الكتاب : الإنفاق لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
الإنفاق
محاضرة لسماحة الشيخ/ أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والإفضال والإنعام. الذي ملأ الوجود جوده. ووسع كل شيء شهوده. سبحانه، له الحمد كله. وله الفضل كله. أحمده بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، واستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه وأومن به وأتوكل عليه.
من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وله الآخرة والأولى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين وإماما للمتقين ونعمة على الخلق أجمعين، فبلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، ونصح هذه الأمة، وكشف عنها الغمة، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته أحييكم بهذه التحية الطيبة الإيمانية الإسلامية، تحية الإسلام والسلام والإيمان والأمان.
(1/1)
نتحدث عما يزكي هذه النفوس ويقربها إلى الله تبارك وتعالى ويهيئها للعمل ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى.. جعل البر والإحسان بين الناس سنة من السنن التي أوجدها من أجل ترابط الناس وتآلفهم وتراحمهم وتلاحمهم. والله سبحانه ميز الجنس البشري إذ جعله كائنا اجتماعيا. وجعل البشر متفاوتين في مواهبهم الحسية والمعنوية الذاتية والكسبية حتى يتم بذلك النظام الإجتماعي بينهم عندما يتكاملون بالتعاون فيما بينهم والتكامل بأن يؤدي كل أحد ما هيأه الله سبحانه وتعالى له من الدور في هذه الحياة ليكون كل واحد متمما للآخر. وهذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى اختارها لهذا الإنسان الذي ميزه من بين سائر هذه الكائنات بتحمل أمانة الخلافة في هذه الأرض والقيامة بعمارتها بإذن الله سبحانه وتعالى على هدي من الله وبصيرة مما يأتيه ووما يذره. وقد جعل الله من الأمور التي يتفاوت فيها الناس المال. فإنهم في نعمة المال متفاوتون كتفاوتهم في سائر النعم. على أنه لا يوجد تفاوت بين أفراد الجنس الواحد من أجناس مخلوقات الله تعالى كهذا التفاوت الذي يكون بين البشر في كل المواهب وفي كل الملكات التي أوتوها. والمال هو من بين هذه المواهب العظيمة فإن الله عز وجل جعله قواما للحال.
(1/2)
على هذه النفوس جبلت على حب المال. كما يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى( وتحبون المال حبا جما( وقوله:( وإنه لحب الخير لشديد( فالمال بما أنه قوام الحال تشرئب إليه الأعناق وتهفوا إليه النفوس وتعشقه القلوب. فهو أمر يتنافس فيه المتنافسون، مع أن هذا الحب عندما يمتلك النفس ويسيطر عليها يعود داء وبيلا قد يصل إلى حد أن يتعذر استئصاله ويصعب علاجه. وقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها أمر به من البر والإحسان بين الناس علاجا لهذا الداء العضال. ويتجلى كل التجلي خطر هذا الحب عندما ينظر الإنسان إلى أحوال الناس الذين يحرصون على اقتناء المال بأي طريق كان فإن هؤلاء بسبب الدافع العميق في نفوسهم إلى جمع هذا المال لا يبالون أن يطأوا على الفضائل وأن يدوسوا على جميع القيم وأن يقطعوا جميع الصلات من أجل التوصل إلى هذا الغرض فقد يصل الأمر بهم أن يسفكوا الدماء ويزهقوا الأرواح ويقلقوا المجتمع بما يثيرونه من الاضطراب وبما يشيعونه من الخوف بين الناس في سبيل جمع المال. بل يصل ذلك بهم إلى أن يقطعوا الصلات التي تربطهم بأقرب الأقربين. فقد يعتدي الولد على والده ويعتدي الأخ على أخته في حياتهما من أجل التوصل إلى تركتهما وما ذلك إلا بسبب هذا الدافع. ولكن الله تبارك وتعالى جعل الإسلام دين الفطرة وهو يعالج المشكلات الإنسانية علاجا جذريا فلذلك شرع الإنفاق وجعله طهارة للنفس وجعله تنمية لفضائلها. فإن الله سبحانه وتعالى يقول:( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها(.
فجعل في هذه الصدقة طهارة لهذه النفس وجعل في ذلك تزكية على أن التزكية في العربية تأتي بمعنيين فقد تكون بمعنى التطهير كما يقال: زكا هذا الشيء بمعنى طهر وزكاه بمعنى طهره.
(1/3)
وتأتي أيضا بمعنى التنمية كما يقال: زكا الزرع إذا نما وزكاه إذا نماه. ولا ريب أن هذه الصدقات تطهر النفس من آثار الشح وحب المال وتخلصها من أسر الشهوة المالية الجامحة المستولية على النفس حتى تكون هذه النفس منقادة للخير. وفي نفس الوقت تربي الفضائل في هذه النفس بحيث تعودها على البر والإحسان وتفجر فيها مشاعر الرحمة حتى يكون الذي اعتاد الصدقة واعتاد الإنفاق في سبيل الله يتألم ألما شديدا عندما يجد أحدا من الناس يتضور جوعا أو يجده يتقلب في رمضاء البأساء والأواء في هذه الحياة. ولا يقر لصاحب هذا الطبع قرار حتى يواسي ذلك المحروم ويمد إليه يده بالخير. وهذا أمر يقوم عليه نظام الإجتماع البشري الذي يجمع شتاتهم ويأتي بالفقير إلى جانب الغني وبالضعيف إلى جانب القوي ليشكل الجميع وحدة متكاملة . فالإسلام حض أيما حض على الإنفاق. بل من أجل خطورة هذا الأمر وأثره في حياة الناس ذكره الله سبحانه وتعالى مقرونا بالتصديق. بل قدمه على التصديق فقد قال عز من قائل:بسم الله الرحمن الرحيم( والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى. إن سعيكم لشتى. فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى( وفي المقابل( وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى( فذكر الله سبحانه وتعالى لإعطاء قبل التصديق وذكر البخل قبل التكذيب ووعد الخير وذلك هو التيسير للحسنى للفريق الذي يعطي ويصدق. وتوعد بالشر وهو التيسير للعسرى للفريق الذي يمنع ويبخل ويكذب. والله سبحانه وتعالى حض على الإنفاق في كتابه في مواضع متعددة.
(1/4)
فقد حض على الإنفاق في معرض التذكير بأهوال يوم القيامة عندما يأتي الإنسان وقد فاته كل ما أوتيه في هذه الحياة الدنيا( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ( . لقد حض الله سبحانه وتعالى في هذا المقام مقام التذكير بهذا الخطر العظيم والهول الجسيم على الإنفاق ليكون وسيلة للإنسان للتخلص من شر ذلك اليوم المهول. يقول الله سبحانه وتعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ(.
(1/5)
وكذلك حض الله سبحانه وتعالى على الإنفاق في معرض التذكير بالموت وغصته وما يصيب الإنسان من ندم عند حضوره فقد قال سبحانه وتعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(. على أن الإنفاق في الإسلام هو مضبوط بضوابط الشرع لأن الإسلام دلنا على أن هذا المال الذي بيد الإنسان إنما هو في الحقيقة مال الله سبحانه وتعالى والإنسان إنما هو مؤتمن عليه ومستخلف فيه. فعليه أن يتصرف فيه وفق أمر صاحب المال الذي استخلفه فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم". جاء الحديث ليدل على ما يسأل عنه العبد ومن بين هذه الأشياء التي يسأل عنها المال. يسأل عنه سؤالين: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ لأنه مال الله سبحانه وتعالى. لا يحل لأحد أن يكتسبه إلا من طرقه المشروعة ولا يحل له أن ينفقه إلا في طرقه المشروعة. فهو مال الله بنص القرآن الكريم فإن الله تعالى يقول:( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (. والإنسان مستخلف فيه بنص من القرآن أيضا فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِين فِيهَِ(.
(1/6)
ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالقصد في الإنفاق فالإنسان يؤمر بأن ينفق بطريقة وسطى لا تبذير فيها ولا تقتير. فالله سبحانه وتعالى يقول: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً( . وقبل ذلك يقول سبحانه: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا( والله سبحانه وتعالى يبين لنا في كتابه العزيز أن الإنفاق الذي ينفقه العبد لا يخسره العبد بل يربحه فهو يعود عليه بالأضعاف المضاعفة. حسبنا أن الله سبحانه وتعالى عندما وعد المتقين جنة عرضها السماوات والأرض وبين أوصاف هؤلاء المتقين كان في صدر هذه الأوصاف أنهم ينفقون في السراء والضراء.
( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( . أول ما وصفهم الله سبحانه وتعالى به أنهم ينفقون في السراء والضراء. ثم إن الله عز وجل ضرب مثلا لهذا الإنفاق عندما قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( بين سبحانه وتعالى أن هذا الإنفاق يعود على صاحبه بالأضعاف المضاعفة فهو كمن يلقي حبة في الأرض وإذا بهذه الحبة جاءت بسبعمائة حبة. فالإنفاق كذلك يضاعفه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى فإنه عز وجل واسع عليم. هكذا يضاعف الله تبارك وتعالى الأجور للمحسنين.
(1/7)
ولكن أولا: أن يكون هذا الإنفاق في سبيل الله. وما هو سبيل الله؟ إن الإنفاق في كل خير هو إنفاق في سبيل الله فالإنسان الذي ينفق حتى على أهله بنية صادقة وعزيمة خالصة هو منفق في سبيل سبحانه وتعالى لأنه يقصد من وراء ذلك أن يعف أهله وا، يسد حاجتهم فذلك الإنفاق هو إنفاق في سبيل الله. وكذلك إيتاء الفقراء والمساكين وذوي القربى والإنفاق في سائر وجوه البر هو إنفاق أيضا في سبيل الله. فبناية المساجد وإقامة المؤسسات الخيرية من مدارس ومستشفيات وغيرها مما يعود بالمصلحة على الناس كل ذلك مما يعد إنفاقا في سبيل الله. وعون المجاهدين في سبيل الله بالمال هو أيضا إنفاق في سبيل الله فإن الله تبارك وتعالى جعل ذلك من الجهاد في سبيله إذ يقول عز من قائل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(. فكل ذلك يعد إنفاق في سبيل الله.
(1/8)
ثانيا: ألا يشوب ذلك شيء من شوائب المن والأذى فإن المن والأذى يبطلان الصدقة ويحبطان ثوابها فالله تبارك وتعالى يقول بعد ما ذكر هذه الأضعاف المضاعفة التي يربحها المنفق في سبيل الله: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ( . اشترط أن لا يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى . وبين سبحانه وتعالى أن الصدقة التي تشاب بالمن والأذى الإمساك مع القول الحسن خير منها. ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ( . ثم حذر من إحباط
أجور الصدقات بالمن والأذى عندما قال سبحانه وتعالى: ( َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى(.
(1/9)
ثالثا: أن يكون ذلك خالصا لوجه الله تعالى الكريم بحيث لا يريد هذا المنفق شهرة بين الناس ولا كسب ثناء منهم ولا أن يعود عليه هذا الإنفاق بأي مكسب مادي أو معنوي في هذه الحياة وإنما ينفق ذلك ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى. فالله سبحانه وتعالى بين أن الذين ينفق ماله رئاءالناس ليس إنفاقه من الله تبارك وتعالى في شيء ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(. هذا المثل ضربه الله سبحانه وتعالى في أولئك الذين ينفقون أموالهم من أجل كسب المحمدة والثناء بحيث يريدون بالإنفاق صرف وجوه الناس إليهم ولا يريدون به وجه الله عز وجل والإنفاق يؤمر به أن يكون من المال الطيب. المال الخير. بحيث ينتقي الإنسان ما ينفقه. لأن الذي ينفقه يقربه إلى الله سبحانه وتعالى ولئن كان الإنسان عندما يريد أن يهدي عظيما من عظماء الدنيا شيئا من المال ينتقي الشيء الذي يقدمه إليه. لا يهديه أي شيء كان. فكيف بما يقدمه إلى الله سبحانه وتعالى. أليس أحرى به أن ينتقيه. وهذا واضح في كتاب الله. فإن الله عز وجل يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(. فالإنسان الذي يريد أن يقترب إلى الله عليه أن يتقرب بما هو حسن بما يليق بهذا المقام. وأي شيء يليق بهذا المقام إنما هو الشيء الجيد الحسن.
(1/10)
بل نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان لا يصل إلى درجة البر ولا يرقى إلى مراتب الأبرار إلا عندما ينفق المال الطيب الحسن الذي تميل إليه نفسه فالله سبحانه وتعالى يقول: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(.وعندما ذكر سبحانه البر وصفات الأبرار قال: ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ(. قال:" وأتى المال على حبه" بحيث جعل هذا المال الذي يؤتيه من المال المحبوب إلى النفس الذي تميل إليه بطبعها ولكنها تؤثر مرضاة الله سبحانه وتعالى على هواها فلذلك تنفقه. والإنفاق يعود إلى الإنسان بالثواب الجزيل سواء أكان إنفاق على قريب أو بعيد وسواء أكان إنفاق على بر أو فاجر وسواء أكان إنفاق على مؤمن أو كافر فقد يؤجر الإنسان على النفقة التي ينفقها حتى على الكفرة المحتاجين المعوزين عندما تكون هذه الصدقة من غير فريضة زكاة. وقد تحرج المسلمون من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أن ينفقوا على الكفرة في عهد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بسبب ما في نفوس الكفار من العداوة للمسلمين وكان أهل قرابتهم قد يزورونهم وهم محتاجون معوزون ولكنهم يمسكون أيديهم عن بسطها إليهم بالمعروف فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(.
(1/11)
وهذا من التسامح البالغ في الإسلام فإن الله سبحانه وتعالى حض أولئك أن ينفقوا على قرابتهم الذين يأتون لزيارتهم ولو كانوا على غير ملتهم ودينهم بسبب مراعاة هذه القرابة وبسبب النظر إلى حاجتهم وعسرهم ولو كانوا على غير ملة الإسلام وهذا مشروط بأن لا يستعينوا بهذه النفقة على محاربة الإسلام أما إن كانوا يتقوون بها محاربة الإسلام فإن ذلك يعتبر من التعاون على الإثم والله تبارك وتعالى يقولك: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(. وقد وصل الأمر في عهد الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه عندما استغنى المسلمون ولم يجدوا للزكاة موضعا عند المسلمين أنه أمر بأن يعطى منها فقراء أهل الذمة. هذا في الزكاة الواجبة المفروضة رأى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أن يعطى منها فقراء أهل الذمة بسبب استغناء المسلمين. وهو مما يدل أيضا على تسامح في الإسلام. ومن تسامح الإسلام في الإنفاق تلكم القصة المحكية عن عمر الفروق رضي الله تعالى عنه عندما خرج من بيته فوجد شيخا من اليهود يتسول فسأله عن سبب تسوله وذكر له أن الشيخوخة والحاجة دفعاه إلى ذلك فقال له: ما انصفناك إذا أخذنا منك الجزية وأنت شاب قوي وأضعناك وأنت شيخ ضعيف. فأمر له بمدد من بيت مال المسلمين وأمر له قبل ذلك بعشاء من بيته. أخرج له عشاء من بيته ثم أمر له بمدد من بيت مال المسلمين . والإنفاق في الإسلام لا ريب أنه كما قلت يفجر مشاعر الرحمة ويجعل هذه النفس تستعلى على تكلم الشهوة الجامحة ولذلك يحرر الإنسان من وساوس الشيطان التي يلقيها في نفسه لأجل أن يخوفه الفقر.
(1/12)
فالله تبارك وتعالى يبين في كتابه العزيز أن الشيطان شأنه أن يلقي هذه الوسوسة وأنه يأمر بسبب ذلك بالفحشاء فهو يأمر بالبخل والإمساك حتى لا يقع صاحب المال في الفقر بينما الحق سبحانه يأمر بخلاف ذلك فالله تعالى يقول: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(. فالشيطان دأبه أن يوسوس لهذه النفوس بأنها عندما تنفق في سبيل الله ستخسر هذا الذي تنفقه ولربما يصل بها ذلك إلى أن تفتقر وتكون في حاجة ولكن الله سبحانه وتعالى يعد بخلاف ما يعد به الشيطان فهو يعد عباده مغفرة وفضلا ويأمرهم بالبر والإحسان فيما بينهم. والإنفاق قد يكون في الإسلام واجبا على الإنسان ولو لغير أسرته التي يترتب عليه أن ينفق عليها ومن غير الزكاة المفروضة. فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه البر وصفات الأبرار فقال: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ(. ثم أردف ذلك قوله: ( وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ(.ترون كيف ذكر أولا العقيدة لأن العقيدة هي التي يقوم عليها الخير كله فهي مصدر كل فضيلة وأساس كل خير وينبوع كل مرحمة ثم أردف ذكر الإنفاق بعد العقيدة مباشرة فذكر إيتاء المال ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.
(1/13)
بدأ بذوي القربى لأن الإسلام جاء بشد الأواصر وتقريب الناس بعضهم من بعض وهو يرعى آصرة القربى لأن الأسرة هي لبنة في بناء المجتمع فعندما تكون الأسرة متماسكة يكون المجتمع متماسكا وعندما تشيع الرحمة ويكون التلاحم بين الأسرة ينتقل ذلك إلى المجتمع بأسره فتترابط الأسر التي تكون مجتمعا برباط التراحم والتلاحم حتى تكون كأنها أسرة واحدة مع بعد ما بينها بدأ أولا بإيتاء المال ذوي القربى ثم ذكر بعدهم اليتامى لأن اليتامى فقدوا العائل الذي يرعى مصالحهم ويقوم بعونهم فهم أولى بأن يرعوا وأن يحفظوا. والإنسان بطبعه يحب الخير له ولأسرته فهو يحب الخير لبنيه وبما إنه يحب الخير لبنيه عليه أن يرعى بني غيره. فإن اليتامى إن لم يرعوا كان ذلك سببا بأن تكون في نفوسهم ردة فعل قد تؤدي بهم إلى أن يكونوا مجرمين في المجتمع بسبب تنكرهم للمجتمع لأن المجتمع تنكر لهم. وهذا مما جعل الإجرام يتفشى بين الناس وتنتقل عدواه إلى الإجرام ومستأصلة لهذا المحذور فلذلك حض الله سبحانه وتعالى على إيتائهم المال. والمساكين لأن المساكين هم أيضا وإن كان بإمكانهم أن يتحركوا إلا أن المال الذي يمكنهم من خلاله أن يتحركوا مفقود عندهم فهم بحاجة إلى شيء من المال يجعلهم يتمكنون بعد ذلك من الكسب فلابد من إيتاهم المال. وكذلك السائلين وفي الرقاب وابن السبيل كل هؤلاء أمر الله سبحانه وتعالى بأن يعطوا من المال وجعل ذلك من علامات البر ومن دلائل الصدق ومن شارات التقوى إذ قال في خاتمة الآية الكريمة:( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( ثم عطف على ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والعطف يدل على التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه وهذا مما يدل على أن في المال حقا سوى الزكاة.
(1/14)
وقد دلت على ذلك رواية أخرجها الدرامي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إن في المال حقا سوى الزكاة( وهي وإن ضعف سندها إلا أن متنها يعتضد بما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
وإنفاق المال في الإسلام إنما هو بطبيعة الحال أداء لحق الله تبارك وتعالى. فالزكاة التي يدفعها الإنسان من ماله إلى فقراء المسلمين إلى هؤلاء الضعاف الذين هم بحاجة إلى الرعاية وبحاجة إلى العون هذه الزكاة تؤدي بطبيعة الحال إلى التلاحم والتراحم بين طبقات الناس فهي تردم الهوة وتقرب ما بين هذه الطبقات تقرب بعضها من بعض. فالغني الذي يؤدي الزكاة يشعر بالرحمة تجاه هؤلاء الفقراء بما يتعود من الإحسان. والمسكين يشعر أيضا بأنه ناله من رفد الغني والنفوس جبلت على حب من أحسن إليها. فهذا مما يردم الفجوة ويقرب ما بين هذه الطبقات فيحس الفقراء بالسعادة تغمر قلوبهم بسبب رعاية الأغنياء لهم وإيتائهم من أموالهم بخلاف ما إذا شح الأغنياء وأمسكوا بأموالهم فذلك مما يؤجج الأحقاق والسخائم في نفوس الفقراء وقد يصل الأمر إلى الإنفجار وهذا الذي وقع في العالم الغربي فقد وجد النظام الرأسمالي مع انفجار الثورة الصناعية الكبرى في العالم الغربي.
(1/15)
وهذا النظام تجاهل حقوق المحاويج حقوق المساكين وأعطى الحرية للفرد بأن يجمع المال ولو كان ذلك على حساب غيره من غير مراعاة للأخلاق ومن غير مراعاة للروابط والأواصر التي تشد الناس بعضهم إلى بعض. وقد وجدت الفجوة ما بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء وأدى الحال إلى أن تتأجج قلوب الفقراء المحرومين بسعير الحقد والحسد فانفجروا عن ثورة معاكسة أكلت الأخضر واليابس وأتت على الطارف والتليد وكانت جهنم حمراء لم تبق للناس باقية اكتوى الناس بنارها أكثر من سبعين عاما حتى ثبت فشلها ولئن كانت هذه الثورة وكان هذا النظام وهو النظام الشيوعي ردة فعل للظالم الرأسمالي فإن النظام الرأسمالي لا يمكن بحال من الأحوال أن يسد حاجة الناس ولا يمكن أن يأتي الآن ببديل من لدنه فإنه نظام قائم على الاستبداد ونظام قائم على تجاهل حقوق المجتمع ولئن كانت الشيوعية تتجاهل الفرد بحيث تذوبه في بوتقة المجتمع فإن النظام الرأسمالي لا يحسب للمجتمع أي حساب ولذلك يوجد الأفراد القلائل الذين يشكلون جبهة واحدة جبهة الأغنياء في مجتمع حاشد بالفقراء المحرومين فلا يمكن أن يكون ذلك النظام الظالم الجائر هو الذي يحل محل النظام الذي فشل وانهار لأنه بنفسه فاشل وكذلك النظام الذي جاء كمحاولة للإصلاح ولكن أنى يكون الإصلاح إلا بنظام رباني جاء من عند الله الذي يعلم ما في طوايا نفوس عباده وما تفتقر إليه طبيعتهم وما تنطوي عليه فطرتهم. فالنظام الإسلامي وحده هو الكفيل بأن يسد كل حاجة من حاجات الناس. وفي يوم من الأيام كان عندي أحد الأساقفة وكنت طرحت عليه سؤالا قبل مجيئه في ذلك اليوم بنحو خمس سنوات فيما يتعلق ببعض معتقداتهم المتناقضة ولم يحر جوابا وبعد أن زارني المرة الثانية اعدت السؤال وبقي يضطرب في الجواب ثم قال لي: هل تسمح بأن أنقل الحديث إلى موضوع آخر؟ فقلت: لا بأس.
(1/16)
فقال لي: ما رأيك في مؤتمر السكان الذي سينعقد في مصر وذلك قبل انعقاد ذلك المؤتمر بمدة قليلة.
قلت له: قبل أن أقول رأي فيه قال البابا رأيه فيه واعتبره مؤتمرا قائما على الفساد.
فقال: وكيف تحل مشكلة السكان في العالم.
قلت له: حلها في الإسلام دين الله تعالى الحق. فلو أن الناس عملوا بآية واحدة من كتاب الله لأغنتهم عن كل هذه التخبطات. فلو أن الناس عملوا بقول الله سبحانه وتعالى:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ(. انحلت مشكلة الناس جميعا.
قلت له: ولئن كنت تريد أن تتبين الصورة الواضحة في ذلك فأنا أنقل إليك صورا من الواقع المرير الذي يكابده الناس الآن.
قلت له: الصورة الأولى ما يجري في هذا العالم من السباق المحموم في مجال التسلح وانتاج الأسلحة المدمرة التي لا تبقى ولا تذر. أترى لو أن هذه الأموال التي تنفق في هذا المجال لو أنها أنفقت في استصلاح الأرض هل يبقى على ظهر الأرض جائع؟
قال: لا.
قلت له: الصورة الثانية ما يجري في الولايات المتحدة وغيرها من إحراق الآف ملايين الأطنان من الحبوب في كل عام من أجل المحافظة على سعر الحبوب. هذه لو وزعت على الجياع في العالم هل يمكن أن يبقى على ظهر الأرض جائع؟
قال: لا.
ثم أضاف هو أنه تراق في العالم بحيرات من الألبان في كل عام من أجل المحافظة على سعر اللبن.
(1/17)
قلت له: الصورة الثالثة الذي قبل فترة قبل عقدين من السنين من ذلك الوقت اطلعت في إحدى الصحف أن امرأة في الولايات المتحدة الأمريكية تملك ثلاثمائة مليون دولار أودعتها البنوك وأوصت بهذه المبالغ على فقراء الأرض؟ والصورة الرابعة انني كنت قرأت في صحيفة محلية قبل فترة قريبة خبرين عجيبين، أحد الخبرين أن باحثا اجتماعيا إنجليزيا يرى أن انفجار السكان في العالم أمر خطير قد يقضي على الأرزاق فلذلك يقترح أن يحد من النسل وألا يسمح للأسرة الواحدة أن تلد إلا مولود واحد.
(1/18)
قلت له: لو طبقت هذا وكان الجيل الحاضر يقدر بنحو أربعة مليارات من أفراد البشر وقدر أن جميع الناس لا يوجد بينهم عقيم فإن الأسرة التي تتكون من اثنين إن لم تلد إلا واحدا فلا يخلفها إلا واحد فالجيل المقبل سيكون على النصف من هذا الجيل يسكون مليارين والجيل الذي يليه سيكون مليارا واحدا والجيل الذي يليه سيكون خمسمائة مليون وهكذا يتناقص عدد البشر حتى يضمحل البشر. لكن في مقابل هذا الخبر في نفس الصفحة في عمود مجاور للعمود الذي ذكر فيه الخبر...جاء فيه نبأ عن أغنى كلب في العالم أن هذا الكلب يملك العمارات الكثيرة ويملك الأرصدة العائلة وأنه يتقلب في أعطاف النعيم والبذخ ... فهو عنده جيش من الخدم من بينهم من لا عمل له إلا تنظيف أسنانه فقط... ومنهم من لا عمل له إلا تغسيله... ومنهم من لا عمل له إلا أن يقوم بإعداد الفراش الوثير له... ومنهم السواقون الذين يحملونه في السيارات الفارهة من أجل الانتقال به بين حي وآخر وبين منتزه وآخر. فهذا كلب كل ما قدم إليه لم يحوله عن طبيعة الكلاب. فهو كلب يغنيه أن يفترس وأن يمسك عظما باسنانه ليعضه وأن يأكل من رزق الله تعالى في هذه الأرض لو أطلق له العنان وفسح له المجال لكان قائما بحاجته بنفسه. فما الداعي لهذا الإنفاق الهائل على هذا الكلب. هذه الأموال لو وزعت على الفقراء كم كانت تشبع من جياع وكم كانت تغني من فقراء. فإذن النظام الإسلامي وحده هو النظام الذي يسعد هذه الانسانية ويضع كل شيء موضعه من غير افراط ولا تفريط فالله سبحانه وتعالى نهى عن التبذير وأي تبذير من هذا التبذير بحيث تحول الحيوانات عن طبيعتها وتحد حريتها.
(1/19)
إن للكلب حرية ويطمح إليها لو أطلق لكان بنفسه يرعى مصالحه من غير أن يحتاج إلى هذه النفقات العظيمة. هذا ونحن نرى في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يدل على عظم أمر الزكاة فقد قرنت الزكاة بالصلاة وجعلت ركنا من أركان الإسلام. بل جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يدل على أن المسلم يربأ بنفسه عن ترك الزكاة وأن عدم إيتائها إنما هو من صفة المشركين(فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة( وذلك يعني أن المسلم بطبعه يحرص على إيتاء الزكاة ومن منع زكاته فهو حري إلا يكون في صفوف المسلمين لأنه هدم ركنا من أركان الدين الذي يجمع شملهم. والزكاة هي بما إنها ركن من أركان الإسلام صلة بين العباد وبين ربهم في ضريبة تؤديها العبودية إلى الربوبية فرضها الله تبارك وتعالى هكذا ولا يجوز لأحد أن يتنازل عنها فلو أن الفقراء تنازلوا عن حقهم فيها فإن حق الله تبارك وتعالى ثابت لا يمكن أن يتنازل عنه أي حد من الناس. فالزكاة فريضة بنص الكتاب العزيز، وإيتاء المال من غير هذه الزكاة هو أمر يرجع إلى نظر الإنسان وضميره فالإنسان عندما يرى حاجة الفقراء والمساكين وعنده سعة في رزقه عليه أن يبسط على عوزهم، ولأجل ذلك قال من قال من العلماء أن في المال حقا مفروضا بمقدار معين يجب في أصناف معينة من المال.
(1/20)
ببلوغ زمن معين وبنسبة معينة وحقا آخر لا يتقيد بمقدار في المنفق منه ولا في عين ما ينفق فإنما هو يعود إلى ضمير الإنسان الذي ينفقه حتى أن من العلماء من قال: من كان يملك رغيف خبز وكان في غنى عن ذلك الرغيف بحيث كان شبعانا فوجد جائعا مضطرا لزمه أن يعطيه الرغيف وكان ذلك من إيتاء المال للمحتاجين وذلك من علامات البر كما دل عليه القرآن وكما جاء كتاب الله سبحانه وتعالى حاضا على الإنفاق، فإن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بما يدل أيضا على ضرورة الإنفاق وفضل الإنفاق وأن الإنفاق يترتب عليه الخير الكثير فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة تقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل أن تقع في يد المسكين ومعنى وقوعها في يد الله أن الله يتقبلها قبل أن يتقبلها المسكين فيربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى ينمي هذه الصدقة ويضاعفها حتى تكون كمثل الجبل العظيم كما أو أنفق جبلا من المال...وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان يناديان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا والآخر يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا" هكذا يدعو أحدهما لمن أنفق بالخلف ويدعو الآخر بمن أمسك بالتلف... وهذا الإنفاق إنما هو فيما إذا أنفق الإنسان- كما قلت- في سبيل الله متحريا مرضاة الله تبارك وتعالى مبتغيا وجهه متقربا إليه فهذه النفقة التي تكون في موازين العبد يوم القيامة على أن تكون من الحلال الطيب، فإن الحرام لا يتقبله الله سبحانه وتعالى ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم" لا يقبل الله صدقة من غلول" وهكذا أي صدقة من الحرام لا يقبلها الله سبحانه وتعالى، إنما الله سبحانه وتعالى طيب ولا يقبل من عباده إلا طيبا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الطيبين وأن يمن علينا بالإخلاص في جميع أعمالنا وأقوالنا.
(1/21)
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا واصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا شح أنفسنا وشرورها جميعا واهدنا للهدى ووفقنا للتقوى وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، إنك ربنا على كل شيء قدير، وإنك بالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/22)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق