الكتاب : إعادة صياغة الأمة - محاضرة لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
إعادة صياغة الأمة
محاضرة ألقاها : سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسطنة
يوم السبت 25 من ربيع الثاني هـ1422ـــ
6/يوليو مـ2002ــــ
بمسجد التوبة بالغبرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
والحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة
أصحاب الفضيلة الحضور الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أضاعت هذه الأمة وقتاً طويلاً وهي تحمّل أعدائها أسباب إخفاقها في التدافع الحضاري ، وفوتت فرصاً كبيرة كان يمكن عبرها أن تقوم بواجبها في الشهود الحضاري ، فنشأت الحضارة الحديثة مشوهة جائرة بمعزل عن إسهام المسلمين وعانى الإنسان والكون وباءته .
(1/1)
من وهدة الهزيمة تبحث الأمم لنفسها عن سبيل الحياة ، وتتفحص حالها بلهفة وإلحاح باحثة عن أسباب الهزيمة وعوامل الانكسار ، ومع اشتداد مأزق أمتنا ، ومع استمرار تهميشها عن مجال التأثير في الحياة ، وحين وضعتنا الأحداث شئنا أم أبينا على حافة صراع حضارات فإن النظر إلى الذات أصبح أولى من النظر إلى الآخر ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) ، وفي حالة أمة كأمتنا لم تشد حضارتها إلا على هدي من الدين ، ولم يعرف لها التاريخ أي إسهام حضاري بمعزل عنه ، ولم تتميز إلا حين آمنت به وتمثلته ، فإن البحث في أسباب مأزقها يقتضي منا أن نتفحص بعناية علاقتها بالمكون الحضاري الأول لحضارتها أي علاقتها بدينها وبدون ذلك يبدو البحث عبثاً وتجديفاً في اليبس ، ومن المنطقي أن يمر البحث بمناطق أخرى تابعة يخالها البعض ثانوية وهي مع ذلك حسّاسة وخطرة من قبيل العلاقة بين الخلف والسلف بين الحاضر والماضي التي وصفها بعضهم خطأ أو صواباً لا أدري بأنها علاقة يحكم فيها الأموات الأحياء ، عالم من الأحياء يحكمه الأموات على حد عبارته ، أو من قبيل تجديد المناهج ، مناهج الاستنباط والاجتهاد أو إعادة النظر في سلم الأولويات المختل أو دراسة تبادل التأثير بين تصور المسلمين لدينهم وتطور تاريخهم السياسي والاجتماعي .
(1/2)
هذه كلها مناطق يشعر كثير من الباحثين أمامها بالرهبة إما لضخامة المهمة أو خوفاً من التهم المعلبة الجاهزة التي تنتظر كل من يغامر بالدخول إلى مناطق حرمها البعض على البحث ممن أعفى نفسه من فريضة التفكير وألزم الآخرين بذلك ، وبالجملة فإن الأمة كما يلخص سماحة شيخنا العلامة الخليلي في حاجة إلى إعادة صياغة من جديد حتى تستطيع أن تنهض بمهمتها الحضارية شاهدة على العالمين ، ونحن هنا اليوم أيها الأخوة لنستطلع رؤية الشيخ التي عبّر عنها في أكثر من مناسبة والتي أصبحت عنصراً رئيسياً يلح عليه دائماً وباتت سمة واضحة لخطاب سماحة الشيخ في الآونة الأخيرة .
سماحة الشيخ لتسمح لي : تردد كثيرا في أحاديثكم ومحاضراتكم في الآونة الأخيرة في محاضرتكم مثلا في مناسبة الهجرة المشرفة ، في الاحتفال بمناسبة المولد النبوي الشريف ، في حلقات برنامج سؤال أهل الذكر ، تردد كثيراً في خطابكم عبارة ( إعادة صياغة الأمة ) .
سيدي سماحة الشيخ : سؤالي بشكل مباشر ما الذي يعنيه سماحتكم بـ ( إعادة صياغة الأمة من جديد ) تفضلوا .
الشيخ الخليلي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فالسلام عليكم إخوة الإيمان ورحمة الله وبركاته وبعد ،،،
(1/3)
فإن الأمم إنما تقوم - أول ما تقوم - على التصور الصحيح ولذلك كان هدم التصورات الباطلة وتشييد التصورات الصحيحة أول شيء يضطلع به المرسلون ، فما من رسول من رسل الله سبحانه إلا وقد واجه تصورات باطلة عششت في الأذهان واستحكمت في النفوس وسيطرت على الألباب وقادت الأمم إلى حافة الانتحار ، فكان أول شيء يدعون إليه بين أممهم هو أن تعرف هذه الأمم من أين جاءت وإلى أين تنتهي وماذا عليها أن تعمل فيما بين المبدأ والمنتهى لتقوم حياتها على التصور الصحيح ، ونحن نرى أن سيدنا ونبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام عندما جاء بالدعوة الحقة دعا أول ما دعا إلى التصور الصحيح ، دعا إلى الإعتقاد الحق بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
هذا التصور هو الذي شيدت عليه دعائم حياة هذه الأمة الفكرية والحضارية والاجتماعية حتى كانت خير أمة أخرجت للناس ، فهي أدركت تمام الإدراك أنه لا إله إلا الله ، وأن الحكم المطلق إنما هو لله سبحانه الذي أوجد هذا الكون ، والذي أفاض على الوجود ما أفاض من تجلياته العظيمة التي تشاهد في كل ذرة من ذرات الوجود بحيث صارت كل ذرة من ذرات هذا الكون تعرب بلسان حالها عن افتقارها إليه سبحانه وتعالى وأنه هو الغني الذي لا يحتاج إلى أي شيء سواه . وأن كل ما في الكون إنما يسعد بالخضوع لأمره والاستجابة لداعيه والوقوف عند حدوده ولذلك تناغى هذا الكون مع هذه الحقيقة كما يعرب بذلك القرآن الكريم عندما قال في وصفه سبحانه ( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفورا ) .
(1/4)
والإنسان هو واحد من هذه الكائنات آتاه الله سبحانه وتعالى ما ميّزه به عليها من الإرادة والتفكير والقدرة على التأثير في نفسه والتأثير فيما حوله ، فلذلك نيطت به مسئولية عظيمة ، فهو إن تجاوب مع هذا الكون ودار في فلكه بحيث كان مستجيباً لأمر الله ، قائماً بحكم الله سبحانه وتعالى سعد وانعكس أثر سعادته على الوجود ، وإن شذ كان شذوذه داعياً إلى التنافر بينه وبين الكون وكان سبباً للفساد كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه وتعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) .
ومع هذا أيضاً فإن طريق التلقي عن الله سبحانه وتعالى هو طريق واحد وهو ما يدل عليه الاعتراف والشهادة بأن محمداً رسول الله فهذا هو طريق التلقي عن الله سبحانه وتعالى بحيث يتلقى الإنسان المسلم المؤمن بالله وبنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام من هذا الطريق عن الله سواء كان هذا الذي يتلقاه وحياً ظاهراً وهو القرآن الكريم أو كان وحياً باطناً وهو السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
شيدت دعائم حضارة هذه الأمة على أساس هذا التصور الصحيح والفكر الناصع ، ولكن هل ظلت الأمة مستمسكة بهذا الأمر ناهجة هذا النهج ؟؟ كلا . فقد دخلت التصورات الباطلة التي تنقض هذا التصور وإن كانت هي لا تزال تحت مظلته حسبما يزعم الكثير الكثير ، وذلك بسبب التأويلات الباطلة وبناء الفكر على غير قواعد ثابتة من كتاب الله سبحانه ومن هدي رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام .
(1/5)
ونحن إذا نظرنا إلى ما ورثته هذه الأمة بسبب أن هنالك طوائف من البشر دخلوا الإسلام وهم يحملون أوزاراً مما كانوا يعتنقونه من قبل من الأفكار ، وبسبب تأثير السياسة إذا نظرنا إلى ما رزأت به هذه الأمة من ذلك نرى أن بعض ذلك يعود إلى عدم الفهم الصحيح للإيمان بالله ، وبعضها يعود إلى عدم الفهم الصحيح للإيمان باليوم الآخر ، وبعضها يعود إلى عدم الفهم الصحيح للعلاقة التي يجب أن تكون بين البشر حكامهم ومحكوميهم في هذه الأرض .
أما العنصران الأولان فهما يرجعان كما قلت إلى كون كثير من الأمم دخلت في الإسلام وهي تحمل أوزاراً من مواريثها الفكرية السابقة ، والعنصر الأخير إنما يرجع إلى انحراف الذين أخذوا بزمام القيادة الدينية السياسية في هذه الأمة منذ تلك المرحلة المبكرة بعدما انتهت الخلافة الراشدة .
أما الأمران الأولان فأولهما كما قلت عدم الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله ، عدم الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله أدّى بكثير من الناس إلى أن يسلكوا مسلكين متناقضين عجيبين أولهما : تشبيه الخالق بمخلوقاته ، وثانيهما تشبيه المخلوقات بخالقها .
أما تشبيه الخالق بمخلوقاته فهو أن يوصف الله سبحانه وتعالى كما يوصف الخلق بأنه محدود متحيز متحرك يذهب ويجيء ويفرح ويحزن وتعرض له العوارض التي تعرض للبشر حتى أنهم قالوا بأنه ينسى نسياناً حقيقياً يليق بجلاله . وهذا على أي حال إنما هو راجع إلى نبذ المحكم واتباع المتشابه والله سبحانه وتعالى يقول ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) هذا ضلال في التصور .
(1/6)
أما الصورة الثانية فهي كما قلت تشبيه المخلوق بخالقه وذلك بأن يوصف المخلوقون بصفات الألوهية بحيث ينظر إلى طائفة من الناس إما لعنصرهم وإما لحالهم بأن ينظر إليهم أنهم يتصرفون في هذا الكون تصرفاً مطلقا ، فهم بيدهم البسط والقبض ، والعطاء والمنع ، والرفع والخفض والقبول والرفض ، يدخلون الجنة من يشاءون ، ويحرمون من يشاءون منها ، ويلقون في النار من يريدون لأن الأمر كله راجع إليهم وتصريف الكون بأيديهم ، وهذا أمر في منتهى الخطورة
هذه العقيدة جاء الإسلام لاجتثاثها فلو صيغت الأمة صياغة قرآنية من حيث تصورها لكانوا أبعد ما يكونون عن هذا التصور كما أنهم يكونون أبعد ما يكون عن التصور الأول . ذلك لأننا نرى أن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن أي أحد من خلقه ليس له من الأمر شيء فالله سبحانه وتعالى يخاطب عبده ورسوله محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام إذ يقول ( ليس لك من الأمر شيء ) ويقول له صلوات الله وسلامه عليه ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) ، وكذلك يقول له سبحانه وتعالى ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير)
(1/7)
فإذن ما معنى هذا التعلق بأفراد بسبب عنصرهم أو بسبب حالهم وهم أحياء أو أموات ، مع أن النبي صلوات الله وسلامه عليه على عظم شأنه ومنزلته العليا عند الله سبحانه وتعالى لا يملك من الأمر شيئاً وهو في حياته يملأ ثيابه ويملأ السمع والبصر ، فكيف هذا التمسك بالأموات والتعلق بالماضين واعتبار أن هؤلاء يقدمون ويؤخرون وينفعون ويضرون ، أو التعلق بالأحياء ممن تضفى عليهم صفة القداسة . ونجد أن الله سبحانه وتعالى ينعى على المشركين مثل هذا المعتقد كثيراً في كتابه عندما يقول عز من قائل ( قل من رب السموات والأرض قل الله أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار )
والقرآن الكريم يصور لنا التصوير الصحيح لهذه الحقيقة في مواضع شتى فالله تعالى يقول ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ويقول ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) ويقول سبحانه وتعالى ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) ويقول ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ) .
قد يتساءل الإنسان ما علاقة هذا بنهوض الأمة أو عثرتها ؟؟
(1/8)
الجواب عن هذا العلاقة في هذا ظاهرة ذلك بأن الله سبحانه وتعالى عندما يوصف بصفات المخلوقين تذهب هيبة الربوبية التي له سبحانه وتعالى في قلوب عباده ، فعندما يوصف هذا الخالق العظيم بأنه يؤتى به محمولاً على سرير من ذهب تحمله أربعة ملائكة ، أو أنه يذهب ويجيء ويفرح ويحزن ، إلى غير ذلك من هذه الصفات هل تبقى في قلوب عباده هيبة كما يحسون بذلك عندما يعتقدون اعتقاداً جازماً أنه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأنه عز وجل لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، وأنه منزه عن كل شبه بأي شيء من هذه الكائنات فهو لا تعرض له العوارض ولا تبدو له البدوات ، ولا تكتنفه الأقطار ، ولا تحيط به الجهات ، هو الخالق المصور المبدئ المعيد ، قد كان قبل خلق الزمان والمكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، لا يدرك بعين ، ولا يطلب بأين .
أما الأمر الذي يتعلق بالإيمان باليوم الآخر ، فإن الإيمان باليوم الآخر يأتي قرين الإيمان بالله في كتاب الله سبحانه وتعالى ، فنحن نرى أن الله سبحانه وتعالى يذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان به سبحانه وهو يعني أن من آمن بالله واليوم الآخر فكأنما أمسك حبل الإيمان من طرفيه ، واكتنف الإيمان من قطريه ، ذلك لأن الإيمان بالله إنما هو الإيمان بالمبدئ العظيم الذي خلق فسوى وقدر فهدى ، الذي أسبغ على العبد نعمه ظاهرة وباطنة ، والذي تتجلى عظمته وكبرياؤه في كل مشهد من مشاهد هذا الكون ، في كل ذرة من ذرات هذا الوجود ، فهذا الإيمان يحفز صاحبه إلى أن يتفاعل معه تفاعلاً تاما ، وذلك بأن يضبط جميع أعماله وفق أمر من خلقه فسواه وأنعم عليه بهذه النعم الظاهرة والباطنة
(1/9)
ولكن مع ذلك تعرض للإنسان عوارض يعرض له الذهول وتعرض له الشهوات ، وتتحرك في نفسه الغرائز ، وذلك مما يؤدي به إلى الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى إلا أن ذلك كله يمكنه أن يتحكم فيه وأن يضبطه ضبطاً متقناً عندما يكون مؤمناً باليوم الآخر لأن إيمانه باليوم الآخر إنما هو إيمانه بالمعاد ، والإيمان بالمعاد يقتضي أن يكون الإنسان مفكراً تفكيراً عميقاً في ذلك المعاد ، فإن هذا المعاش الذي يمر بمرحلته لا يوازي شيئاً بجانب ذلك المعاد ، فالمعاد أبدي والمعاش إنما هو لفترة محدودة ، المعاد أمر حقيقي والمعاش إنما هو حياة وهمية إذ لا يدري الإنسان متى تنصرم هذه الحياة ، فلذلك يتحكم الإنسان في رغباته ونزواته ونزغاته عندما يرسخ الإيمان باليوم الآخر رسوخاً في نفسه على أن يكون تصوره لذلك اليوم تصوراً صحيحاً ، تصوراً مستلهماً من القرآن الكريم ومن الصحيح الثابت عن النبي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم ، لا من الأماني الفارغة فإن الله سبحانه وتعالى يقول ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ) والله سبحانه وتعالى يقول في وصف ذلك اليوم ( وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ، ويقول عز وجل ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ويقول تعالى ( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) ويقول سبحانه ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها )
(1/10)
عندما يرسخ هذا الاعتقاد في النفس فإنه ولا ريب يؤدي ذلك إلى أن تتفاعل هذه النفس تفاعلاً تاماً فتصاغ حياتها وفق هذا المعتقد ، ولكن عندما تَفرّغ هذه النفس من هذا المعتقد ويكون هناك تبث بالأماني والآمال الباطلة لا ريب أن الحياة تتحول تحولاً جذرياً من الخير إلى الشر ومن الصلاح إلى الفساد ، فإن النفس البشرية جبلت على الطمع ، والإنسان يحب العاجلة وينسى الدار الآخرة عندما تحيط به شهوات نفسه وتدفعه دفعاً إلى الوقوع في الكثير من المخالفات الشرعية ، ولا ريب أن الإيمان بأن الحق سبحانه وتعالى يجزي كل نفس بما عملت يؤدي بالإنسان كما قلنا إلى أن يتحكم في هواه ويسيطر على رغباته ويصوغ حياته صياغة شرعية
ولكن نرى من أجل ذلك كيف جاء القرآن الكريم بما يدلنا على أن القول بوعيد الله سبحانه وتعالى هو الذي يمكن للإنسان بسببه أن يتحكم في نزغاته ونزعاته وأن يسيطر على أهواءه وأن يقود نفسه قيادة سليمة إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة ، فالله تعالى يقول ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ومعنى ذلك أن الذي لا يخاف وعيد الله سبحانه وتعالى لا يجديه التذكير بالقرآن ، فعندما يرسخ في نفس الإنسان أن الله سبحانه وتعالى إذا وعد وفى وإذا توعد عفا ، لا بد من إن تهتز نفس هذا الإنسان وأن يؤدي به هذا المعتقد إلى الوقوع في الكثير من المخالفات الشرعية ، ولذلك نحن نجد كيف يصف الله سبحانه وتعالى اليهود بالانحراف بسبب رسوخ هذا المعتقد في نفوسهم فهو تعالى يقول ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا )
(1/11)
وكذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إعراض اليهود عن الكتاب الذي أنزل عليهم إنما كان بسبب اعتقادهم أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات فقد قال سبحانه وتعالى ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم يظلمون ) ، هذه المعتقدات انتقلت كما قلنا إلى هذه الأمة وأورثها ذلك ما أورثها من اتباع الأهواء وتشتت الكلمة وذهاب ريحها وأن تصبح أمة هزيلة .
فعقيدة الإرجاء إذن لها أثر كبير في تدمير هذه الأمة ، وفي تدمير أخلاقها ، وفي القضاء على معنوياتها ، وفي الكبوة بها بعدما كانت أمة ناهضة قوية عزيزة يحسب لها بين الأمم جميعاً كل حساب .
ولا ريب أن مثل هذه المعتقدات أخذت تنخر في جسم هذه الأمة نخراً ، وليس ذلك وليد اليوم والأمس وإنما ذلك منذ بدأ هذا الانحراف ، أخذت هذه المعتقدات تنخر في جسم هذه الأمة نخراً حتى أصبح مفهوم الإيمان عندها مفهوماً نظرياً شكلياً لا أثر له في الحياة كأنما الناس تعبدوا بأن يعتقدوا أن هذا كذا وأن هذا كذا وألا يتأثروا بهذا المعتقد في حياتهم ، ومن غريب ما يذكره الإمام محمد عبده من أمثلة ذلك أن أحد الكبراء في وقته كان يقول : أنا لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني والحمد لله مسلم أدين بأن الربا حرام . أي تناقض هذا هو يعتقد أنه يكفيه أن يعتقد أن الربا حرام ولئن اعتقد ذلك فحسبه هذا المعتقد سبباً لنجاته من النار . قال الإمام محمد عبده تعليقاً على ذلك : وقد فات هذا أنه يلزمه بناء على هذا المعتقد أن يعتقد أنه من الذين يحاربون الله ورسوله ، وأن يعتقد أنه من أهل الوعيد على أكل الربا .
(1/12)
ولكن بما أن هؤلاء الناس يعتقدون ما ذكرته من أن هذا الوعيد يطرأ عليه التبديل والتغيير بسبب عفو الله سبحانه وتعالى كما قالوا ( إذا وعد وفى وإذا توعد عفا ) ، وأنهم لا يرون لهذا الوعيد أثراً في سلوكهم فلذلك يجترأون على محارم الله تعالى غير مبالين بها .
ونحن نرى أن تفريغ الإيمان من معناه الحقيقي وهو الأثر على هذه النفس البشرية حتى تكون نفساً يعتدي على ذلك ، وهذا يتحين الوقت من أجل أن يحتال على ذلك ، كل واحد منهم لا يشتغل إلا بمصلحة نفسه بخلاف ما إذا كان العقيدة راسخة لأن كل واحد مجزي بعمله ( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) هذا المعتقد هو الذي يجعل هذه الأمة متواصلة الحلقات أمة قوية .
ونحن وجدنا كيف أصاب هذه الأمة الوهن ، وجدنا شيخاً معمما يقود حركة جهادية وينتصر على الأعداء ، ويمكن الله تعالى له ثم بعد ذلك يتنازع هو مع الآخرين من أجل السلطة ومن أجل الوصول إلى المراكز القيادية ، وعندما يهمش ويتولى القيادة غيره ، ويأتي العدو بعد ذلك ليضرب هذا الغير يبدي راحة بسبب ما يصيب أبناء ملته وأبناء بلدته وأبناء جلدته ما يصيبهم من الدمار ، يبدي الراحة ويقول بأن ضميره مرتاح من هذا . لا يبالي بعدوان العدو على أبناء ملته وأبناء جلدته وأبناء بلدته ، وما يصيب بلاده ، وما يصيب شعبه من الدمار ، ذلك كله راجع إلى تحكيم الهوى . ما منشأ تحكيم الهوى ؟؟ منشأ ذلك عدم التصور الصحيح ، عدم إدراك ما للإيمان من أثر في نفس الإنسان حتى تتفاعل هذه النفس تفاعلاً تاماً مع مرضاة ربها سبحانه وتعالى ، ومع مصلحة أمتها ، وتتفانى في ذلك . فلذلك قلت بأن هذه الأمة هي بحاجة إلى صياغة جديدة ، صياغة قرآنية ليكون تصورها تصوراً صحيحاً مبنياً على دعائم من أدلة القرآن الكريم ومن أدلة السنة الثابتة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
(1/13)
ومن هذه التصورات الباطلة الناشئة عن ما ذكرته من قبل من إعطاء المخلوق صفات الخالق ، وما وَلِي ذلك من كون الإنسان لا يؤمن بوعيد الله وعيداً جازماً ، ما شاهدناه في سلوك كثير من الناس ، وما سجله كثير من العلماء من الأمثلة الظاهرة التي تؤيد هذه المشاهدات التي شاهدناها ، أنا بنفسي مما شاهدته في بعض البلاد الإسلامية أن أهل ذلك البلد ، ولا أعني جميعهم ولكن الكثير منهم ، يقع أحدهم في ارتكاب جريرة ، ويطالبه صاحب الحق بحقه ، ولكن لا يبالي بهذا كله يخوف من الله تبارك وتعالى ولا يخاف ويذكّر باليوم الآخر ولا يتذكر ، ولكن إن قال له صاحب الحق سيتوسل بأسماء أهل بدر حتى يستوفي حقه لا يكاد يقول له هذه الكلمة حتى ينهار ويرجع ليسلّم تسليماً ، ذلك لأنهم يعتقدون أن لأهل بدر رضي الله تعالى عنهم تأثيراً في هذه الحياة ليس هو لرب العالمين ، كأنما أهل بدر هم الذين يميتون ويحيون ، ويعطون ويمنعون ، ويرفعون ويخفضون ، بيدهم كل شيء ، لا يبالون بسلطان الله ولكن يبالون بأولئك ، مع أن أولئك رضي الله عنهم مع ما لهم من المنزلة والقدر والشأن أفضوا إلى ربهم سبحانه وتعالى ، فهذا يرجع إلى عدم التصور الصحيح للإيمان والإسلام ، أولئك أفضوا إلى الله هم بحاجة إلى أن نقول كلمة دعاء في حقهم أن نقول رضي الله عنهم وأن نقول أدخلهم الله تعالى الجنة وأن نقول بوأهم الله مبوأ الرحمة وأن نقول رفع الله منازلهم يوم الدين إلا أن هذا التصور عشش في نفوس كثير من الناس
(1/14)
ومما يؤسف له أن نجد كثيراً من العلماء يغذّون هذا التصور الباطل . وقلنا كذلك أمر آخر يتعلق بعلاقات الناس أنفسهم بالحياة السياسية التي تحكم أفراد الناس عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلّم قائداً هذه الأمة إلى الخير آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر داعياً إلى الله ، وكان على رأس الدول الإسلامية ، كان الأمر مع كون الوحي ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه شورى بين المسلمين ، وكان القرآن ينزل ليثبت مبدأ الشورى ، فالحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم في مقام حسرة هذه الأمة على ما أصابها من الوهن والضعف والنكسة بسبب مخالفة الكثير للنبي صلى الله عليه وسلّم في السياسة الحربية وذلك في غزوة حنين ، ينزل القرآن مع ذلك ليثبت مبدأ الشورى فيقول لله تعالى له ( وشاورهم في الأمر ) ذلك لأنهم وإن وقعوا في الخطأ إلا أن هذا الخطأ خطأ عارض ، أما قضية الشورى فهي من الثوابت
(1/15)
ولذلك لا يهدم الثابت من أجل العارض وعندما كانت الخلافة الراشدة كان الأمر شورى ما بين المسلمين كان الخليفة كواحد من المسلمين يعرض الأمر عليهم ويطلب منهم مناصحته ، وكان الخليفة يعلن على الملأ : أيها الناس إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني . فيقوم أحد من عامة الناس فيقول له لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا فما يكون من الخليفة إلا أن يحمد الله تعالى على هذه النعمة لئن يجد في رعيته من يقوّم اعوجاجه بسيفه . وكان الناس يتصورون جميعاً أن سياسة الأمة لا تقوم إلا على العدل ، أن يكون الخليفة خليفة عادلا ، وأن يحاسب من جميع طوائف الأمة لأنه أجير قائم على راس هذا الأمر ، أجيراً لهذه الأمة وهو مسئول فيما بينه وبين الله كما أنه مسئول فيما بينه وبين الأمة ، للبشر أن يحاسبوه في الحياة ، كما أن الله سبحانه وتعالى يحاسبه في الدار الآخرة . وعندما أفضى الأمر إلى بني أمية اجتثوا هذه القواعد من أساسها ، وأتوا على هذا الأمر من قواعده وأقاموا سياسة مبنية على الاستبداد بالرأي والرغبة في التحكم ، وأشاعوا في الناس بأن هذا قدر مقدور من الله ، وأن على الجميع أن يسلّم له ، ومن لم يسلّم له فهو شاذ عن أمر المسلمين ، خارج عن جماعتهم ، حرب على المسلمين .
(1/16)
وقد رأينا في كلام العلامة الكبير السيد أبي الأعلى المودودي في كتابه ( التجديد لهذا الدين ) تصويراً رائعاً لهذا الأمر عندما وصف الحالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم كانت تمثل قمة الإسلام ، ثم جاء بعد ذلك أبو بكر ، ثم جاء بعده عمر رضي الله عنهما ، وكان الأمر في عهدهما امتداداً لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم ، ثم جاء بعد ذلك الخليفة الثالث وقد كان بلغ من الكبر عتيا ، ومع هذا كانت المواهب التي أوتيها العظيمان اللذان قبله لم تتوافر فيه ، فدخل بعض الناس الذين هم استغلوا هذه الحالة التي كان عليها الخليفة في آخر سنه من أجل شق صف هذه الأمة ، ومن أجل محاولة الاستئثار والبلوغ إلى الرغبات ، وفي مقدمة هؤلاء مروان بن الحكم الذي هو معروف ابن طريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأدى الأمر إلى الفتنة والشقاق ، ثم جاء الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ووجد الأمر فيه شيء من التداعيات ، فلم يستطع أن يصلح ما تقدم بسبب هذه التداعيات وتغلغل هؤلاء الذين أرادوا أن يستبدوا بسياسة الأمة ، وبعد ذلك انقلب الأمر إلى جاهلية متحكمة في حياة الناس ، جاهلية يقول فيها السيد أبو الأعلى المودودي هي أخطر من الجاهلية الأولى ، ذلك لأن هذه الجاهلية تلبس لبوس الإسلام ، فكل من أراد مقاومتها حورب باسم الإسلام
(1/17)
ونجد من المفكرين الإسلاميين من يقول بأن ذلك العصر كانت الحياة تدور فيه حول شخص واحد وهو شخص الخليفة ، من أجله يكدح الكادح ، ويزرع الزارع ، ويحصد الحاصد ، وتحمل الحامل ، وتلد الوالدة ، من أجله تخرج الأرض خيراتها ، وحوله تدور حياة الأمة بأسرها ، قال بأن هذا العصر إنما هو عصر شبيه بعصر القياصرة والأكاسرة وليس هو من الإسلام في شيء ، وهو في حكم الإسلام ليس حرياً أن يبقى يوماً واحداً . ولكن مع الأسف كان هذا هو النهج الذي اختطه هؤلاء لأنفسهم وأثروا به على العامة فأصبحت العامة تتفاعل به تفاعلاً تاماً مع هذا النهج ، وأن كل من خرج هذا النهج أو حاول أن يصلح الأمر فهو إذن باغ خارج عن سبيل المسلمين ، محارب للخلافة الإسلامية ، متنكر لهذه الخلافة إلى آخر ما كانوا يرددونه . وأخذت الأبواق التي تدعو إلى هذه السياسة يتردد صداها هنا وهناك ، وتوضع الأحاديث الكثيرة بأن لهؤلاء الطاعة المطلقة وإن ضرب أحدهم ظهرك أو أخذ مالك ما عليك إلا أن تخضع وتنقاد .
إذن كلمة لا إله الله بناء على هذا إنما هي وسيلة للاستبداد والظلم والتسلط على رقاب الناس ومن التناقضات العجيبة والمفارقات الغريبة أن نجد الذين يروجون لهذا الأمر يقولون بان القيام على هؤلاء حجر محجور لا يجوز أبداً ، لكن لو وجد من يقوم عليه أو من يقوم على خليفة عادل مبايع بيعة شرعية بصفة شرعية على نهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم ، ثم بعد ذلك يتغلب هذا القائم على الخليفة العادل المؤمن الوفي التقي الصالح ويستبد بالأمر دونه فإن طاعته تصبح واجبة ، وتصبح خلافته شرعية ، وتصبح بيعته في جميع رقاب الأمة ، وعلى الناس جميعاً أن يطيعوا وأن يخضعوا وأن ينقادوا
(1/18)
فإذن مثل هذه التصورات جميعاً هي لا بد من إعادة النظر فيها ، ولا بد من بيان أن المنهج الصحيح الذي جاء به الإسلام هو العدل . النبي صلى الله عليه وسلّم يقول ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتقبضن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) فإذن ما معنى هذا الحديث الذي يلزمنا أن نقبض على يد الظالم ونأطره على الحق أطرا ومع ذلك يقال بأن هذا الظالم تجب له الطاعة كما يطاع الله تبارك وتعالى ، تعطف طاعته على طاعة الله سبحانه وتعالى .
هذا التصور الذي ساد في نفوس هذه الأمة وساد في واقع هذه الأمة هو الذي انحرف بهذه الأمة كما قلنا عن المنهج الصحيح .
سؤال :
شكراً سماحة المفتي على هذه الاقاضة في مفهومكم لإعادة صياغة الأمة وقد فهمنا من ذلك أن إعادة صياغة الأمة من جديد تقوم على هدم التصورات الباطلة ، وتصحيح المفاهيم الثلاثة وهي الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر والعلاقة بين الحاكم والمحكوم لتكون مفاهيم قرآنية ، ومع هذا التفصيل نقول : سماحة المفتي : هذا المشروع النهضوي الضخم من أجل إعادة صياغة الأمة من جديد لا شك أنه يتطلب خطوات كثيرة فما خطوات الإعادة في تصور سماحتكم ؟؟
الشيخ الخليلي :
(1/19)
الجواب : كل أحد مطالب بأن يؤمن بكتاب الله وأن يؤمن بالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأن لا يؤثر هوى نفسه على ما جاء كتاب الله سبحانه وعلى ما جاءت به سنة نبيه صلى الله عليه وسلّم والله عز وجل يقول ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ) ، ونحن أمرنا أن تستهدي بالكتاب العزيز الله تبارك وتعالى يقول ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ، ويقول سبحانه ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ، ويقول تعالى فيه ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )، ويقول فيه ( هدى ورحمة للمحسنين ) ، ويقول فيه ( هدى وبشرى للمسلمين )
القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون هداية للعالمين ، والسنة الثابتة الصحيحة الثابتة عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام هي المصدر الثاني للتشريع ، والمصدر الثاني للفكر عند هذه الأمة ، فإذن لجوء هذه الأمة إلى الكتاب العزيز وإلى السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أساس هذا الخير كله ، ولكن كيف ؟ يمكن لهذه الأمة أن تتغلب على موروثاتها الفكرية التي عششت في أذهانها وسادت ردحاً من الزمن ، وغذيت بما غذيت به من دعوات الدعاة وترويج المروجين ، حتى صار رسوخها كرسوخ الجبال الرواسي في نفوس هذه الأمة ، كيف يمكن لذلك أن يؤتى عليه ؟
(1/20)
الجواب على أي حال ذلك سهل لمن سهله الله تبارك وتعالى له ، ومن المعلوم أن المعتقدات التي كانت سائدة في الأمم عندما بعث النبيون كان رسوخها رسوخاً عجيباً ، وكان التعصب لها تعصباً مقيتاً ، وكانت تعتبر جزءاً من حياة تلكم الأمم بحيث لم يكد لهم فكاك عنها ، إلا وضوح الحجة وسطوع البرهان وطريقة الإقناع أدى إلى هدم تلكم المعتقدات جميعاً ، واجتثاثها من أصولها ، وإقامة حياة نظيفة قائمة على التصور الصحيح والفكر السليم . ويمكن لأي أحد أن يتغلب على هذه الأفكار عندما يتجرد تجرداً تاماً كأنما لم يغذ بأي فكر من قبل ، يأتي إلى كتاب الله سبحانه موقناً أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأن الاحتكام يجب أن يكون إليه ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) عندما يكون الرجوع إلى الكتاب العزيز وإلى الفهم الصحيح للقرآن الكريم يمكن لهذه الأمة أن تتغلب على كل هذه العراقيل وأن تذلل هذه العقبات . وعلى أي حال يلزم قبل كل شيء تشويق النفوس إلى التجرد والاحتكام إلى القرآن وإلى السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، عندما تكون هذه الدعوة قائمة في أوساط هذه الأمة لا ريب أنها ستعطي ثمراً يانعة وستحقق نتائج محمودة بمشيئة الله وهذا ما نرجوه بعون الله
(1/21)
وأنا عندما ذكرت ما يجب أن تتجرد منه هذه الأمة ذكرت قضايا هي الموروثات القديمة لأن الموروث القديم له أثر أكبر ، و إلا فهناك الكثير الكثير من الأمور التي استجدت على الساحة ، ومن بين القضايا التي استجدت للأسف الشديد انبهار هذه الأمة بالحضارة الغربية ، بحيث أدى بهم هذا الانبهار إلى قبولها على علاتها ، وعدم التفريق بين النافع والضار منها ، وذلك نتيجة ما أصاب هذه الأمة من الهزيمة النفسية ، وما أصابها من الشعور بمركب النقص فإن ذلك أدى بها إلى أن تكون أمة تخضع كل الخضوع لأعدائها ، و على أي حال هذا أمر يكون مقدور عليه عندما يكون الاحتكام إلى القرآن بحيث تعرف الأمة مصدر عزتها ومصدر هاديتها ، عندما يكون الاحتكام إلى القرآن الكريم كل هذه الأمور يمكن للأمة بمشيئة الله تعالى أن تتخلص منها
سؤال :
سماحة الشيخ : يقول البعض بأن مسيرة الفكر الإسلامي هي سلسلة من ردود الأفعال ، فربما يقول قائل وأخذاً من الفقرة الأخيرة في حديثكم ربما يقول قائل أن هذه الدعوة يميلها الشعور بالخطر الداهم والمأزق الحرج الذي تعبره الأمة الآن . فهل هذه الدعوة فعل ، أم رد فعل ؟ هل هي نتاج يسير في سياق حركة تطور الفكر الإسلامي في سياقها الطبيعي ، أم هو رد فعل للشعور بالخطر الداهم الذي تواجهه الأمة الآن ؟؟
الشيخ الخليلي :
(1/22)
الجواب : هذه الدعوة ليست إلا تفاعلاً مع عقيدة الأمة الراسخة ، عقيدة الإيمان التي جاء بها القرآن ، وجاءت بها السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام . هي دعوة إلى عودة الأمة إلى أصولها واكتشاف هويتها ، ومعرفة عقيدتها ، ومعرفة الصحيح والباطل من مسلكها ، ومعرفة الصواب والخطأ في نهجها ، إذن ليس هذا رد فعل وإنما هو عين الواجب الذي تفرضه على هذه الأمة عقيدتها ، فنحن علينا أن ننظر هل الإسلام الذي جاء به النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بل جاء به المرسلون من قبل ، هل هذا الإسلام أنزل من قبل الله سبحانه وتعالى ليكون أمراً شكلياً لا أثر له في حياة الأمة ؟ هل هذا الإسلام أنزل ليكون نظريات تدغدغ أذهان هذه الأمة من غير أن يكون لها تأثير عليها في حياتها ؟ لا . إن الإسلام هو منهج حياة ، ولما كان منهج حياة ، فإن هذا الإسلام يجب أن يكون يتجسد في كل جزئية من جزئيات حياتها ، وذلك ما لا يتم أبداً إلا عندما يكون هنالك تصور صحيح ، تصور قائم على فهم القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ونبذ العصبيات العمياء التي مزقت هذه الأمة بحيث تتعصب كل أمة منها لموروثها الفكري ، وتدع النظر في كتاب والنظر في هدي رسوله صلى الله عليه وسلّم . عندما يكون هنالك تجاوز لهذه العصبيات بحيث ينشد كل أحد الحقيقة لا بد بمشيئة الله سبحانه وتعالى من التغلب على هذه الأهواء ، والسيطرة على هذه النزعات ، والوصول إلى هذه الغاية المرجوة .
سؤال :
(1/23)
سماحة الشيخ : لكن هل ستطال إعادة الصياغة صلب مناهج الدراسات الإسلامية التفسير وأصول الفقه وعلوم الحديث مثلاً ، أم ستقتصر إعادة الصياغة على التطبيقات وستكون تكراراً للدعوات التي نسمعها دائماً ، بمعنى آخر هل دعوة إلى بعث روحي فحسب دون إعادة النظر في المنهج ، هل ترون أن علوم الشريعة وآلات الاستنباط والاجتهاد في هيئتها الراهنة الموروثة كافية للتعامل مع العصر الحديث ؟؟ ، وإذا أردنا طرح السؤال بطريقة أخرى هل نجح علم الحديث من تنقية السنة من شوائب الوضع ؟؟ ، هل سيتقدر علم التفسير بمختلف طرقه التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي ومع احتفاله الشديد بالمعنى اللغوي وخفوت عنايته بروح النص هل سيقتدر مع ذلك على تحمل التصور القرآني وأداءه للعالمين ؟؟ وهل علم أصول الفقه في طريقتيه طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين هو نهاية التصور لهذا المنهج إذا أردنا إعادة صياغة الأمة من جديد ؟؟
الشيخ الخليلي :
الجواب : هنالك فرق بين الثوابت والمتغيرات ، وهناك فرق بين الوسائل والمقاصد ، المقصد كما قلنا هو الوصول إلى هذه الغاية ، والوسائل تختلف فيها الأنظار ، والثوابت لا مساس بها ، إنما هي ثوابت ، والمتغيرات يمكن لكل أحد أن يجتهد فيها إن توافرت عنده آلة الاجتهاد وكان قادراً عليها ، وعلى أي حال أولاً وقبل كل شيء نحن ننظر في نفس هذه الموروثات من هذه العلوم ، هل هي حقائق تطبق ، أو هي نظريات ؟؟ ، نحن نرى لو جئنا إلى علم الحديث مثلاً نرى أنه مما يقوله المحدثون جميعاً بأن الحديث لا يرقى على درجة الصحة ، ولا يعتبر حديثاً صحيحاً حتى يكون غير متصادم مع القرآن الكريم ومع المتواتر من السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
(1/24)
ولكن هل طبق ذلك تطبيقاً صحيحاً بحيث أنه أخذ بالحديث الذي يتفق مع مدلول القرآن ، وترك الأخذ بالحديث الآحادي الذي يتعارض مع مدلول القرآن ؟ لا . بل نجد التناقض بين علماء الحديث بين ما يؤصلونه وما يسيرون عليه ، نجد هناك تناقضاً عجيباً من أمثلة ذلك نرى أن الألباني يقول في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع بن حبيب رحمه الله من رواية ابن عباس ( إنكم ستختلفون من بعدي ، فإذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فهو عني ، وإن خالفه فليس عني ) يقول بأن هذا الحديث حديث باطل لا يصح ، هو من وضع الزنادقة ومن وضع الخوارج و.. إلى آخره .. ثم يقول : لو جئنا وحكمّنا هذا الحديث نفسه وعرضنا هذا الحديث نفسه على القرآن لوجدناه حديثاً باطلاً لأن القرآن يأمرنا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولما كان يأمرنا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم فإذن علينا أن نأخذ بهذا الأمر ونرفض هذا الحديث تبين لنا بهذا المقياس أنه حديث باطل ..الخ .
أولاً للنظر هل الحديث يقول بأنه يُرفض شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، أو يقول بأن معرفة التمييز بين الصحيح وغيره من جملة طرقه أن نرجع إلى القرآن لننظر في موافقة الرواية للقرآن وعدم موافقتها ، ثم للنظر في مسلك الصحابة رضوان الله عليهم ، نحن نرى أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مع قرب عهدهم بالمنبع بالرسول صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحرصون كل الحرص على أن يأخذوا بالرواية التي لا تتعارض مع القرآن ، وعندما تأتيهم رواية يشتّموا منها أي معارضة للقرآن لا يقبلون ذلك ، عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه ردّ حديث فاطمة بنت قيس ، مع أن فاطمة بنت قيس صحابية وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنها طلقت في عهده طلاقاً بائناً ولم يفرض لها نفقة ولا سكنى ، فقال عمر رضي الله عنه : لا نترك كتاب الله لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت .
(1/25)
هذا مع أنه ليست هنالك واسطة بينها وبين النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ، إنما تلقت الحكم من النبي صلوات الله وسلامه عليه والحكم مباشر ، لم يكن هذا الحكم حكماً في غيرها وإنما كان حكماً فيها ، وصاحب القصة هو أولى بأن يحفظ ، كذلك ما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ردت رواية ابن عمر بل ردت رواية عمر رضي الله عنه أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . وقالت في عبدالله بن عمر: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكن ليكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ولكنه لعله سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول في المرأة اليهودية التي مر على أهلها يبكون عليها إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب ببكائهم عليها . هي ردت الرواية فقالت : حسبكم القرآن ( لا تزر وازرة وزر أخرى )
كذلك عندما سئل جابر بن زيد رحمه الله عن حديث تحريم ذوات الناب من السباع أو حديث الحمر الأهلية نسيت ذلك هو في صحيح مسلم قال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر قال : لا نترك كتاب الله لقول أعرابي إلى آخره . فإذا كان هؤلاء الصحابة يرفضون روايات جاءت من طرق صحابة ثقات ، فهل هؤلاء في ميزان الألباني من الزنادقة الذين كانوا يردون سنة النبي صلى الله عليه وسلّم اتباعاً للهوى ؟ ، أو أنهم كانوا يحرصون على السلامة ، ثم نجد التناقض ما بين هذا الذي قاله الألباني هنا وما بين ما قاله في كتاب ( آداب الزفاف ) نجد التناقض بيناً
(1/26)
ففي كتاب آداب الزفاف تعرض لحرمة الذهب على النساء بناء على رأيه الذي خالف به إجماع الأمة ، حيث يقول إن الذهب حرام على النساء ، مع أن بعض العلماء نقلوا الإجماع على خلاف هذا الرأي ، ومن الذين نقلوا ذلك الحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر العسقلاني نقلوا الإجماع على إباحة الذهب للنساء ، فهو اعترض على رواية الإجماع وقال بأن رواية الإجماع لا تصح ، ونقل عن ابن القيم بأنه يجب أن ينظر في رواية الإجماع فلا تقبل أي رواية للإجماع فإنه لا إجماع إلا إن كان له أصل من السنة ، ولا سنة إلا إن كان لها أصل من الكتاب ، نجد التناقض بين ما ذهب إليه هنا وهناك . فإذن كثير من أئمة الحديث أو علماء الحديث وقعوا في الكثير من التناقضات .
ثم إذا جئنا إلى قضية التعديل والتجريح نجد هذه القضية شيبت بالكثير الكثير ، فلربما كان تجريح أحد من الرواة بسبب موقف سياسي ما كان يتفق مع السياسة التي كانت متغلبة في ذلك الوقت وكانت متسلطة في ذلكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق