أحكام السوق المالية ليعقوب السعيدي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

أحكام السوق المالية ليعقوب السعيدي

 





الكتاب : أحكام السفر في الإسلام لعلي معمر
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
أحكام السفر في الإسلام
للشيخ العلامة الجليل:
علي يحيى معمر رحمه الله تعالى
الناشر / مكتبة الاستقامة – روي (سلطنة عمان)
1410هـ - 1990م
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
"قران كريم"
المقَدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا في صيف سنة 1964 بالعجوزة من ضواحي القاهرة وزارنا صديقنا الاستاذ الشيخ محمد نشنوش عند صلاة العصر , فطلب إلي أن نصلي العصر معا حتى نحوز فضل الجماعة , فقلت له: انني صليت الظهر والعصر جمعا لانني مسافر فبدت على وجهه علامات الدهشة والاستغراب وقال لي : أجمع تقديم أم جمع تأخير؟ قلت: جمع تقديم , قال لي ولماذا؟ قلت إحياء للسنة. فقال لي: وما الضرورة التي حملتك على ذلك؟ قلت لقد أجبتك بانني فعلت ذلك إحياءً للسنة لا إستجابة للضرورة. وسكت الشيخ ولكنه كان يبدو عليه أنه غير مقتنع بجوابي ولا مطمئن لمسلكي. وافترقنا بعد ذلك ولكن نقاشه لم يزل يتردد في خاطري. لقد ابعدت الملخصات الفقهية المسلمين عن المعاني الروحية للاقتداء والاهتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/1)
واذا كان أمثال الشيخ نشنوش في عمقه ودراساته الاسلامية يقف موقف غير المطمئن في مثل هذه الحال , فان غيره ممن يقتصر في دراساته على الكتب الجافة التي تكاد تجعل الاسلام حتى في اقسام العبادات كالكتب القانونية تتحكم فيها المادة والاحصاء , ان هؤلاء يحق لهم ان يقفوا مدهوشين لانهم لم يطالعوا إلا كتبا تهتم بالعدد , بعدد الركعات وعدد التكبيرات وعدد السنن وعدد الفرائض وعدد النواقض أكثر مما تهتم بحقيقة العمل واخلاص النية , وقصد الاقتداء , ورجاء القبول , والحرص على القربة , وكنت حينئذ أذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه.
اخرج مسلم عن عبدالله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس, وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة, قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة ! الصلاة ! فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا ام لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبدالله بن شقيق, فحاك في صدري من ذلك شيء, فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته.
لقد تغير مسلك الناس بما فعلته الكتب الخالية من الروح الاسلامية العميقة من عبادة تقوم على السمع والطاعة لله والقدوة برسوله والتقرب بالاهتداء بما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم, الى أعمال آلية تكاد تكون عادات وتقاليد يقصد منها مسايرة ما ألفه الناس أكثر مما يقصد منها الاستسلام لامر الله والرضا بحكمه.
(1/2)
وصلاة السفر من المواضيع التي بعد فيها الناس عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, بسبب التعليلات العقلية واستخراج الاسباب والحكم بفكر الانسان المحدود الضيق, وكثير ما يسألني سائل عن بعض الاحوال في صلاة السفر ولكن عندما أجيبه أرى فيه عدم الإطمئنان لان جوابي لا يتفق في كثير من الاحوال مع ما درج عليه جماهير الناس, ولذلك فقد رأيت أن أضع هذه الرسالة المختصرة في أحكام السفر في الاسلام, مبينا فيها ما اعتقدته حقا وصوابا وما كنت أفعله وأفتي به لمن سألني, فأن أصبت فذلك توفيق من الله وإن أخطأت فانني أضرع اليه سبحانه وتعالى أن يغفر لي خطأي وان يهديني سواء السبيل, فانني لم أقصد بهذا العمل الضئيل غير وجهه تعالى وخدمة دينه, واحياء سنة نبيه عليه الصلاة والسلام, ودعوة الأمة المؤمنة الى الرجوع الى كتاب الله وهدي محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الذين هم كالنجوم, وحسبي الله ونعم الوكيل.
السفر
السفر هو خروج الانسان من محل إقامته, لغرض من أغراض الحياة, بنية الرجوع.
ويعتبر الشخص مسافرا مالم يتخد وطنا جديدا يستقر فيه, وينوي الاقامة الدائمة به, وبقاء الانسان في مكان ما خارج وطنه لمدة طويلة أو قصيرة مادام ينوي الرجوع, لا يغير من حقيقة السفر وأحكامه شيئا. ونستطيع أن نتأكد من هذه المعاني للسفر بالرجوع الى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. اما القرآن الكريم فقد جاء فيه على لسان سبأ: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا).
(1/3)
وذلك بعد قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فقد اعتبرت المسافات القصيرة بين القرى الظاهرة سفرا مع ان المتنقل بينها قد لايحتاج فيها الى زاد أو ماء أو رفقة فما يخرج من قرية حتى تبدو له قرية أخرى ظاهرة فيصل إليها دون عناء أو بعد عناء يسير وقد يتنقل من هذه القرية الى القرى التي بعدها, قرية بعد قرية, فيسير ليالي وأياما على هذه الطريقة المريحة التي قدر العليم الحكيم مسافات السير والاقامة بها. وقد يسافر الى اقرب قرية فيقضي شأنا من شؤونه ثم يعود, ومعلوم من الآية الكريمة ان القرى متجاورة لايخفى بعضها عن بعض بل انها لتبدو للناظر ظاهرة في وضوح.
والقرآن الكريم يسمي كل ذلك سفرا ما قرب منه وما بعد, على أن هذا القرب وهذا الامن وهذا العمران والازدهار هو ما مله أهل سبأ فكفروا بنعمة الله التي أسبغها عليهم. وطلبوا منه تعالى ان يباعد بين اسفارهم فاستجاب الله لهم فابدلهم عن جنتهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ثم جعلهم أحاديث ومزقهم كل ممزق.
وجاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) والسفر القاصد هو السفر المتوسط والآية الكريمة وان كانت لا تنص على تحديد المسافة أو الزمن إلا أنها تدل على أن من السفر سفرا بعيدا ومتوسطا وقريبا. وأن المنافقين قد يذهبون مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى السفر القريب او المتوسط اذا كان ذلك سببا للغنيمة أو الكسب ثم يعودون الى منازلهم في المدينة دون تضحية او خسارة أما عندما يكون السفر بعيدا شاقا وفي زمن الحر ولحرب بني الاصفر فهذا ما لا تطيقه عزائم المنافقين, ولا تدفع اليه عقائدهم المخذولة, واراداتهم الواهنة الضعيفة.
(1/4)
والآيتان الكريمتان وان كانتا لا تحددان مسافة او زمنا للسفر إلا أنهما اطلقتا معنى السفر على قطع المسافة القريبة بين القرى الظاهرة أو التي ينشط اليها المنافقون ليحرزوا الغنائم ويعودوا الى اهلهم بالمكاسب دون ان تنالهم مشقة او يصيبهم تعب.
أما السنة النبوية المطهرة التي تفصّل المجمل من كتاب الله فقد ورد فيها ما يأتي: اخرج أبي داوود عن طريق أبي هريرة مرفوعا: (لا يحل لامرأة تسافر بريدا إلا ومعها محرم) واخرج البخاري عن ابن عمر مرفوعا: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر فوق ثلاثة أيام الا معها محرم) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم الا مع ذي محرم).
فهذه الآحاديث الكريمة اطلقت على المسافات التي يقطعها الانسان في يوم أو في ثلاثة أيام سفرا والاحاديث الكريمة هنا لا تحدد السفر وانما تنهى المرأة المؤمنة أن تسافر الا مع ذي محرم وقد نهاها صلى الله عليه وسلم ان تسافر مع اجنبي بريدا أو يوما أو ثلاثة أيام او فوق ذلك والاحاديث تنص على أنه لا يجوز للمرأة مطلق السفر سواء كان بعيدا أو قريبا الا مع محرم. هذا اذا كانت تؤمن بالله واليوم الآخر.
(1/5)
على أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر بالمدينة اربعا, وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه انه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذا خرج مسير ثلاثة أميال صلى ركعتين. وذكر أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. والفرسخ ثلاثة أميال. وجاء في مدونة أبي غانم: (أنه روي ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة نحو مكة حتى كان بدي الحليفة وبينه وبين المدينة فرسخان, صلى ركعتين ركعتين ثم رجع الى المدينة فقيل له في ذلك فقال عليه السلام انما اردت ان اعلمكم صلاة السفر.) ، فالسنة القولية والسنة العملية تدلان على ان المسافة التي يعتبر الانسان مسافرا اذا قطعها, هي ما يتراوح بين ثلاثة اميال و أربعة أو هي ما يعادل ما بين المدينة وذي الحليفة أو ما يقطعه الانسان في سير عادي بين صلاة الظهر وأول العصر.
فلو خرج الانسان لشأن من شئونه ولم يتجاوز ثلاثة أميال لم يعتبر مسافرا ولا تجري عليه أحكام السفر ولا يجوز له أن يفطر أو يقصر الصلاة أما الذي يتجاوز في خروجه من محل اقامته ما يساوي ثلاثة اميال أو أثني عشر كيلو متر أو مايساوي ما بين المدينة المنورة وذي الحليفة أو ما يمكن ان يقطعه الرجل العادي بالسير العادي في الفترة الزمنية التي تقع بين صلاة الظهر وأول صلاة العصر – فهو مسافر مهما كان الغرض الذي خرج من أجله وطبقت عليه احكام السفر فجاز له ان يفطر ولم يجز له ان يصلي الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات بل تعين عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين.
حكم الصلاة في السفر
ان المسافر الذي يتجاوز مسافة السفر, وهو ما يتراوح بين ثلاثة او اربعة اميال يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين.
(1/6)
ولا يجوز له بحال ان يتم. سواء كان هذا السفر طويلا أو قصيرا, وسواء مكث في مكان ما مدة طويلة, او كان ينتقل من مكان الى مكان, وسواء كان سفره في طاعة او مباح او معصية, مادام ينطبق عليه حكم السفر فلم يتخد وطنا جديدا يستقر فيه استقرارا دائما. هذه هي القاعدة العامة في حكم الصلاة في السفر وسوف اضرب أمثلة واستعرض أحوالا لحياة الناس ليجد كل صنف منهم الحالة التي تنطبق عليه.
1- تاجر يسافر من قريته الى المدينة ليبيع ويشتري, ويقيم في المدينة عشرة أيام أو عشرين أو أقل أو أكثر حتى يبيع ما جاء به من بضاعة ويشتري مايريد من بضاعة اخرى, ثم يعود الى قريته ليواصل عمله التجاري. انه مسافر في كامل المدة منذ خرج من القرية حتى عاد اليها, ويجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين, ولا يجوز له ان يصلي أربعا الا اذا صلى وراء امام مقيم.
2- فلاح سمع بنزول الامطار في أرض من أراضي الحراثة تبعد عن بلده اكثر من ثلاثة أميال فأخذ عدته وذهب للحرث وبقي هناك اسبوعا أو شهرا أو أكثر من ذلك أو أقل انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين , ولا يجوز له ان يصلي أربعا وفي حكمه من يذهب للحصاد أو لغيره من شؤون الزراعة.
3- جندي أو من في حكمه كالبوليس, اقتضاه واجبه ان يؤدي عمله في مركز حكومي بعيد عن بلده لمدة تطول أو تقصر. انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين, الا ان يصلى وراء امام مقيم.
4- مدرس عينته وزارة المعارف ليؤدي واجبه المقدس في إحدى القرى أو المدن بعيدا عن بلده سنة دراسية أو أكثر من ذلك انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين, الا ان صلى وراء امام مقيم.
(1/7)
5- موظف تابع لأي مصلحة من مصالح الحكومة كالداخلية أو الخارجية أو الزراعة أو الأشغال أو الصحة أو العدل أو غيرها من المصالح أرسلته مصلحته ليقوم بعمله الوظيفي بعيدا عن بلده مدة قد تقصر إلى شهور أو أسابيع وقد تطول إلى سنوات. انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين ولا يجوز له أن يصلي أربعا الا اذا صلى وراء امام مقيم.
6- عامل اضطرته ظروف الحياة الى أن يعمل بعيدا عن وطنه اما في شركة او مؤسسة أو غير ذلك يجد ويعمل ليكسب ما يستطيع ان يعيش به هو وأسرته في بلده الأصلي. انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين ولا يجوز له أن يصلي أربعا الا اذا صلى وراء امام مقيم.
7- طالب إلتحق ببعض المدارس أو المعاهد تبعد عن بلده فوق ثلاثة أميال انه مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين ولا يجوز له أن يصليها أربعا الا اذا صلى وراء امام مقيم.
هذه صور متعددة لاحوال الناس يكثر وجودها في المجتمع الليبي وفي غيره من المجتمعات لينظر إليها من كانت حاله شبيهة باحدى هذه الحالات فيتخد لنفسه حكمها ، وهذه الحالات السابقة التي عرضتها لاتخرج عن حكم السفر. وإلى القاريء الكريم صور أخرى حكمها يخالف حكم الصور السابقة أضعها بين يديه ليتأملها اذا شاء.
1- تاجر ضاقت به وبأهله ظروف الحياة في قريته الصغيرة النائية, فانتقل الى العاصمة وفتح لنفسه محلا تجاريا واتخد له ولاهله مسكنا ونقل اليه اسرته واستقر به استقرارا ثابتا دائما وهو لا ينوي الرجوع الى بلده الاصلي بل فضل ان يحيا في هذا الوطن الجديد الذي تيسرت له فيه سبل الحياة انه مقيم, ولم يعد مسافرا وهذا البلد الجديد هو وطنه ولا يجوز له بحال ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين بل يجب عليه أن يصليها أربعا.
(1/8)
2- موظف حاول بكل وسيلة ان يترك في بلد معين غير بلده الأصلي وهو قد إتخذ لنفسه فيه مسكنا أو بسبيل ذلك, ويجب أن يستقر في هذا الوطن الجديد استقرارا ثابتا دائما ولو خير بينه وبين الرجوع الى بلده الأصلي لفضل البقاء حيث هو. انه مقيم يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربع ركعات ولا يجوز له بحال أن يصليها ركعتين.
ويستطيع القاريء الكريم أن يقيس على هاتين الصورتين كل الصور المشابهة لها, فيحكم على أصحابها بأنهم مقيمون فكل من انتقل من بلده الاصلي الى بلد غيره انتقالا كليا وهو عازم على أن يستقر في بلده الجديد استقرارا ثابتا دائما يعتبر مقيما وتسري عليه احكام المقيم فوجب أن يصلي أربعا. ولما كان امتلاك المنازل والسكنى فيها واتخاذ الازواج من البلد الجديد دليلا على حب هذا الموطن الجديد والحياة فيه فقد ذهب بعض العلماء إلى عدم جواز القصر لمن تزوج في بلد أو ملك فيه والى هذا الرأي ذهب أمير المؤمنين عثمان حين تزوج من منى فصلى بها أربعا بعد أن كان يصلي بها ركعتين ركعتين صدرا من خلافته, ويبدو من أحوال الناس ان الموظفين مهما كان نوع وظائفهم والعمال مهما كان نوع عملهم خارج العاصمة يعتبرون مسافرين ماداموا بعيدين عن قراهم الاصلية وعليهم ان يصلوا الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين الا اذا صلوها وراء إمام مقيم. إما الذين يكونون في العواصم فمن كان منهم مرتبط المصالح ببلده الاصلي وهو يعمل للرجوع اليه ولو امكنته الفرصة لاهتبلها وفرح بها ويقضي إجازته واعياده به فهو مسافر يجب عليه ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين ركعتين الا اذا صلى وراء إمام مقيم.
اما من استقر بالعاصمة وأحب السكنى بها واصبح يتخذ مشاريع الاستقرار والحياة الدائمة بها ولا يربطه بوطنه الاصلي شيء اللهم إلا الحنين الغريزي الى الموطن الأول فهو مقيم ولا يجوز له ان يصلي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين بحال من الاحوال.
(1/9)
الادلة على وجوب القصر
في الفصل السابق قدمت لك حكم الصلاة في السفر وقد يكون ذلك الحكم مخالفا لما تعرفه أو لما تعتاده أيها القاريء الكريم ولذلك أردت أن أضع بين يديك الأدلة على صحة ذلك الحكم, وانا حين اضع بين يديك حكم الصلاة في السفر والادلة عليه لا ارجع الى الملخصات الفقهيه في مختلف العصور, وانما ارجع الى خير القرون لانقل اليك حكم الله عز وجل حسب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسب هدي الرعيل الأول من حملة مشعل الاسلام الذي لا ينطفيء أبدا.
(1/10)
فقد أجمع رواة السيرة والحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتم في سفر قط سواء كان ذلك السفر طويلا أو قصيرا ولم يأمر بالإتمام قط. ويكفي هذا القدر في معرفة وجوب القصر في السفر, فإن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا فريضة الصلاة وترك الى رسوله صلى الله عليه وسلم بيان التفاصيل في الحضر والسفر جميعا. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقد نقل الينا أصحابه رضوان الله عليهم أنهم رأوه يصلي في الحضر أربعا لكل من الظهر والعصر والعشاء , وأنهم رأوه يصلي ركعتين في السفر لكل من الظهر والعصر والعشاء وأنهم صلوا وراءه كذلك وانه لم يقصر بهم في حضر ولم يتم بهم في سفر البته. وما كان لنا ان نخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شرعه الله لنا, ولو كان هناك حكم غير هذا الحكم لصلاة الحضر أو لصلاة السفر لبينه صلى الله عليه وسلم فما يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ثم ماذا نبتغي بالزيادة عما فعله صلى الله عليه وسلم وداوم على فعله في جميع أسفاره؟ أنبتغي الفضل والتقوى؟ لو كان في ذلك فضل لسبق اليه صلى الله عليه وسلم ونحن انما نلتمس الفضل باتباع هديه والاقتداء به ومن حسب أنه يسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم الى خير, فقد خدعته نفسه, وغره الشيطان. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (والله إني لارجو أن أكون أخشاكم لله, وأعلمكم بما أتقى)(_1 سبل السلام الجزء الثاني 165._)
وبعد هذا فاليك أيها القاريء الكريم مايقوله رواة السيرة والحديث لتطمئن الى صحة هذا الحكم:
1- (قد فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة زاد مع كل ركعتين, ركعتين. الا في المغرب فانها وتر النهار وصلاة الفجر لطول قراءتها وكان اذا سافر صلى الصلاة الاولى) رواه ابن خزيمة واحمد والبيهقي وابن حبان من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
(1/11)
2- (صلاة المسافر ركعتان حتى يؤوب الى أهله أو يموت) رواه الخطيب والجصاص.
3- (على المقيم سبع عشرة ركعة وعلى المسافر احدى عشرة ركعة) رواه الربيع بن حبيب.
4- قال عمران بن الحصين: (ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا الا صلى ركعتين حتى يرجع, ويقول: ((يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين, فأنا في سفر)). وغزا الطائف وحنينا فصلى ركعتين, وأتى الجعرانة فاعتمر فيها, وحججت مع أبي بكر رضي الله عنه فصلى ركعتين, واعتمرت مع عثمان فصلى ركعتين ركعتين صدرا من امارته ثم صلى عثمان أربعا). وروي الحديث من عدة طرق وبالفاظ مختلفة وهذه رواية البيهقي.
5- (كان صلى الله عليه وسلم, اذا خرج من بيته مسافرا يصلي ركعتين ركعتين حتى يرجع) رواه البيهقي عن ابن عباس.
6- (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) رواه الربيع ومسلم عن أم المؤمنين عائشة.
7- (فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأول) رواه البخاري وأحمد وزاد أحمد الا المغرب فانها كانت ثلاثا.
8- (فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا) رواه مسلم والجصاص.
9- (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) أخرجه مسلم والنسائي وأبوداود.
10- (من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين) رواه أحمد.
11- قال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وابا بكر وعمر و عثمان كذلك) اخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
12- (صلاة السفر ركعتان وصلاة الاضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
13- (قال ابن عمرو صلاة السفر ركعتان نزلت من السماء فان شئتم فردوها) رواه الطبراني.
(1/12)
14- صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر) اخرجه الطبراني عن ابن عمر في الكبير برجال الصحيح)_1 سبل السلام الجزء الثاني 37 –طبع الحلبي._(
15- قال قتادة: سمعت موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس فقلت: اني أكون بمكة فكيف أصلي؟ قال: (ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) رواه البيهقي.
16- أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مددا مختلفة في أماكن مختلفة وفي كل ذلك يقصر الصلاة فقد أقام في مكة ثمانية عشر يوما وأقام بتبوك عشرين يوما وأقام بخيبر أربعين يوما على إحدى الروايات وفي كل ذلك يصلي ركعتين ركعتين.
هذا بعض ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل واليك أيها القاريء الكريم هدي الرعيل الاول من الصحابة والتابعين:
1- أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
2- أقام ابن عمر في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة.
3- أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر.
4- أقام عبد الرحمن بن عمر بكابل سنتين يقصر الصلاة.
5- أقام سعد ببعض قرى الشام اربعين ليلة يقصر الصلاة.
6- كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيمون بالري السنة وأكثر يقصرون الصلاة وكانوا يقيمون في سجستان السنتين يقصرون الصلاة.
7- قال الحسن البصري مضت السنة ان يقصر المسافرون ولو أقاموا عشر سنين.
8- قال بوجوب القصر عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر.
هذا أيها القاريء المسلم هدي محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه. وانك لا تستطيع الا ان تسلك سبيلهم وتعرف أن النجاة في الطريق الذي اتبعوه وان شئت أن تستأنس بآراء اهل العلم فاليك ما يلي:
1- قال الصنعاني في سبل السلام عندما تحدث عن حديث عائشة: (في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في صلاة السفر, لان فرضت بمعنى وجبت. ونقل عن الهيثمي قوله بعد شرحه لحديث بن عمر, رجاله موثوقون وهو توقيف لا مسرح فيه للاجتهاد.
(1/13)
2- قال ابن القيم في الهدي النبوي: كان يقصر صلى الله عليه وسلم الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا الى ان يرجع الى المدينة, ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في السفر البتة.
3- قال الأستاذ سيد سابق في كتابه القيم (فقه السنة) المسافر يقصر الصلاة مادام مسافرا, فإن أقام لحاجة ينتظر قضاءها قصر الصلاة كذلك لانه يعتبر مسافرا وان أقام سنين فان نوى الإقامة مدة معينة فالذي اختاره ابن القيم ان الاقامة لاتخرج عن حكم السفر سواء طالت أم قصرت مالم يستوطن المكان الذي أقام فيه. ونقل عن ابن القيم أيضا قوله: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للامة لايقصر الرجل الصلاة اذا أقام أكثر من ذلك ولكن اتفق إقامته هذه المدة, وهذه الاقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت ام قصرت اذا كان غير مستوطن ولا عازم على الاقامة في ذلك الموطن.
(1/14)
4- قرر قطب الائمة وجوب القصر على المسافر وأطال في الاحتجاج لهذا الرأي , ورد ما استند اليه من يقول بالجواز. ثم أورد في كتابه شامل الاصل والفرع صفحة 7 من الجزء الثاني مايلي: (وقد قال مالك بما قلنا من وجوب القصر على المسافر وقد روى في موطأه حديث عائشة: فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. قال ابن يونس المالكي: ومن المدونة قال مالك: ومن صلى في السفر أربعا أعاد في الوقت, قال سحنون جهلا أو عمدا أو نسيانا. وقال مطرف عن مالك: انه ان اتم نسيانا أو سهوا سجد لسهوه واجزته) انتهى ما أورده القطب أعتقد أن هذا يكفي لمن اراد ان يعرف الحكم الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم يجد في هذا مقنعا فليرجع الى مصادر الشريعة من كتب السيرة والسنة النبوية, فسوف يجد ما يطمئن اليه القلب. وترتاح له النفس, ويرضى به المؤمن الذي يعلم أنه ليس للبشر أن يحكموا فيما نزل فيه حكم الله. ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا).
من أدلة القصر أيضا
قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) اختلفت آراء العلماء في الإستدلال بهذه الآية الكريمة. فاستدل بها بعض على وجوب التقصير في صلاة السفر, واستدل بها البعض الآخر على جوازه. ومبداء هذا النقاش كان في أزمنة الصحابة رضوان الله عليهم.
(1/15)
اخرج مسلم عن يعلى بن امية قال قلت لعمر بن الخطاب (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) فقد أمن الناس. فقال- أي عمر- عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم, فاقبلوا صدقته). ان الآية الكريمة نزلت في صلاة الخوف لا في صلاة السفر وقد أشكلت على بعض الصحابة ومنهم عمر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم بحكم صلاة السفر, وقال: انها صدقة من الله سبحانه وتعالى وانه يجب على المؤمنين قبول هذه الصدقة, فانها نعمة من نعم الله الكثيرة التي يغمر بها عباده, وان من شكر النعمة ان يتقبلها الانسان باستبشار ورضى. وان رد الانسان لنعمة من نعم الله كفر بها. وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يظن بعض الناس ان القصر في السفر رخصة وان الاتمام أقضل, فيؤدي بهم ذلك الى رد حكم الله فأصدر أمره عليه السلام بقبول حكم الله فقال: (فاقبلوا صدقته)– والامر للوجوب- ومن ذا يعرض عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويرد صدقة الله بالتيسير والتخفيف على عباده المؤمنين؟ والذي يؤكد هذا المعنى السنة العملية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتم في سفر قط وليست كل أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا فقد كان في كثير منها آمنا مطمئنا وقد أقام في أمكنة كثيرة مددا مختلفة ولكنه مع ذلك كان يقصر الصلاة. وتلك الاقامة مع الامن هي التي اشكلت على عمر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحسب ان الآية نزلت في السفر فبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان القصر في السفر صدقة من الله وأنه لا يحل لامريء يؤمن بالله ان يرد على الله صدقته. فالحديث النبوي الشريف لايفسر الآية الكريمة ولكنه يبين حكم الله في صلاة السفر اما الآية فقد جاءت لبيان حكم آخر وهو صلاة الخوف.
(1/16)
على أنه يكفي أن يكون الحديث الشريف مفسرا للآية الكريمة حتى يدل على الوجوب وذلك لسببين:
الاول: ان القصر صدقة من الله على عباده المؤمنين وصدقة الله لا ترد.
الثاني: أمرالرسول صلى الله عليه وسلم لنا بالقبول.
اما الذين استدلوا بالآية الكريمة على عدم وجوب القصر فقد اشتبه عليهم قوله تعالى: (َلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ) فظنوا ان رفع الجناح يعني التخيير والذي يبدو من تدبر معنى الآية الكريمة مع مايفهم من السنة النبوية أن رفع الجناح هنا يعني التطمين والايناس لا التخيير فقد علق في اذهان الناس لكثرة مايصلون في الحضر ان الصلاة في الظهر والعصر والعشاء رباعية وأن صلاتهم ركعتين في السفر انما هو رخصة واتيان العزيمة في نظرهم افضل واكمل فجاء الكتاب الكريم يبين لهم أن صلاة ركعتين في السفر ليس برخصة وانما هو شرع الله لعباده وان امتثالهم لامره تعالى لاجناح فيه ولا اثم والشاهد على هذا المعنى قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) وقد جاءت هذه الآية الكريمة للتطمين والايناس فقد سبق في اذهان الناس ان السعي بين الصفا والمروة من اعمال الجاهلية لانهم كانوا يطوفون حول الصنمين اساف ونائلة وتحرجوا من ذلك فبين الله لهم ان السعي بين الصفا والمروة فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائره لاتترك لوهم متوهم ولا لسابق كفر من المشركين وان المسلمين يجب عليهم أن يؤدوا هذه الشعيرة وهم مطمئنون انهم يؤدون حكم الله, ولم أعرف فيما اطلعت عليه ان السعي بين الصفا والمروة رخصة تركها أفضل قياسا على ما ذهب اليه ذاهبون في صلاة السفر وانما يرى أكثر المذاهب أن السعي ركن يبطل الحج بتركه ويرى بعض المذاهب أنه واجب يجبر بالدم.
(1/17)
وعلى هذا القياس يقال في الآية السابقة عندما تحرج المسلمون من صلاة ركعتين في السفر وهم آمنون مقيمون أنزل الله الآية يبين لهم حكمه ويطمئنهم الى أن حكم الله يجب ان يطاع وان القصر في السفر فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائره لاتترك لوهم سبق الى نفس الإنسان وانما يجب على المسلمين ان يعملوا بما ثبت من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يحكم ما يريد.
الرد على من يرى الإتمام
ذهب بعض العلماء الى وجوب أو جواز الإتمام لمن يقيم في سفره مدة معينة. واختلفوا اختلافا كبيرا في تحديد المدة فجعلها بعضهم أربعة أو عشرة أيام أو خمسة عشر أو ثمانية عشر أو عشرين أو غير ذلك. وهم يستندون في أرآئهم وتحاديهم هذه على سندين:
1- الاول الرأي والاجتهاد ونحن لا نناقش هذا القسم ولانبحث الآراء المتولدة عن الاجتهاد فانه لاحظ للنظر مع وجود الأثر ولا قيمة لكلام العلماء مع ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- الثاني آثار استندوا اليها ونحن سوف ننظر الى أهم الأثار التي استندوا إليها ونناقشها حسب ما توصلنا اليه على ضوء ما قاله علماء السيرة والحديث واليك ايها القاريء الكريم هذه الآثار التي استندوا اليها:
(1/18)
1- عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقصر في السفر ويتم, ويصوم ويفطر). قال الصنعاني في سبل السلام عندما تحدث عن هذا الحديث: وحديث الباب قد اختلف في اتصاله فانه من رواية عبدالرحمن بن الاسود عن عائشة. قال الدارقطني: انه ادرك عائشة وهو مراهق قال المصنف رحمه الله: هو كما قال, ففي تاريخ البخاري وغيره مايشهد لذلك, وقال ابو حاتم: ادخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها. وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها. واختلف قول الدارقطني في الحديث فقال في السنن: اسناده حسن, وقال في العلل المرسل أشبه هذا كلام المصنف ونقله الشارح وراجعت سنن الدارقطني فرأيته ساقه وقال انه صحيح. ثم فيه العلاء بن زهير. قال الذهبي في الميزان وثقه ابن معين وقال ابن حبان كان محمد يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات. انتهى فبطل الإحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات. وقال ابن القيم بعد روايته لحديث عائشة هذا ما لفظه: وسمعت شيخ الاسلام يقول وهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى يريد رواية يقصر ويتم بالمثناة التحتية وجعل ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم, فإنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يتم رباعية في سفر. هذا كلام الصنعاني عن هذا الحديث وترى أيها القاريء الكريم ان هذا الحديث من كلام عائشة لايصح عنها ولا يثبت عند الاحتجاج وقد كذبه شيخ الاسلام ابن تيمية بشدة كما رأيت.
(1/19)
2- روى الحديث السابق بالياء في يقصر والتاء في تتم وكذلك يفطر وتصوم يعني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويفطر, وان عائشة كانت تتم وتصوم وهذا الكلام لا يستقيم فان الحديث من كلام عائشة وكان يصح لو قالت: كان يقصر وأتم ويفطر و أصوم لانها هي المتحدثة فكيف تأتي بضمير المخاطب بدل المتكلم ، وقد تحدث ابن القيم عن هذا الحديث وعن حديث آخر رواه البيهقي عن عائشة قالت فيه: انها اعتمرت معه صلى الله عليه وسلم من المدينة الى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يارسول الله: بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت وأفطرت وصمت, فقال: أحسنت ياعائشة وما عاب علي. فقال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل, ماكانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم, وفي الصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر, فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه.
3- (خير أمتي الذين إذا أساءوا إستغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا). أخرجه الطبراني في الأوسط باسناد ضعيف وهو في مرسل سعيد بن المسيب عن البيهقي وقد استدل به بعضهم على أن القصر في السفر رخصة والحديث لا يثبت للاحتجاج ولا ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة.
4- روى البيهقي عن أنس بن مالك قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتمم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر والمفطر على الصائم والمتمم على المقصر والمقصر على المتمم. في سند هذا الحديث عمران بن يزيد التغلبي وقد قيل فيه أنه ضعيف واهي الحديث ويروي عن أنس أشياء موضوعة. لا يحل الاحتجاج بخبره. ثم أنه ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه أقام بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر فلو كان يرى جواز الاتمام لأتم.
(1/20)
5- رُوي أن أمير المؤمنين عثمان صلى بمنى أربعا في أواخر خلافته وقد أنكر الصحابة عليه ذلك ورووا أنهم صلوا وراء الرسول صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر وعمر ركعتين فاعتذر عثمان بأنه تزوج من منى وانه سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن من تزوج من قوم فهو منهم) وهذا الجواب يدل أن أمير المؤمنين عثمان يرى وجوب القصر على المسافر مالم يتخد وطنا. ولذلك فقد كان يقصر فلما تزوج من منى أتم لأنه اتخذها وطنا واعتذر بذلك عن إنكار بعض الصحابة عليه.
6- رُوي أن أم المؤمنين عائشة كانت تتم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أم سلمة وقد أجاب ابن عباس عن ذلك بانها تأولت يعني أنها أم المؤمنين فحيث ما كانت فهي في وطنها وبين أبنائها وبمنزلها. ومهما كان فان عمل عائشة لا يكون حجة مع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما وأنها هي التي روت أن الصلاة فرضت ركعتين في الحضر والسفر وانه زيد في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
7- (إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة) أخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد من طرق فيها ضرار بن صرد وهو غير ثقة ولا يحتج بحديثه.
هذه أهم الآثار التي يستند إليها من يوجب الإتمام أو يجيزه وهي كما ترى لا تذكر امام ادلة الوجوب ولا ترتفع الى المقارنة بها والنظر فيها.
تحديد مدة السفر
(1/21)
ذهب بعض العلماء بناءً على نظرات إجتهادية الى تحديد مدة السفر وقد اختلفوا في ذلك اختلافا كثيراٍ، فحددوها بثلاثة أيام وباربعة وبعشرة و بخمسة عشر وسبعة عشر وبغير ذلك وجميع هذه الأقوال لا تستند الى نص من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما هي نظرات اجتهادية ذهب إليها أصحابها واستنتجوها من بعض احكام الاسلام بطريقة الرأي والقياس. ويبدو أن أولئك العلماء قر في أذهانهم أن الصلاة الكاملة أربع ركعات في كل من الظهر والعصر والعشاء وأن التقصير من أربع ركعات رخصة اذا جاز للانسان ان يعمل بها فلا يحق له ان يداوم عليها وبناءً على هذا الأصل راحوا يلتمسون الأسباب لتحديد مدة السفر بأقصر ما يمكن ولو استند قياسهم أو رأيهم الى نظر بعيد شديد البعد.
ونحن لا نناقش آراء أولئك العلماء في إجتهادهم فحسبنا من ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الصنعاني في سبل السلام: (ومنهم من قدر ذلك بخمسة عشر وسبعة عشر وثمانية عشر على حسب ما ورد في الروايات في مدة اقامته صلى الله عليه وسلم في مكة وتبوك وانه بعدما يجاوز مدة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم يتم صلاته. ولا يخفى انه لا دليل في المدة التي قصر فيها على نفي القصر فيما زاد عليها وإذا لم يقم دليل على تقدير المدة فالاقرب انه لايزال يقصر كما فعله الصحابة). انتهى كلام الصنعاني.
(1/22)
ويظهر ان اختلاف أولئك المجتهدين على تحديد مدة السفر ان دل على شيء فانما يدل على انه لا يوجد دليل ثابت يحدد مدة القصر في السفر اللهم الا الاستيطان, فالشخص اما ان يكون مسافرا فيجب عليه القصر ولايجوز له الاتمام وتنطبق عليه جميع احكام السفر طالت المدة ام قصرت مادام ينطبق عليه حكم السفر ولم يتخد مقره الجديد وطنا واما ان يكون مقيما في وطنه مستقرا ببلده فيجب عليه الاتمام ولايجوز له ان يقصر الصلاة طالت المدة او قصرت مادام لم يغير وطنه ذلك, ويتخد لنفسه وطناً غيره, ولو كان هنالك دليل على تحديد زمني لمدة السفر لما وجد أولئك العلماء المجتهدون سبيلا للخلاف وتعدد وجهات النظر. فان تحديد كل واحد منهم مدة معينة ابطال للمدد التي حددها غيره. وما اجدرنا ان نترك هذه التحاديد كلها ونعود الى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانه ليكفي حجة للمسلم اذا جاء يوم القيامة فسئل لماذا كان يقصر في صلاته وقد أقام في محل سفره مدة طويلة؟ أن يجيب لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتم في سفر قط فاقتديت به وتركت أراء الناس.
مسافة السفر
لقد سبق ان تحدثنا عن المسافة التي اذا قطعها الانسان اعتبر مسافرا وبينا في بعض الفصول السابقة انها المسافة التي تساوي ما بين المدينة المنورة وذي الحليفة أو هي ما يقطعه الرجل العادي بالسير العادي في الفترة الزمنية التي تقع بين صلاة الظهر وأول صلاة العصر وذلك يساوي تقريبا ما بين ثلاثة إلى أربعة أميال.
1- أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين). وفي رواية إبراهيم بن المكندر , وأبي ميسرة سمعا أنس بن مالك يقول: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين).
(1/23)
2- وروى مسلم أن شرحبيل بن السمط قال: (رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل).
3- جاء في مدونة أبي غانم بشر بن غانم الخرساني مايلي: (الراجح والمعمول به ان القصر بعد مجاوزة الفرسخين، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة نحو مكة حتى كان بذي الحليفة وبينه وبين المدينة فرسخان صلى ركعتين ركعتين ثم رجع الى المدينة فقيل له في ذلك فقال عليه السلام انما اردت أن أعلمكم صلاة السفر) انتهى.
وهذا الحديث برواياته المتعددة نص في تحديد المسافة وهو أصح حديث في الباب. اما التردد بين الفرسخ والفرسخين والاميال فهذا من تقدير الصحابة رضوان الله عليهم حسبما يتراءى لهم والمقياس الصحيح الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما هو المسافة التي تقع بين المدينة وذي الحليفة أو هي المسافة التي يقطعها الانسان بين صلاة الظهر و أول العصر ومعلوم الآن أن المسافة بين المدينة وذي الحليفة لاتقل عن ثلاثة أميال ولا تزيد عن ستة وقيل انها تساوي اثني عشر كيلوا مترا قد تزيد قليلا وهذه المسافة هي مايقطعه الانسان العادي بين صلاة الظهر وأول العصر.
ولعله من المناسب أن أنقل للقاريء الكريم ماقاله الاستاذ سيد سابق في كتابه القيم قال: (واما ما ذهب إليه الفقهاء من اشتراط السفر الطويل وأقله مرحلتان عند بعض ، وثلاث مراحل عند البعض الآخر، فقد كفانا مئونة الرد عليهم الامام ابوالقاسم الخرقي قال في المغنى قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الائمة حجة لان أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولاحجة فيها مع الاختلاف وقد روي عن ابن عمر وابن العباس خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله) انتهى.
(1/24)
وبناء على ماقدمته لك في هذا الفصل يتضح لك أن تحديد السفر بما حدد به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله هو الحق الذي يجب المصير إليه والاخذ به والعمل بما يقتضيه وان تحديد مسافة القصر والسفر بما يقل عن ذلك أو يزيد على ذلك انما هو عمل بغير دليل يثبت للاحتجاج على أن كثيرا من العلماء يرون جواز التقصير لمن نوى السفر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *