية التميمي، وكونت هذه الجماعة البذور التي أنتجت الفرقة الإباضية أو أهل الدعوة كما كانوا يسمون أنفسهم.
شهد أبو بلال، زعيم هذه الجماعة المعلن، معركة صفين مع علي بن أبي طالب، واشترك في معركة النهروان مع المحكمة ضد علي بن أبي طالب. ويبدو أنه لم يكن مرتاحا لما حدث من خلاف وفتنة بين
(1/5)
المسلمين، وصعق لما حل بأقاربه وأقرانه من قتل وتشريد على يد إخوانهم في الدين، ورأى أن القتال بين أتباع العقيدة الإسلامية السمحة بهذا الطريقة الشرسة أمر لا يصح، فانسحب مع نفر من أصحابه، وأقام مع أبناء عمومته من قبيلة تميم، الذين كانوا يشكلون جزء هاما من سكان البصرة آنذاك. وكان يتزعم هذه القبيلة الأحنف بن قيس التميمي (ت 87هـ / 686م) وينتمي إليها عدد وافر من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية.
وفي ظل الحماية والترحاب اللذين لقيهما أبو بلال وأصحابه من الأحنف وقبيلته، أخذ مرداس ينشر آراءه وأفكاره مؤثرا طريق الإقناع والمناقشة على الحرب والعنف. وأنكر قتل المخالفين واستعراض الناس على طريقة مترفي الخوارج. ودعا أتباعه بأن لا يجردوا سلاحا ولا يقاتلوا أحدا إلا إذا تعرضوا للعدوان وأجبروا على القتال. وبلغ من حسن سيرته أن عددا من الفرق و الجماعات الإسلامية فيما بعد، كالشيعة والمعتزلة، ادعت نسبته إليها واعتبرته واحدا من أبرز أتباعها. وقد نشط مرداس في البصرة لنشر دعوته وأفكاره. وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه فانضم إليه عدد كبير من الناس وأخذ عدد أنصاره يزداد ويتعاظم حتى أنهم ابتنوا لهم مسجدا خاصا في البصرة. ويبدوا أن دعوته
(1/6)
لا قت استجابة كبيرة جعلت عبيد الله بن زياد، والي العراق، يقول)) لكلام هؤلاء (مرداس وأتباعه) أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع)). وانضم إلى هذه المجموعة الفقيه المرعوف جابر بن زيد الأزدي الذي لم يلبث أن أصبح رئيس الجماعة والمؤسس الحقيقي للحركة وانضوى الجميع تحت إمرته بما فيهم أبو بلال نفسه ولكن جماعته آثروا أن لا يبيحوا باسمه ولا يعلنوا علاقته بالحركة حتى لا يبطش به الولاة.
نتيجة لهذا النجاح الذي أحرزه المحكمة القعدة اتبع والي العراق، عبيد الله بن زياد، سياسة قاسية تجاههم مما اضطرهم للجوء إلى السرية في نشر دعوتهم. وكانوا يقصدون اجتماعهم سرا للدعوة لمذهبهم والنظر فيما يعنيهم ويساعد على تحقيق أهدافهم. ولكن عبيد الله لم يغض الطرف عنهم، وأخضعهم لمراقبة شديدة، وكان يبث العيون والجواسيس لتعقبهم والقبض عليهم وزجهم في السجون. وكانت هذه الإجراءات الشديدة تقض مضاجعهم وتلقي الرعب في قلوبهم، ولذلك فقد كانوا يأتون مجالسهم متنكرين متشبهين بالنساء لدفع الريبة عنهم وهم في طريقهم إلى أماكن اجتماعاتهم، وكانوا أحيانا ينتحلون صفة التجار والباعة المتجولين حتى يصلوا مقصدهم. ولم يكتف ابن زياد بمطاردتهم والتنكيل بهم بل لجا إلى أسلوب آخر يرمي إلى زرع
(1/7)
الخلاف وزعزعة الثقة فيما بينهم، آملا في القضاء عليهم من الداخل نتيجة الانقسام والنزاع، فقد كان يحبس الجماعة منهم ثم يأمرهم بقتل بعضهم بعضا، ومن قتل زميلا له عفا عنه وأخرجه من السجن. وحاول بأساليب مماثلة أن يزرع الفتنة بين العرب والموالي من القعدة وخاصة أن دعوة أبي بلال قد استهوت عددا من الموالي الذين كانوا يقطنون البصرة فتبعوه واعتنقوا مبادئه.
نتيجة للاضطهاد الذي تعرض له القعدة في البصرة آثر أبو بلال الشراء وترك المدينة مرتحلا إلى مكان آخر آملا أن يأمن شر ابن زياد وينشر آراءه ومذهبه بحرية أكثر، وفي مناطق لم تصل إليها دعوته من قبل. فسار معه نحو أرعين رجلا من أتباعه حتى نزلوا آسك، وقد أعلن مرداس بأنه وأصحابه لن يخيفوا أحدا أو يجردوا سيفا ولا يقاتلوا إلا من بدأهم بالعدوان.
وعلى الرغم من ذلك فقد خشي ابن زياد نشاطه وانتشار دعوته فندب إليه الجيوش وأباده وأصحابه في عام 61 هـ.
وبعد استشهاد أبي بلال بثلاثة أعوام (64هـ) حدث انقسام نهائي بين المحكمة فمال فريق منهم إلى التطرف بينما حبذ فريق آخر الاعتدال وانتهى هذا الخلاف إلى انشقاق أبدي برز على أثره جماعة القعدة المعتدلة التي آثرت الهدوء والسير على نهج أبي بلال في
(1/8)
عدم استعراض الناس ومهاجمتهم إلا دفعا لعدوا. وفي بداية الربع الأخير من القرن الأول الهجري انقسم القعدة إلى فرقتين الصفرية والإباضية.
سميت الإباضية بهذا الاسم نسبة إلى عبد الله بن أباض الذي تعتبره المصادر غير الإباضية مؤسس المذهب الإباضي. أما العلماء الإباضيون فينسبون إلى عبد الله بن أباض دورا ثانويا بالمقارنة مع جابر بن زيد الأزدي العماني الذي يعتبرونه إمام أهل الدعوة ومؤسس فقهه ومذهبهم. ويجمع المؤرخون والمفكرون الإباضيون على أن عبد الله بن أباض كان يصدر في كل أقواله وأفعاله عن جابر بن زيد.
ويبدو لي أن جابرا كان الإمام الروحي وفقيه الإباضية ومفتيهم وكان بالفعل هو الشخص الذي بلور الفكر الإباضي بحيث أصبح متميزا عن غيره من المذاهب، بينما كان ابن أباض المسؤول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار ولذلك سمته المصادر رئيس القعدة في البصرة وغيرها من الأمصار. وتاريخ الدعوة الإباضية يشير إلى اشتراك بعض الأشخاص البارزين والمجتهدين في المسؤولية إلى جانب الإمام الأكبر لهم. وقد حدث مثل ذلك زمن أبي عبيدة مسلم بن أبي
(1/9)
كريمة التميمي الذي أناط المهام المالية والعسكرية والإشراف على سير الدعوة خارج البصرة إلى أبي مودود حاجب الطائي. ولما كان أبوعبيدة آنذاك معروفا لدى الناس بأنه شيخ الإباضية وزعيمها في البصرة فإن المصادر لم تخلط بينه وبين حاجب الطائي كما فعلت مع جابر وابن أباض. وذالك لان جابرا كان قد اخفى معتقده واستعمل التقية الدينبة فلم يخطر على بال احد انه زعيم الإباضية ومؤسس مذهبها و خاصة انه لم يكن معروفا لدى البصريين الا بكونه احد التابعين المحدثين الثقات ومن اشهر فقهاء البصرة و علمائها والواقع ان جابرا كان ذا علاقة وثيقة بحركة المحكمة الإباضية منذ وقت مبكر وأصبح أحد مفكريها البارزين منذ بداية النصف الثاني للقرن الأول الهجري وقبل مقتل أبي بلال مرداس عام 61هـ.
وقد اكتسب ثقة أقرانه لعلمه ودينه فكانوا لا يصدرون في شيء إلا بعد مشورته. ولكن ذلك قد خفي على مخالفيهم ولم يعرفوا له هذا الدور. ولذا نسبوا الفرقة إلى ابن أباض. وهو الشخص الذي قدموه ليناظر لدى عامة الناس فغلب اسمه على من اتفق معه في الرأي. كما أن أمر مراسلاته مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد اقنعت كثيرا من معاصريه بأنه هو إمام الإباضية ومؤسسها. ومن حق السامع أن يسأل
(1/10)
لماذا لم يقم الإمام الحقيقي، جابر بن زيد، بالمراسلة مع الخليفة بدلا من ابن أباض؟ والجواب في تصميم أتباع الفرقة بأن تبقى الحركة سرية بقدر الإمكان وأن يبقى اسم مؤسسها ومنظم دعوتها مستورا حتى لا يبطش به الأعداء والولاة. وبذلك يقوم الرقيشي " ... بلغنا أن أبا بلال مرداس حدير وغيره من أئمة المسلمين لم يكونوا يخرجون إلا بأمر إمامهم في دينهم جابر بن زبد العماني رحمه الله، ويحبون ستره عن الحرب، لئلا تموت دعوتهم، وليكون ردءا لهم" ويقول قاسم بن سعيد الشماخي: " كان (ابن أباض) المجاهد علنا، المناضل علنا في سبيل تحقيق الحقائق، وتصحيح قضايا العقول، فيما أحدثه أهل المقالات والبدع من الزور والافتراء في شريعة ربنا، وكان شديدا في الله تعالى، وله مناظرات مع أهل التلطس والتفلسف. كان الحجة الدامغة التي يخنس أمامها كل ثرثار، وله كلام مع عبد الملك بن مروان يهضم نفس كل حائر جبار، تغلب على المسلمين، أصحابه، الذين يقولون بقولة الإباضية، وتسمى المذهب باسمه على هذا المعنى، وإنما كان الإمام القائد، والوسيلة الراشدة، أس المذهب وحاميه، مرجع الفضل في تدوينه وتشييد مبانيه، إنما كان جابر بن زيد رضي الله عنه". أما المؤرخ الإباضي المعاصر محمد علي دبوز، فيرى أن الأمويين هم الذين أطلقوا عليهم
(1/11)
هذا الاسم , نسبة إلى عبد الله ابن أباض لأن الأخير كان علمائهم و شجعانهم و المناظر باسمهم. كما أن الأمويين لا يريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى (لا يجذبوا إليهم الأنظار, ولا يبدون في هالة جابر المشرقة فتميل إليهم النفوس , فنسبوهم إلى عبد الله بن أباض , و هو أقل منزلة من جابر في العلم و إن كان لا يقل عنه في التقوى و الورع و الصلاح). و الدليل على صحة هذه الأقوال التي يوردها مؤرخوا الإباضية , أن أتباع الفرقة لم يطلقوا على أنفسهم هذا الاسم في تلك المرحلة. و كانوا يصفون أنفسهم باسم (المسلمين أو جماعة المسلمين أو أهل الدعوة). و إذا تفحص الباحث المصادر الإباضية , بل غالبا ما يجد لفظ جماعة المسلمين أو أهل الدعوة للتدليل على اتباع الفرقة. و إذا رجعنا إلى هذه المؤلفات التي كتبها مشايخ الإباضية مثل مدونة أبي غانم الخرساني , و كتاب الزكاة لأبي عبيدة و الآثار الأخرى الباقية المنسوبة إلى جابر بن زيد فإننا لا نعثر فيها على كلمة إباضية. و لكن يبدو أنهم مع مرور الزمن و إصرار مخالفيهم على تسميتهم بهذا الاسم قد قبلوا به و خاصة أنهم لم يجدوا فيه ما يؤذيهم أو يسيء إلى سمعتهم. و قد ظهر لأول مرة في المؤلفات الإباضية المغربية في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري
(1/12)
و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: لماذا قدم الإباضية ابن أباض ليجادل باسمهم علنا و يناظر مناوئيهم و يكشف عن بعض مبادئهم في الوقت الذي كانت فيه الحركة تمر فيها عرف بطور الكتمان أو السرية التامة؟ يبدو أن الإباضية في تلك المرحلة رأوا أنه لابد لهم من الافصاح عن بعض آرائهم و معتقداتهم و خاصة ما يتعلق منها بوجهة نظرهم نحو متطرفي الخوارج حتى لا يتعرضوا للسخط من بقية المسلمين الذين اعتبروا الخوارج المتطرفين , مثل الأزارقة , مارقين تجب محاربتهم و القضاء عليهم. و لذا كان لابد للعقدة الإباضية ممن يفصح عن رأيهم حتى لا توجه اليهم تلك الاتهامات التي وسم بها متطرفوا الخوارج. و كان ابن أباض هو المؤهل للقيام بهذه المهمة الدعائية لأنه , ب الإضافة إلى قدرته في المناظرة و المجادلة , ينتمي إلى قبيلة تميم , إحدى أهم قبائل البصرة آنذاك و من الصعب على الولاة أن يتعرضوا له بأذى خوفا من إغضاب قبيلته. و من هنا وصف خلفاء بن أمية بالظلم و الفساد و مخالفة المبادئ الإسلامية في مراسلاته مع عبد الملك بن مروان. و لم يخاطب عبد الملك نفسه بلقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين بل خاطبه باسمه مجردا من أي لقب. و رغم ذلك فإن عبد الملك لم يتخذ بحقه أية إجراءات. و لا تخبرنا المصادر عن توتر بين الطرفين و هذا دليل على أن
(1/13)
ابن أباض الذي ينتمي إلى قبيلة تميم كأن آنذاك يتمتع بحماية قبيلة مما جعل اضطهاده أمراً صعباً و خاصة أنه لم يحمل السيف و لم يجرد السلح ضد الحكام الأمويين. أما عن نشاط ابن أباض بعد مراسلاته مع عبد الملك بن مروان فلا تذكر المصادر معلومات موثوقة يمكن الاطمئنان إليها. و يبدو أنه لاقى حتفه بعد ذلك في وقت لا تحدده المصادر المتوافرة و إن كان من المؤكد أنه توفي قبل عام 100هـ. بعد اختفاء ابن أباض أقلع الإباضية عن المناقشة العلنية و الجدل الكلامي مع مناوئيهم و مخالفيهم و لجأوا إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم و كان لجابر دور تنظيمي كبيرة هذه المرحلة التي تعرف في التاريخ الإباضي بطور الكتمان. فمن هو جابر بن زيد؟ و ماهو دوره الحقيقي في نشأة الدعوة الإباضية؟ هو أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدى الجوفي البصري من قبيلة اليحمد الأزدية في عمان. و قد عرف بالجوفي نسبة إلى درب الجوف في البصرة حيث استقر مع أسرته فيما بعد. ولد جابر في بلدة فرق بالقرب من مدينة نزوى في عمان. أما السنة التي ولد فيها فلا تعرف على وجه التحديد , و تعطي المصادر تواريخ مختلفة إلا أنها كلها
(1/14)
محصورة بين عامي 18 و 22هـ و لا تذكر المصادر المتوافرة أيضا تاريخا لقدومه إلى البصرة. و يبدو أنه جاء في وقت مبكر من حياته طلباً للعلم حيث كانت البصرة آنذاك أهم مركز فكري في العالم الإسلامي. و استقر بين أقاربه من الأزد الذي سكنوا أحد أحياء البصرة. و في البصرة أخذ حابر يتزود بالعلم و المعرفة له و خاصة ما يتعلق بعلوم القرآن و الحديث و ما يتصل بهما. و قد تتلمذ جابر على أيدي كثيؤر من الصحابة و التابعين و يروى عن جابر أنه كان يقول: (أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر) أي عبد الله ابن عباس على أن الأخير لم يكن من أهل بدر و في القول دلالة على أن جابراً قد أخد عن مجموعة من الصحابة الذين رافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم و نقلوا عنه علمه و سنته الشريفة و من أهم العلماء الذين أخذ عنهم جابر: عبد الله ابن عباس و عبد الله ابن عمر و عبد الله بن مسعود و أنس بن مالك و غيرهم إلا أنه كان أكثر ملازمة لعبد الله ابن عباس من غيره و كان من أنجب تلاميذه. و كان عبد الله ابن عباس يقول عنه: (لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما في كتاب الله). و في رواية أخرى أنه كان يحيل سائليه إلى تلميذه جابر و يقول: (اسألوا جابر بن زيد , فلو سأله أهل المشرق و المغرب
(1/15)
لوسعهم علمه. و عندما كان يسأله أناس من أهل البصرة كان يبادرهم بقوله: (كيف تسألوني و فيكم جابر بن زيد -أو أبو الشعشاء-. و قد وصفه عبد الله بن عمر بن الخطاب بأنه من فقهاء أهل البصرة البارزين. بينما قال عنه قتادة بن دعامة السدوسي بأنه عالم العرب و أعلم أهل الأرض. لم يكتف جابر بن زيد لعلم من التقى بهم في البصرة بل كان يرتحل إلى أماكن أخرى طلباً لمزيد من العلم و لا يترك فرصة يتزود فيها بالعلم إلا و اغتنمها و كان يتردد على الحجاز و يلتقي بعائشة , أم المؤمنين , رضي الله عنها. و يأخذ عنها العلم. يسألها عن سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم و يناقشها في كثير من المسائل مم يتعلق بحياة الرسول الخاصة آملاً منه في أن يجعل من تلك السيرة قدوة بأمثلة من سيرة النبي العظيم محمد صلى الله عليه و سلم. مما مر يتبين لنا بوضوح أن جابر بن زيد قد اكتسب علماً واسعاً بعد إقامته في البصرة و أنه أصبح من أبرز التابعين الأوائل في علم الحديث و التفسير والعلوم الدينية بشكل عام. و قد أهلته معرفته العميقة لأن أصبح أبرز مفت في البصرة. ومما يدل على طول باعه في ميدان
(1/16)
الفتوى و الاجتهاد أن عمرو بن دينار , و هو أحد العلما اللامعين في البصرة آنذاك و أحد التابعين من رواة الحديث , كان يذكر جابراً بن زيد و يقول: (ما رأيت أحداً أعلم بالفتيا من جابر بن زيد) أما اياس بن معاوية , قاضي البصرة في عهد الخليفىدة عمر بن عبد العزيز , فكان يقول: (أدركت أهل البصرة و مفتيهم جابر بن زيد من أهل عمان). أما الحسن البصري فيثني على جابر و علمه الغزير و يصفه بالفقيه العالم. لم يكتف جابر بالرواية الشفوية عن أساتذته و معاصريه , بل كان يسجل الأحاديث التي سمعها من شيوخه كما سمح لتلاميذه الأحاديث التي رووها عنه. و قد ألف كتابا سماه الديوان ضمنه الأحاديث التي رواها و أودع في صفحاته أراءه و فتاويه في كثير من أمور العقيدة. و يقال أن ديوانه كان من الضخامة بحيث يعجز عن حمله البعير , و يقع في عشرة أجزاء كبيرة. و كانت نسخة منه موجودة في إحدى مكتبات بغداد الكبرى في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. و يذكر المؤلف الإباضي , الوسياني , أن نسخة من الديوان بقيت , بعد موت جابر في حوزة خليفته أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي ثم توارثها أئمة الإباضية في البصرة حتى انتهت إلى محمد بن محبوب بن الرحيل , ولد آخر الأئمة
(1/17)
الإباضية في البصرة. و في عهده استنسخت المخطوطة في مكة. و لكن المؤلف لم يذكر اسم الناسخ و لا الهدف من نسخها. و ربما قام بهذا العمل جماعة من إباضية شمال افريقية و خاصة أن هناك معلومات تشير إلى وجود نسخة من الديوان في الشمال افريقية في وقت مبكر و يروى أن أحد علماء الإباضية من جبل نفوسة في ليبيا و يدعى النفات فرج بن نصر – و هو مؤسس الفرقة النفاثية الإباضية – استطاع أن يحصل على نسخة كاملة من ديوان جابر بن زيد و أوتى به إلى جبل نفوسة و لما كان نفات عدواً للإمام الرستمي في تاهرت و لعامله في جبل نفوسة فقد دمر المخطوطة حتى لا يستطيع مناوئوه الحصول عليها أو حتى استنساخها و يبدو أن جابر بن زيد قد اتبع أسلوبا خاصاً في البصرة مما ساعده على اكتساب المعارف و الاحاطة بالعلوم السائدة في عصره و خاصة العلوم الدينية , فقد عاش حياة زهد و تقشف و انصرف عن لهو الدنيا و ترفها , و كان يقول: (سألت ربي عن ثلاث فأعطانيهن , سألت عن زوجة مؤمنة , وراحلة صالحة و رزقاً كفافاً يوماً بيوم). و كان يخاطب أصحابه و يقول: (ليس منكم رجل أغنى مني , ليس عندي درهم و ليس علي دين). و يذكر ابن يسيرين أن أبا الشعثاء جابر كان مسلما عند الدينار
(1/18)
و الدرهم. أي أنه كان و رعاً تقياً لا يهتم بجمع المادة و اكتنازها. و الواقع أن المصادر السنية و الإباضية تشهب في الحديث عن زهد جابر و انصرافه إلى الدرس والتحصيل حتى أصبح , بعلمه , مرجعاً لكل سائل في أمور الفتيا و الفقه الإسلامي , و كان بعض الناس ممن يسكنون خارج البصرة يكتبون إليه مستفسرين عن مسائل و مشاكل فقهية فيجيبهم عليها. و تبعاً لذلك فقد و صفه معاصروه بأنه .. (بحر العلم و سراج الدين) مما تقدم , يظهر لنا بوضوح أن جابراً قد اكتسب علماً غزيرا بعد هجرته إلى البصرة. و أصبح من الفقهاء البارزين الذين أسدوا خدمات جميلة للعقيدة و الفكر الإسلاميين. و لا شك أنه وظف علمه ومواهبه في خدمة مبادئه التي آمن بها واقتنع بصحتها. و لكي نفهم دوره في نشأة الفرقة الإباضية و تتطورها لابد لنا من التعرف على بدء علاقته بجماعة القعدة ثم جهوده المتواصلة في سبيل انجاح الدعوة الإباضية بعد أصبح رئيسها و زعيمها. لسنا نعرف على وجه التحديد متى بدأت علاقة جابر بن زيد بالقعدة على الرغم من أن المعلومات التي توردها المصادر الإباضية تشير إلى قدم هذه العلاقة و إلى أن جابراً قد انضم إلى الحركة في وقت مبكر.
(1/19)
أما ما يورده بعض مؤرخي الإباضية المحدثين من أن جابر بن زيد كان زعيم الحركة بعد وفاة عبد الله بن وهب الراسبي مباشرة , فيصعب تصديقه , لأن جابراً آنذاك كان لا يزال شاباً صغيراً يتراوح عمره بين السادسة عشرة و العشرين سنة فقط. ومن غير المحتمل أن يكون في هذا السن قد اكتسب العلم اللازم و الخبرة الضرورية ليقدمه أصحابه زعيما و مرشداً لهم. أضف إلى ذلك أننا لا نملك أي دليل على أن جابر بن زيد كان ذا علاقة مباشرة مع عبد الله بن وهب الراسبي. و لا تشير المصادر إلى أي نشاط لجابر بن زيد بالإباضية قد بدأ بعد النهروان و بعد ـــــــ , مرداس ابن ادية التميمي و أصحابه للبصرة في أواخر العقد الثالث من القرن الأول الهجري. و يستنتج من المعلومات الواردة في المصادر الإباضية المتوافرة أن جابر بن زيد قد انضم إلى القعدة إبان ولاية عبيد بن زياد للعراق (56 - 64هـ) , أي في بداية النصف الثاني من القرن. بالاضافة إلى ما سبق فإن الروايات الإباضية تشير إلى علاقات متينة وودية بين جابر بن زيد و أبي بلال مرداس بن أدية التميمي , شيخ القعدة في البصرة بعد معركة النهروان. و كان الرجلان يخرجان إلى مكة سوياً و يلتقيان بابن عباس و عائشة أم المؤمنين. و يذكر أبو
(1/20)
سفيان محبوب بن الرحيل , أن جابر بن زيد و أبا بلال مرداس دخلا مرة على عائشة رضي الله عنها فعاتباها على ما كان منها يوم الجمل. قال: فاستغفرت الله تعالى و تابت مما كانت تزداد و تتوثق بسرعة. و أخذ مرداس يدرك مدى علم جابر و ذكائه فكان يتردد عليه آناء الليل و أطراف النهار ليغرف معرفته الواسعة و علمه الغزير. وذكر مؤلف كتاب بيان الشرع عن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي أنه قال: (لقد كان أبو بلال رحمه الله يبكي في جوف الليل حتى ما يطيق أن يقوم. و لقد كان من تشوقه إلى إخوانه أنه يخرج من عبد أبي الشعثاء جابر بز زيد بعد العثمة , ثم يأتيه قبل الصبح فيصلي معه. مما مر يتبين لنا أن جابر بن زيد كان قد انضم إلى القعدة منذ أيام عبيد الله بن زياد ولكن الباحث لا يستطيع أن يقرر سنة بعينها لتاريخ ذلك الانضمام. و يبدو من الروايات أن نجم جابر أخذ يتألق في السماء تلك الحركة قبل عام 21هـ و هو العام الذي قتل فيه أبو بلال مرداس بن أدية التميمي , حتى أن بعض الروايات تجزم على أن أبا بلال لم يقم بعمله إلا بعد مشورة من جابر ابن زيد و قبول منه. و إذا صحت هذه الروايات فإن
(1/21)
القعدة قد اتفقوا على أن يتولى جابر بن زيد أمرهم و تنظيم دعوتهم منذ المراحل الأولى لتطور الدعوة في الواسع و تحصيله العميق في العلوم الدينية و خاصة ما يتعلق بالتفسير و علم الحديث. ولعل ذلك كان السبب في اعتراف أبي بلال له بالزعامة قبل ووفاته حتى أنه لم يصدر في عمله إلا بأمر جابر و مشورته. وكان لجابر بن زيد دور كبير في تنظيم الحركة و تطورها و قد ارتكزت سياسة إبان زعامته للفرقة الإباضية على قواعد أساسية يمكن اجمالها بما يلي: 1 - أن جابر لم يشأ الانسحاب من المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه مع بقية أتباع حركته. و لذا فإنهم لم يعزلوا أنفسهم عن الناس و لم يدعوا للخروج و الهجرة كما فعل الأزارقة و غيرهم من متطرفي الخوارج. و كان جابر ينشر آراءه و يبث أفكاره بين الناس من خلال أحاديثه الدينية و فتاويه و أجوبته على المستفسرين عن بعض الأمور الدينية من داخل البصرة و خارجها. و كان يتفحص تلاميذه فمن وجد فيه استعداً قوياً لآرائه و حماساً لمبادئه دعاه إلى ذهبه. و لكن ذلك يحدث بسرية تامة مستعملاً في سبيل الوصول إلى هدفه التقية الدينية. و إمعاناً في كتمان أمر دعوته فقد كان يأمر
(1/22)
أتباعه بقتل كل من يكشف أسرار الجماعة أو يبوح بأسمائهم فإن حدث أن ترك أحد أتباع الفرقة مذهبه و تخلى عن مبادئه دون أن يطعن في أصحابه القدامى أو يفشي أسرارهم فكان الإباضية يتبرأون منه و لكن دون أن يتعرضوا له بأذى معتبرينه واحداً من المخالفين الموحدين الذين لا تحل دماؤهم إلا إذا بدأوهم بالعدوان. و لكن إذا خرج من مذهب المسلمين (الإباضيين) أحد وعاب عليهم و طعن في معتقدهم و أفشى أسرارهم فقد وجب قتله و أحل دمه. و قد اعتبرت سياسة جابر في هذا الشأن قدوة لمن جاء من الأئمة , واعتبروا الاغتيال لمن يسيء إليهم أحد دعامات نشاطهم ((و أحلوا الدماء بالظلم و الابتداء به)). 2 - تجنب جابر أي احتكاك معاد مع السلطة. ولم يؤثر عنه أنه تعرض لأذى قبل تولي الحجاج للسلطة في العراق على الرغم من أن بعض أصحابه قد لقي عنتاً كبيراً على يد الولاة منذ أيام ابن زياد. و تشير المصادر الإباضية إلى أن العلاقة بين جابر بن زيد و الحجاج كانت في البداية ودية. و كان جابر يزور الحجاج و يتردد عليه حتى بعد أن
(1/23)
نقل الحجاج مقره إلى مدينة واسط. و كان ليزيد بن أبي مسلم , كاتب الحجاج , دور ملموس في العلاقة لأنه كان صديقاً حميماً لجابر. و قد أراد الحجاج أن يوليه القضاء فرفض متذرعاً بعدم مقدرته على حمل أعباء هذا المنصب و قال: ((اني أضعف من ذلك , قال (الحجاج) و ما بلغ ضعفك؟ قال: يقع بين المرأة و خادمها شرفهما أحسن أن أصلح بينهما. قال: ان هذا لهو الضعف)). و في هذه الرواية دلالة على أن جابراً كان يريد اخفاء مقدرته و ابداء ضعفة للوالي حتى يبعد الشبهات عنه , و حتى لا يخطر ببال الوالي أن رجلاً بلغ هذه الدرجة من الضعف يمكنه أن يقوم بتأسيس حركة سرية مناوئة للحكم. 3 - لما كان جابر بن زيد ينتمي إلى قبيلة الأزد , فقد وجه قسماً كبيراً من جهوده نحو إقناع بعض أفراد هذه القبيلة للإنضمام إلى حركته. و قد نجح إلى حد بعيد في هذا الشأن و تبعه عدد كبير من الأزد و على رأسهم بعض أفراد الأسرة المهلبية_زعيمة أزد العراق_و أصبح بعضهم من دعاة الفرقة و حماتها البارزين. ولم يقتصر ذلك على الرجال بل
(1/24)
تعداه أيضاً إلى النساء. و تورد المصادر الإباضية عدداً من النساء المهلبيات اللاتي انضممن إلى جماعة المسلمين (الإباضية) و بذلن جهوداً في سبيل نصرتها واعطين بسخاء أموالهن لبيت مال الدعوة و لمساعدة المحتاجين من أتباعها. ليس هذا فحسب بل أن المصادر تشير إلى أعداد كبيرة من عمان , موطن الأزد الأصلي , و حضرموت و اليمن انضمت في معظم أفرادها على العنصر القبلي التميمي كما حدث بعد معركة النهروان. و لا عجب أن نجد أول إمامه أسسها الإباضية كانت في حضرموت و اليمن و عمان. و نتيجة للجهود التي بذلها جابر بيت أقاربه من الأزد بوجه خاص و عرب الجنوب عامة فقد أصبحت الحركة تضم عناصر من قبائل عربية مختلفة كما انضم إليها كثير من الموالي. و لم يمت جابر بن زيد إلا و قد غدت الدعوة الإباضية عبارة عن حركة اسلامية شاملة اجتذبت عناصر مختلفة من قبائل و أجناس متعددة. و أخذت القناعات المذهبية لدى كثير من أتباع الدعوة تحل محل الولاءات القبلية و العرقية. ولم تقتصر دعوة جابر على من كان موجوداً في البصرة بل تعدتها إلى الأمصار الإسلامية
(1/25)
بالأخرى حيث كان يبعث بالدعاة لمختلف المناطق و كان عمله هذا إرهاصاً لما تم في عهد خلفه أبي عبيدة من تدريب للدعاة الذين عرفوا باسم حملة العلم إلى الأمصار. و كان جابر على صلة وثيقة مع أتباع دعوته في الولايات المختلفة و من بينهم أناس من الأزد و المهالبة. وتشير المصادر إلى مراسلات متبادلة بينه و بين عبد الملك بن المهلب في خرسان. و كان جابر يطلب منه أن له يكتب في أمر الدعوة و يسأله أن يرسل خطاباته في سرية تامة مع أشخاص موثوقين. و الواقع أن جابر كان يكرر الطلب في وجوب السرية في جميع مراسلاته مع أعوانه و أتباعه , و يطلب أحيانا تمزيق رسائله إليهم و حرقها حتى لا تصل إلى أيدي أعدائهم فتؤدي بالتالي إلى كشف تنظيمهم و إجهاض حركتهم و قد استطاع جابر بهذه السياسة أن يتجنب تنكيل الولاة به و باصحابه لفترة طويلة و استطاع أيضا أن يكسب عدداً من الأتباع ممن تولوا فيما بعد مركز المسؤولية (بالطبع دون علم السلطات بمعتقدهم و كانوا يستعينون بآراء إمامهم جابر في تسيير الادارة و الاعمال في المناطق الخاضعة لنفوذهم و من بين هؤلاء الأشخاص النعمان بن مسلمة الذي أرسل إلى جابر يسأل عن كيفية جمع الجزية في منطقته و لا تذكر المصادر المتوافرة أين كان النعمان واليا (أو عاملا) و لكن ورود كلمة دهقان في الرسائل المتبادلة بينه و بين
(1/26)
بالامام جابر تدل على انه كان واليا في المناطق الشرقية و ربما في خرسان. و من الشخصيات الأخرى التي كانت على صلة وثيقة بجابر بن زيد , وقد عين عاملاً في إحدى مناطق عمان فأرسل إلى جابر يستشيره في ذلك و يطلب نصائحه و إرشاداته. و تبعاً لذلك فقد وجد كثيرون خارج البصرة كانوا على علاقات حميمة مع جابر يدينون بمذهبه و يصدرون عن أمره , و كانوا عيوناً له و ممثلين في المناطق التي يسكنونها. و نظراً للدقة في التنظيم و الحذر الشديد فلم يستطيع الولاة القبض على هؤلاء الدعاة و الأشخاص. و كان وجود بعضهم في مركز المسؤولية دليلا واضحا على عدم معرفة الولاة بمعتقداتهم , و كان أيضاً دليلا على أن جابراً لم يمانع في أن يستلم بعض أتباعه عددا من المراكز والمهام الرسمية في جهاز الدولة – التي يعمل ضدها في النهاية – حيث كان يرى أن هؤلاء يسهمون في توفير مناخ مناسب لنشر دعوته في تلك الأمصار و الولايات و يشكلون دعامة لها. و يبدو أن هذه العلاقات الواسعة و الاتصالات الدائمة مع اتباع الحركة في البصرة و خارجها قد وصلت إلى أسماع الحجاج , فأخذ يرتاب من جابر بن زيد و جعله تحت مراقبة دائمة و لكن علاقات
(1/27)
جابر مع كاتب الحجاج , و عدم وجود قناعة واضحة لدى الحجاج بمشاط جابر أدى الى عدم اتحاذ إجراءات شديدة ضد الامام جابر في البداية. و لكن التطورات السياسية التي حدثت في بلاد المشرق في العقد الثامن من القرن الاول الهجري قد أدت الى تغيير جذري في موقف الحجاج من جابر بن زيد و أتباعه , فقد ثار أزد عمان بزعامة سعيد و سليمان أولاد عباد بن الجلندي , و أرسل الحجاج حملات عدة لقمع الثورة وباءت جميعها بالفشل. و في تلك الأثناء قامت ثورة ابن الأشعث عام 71هـ/700م فأجل الحجاج معالجة الموقف في عمان ليتفرغ لقتال ابن أشعث. و بعد القضاء على ثورة بن الأشعث وجه الحجاج جيشا كبيرا إلى عمان بقيادة القاسم المزني و لكن الازد بقيادة الأخوين , سعيد و سليمان , تمكنوا من دحر هذه الحملة إلى الحجاج غضب كثيرا , و قرر الانتقام من الأزد ليس في عمان فحسب بل في العراق أيضا. فوضع زعماء الأزد في العراق ومن بينهم جابر بن زيد ,تحت مراقبة شديدة , و حذّرهم من أي اتصال مع اخوانهم في عمان , و كتب إلى عبد الملك بن مروان في الشام يخبره بتضييقه على أزد العراق و أنه أقعد وجوه الأزد الذين كانوا في البصرة عن النصرة لسليمان بن عباد. ثم بعث جيشاً بقيادة مجاعة المزني , أحي القاسم
(1/28)
على رأس أربعين ألفاً من النزاريين لاخماد ثورة الأزد و قد سلك نصف هذا الجيش طريق البحر بينما سلك النصف الآخر طريق البر. و قد تمكن سليمان بن الجلنذى من هزيمة الجيش البرى الذي يبدو أنه وصل مبكراً و لم ينتظر وصول القوة البحرية لتشترك الفرقتان في مهاجمة الثوار في آن واحد و طبقا لخطة عسكرية واحدة و أثناء ذلك وصل الجيش البحري و على رأسه مجاعه نفسه , و تمكن من هزيمة سعيد بن الجلندى الذي بقي في جزء صغير من الأزد يرافق أخاه سليمان الذي هزم الجيش البري الذي أرسله الحجاج. اضطر سعيد بن الجلنذى للانسحاب إلى الداخل و الالتجاء إلى الجبال , و لما علم أخوه سليمان سار اليه محاولا فك الحصار عنه و محاربة مجاعة و من معه من الجند. وقبل أن يشتبك مع مجاعة أحرق السفن التي جاءت بهم من العراق ثم سار إلى مجاعة و تمكن من هزيمته وارتد مجاعة هارباً والتجأ إلى جلفار , وكتب إلى الحجاج يستمده فأرسل له خمسة آلاف جندي من أهل الشام بقيادة عبد الرحمان بن سليمان. و تمكن مجاعة بمساعدة القوة الشامية نت هزيمة الأخوين سعيد و سليمان و من معهما من الأزد. و دخل مجاعة و نكّل بالأزد و أوقع فيهم الذل و الهوان , مما كان له أبعد الأثر في موقف أزد العراق , حلفاء الإباضية الذين
(1/29)
يتزعمهم جابر الأزدي, تجاه الحجاج و السلطة الأموية. فغضبوا لما حل بابناء قبيلتهم في عمان و اعتبروا الحجاج مسؤولا عما حدث فسخطوا عليه و تمنوا زوال حكمه. و في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه الحوادث التي أدت إلى توتر العلاقات بين الزد و الحجاج قام الأخير باشعال النار في الهشيم فتنكر لآل المهلب , زعماء أزد العراق و خرسان , و طلق الحجاج زوجته التي كانت اختاً ليزيد بن المهلب والي خرسان آنذاك. و أخذ يكيد له و يحرض عبد الملك بن مروان ضده , و نجح في اقناعه بعزل يزيد من ولاية خرسان و بالسماح اه في معاقبته و تعذيبه. فزجّ الحجاج بيزيد و بعض أفراد أسرته في السجن و أساء إليهم ما زاد في إغضاب أزد العراق و البصرة. و كان لموقف الحجاج هذا أثره على الدعوة الإباضية التي يتزعمها الامام جابر بن زيدالأزدي البصري. فقد استغلّ جابر فرصة الكراهية بين أهل الدعوة. و بالفعل تبعه قسم كبير منهم و على رأسهم أفراد من آل المهلب , رجالا و نساءً , منهم عاتكة بنت المهلب أخت يزيد , التي كانت من أشد الناس حماساً للمذهب و لم تبخل بمالها لمساعدة المحتاجين من أهل دعوتها. و كان لهذه التطورات أثرها الكبير في موقف الحجاج من جابر و أتباعه. و قد حبس جابراً مع بعض
(1/30)
أصحابه البارزين مثل ضمام بن السائب و أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي و صحار العيدى و غيرهم. و لم يلبث الحجاج أن أطلق سراح جابر و نفاه مع رجل من مشايخ الدعوة يدعى هبيرة و هو جد أبي سفيان محبوب بن الرحيل المؤرخ الإباضي و آخر الأئمة الإباضيين في البصرة. و من المحتمل أن الافراج عن جابر كان بشفاعة من صديقه الحميم , يزيد ابن أبي مسلم. كاتب الحجاج و لا شك أن نفي جابر إلى عمان كان ذا نتيجتين: الأولى أنه حرم أتباع الحركة في البرصرة من امامهم و زعيمهم فخلدوا إلى الدعوة و الهدوء. بينما بقي زعماؤهم و مشايخهم في سجن الحجاج ختى مات الأخير علم 90هـ. و الثانية أن الفرصة كانت مؤاتية لأن يقوم جابر بالدعوة إلى مذهبه في موطنه الأصلي , عمان , أي بين أهله و عشيرته الأقربين الذين يعرف عاداتهم و تقاليدهم و كيفية التعامل معهم , مستغلا في ذلك كرههم للحجاج و حقدهم عليه لما حل بهم خلال ثورة أولاد الجلنذي التي أخمدها الحجاج. و لا يراودنا شك في أن وجود جابر مع بعض رفاقه في عمان قد أفاد الدعوة الإباضية و ساعد على سرعة انتشارها في هذا القطر. و كانت جهوده مقدمة لنشاط حملة العلم الذين بعث بهم , فيما بعد , خليفته أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي. و لا تشير الروايات الى تاريخ محدد لنفي جابر
(1/31)
الى عمان كما أنها لا تذكر المدة التي قضاها في منفاه و لكنها تجمع على أنه عاد الى البصرة و مات فيها. و تختلف المصادر حول تاريخ وفاته , إذ يذكر بعض الرواة أنه توفي في نفس الأسبوع الذي توفي فيه أنس ابن مالك. و قد توفي الأخير في عام 93 هـ/711 م. ويروي البعض الآخر أنه توفي عام 103 هـ / 721 م. أما الهيثم بن عدى فيضع تاريخ و فاته عام 103 هـ /722 م. بينما يضعه الشماخي عام 96 هـ /714 م. ويبدو أن الرأي الأول هو الأصح لأنه جاء على ألسنة رواة الحديث الذين يهتمون إلى حد كبير بحياة كل محدث و تاريخ وفاته. و كان جابر أحد هؤلاء المحدثين. أضف إلى ذلك فإن المصادر تشير إلى ان جابر استدعى الحسن البصري إلسه و هو على فراش الموت و كان الحسن آنذاك مستخفيا من الحجاج الذي مات عام 90 هـ. و معنى هذا أن جابراً توفي قبل هذا التاريخ. و الأرجح أن تاريخ وفاته عام 93 هـ / 711 م كما أشرنا قبل قليل. و خلفه في زعامة الدعوة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي. تبوأ ابو عبيدة زعامة أهل الدعوة بعد موت الحجاج عام 90 هـ و خروجه من السجن , واتفق ذلك مع بداية حكم الخليفة سليمان بن عبد الملك
(1/32)
(96 هـ/ 710 م – 99 هـ /717 م) و كان الخليفة على علاقة وثيقة مع المهابلة , زعماء الأزد , الذين انضموا إلى الحركة الإباضية بأعداد و فيرة إبان إمامة جابر بن زيد الأزدي. و من المحتمل أن الإباضية لم يلاقوا عنتا خلال فترة سليمان بن عبد الملك الذي عين زعيم الأزد , يزيد بن المهلب والياً على العراق و خراسان. و لا تذكر المصادر الإباضية المتوافرة أية علاقات عدائية بين الخلافة و أتباع الإباضية خلال هذه الفترة. و لعل السبب في ذلك يعود إلى حماية يزيد بن المهلب بهذه الحركة , و خاصة إذا تذكرنا أن كثيراً من زعماء المهابلة و من بينهم عاتكة أخت يزيد و أخيه عبد الملك كانوا من أتباع تلك الدعوة. و عندما توفي سليمان بن عبد الملك و ارتقى عمر بن عبد العزيز عرش الخلافة (99 هـ / 717 م – 101 هـ / 720 م) , سجن الأخير يزيد بن المهلب لاتهامه إياه بعدم تسليم خمس الغنائم التي حصل عليها أثناء حملته في جرجان و طبرستان زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك. و قد بقي يزيد في السجن طيلة حكم عمر بن عبد العزيز كما قام والي العراق بسجن أخوته و بعض أقاربه في البصرة. و لكن هذه الحادثة لم تؤدي إلى توتر في العلاقات بين أتباع الدعوة الإباضية و الخليفة
(1/33)
عمر بن عبد العزيز. و الحقيقة أن هذه الخليفة حاول أن يحل مشاكله مع أحزاب المعارضة ومن بينهم الإباضية بالطرق السليمة مفضلا الحوار و المناقشة على النزاع و الخروب و يبدو أن أبا عبيدة و مشايخ الإباضية في البصرة كانوا يأملون خيرا من عمر بن عبد العزيز و حاولوا التوصل إلى تفاهم معه حول قاعدة مشتركة بين الطرفين , فأرسلوا إليه وفداً على رأسه جعفر بن السماك أحد أبرز مشايخ الإباضية في البصرة آنذاك محاولين استمالة إلى جانبهم و إقناعه بصحة معتقدهم. و على الرغم من عدم وصولهم إلى نتيجة حاسمة معه في هذا الشأن إلا أن الوفد قد رجع راضيا عن سياسته و سلوكه. و تذكر بعض المصادر الإباضية أن الوفد استطاع أن يستميل ابن الخليفة عبد الملك , واعتنق المذهب الإباضي. أثناء هذه الفترة من العلاقات السلمية , و أحيانا الودية , بين الإباضية و السلطة الحاكمة و التي امتدت خلال حكم الخليفتين سليمان بن عبد الملك و عمر بن عبد العزيز , استغلّ أبو عبيدة و مشايخالدعوة في البصرة هذه الفرصة لالتقاط أن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *