الكتاب : أصول الدينونة الصافية
المؤلف : الشيخ أبو حفص عمروس بن فتح النفوسي
تاريخ الوفاة : 283هـ/896م
تحقيق : حاج أحمد بن حَمُّو كرُّوم
مراجعة : مصطفى بن محَمَّد شريفي ومحَمَّد بن موسى باباعمي
الناشر: وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط - سلطنة عُمان
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: 1420هـ / 1999م
[ترقيم الصفحات موافق للمطبوع]
كتاب أصول الدينونة الصافية
تأليف الشيخ
أبي حفص عمروس بن فتح النفوسي
(ت:283هـ/896م)
تحقيق
حاج أحمد بن حَمُّو كرُّوم
مراجعة
مصطفى بن محَمَّد شريفي محَمَّد بن موسى باباعمي
الطبعة الأولى: 1420هـ / 1999م
(1/1)
حقوق الطبع محفوظة لدى وزارة التراث القومي والثقافة
ص.ب: 668 - الرمز البريدي: 113
مسقط - سلطنة عُمان
رقم الإيداع: 134/99
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الإهداء [ملاحظة: هذا الإهداء لم ينشر في الكِتَاب المطبوع]
إلى والدي حمُّو بن أحمد كرُّوم حفظه الله ، أهدي هذه الثمار المتواضعة من جهدي في ميدان التحقيق والتأليف المنهجيِّ ، وما هذه الثمار إلاَّ حصاد يانع لتشجيعك وتأييدك المطلق لي في هذا المجال الرحب من مجالات الحياة...
فتقبَّلها منِّي بقبول حسن.
ابنك البار:
أحمد
(1/2)
تقديم [الشيخ أحمد بن سعود السيابي]
[صفحة لم ترقن]
(1/3)
[الصفحة الثانية من تقديم الشيخ أحمد بن سعود السيابي لم ترقن]
(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
مقدمة
{الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله} وبعد:
ففي إطار الهواية التي اخترتها مناط مستقبلي ألا وهي: جمع مخطوطات الأصحاب، وتحقيقها بعد تنظيمها عثرت على هذا المخطوط النفيس في مكتبة البكري بالعطف أثناء قيامي بوضع بطاقات فنّية لمخطوطات المكتبة في رمضان 1410هـ/1990م.
وما زالت نفسي تميل للقيام بتحقيقه وإخراجه للنّور حتّى طلب منّي أحد الأساتذة أن أفيده بمخطوطٍ كلاميٍّ يقوم هو بتحقيقه فسارعت إلى الإجابة لطلبه حتّى لا تنفلت الفرصة بأن قدّمت له المخطوط الذي بين يديك... وعندما تصفّحه وجده دون مستوى الشّرط الذي طلبه فأرجعه لي.
هنالك عقدت العزم على نفسي في بداية سنة :1411هـ/1991م لأن أقوم بالعمليّة معتمدا على نفسي وعلى إمكانياتي الكليلة في الميدان، راجيا من المولى عزّ وجلّ العون والتّوفيق، وأهمّ ما حفّزني إليه هو وجود نسخة ثانية في مكتبة المدرسة الجابرية ببني يزقن، إضافة إلى وجود تسهيلات لاقتناء النسختين من قيمي المكتبتين حفظهم الله ورحم المحبِّسين ـ وكذا المكتبة الخاصة لشيخنا الحاج محمّد بن باحمد الحاج سعيد العطفاوي ــ
(1/5)
رحمه الله ــ وأبنائه المعتنين بها تقبّل الله منهم.
استغاثة ملحّة
وهنا لا أنسى أن أغتنم الفرصة لأوجّه استغاثة إلى :
1)- أصحاب مكتبات الآباء والأجداد: أن يتّقوا الله في خزن المخطوطات التي في حوزتهم وألاّ يستحوذوا عليها في «عمدٍ ممدَّده» ... وليعملوا صالحا للحضارة والأجيال ـ على الأقل ـ بعدمِ إهمالها والاِستخفاف بحقّها ... وأن يمدّوا يد المساعدة للرّاغبين على الاِطّلاع عليها لأنَّها ليست ملكهم وحدهم بل هي ملك للأجيال حتى لا تضيع الأمانة من أيدينا ...
2)-أصحاب الشّهادات والألقاب العليا في مختلف فنون العلم الحديث: أن لا يتوانوا في تجديد أمر هذا التّرات الحيّ الضّخم، وأن يمدّوا له أيديهم وأفكارهم وقلوبهم؛ لئلاّ تستفزّه الأيدي الماديّة والأفكار المغرضة ... واعلموا أنّ الحجّة قائمة عليكم بما أوتيتم من «بسطة في العلم والجسم» والتاريخ لا يرحمكم ولا يعذركم في الكسل بما وفّر الله لنا من الوسائل المتطوّرة في الحياة.
3)-أصحاب رؤوس الأموال : أن لا يردّوا طلاّب المساعدة الماديّة في هذا الميدان ... فالمال مال الله ... وما نحن إلاّ موظّفون مكلّفون ومحاسبون بل ومسؤولون عنه : من أين؟ وإلى أين؟...
وقبل أن أختم هذه الكلمات يجدر بي أن أعرض عليك أخي القارئ
(1/6)
الخطّة التي سلكتها أثناء القيام بعمليّة التّحقيق الموضوعيِّ لفصول الكتاب، ونصوص ترجمة المؤلّف.
عرض خطّة البحث والتّحقيق
1)- نقلت هذه المخطوطات من مخطوطة (د) و قارنتها بمخطوطة (أ) و(ب) و (جـ) و (هـ).
2)- غالب الأخطاء اللغوية الموجودة في نسخة (ب) لم أثبتها في الهامش نظرا لكثرتها وبساطتها، ويبدو أنّ ناسخ المخطوطة (ب) لم يكن عالما باللغة رحمه الله وتقبّل منه.
3)- أشرت في الهوامش إلى ما كان من غموض كلمة بين النسخ فأبيّن الأنسب ليستقيم المعنى.
4)- شرحت بعض الكلمات الجديدة والمصطلحات العلميّة ليفهمها القارئ.
5)- خرّجت الأحاديث والآيات وأتممت ما يجدر إتماه، قدر المستطاع.
6)- اعتمدت النسخة (د) أُمًّا للمخطوطات الأخرى نظرًا لقدمها، وجودة خطِّها، وضبطها وقلَّة الأخطاء فيها، ولكونها تامَّة. اللهمَّ إلاَّ بعض الأخطاء الواضحة التي لا بدَّ من تصحيحها داخل المتن، اعتمادًا على النسخ الأخرى ــ خاصَّة (هـ) ــ مع الإشارة إلى ذلك في الهامش، وهي قليلة.
(1/7)
7)-إنّني أطلت في التّرجمة رغبة منّي في كشف الضّباب الكثيف عن هذه الشّخصية النّموذجيّة التي لا يعرفها كثير من النّاس.
8)- وضعت الفهارس المختلفة للكتاب ليسهل على الباحث مبتغاه.
9)- بيّنت القيمة العلميّة للمخطوط وعرفت به وأثبت نسبته للمؤلّف حتى لا يكون مختلقا عليه للشّهرة، أو لقيطا تبنّاه بغير حقّ...
10)- كما أنَّني حاولت إرجاع بعض الآراء في متن المخطوط إلى أصحابها اعتمادا على بعض أمَّهات كتب الفقه، ومن أبرزِها: «مدوّنه أبي غانم الخرساني» رحمه الله، التي هي مصدر من المصادر الهامّة لهذا الكتاب.
11)- لقد سمحت لنفسي بوضع عناوين الأبواب والفصول والفقرات ليجد القارئ راحته أثناء الاِستفادة منه... فأيّ عنوان وجدته بين معقوفتين فهو منيّ.
12)- لقد حاولت الاِبتعاد ما أمكن عن وضع تعليقات على الأفكار لئلا يتخم الكتاب فيخرج عن إطار التّحقيق إلى الشّرح إلاّ ما كان لا بدّ منه.
فما كان من حسن فبفضل الله وما كان من نقص فمن نفسي... وعلى الله قصد السّبيل وهو أعلم بما تخفي الصّدور...
والسلام عليكم ورحمة الله
العطف يوم الإثنين 12 محرم 1413هـ
الموافق لـ 13 جويلية 1992م
(1/8)
القسم الأوَّل
حول حياة المؤلّف
(1/9)
[صفحة بيضاء]
(1/10)
ترجمة حياة المؤلِّف: الشيخ أبي حفص عمروس بن فتح المساكني النفوسي
مولده
ولد الشّيخ عمروس بن فتح في قافلة نفوسة المتوجّهة إلى البقاع المقدّسة في أواخر العقد السّادس من القرن الثّاني الهجري. (1)
عائلته
أبوه: لم تسجّل لنا المصادر عن أبيه أيَّة معلومة تذكر...
أمُّه: توفيّت وتركته في المهد صبيّا، ورجعت بسببه من طريق الحجّ وعندما حضرتها الوفاة أوصت بالحجّ وغيره، لمَّا سئلت عمّن استخلفت في إنفاذ هذه الوصيّة... فأشارت إلى الذي في المهد، وهو ابنها الرّضيع "عمروس" (2)
أخته: هي العالمة المشهورة بمواقف وأمجاد كثيرة منها ثلاثة للتّمثيل:
1)- اشتراكها في نسخ مدونة أبي غانم الخرساني إذ كانت هي التي تملي على أخيها عمروس. (3)
__________
(1) - مجموعة ستّة كتب... الكتاب الرّابع، اللمعة المرضية من أشعّة الإباضية لعبد الله بن حميد السّالمي، ص 70... غير أنَّ الشماخي في كتاب السير لم يذكر عمروس بن فتح منهم ص 228؛ وكذا ج1 من مخطوط سير المشايخ لأبي الربيع الوسياني ص6... وبالتالي يبدو وأنَّ السالمي استنتجه استنتاجا من السياق وهو الصحيح.
(2) - الدرجيني أبو العبَّاس: طبقات المشايخ بالمغرب، ط1، تحقيق ابراهيم طلاي، مطبعة البعث ـ قسنطينة ـ الجزائر ـ ج2، ص 324.
(3) - انظر النقطة الرابعة من "فتاويه واجتهاداته" من مقدِّمة هذا الكتاب .
(1/11)
2)- اشتراكها في وقعة "مانو" بجبل نفوسة مع النسوة، أين استشهد أخوها، فلمّا خشيت على نفسها وعليهنَّ الفتنة من الظلمة أمرت كلَّ واحدة منهنّ أن تستخلفها الأخرى في تزويجها بمن يريدها بسوء (1) ...
3)- سئل الشّيخ سدرات بن ابراهيم المساكني النفوسي عن امرأة ولدت ولدا فبقي آخر في بطنها هل تأكل في رمضان نهارا؟ قال: نعم، فقال بعض الأشياخ نعس الشّيخ، فقالت أخت عمروس:«إن نعس لم ينعس علمه وكلامه، وجدناها تأكل إذا انشقّت المبولة (2) فكيف بهذه...» (3)
أخوه: من خلال ما حفظته لنا كتب السير يبدو أنَّه لم يفقد حظّه من العلم ودرجته حيث اختبر أخاه عمروسا بسؤال عندما انتهى فترة التعلّم لائما فقال له: «لو رأيت أجرافا في فدادينك ؟ » فقال له مجيبا: «لو رأيت أجرافا يتلموا دينك ...» (4)
قبيلته
هي نفوسة البربريّة التي نسب الجبل الغربي لطرابلس إليها بلبيا؛ هذه القبيلة قال عنها الشمّاخي: «بلغت في العلم والتقى والعدل والورع مبلغا عظيما، يكاد أن يكون حاكيه كاذبا... بالشرق والمغرب، ولذا قال الإمام
__________
(1) - أبو زكرياء يحيى بن أبي بكر: سير الأئمّة وأخبارهم، ت إسماعيل العربي ، مطبعة أحمد زبانة ، الجزائر ، نشر المكتبة الوطنية الجزائرية ، الجزائر ، ص 104. الشمّاخي: سير ص229.
(2) - المبولة : هي الماء الذي يسبق خروج الولد ، انظر هذا الحكم في كتاب :شرح النيل، للقطب اطفيّش، ج1 ، ص313.
(3) - الشماخي: السير ، ص 267.
(4) - الشماخي: السير ، ص229. «يتلموا دينك» هكذا وجدت الكلمة .ولعلّ الصحيح ما قال الباروني : «لو رأيت أجرافا تثلم دينك لهان عليك أمري». الأزهار الرياضيّة: ص254.
(1/12)
عبد الوهّاب - رضي الله عنه - : «إنَّما قام هذا الدين بسيوف نفوسة وأموال مزاته....» (1)
مكان ولادته ونشأته
مكان ولادته:
"قطرس" وهي القرية الجاثمة على ضفّة وادي تالة العميق من أرض الرحيبات بجبل نفوسة في لبيا. (2)
نشأته:
في هذه الأجواء الطاهرة المفعمة بالعلم والورع تربّى الفتى عمروس وترعرع فوجد فيها خير عزاء وعوَضٍ عن أمّه التّي لم يحظ بحنانها المدّة الكافيّة لأبناء سنّه ...
حياته العلميّة
لقد درس أوّلا في مسقط رأسه "قطرس" مبادئ العلوم الدينيّة واللغويّة...
ثمّ انتقل إلى المغرب (3) ليتعلّم هناك مدّة عشرين عاما..
__________
(1) - الشماخي: السير ، ص267.
... هذا الجبل الذي كان ملاذ كثير من القبائل : " لواته - مزاته - هوارة " ويؤمّه الأصحاب عند فتور النفس في العبادة فيقولون : «نصعد الجبل لنصقل قلوبنا» يعني بالعلم والذكر ومجالسة الصالحين. أبو زكرياء الجناوني: الوضع ، مقدّمة المحقِّق ، ص11.
... هذه القبيلة التّي يصفها المؤرّخون بأنَّها في ذلك الزمان أكثر الناس حجّا فكانوا يحجّون بنسائهم وذراريهم، حتّى إنّهم ولد لهم في ركب واحد ثلاث مائة مولود ذكر. الدرجيني: طبقات، ج2 ، ص 325. الشماخي : السير ، ص 228. الوسياني: سير (مخ)، ج1 ، ص6.
(2) - علي يحيى معمّر: الإباضيّة في موكب التاريخ ، ج2، الإباضيّة في ليبيا ، القسم الأوّل ، ص 137.
(3) - الشمّاخي: السير ، ص229. هذه الكلمة : "المغرب" لم تتعرّض لها المصادر المعتمدة بشيء من التوضيح ، فأصبحت محتملة إلاّ أنّ الاستعمال السائد آنذاك عند الإباضيّة لهذه الكلمة هو "تيهرت" عاصمة الدولة الرستميّة إذ كانت كعبة الطلاب والعلماء والمتكلّمين حينا من الدهر حتّى غدت تعرف بـ"بغداد المغرب" كما أنَّها جاءت في غرب جبل نفوسة.
(1/13)
هذا ما كتبته المصادر عن تعلّمه بصفة إجماليّة دون التعرض لأيّ تفصيل يشير إلى مشائخه ورفقائه في الدراسة أو العلوم التي درسها أكثر من الأخرى...
هل كان الشيخ مدرّسا ؟ : إنّ الإجابة عن هذا السؤال ذات شقّين أساسين ظنيين هما:
*المصادر القديمة : إذا نظرنا إلى الكتب القديمة فلا نجد إشارة واضحة تذكر عنه أنَّه كان مدرّسا لحلقة من التلاميذ إلاّ ما نستشفُّه من ظلال بعض النصوص حيث ذكر الشيخ سليمان الباروني في تعليقاته:
1) - على رسالة والده الشيخ عبد الله الباروني: "سلّم العامة والمبتدئين إلى معرفة أئمَّة الدين" : «... وهي قطرس، وفيها مسجد الشيخ عمروس وأظنّه ابن فتح المساكني النّفوسي ...» (1)
وهل هذا المسجد المنسوب إليه بناه في حياته لهذا الغرض ؟ أم سمّي باسمه تكريما ؟ لا ندري ...
2) - ذكر الوسيانيُّ أنّ جماعة اجتمعوا في موضع يسمّى: "تنين أزدرشل" في طلب العلم وفيهم أبو نصر من تمصمص، وهو المفتي والمجيب، وفيها نفاث بن نصر، وكان يلقي مشكلات المسائل عليهم، وربّما عسر جوابها عن أبي نصر ومن معه، ثمّ أتى عمروس ومهدي فسكت نفاث فقال أبو نصر: «الآن جاء السلوقان اللذان يحرزان الحيّ وأمّا جروة أبي نصر فتنبح على (2) أكل الذئب الغنم فهرب الذئب "يعني
__________
(1) - المصدر المذكور: ص 54.
(2) - الشماخي: السير ، ص328.
(1/14)
بالجروة نفسه ويعني بالذئب نفاث ويعني بالغنم نفوسة، والسلاليق (1) هما مهدي وعمروس (2) والسؤال هو: هل كان دائما يحضر هذا المجلس أم جاءه عرضا ؟ لا ندري...
3)- يقول الحسن بن محمّد الوزّان القابسي من علماء القرن 10هـ: «عمروس : مدشر يقع على بعد نحو ستّة أميال من طرابلس داخل الأراضي ويوجد فيه عدد كبير من النخيل وبساتين مليئة بمختلف الأشجار المثمرة». (3)
هل كان في هذه المدينة مدرّسا ؟ لماذا نسبت إليه ؟ لا ندري...
4) - لقد تصفّحت الكتب التي أوردت نسب المذهب الإباضي (4) فلم أجده مذكورا في أيّ سلسلة من سلاسلها الذهبيّة، نظرا لأنّ هذه السلاسل عادة ما تحوي المتصدّرين لحلقات العلم الذين يتلقّى عنهم التلاميذ أمانة الدين فيبلِّغونه لمن بعدهم من التلاميذ والدعاة...
*المراجع الحديثة: أمّا إذا تصفّحنا الكتب الحديثة فإنّنا نجدها تذكره مدرّسا بدون إسناد لمصدر الفكرة ... فمنهم المحقّق الشيخ عبد الرحمن بكلّي يقول: «وقّف حياته على العلم تحصيلا وتأليفا وتدريسا...». (5)
__________
(1) - السلاليق جمع السلوقي : الكلب الكبير المدرّب على الحراسة .
(2) -الوسياني: سير المشايخ (مخ)، ج1 ، ص23. الدرجيني: طبقات المشايخ ، ج2 ، ص314.
(3) -وصف إفريقيا ، ج2 ، ص 110، ترجمة محمّد حاجّي ومحمّد الأخضر .
(4) - الباروني محمَّد بن زكرياء بن موسى: نسبة الدين ، ملحق بسير الشمَّاخي. الباروني أبو الربيع : رسالة سلم العامة والمبتدئين إلى معرفة الدين. القطب اطفيَّش: الرسالة الشافية ...
(5) - الجيطالي إسماعيل بن موسى : قواعد الاسلام ، تحقيق عبد الرحمن بن عمر بكلِّي، هامش المحقِّق ، ج1 ، ص12 .
(1/15)
وعلى هذا فإنّني أرجّح أنّ الشيخ لم يكن مدرّسا لحلقة علم وإنّما كان من المتمكّنين في العلم المشتغلين بالمناظرة في مجالس المخالفين ودحض شبههم ، والدليل هو عدم إسناد سلسلة المذهب الإباضي إليه، وهيبة نفاث منه إذا حضر مجلسا للمناظرة ...
إذن فهو إمام من أئمّة الإسلام الذين ذاع صيتهم بأقوال انفردوا بها، وساهموا في حفظ المذهب من التلاشي بتآليفهم القيّمة، وغيرتهم النيّرة...
اشتغاله بالقضاء
لقد اشتغل الشيخ في وظيفة القضاء مدّة قصيرة، حيث عيّنه أبو منصور الياس ــ والي جبل نفوسة ــ على قضاء الجبل، في عهد الإمام اليقظان بن أبي اليقظان رحمهم الله، ثمّ استقال من المنصب بسبب مضايقة بل مخالفته آراء بعض علماء عصره إذ أنَّه كان مرنا في أحكامه وفتاويه، وهم يرفضون هذه المرونة خشية الفتك بعرى الدين بالنزوع إلى الرخص، والسبب المباشر لهذه الإستقالة هو قضاؤه بين عبد ومولاه وعندما اشتكى إليه العبد كان الشيخ أبو مهاصر يسمع ــ وهوشديد الأمر والنهي في دين الله ــ فغضب من جوابه وقال له : «اِعطه حقّه من مولاه، وإلاّ نزعك الله من ذلك المكان وردّ فيه غيرك». ولقد أبى الرجوع عن استقالته رغم الإلحاح عليه (1) وربّما لأنّ المعارضة على أحكامه قد تكرّرت عليه كثيرا من هذا الشيخ وغيره...
__________
(1) - الشمّاخي : السير ، ص229 ؛ الباروني ، الأزهار الرياضيّة ، ص254.
(1/16)
نماذج من أقضياته
لقد رغبت في عرض هذه النماذج رغم أنَّها إطالة للترجمة وذلك لأنَّها لا تخلو من إبراز الجوانب اللاّمعة في شخصية الشيخ وتعيننا على تفهُّم الأفكار التي بثَّها في كتابه...
1) - اختصم إليه ذات مرّة رجلان فاستمسك أحدهما بالآخر، فقال للمدّعى عليه: «ردّ الجواب» فسكت، فأعاد عليه فسكت... فقام إليه فركضه برجله، فقال له جلساؤه عجلت يا عمروس...
فجمع أصابعه بيده فقال: «كم هؤلاء ؟» فقالوا: «خمسة» ، فقال لهم: «ما عجلت له إلاَّ كما لم تعجلوا أنتم إذ لم تعدوها واحدا واحدا»... فقال لألياس: «إن لم تأذن لي بثلاث، فخذ خاتمك عنّي: قتل مانع الحقّ، والدالِّ على عورات المسلمين، والطاعن في دين المسلمين». (1)
2) - وذكر أنَّ قافلة وقع عليها قطَّاع الطرق فانتهبوها، ثمَّ إنَّ أصحاب القافلة والقطَّاع اصطحبوا جميعا إلى جبل نفوسة في زمان ولاية أبي منصور إلياس وقضاء عمروس، فتشاجروا فيما بينهم، وكلٌّ يدَّعي القافلة، وانتهوا إلى الوالي فحار في أمرهم؛ وقال: أحكّم بينهم عمروس... ثمَّ إنَّ عمروسا عزل أصحاب القافلة على حدة، وانفرد بكلِّ واحد منهم يسأله عما رفع وما علامة حمله ومتاعه، فكتب ذلك كلّه، ثمَّ انفرد بالقطّاع فسألهم كما سأل الأولين، فكتب ما قالوا، ثمَّ
__________
(1) - الوسياني، سير المشايخ (مخ)، ج 2 ، ص 2 ؛ الدرجيني: طبقات المشايخ ج2، ص321. الشماخي: السير، ص 226.
(1/17)
أخرج ما في الأحمال فوجده كما قال الأوّلون أصحاب القافلة فحكم بها لهم... ووجد قول القطّاع مختلفا بعضه ينقض بعضا؛ فقال القاضي عمروس لإلياس: «هؤلاء أصحاب القافلة وأولئك أضيافك أضفهم». يعني يحبسهم ويؤدِّبهم. (1)
جهاده واستشهاده
إضافة إلى كلّ ما كنت أذكره لك من جهاد الشيخ بلسانه وقلمه فإنّه لم يهمل نصيبه من الجهاد بالسيف حيث شهد وقعة "مانو" بين نفوسة والأغالبة، وكان في آخر المعركة يحمي الناس ويذود عنهم ولم يقدروا عليه، «وكان على فرس سابق، فلمّا أعجزهم وأتعبهم عمدوا إلى الحبال فنصبوها له واضطرّوه إليها فعثر به الفرس فأخذوه أسيرا ومضوا به إلى الفاسق إبراهيم بن الأغلب، فسألوه أن يستعفيه ليعفيه، فقال لهم: كلمة لا تسمعوها منّي، ولكن أسألك في سراويلي هذه لا تكشفوني منه، فأخذوه يقطعونه بالحديد من أنامله، فلمّا وصلوا إلى عضده استشهد رحمه الله». (2)
فقال ابن عذاري المرّاكشي: «وفي سنة 284هـ كانت وقعت نفوسة لأبي العبّاس بن إبراهيم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم ثلاثة مائة، فلمّا
__________
(1) - الوسياني، سير المشائخ (مخ)، ج1، ص 3 ؛ الشماخي: السير ص226 ؛ علي يحي معمَّر: الإباضية في ليبيا، القسم1 ، ص141-142.
(2) - أبو زكرياء: سير الأئمّة، ص 104 ؛ الشمّاخي: السير، ص229 ؛ الدرجيني: طبقات المشايخ، ج1، ص89 ؛ سليمان الباروني: الأزهار الرياضيّة، ص282 ؛ علي يحيى معمّر: الإباضيّة في ليبيا، القسم 1، ص142.
(1/18)
وصل بهم إلى والده إبراهيم بن أحمد دعا بهم... فقرب إليه شيخ منهم ، فقال له إبراهيم: «أتعرف علي بن أبي طالب ؟» فقال له : «لعنك الله يا إبراهيم على ظلمك وقتلك». فذبحه إبراهيم وشقّ عن قلبه وأخرجه بيده وأمر أن يفعل ببقيّة الأسارى كذلك... حتّى أتى على آخرهم ونظمت قلوبهم في حبال، ونصبت على باب تونس». (1) وهي في عهد المعتضد بالله الخليفة العبَّاسي ببغداد (ت: 289هـ) لا في عهد المتوكِّل (ت:247هـ) كما يشير الوارجلانيُّ والدرجينيُّ.
وفاته
وهناك اختلاف طفيف بين المراجع في تحديد سنة الواقعة التي تعنينا في ضبط السنة التي توفِّي فيها الشيخ عمروس بن فتح رحمه الله.. فالمصادر الإباضيَّة كلُّها متَّفقة على سنة 283هـ (2) نقلاً عن ابن الرقيق القيرواني صاحب تاريخ إفريقيَّة، إلاَّ الشيخ البكري فقد أشار إلى أنَّ هذه الوقعة كانت في سنة 282هـ. (3)
أمَّا المصادر غير الإباضيَّة فهي تشير إلى السنة التي وقعت فيها الكرَّة من ابن الأغلب على نفوسة، وهي سنة 284هـ (4) أي بعد عام من وقعة مانو..
وبناء على هذا التاريخ يتبيَّن لنا أنَّ الشيخ قد عمِّر طويلاً (5) حيث بلغ أرذل العمر لتجاوز القرن ببضع سنين.. وأهمُّ دليل نستند إليه في هذا هو نسخه لمدوَّنة أبي غام الخراساني في عهد الإمام
__________
(1) - ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ط2 ، تحقيق ج.س. كولان وأ. ليفي بروفنسال ، دار الثقافة ، بيروت ، ج1 ، ص130.
(2) - الشمَّاخي: السير ، ص268؛ الباروني: الأزهار ، ص280؛ الجيطالي: قناطر الخيرات ، تحقيق عمرو خليفة النامي ، ج1 ، ص49.
(3) - الجيطالي : قواعد الإسلام ، هامش المحقِّق ، ج1 ، ص12.
(4) - ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب ، ج1 ، ص130 .
(5) - الدرجيني: طبقات، ج2 ، ص320. ويقول الشمَّاخي نقلاً عن الدرجيني: «حاز قصب السبق، وإن كان في السنِّ متأخِّرًا». السير ، ص225.
(1/19)
عبد الوهَّاب الذي توفِّي سنة 190هـ، وبالتالي لا يمكن أن يكسب هذه الثقة، ولا يستطيع أن يصل إلى هذا المستوى من التفكير إلاَّ بعد أن تجاوز سنَّ البلوغ (18 سنة على الأقل) (1) . وبذلك يمكن أن نقدِّر ميلاده في أواخر العقد السادس من القرن الثاني للهجرة.
أسرته
لم تتعرَّض المصادر التي بين أيدينا لشيء من أسرة الشيخ (زوجه وأولاده) إلاَّ بصورة يسيرة عامَّة، وذلك عندما كتب وصيَّة حياته قبيل الخروج إلى معركة مانو.. (2)
حالته المادِّية
يبدو أنَّ الشيخ في الجانب المادِّي كان دون الأغنياء الكبار، وأفضل من الفقراء الضعاف، إذ أنَّه كان يملك ما يلي:
1- أدوات الكتابة والتأليف (نسخه لمدوَّنة أبي غانم، وتأليف كتابه في الأصول).
2- السفر إلى الحجِّ الذي يتطلَّب الزاد ووسيلة النقل.
3- الخروج إلى البادية ابتغاء فضل من الله ونعمة مع أبي مهاصر.
4- له عبد نصرانيٌّ (3) .. وبغلة يستقي عليها. (4)
5- وسائل الجهاد (فرس سابق وسيف قاطع).
__________
(1) - الدرجيني : طبقات ، ج2 ، ص323 . يقول: «وعمروس حينئذ حدث» أي صغير السنِّ.
(2) - الدرجيني : طبقات ، ج2 ، ص323 ؛ الشمَّاخي: السير ، ص228 .
(3) - الشمَّاخي: السير ، ص230 .
(4) - الشمَّاخي: السير ، ص229.
(1/20)
مؤلّفاته
لقد نسب المؤرّخون للشّيخ عددا من المؤلّفات منها الموجود، ومنها المفقود، منها المكتوب، ومنها الذي بقي في الخاطر أمنية غير محقّقة..
1)- كتاب "العمروس" الذي أجاب به الشّيخ عبد الخالق الفزّاني (1)
2)- كتاب بقي في الخاطر مشروعا هو في قول الدّرجيني : «بلغنا أنَّه همّ أن يعلّق تأليفا في الفقه لم يسبق في طريقته، عزم أن يفرّق في العلم على ثلاثة أوجه: التنزيل والسنّة والرأي، وما يتعلّق بكلّ واحد منها من المسائل فيرتّب كلّ باب من أبوابه ويبنيه على القواعد الثلاثة.. فلم يقدِّر الله بذلك بل قضى له بإعجال الحمام». (2)
3- كتابان في الأصول والفقه. (3)
4- كتاب عمروس بن فتح. (4)
5- كتاب أعلام الملَّة.
6- كتاب الحكم والمعارف.
7- كتاب الدينونة (5) الصافية. (6)
8- كتاب في الردِّ على النكَّاث وأحمد بن الحسين. (7)
__________
(1) - الشمَّاخي: السير ، ص229؛ الجيطالي: قناطر الخيرات ، تحقيق د. عمرو خليفة النّامي ، ص49. ولعلّ انفراد الشماخي بذكره هو الذي جعل الدكتور النامي ينفي وجود هذا الكتاب تماما في مؤلَّفات الشيخ. (دليل المؤلفين الليبيين ص300).
(2) - أبو زكرياء الوارجلاني: سير، ص 96؛ الدرجيني : طبقات ، ج2، ص321؛ الشمّاخي: السير ، ص225.
(3) - أبو زكرياء: سير ، ص99 . هكذا ذكرهما بدون أيِّ توضيح .
(4) - البرادي: الجواهر المنتقاة ، ص 219 ، هكذا بدون أيِّ توضيح .
(5) - هذه الكتب الثلاثة ذكرها الشيخ عبد الرحمن بكلِّي في هامش ص12 من كتاب قواعد الإسلام للجيطالي.
(6) - دليل المؤلِّفين العرب الليبيِّين ، ص300 .
(7) - المصدر السابق .
(1/21)
تلاحظ أخي القارئ أنَّني جمعتها بدون تعليق، ولو كانت بدون عنوان أو كان عنوانها مكرّرا، وذلك خشية أن يكون أحدها موجودا، فأجني عليه بالغفلة والسكوت، ولا مانع أن أشير إلى أنَّ المحقّق في التراث الإباضي الدكتور عمرو خليفة النامي جزم في مقدمته على كتاب "الرد على جميع المخالفين" ص(ي) المحقّقة المرقونة، بأنه لم يبق لنا من تراث الشيخ عمروس إلاّ رسالتان: إحداهما بعنوان "الدينونة الصافية" وأخرى بعنوان "الرد على الناكثة وأحمد بن الحسين". وأما الشيخ فرحات الجعبيري في كتاب البعد الحضاري للعقيدة عند الإباضية ص 109، فيجزم بوجود الأولى منهما فقط، وأشار إلى مكان وجودها في المكتبة البارونية بجربة تونس.
فتاويه واجتهاداته
لقد اشتهر الشيخ بفتاوي مبثوثة في بطون كتب المذهب الإباضيِّ في الأصول والفروع، ولذلك احتلَّ مكانة مرموقة في تاريخ أعلام المذهب؛ ولعلَّ انفراده ببعض هذه الفتاوي عن معظم علمائنا، يجعلني أتجرَّأ على العلماء فأصفه بأنَّه بلغ "درجة الاجتهاد في الدين".. وعندما أعرض لك بعضًا منها فاحكم بما شئت بعد اطِّلاعك الموضوعيِّ على ما يتضمَّنه الكتاب الذي أرجو أن أكون موفَّقًا في تحقيقه إن شاء الله:
1- جلس الشيخ ذات مرَّة مع داود بن ياجرين وماطوس بن هارون - رضي الله عنهم - ، يتحدَّثون حتَّى قالوا لعمروس: «أهل شروس لا يكذبون»، فكان عمروس بعد ذلك يجيز شهادتهم، فتذاكر الشيخان ما يفعل عمروس، فقالا له: «ما لك تحكم بكلِّ أهل شروس؟» فقال لهما: «إنَّما أحكم
(1/22)
بكما لا بهم، لأنَّكما زكَّيتماهم بقولكما: أهل شروس لا يكذبون»، فقالا له: «ما ذلك مرادنا»، فترك جواز شهادتهم بعد ذلك إلى أهل العدالة والرضى. (1)
2- سأله رجل بمحضر أبي مهاصر عمَّن أخذ من مال ابن طيلون، خرج فتاب ولم يعلم له صاحبًا، قال: «تسأل عن مولاه، فإن أعياك أمره فتصدَّق به».. فغضب أبو مهاصر فقال: «لا أقعد في مجلس يفتى فيه بمثل هذا».. قال عمروس: «إن أردت أن تقعد فاقعد، فإنَّ من شأن المسلمين أن لا يؤيِّسوا أحدًا من رحمة الله». (2)
3- حدَّث جماعة من المشايخ أنَّ أبا مهاصر خرج سنة من السنين إلى البادية في أوان الربيع هو وعمروس بن فتح رحمهما الله، فلبثا أيَّامًا على غير ماء في بريَّة من الأرض، لا يجدون ما يتوضَّؤون به، إنَّما كانوا إذا حضرت الصلاة تيمَّموا وصلُّوا، وتكدَّر خاطر أبي مهاصر لذلك، حتَّى قال ذامًّا لهذه الحال: «قلوب تربو عليها الشحوم مِمَّا سمنت، ووجوه تعلوها الغبرة، قلَّت سلامة الدين مع أهل الوبر، إنَّما الدين في المدر، والله لا يجمل بنا أن نترك الدين لاتِّباع شهواتنا، وإنِّي لأخاف أن أكون مِمَّن عاب الله عزَّ وجلَّ، فقال فيهم: {أضاعوا الصلاةَ واتَّبعوا الشهواتِ، فسَوْف يَلقَوْن غيًّا}» (3) فردَّ عليه عمروس
__________
(1) - الوسياني: سير (مخ)، ج1 ، ص3 . ولكنَّ الدرجيني استبعد أن يقع مثل هذا العبث بأحكام الله من الشيخ، فقال: «وعمروس أجلُّ من أن يتجاوز إلى هذا القدر، أو ينسب إليه هذا التهاون» فأوَّله بأنَّه توبيخ مؤدَّب مع الشيخين لأنَّهما أعلى منه مرتبة حتَّى يعدِّلا فتواهما، إلى أن قال: «وهذه إحدى فضائله، لا ينسب إليه غير هذا». الدرجيني: طبقات ، ج2 ، ص322.
(2) - الشمَّاخي: السير ، ص227. قال الشيخ علي يحيى معمَّر: «لقد كان أبو مهاصر شديدًا وهو يرى أن يلزم صاحب الخرج أن يبحث عن صاحبه أو ورثته مهما كلَّفه الأمر، ولن يبرِّئه من التباعة غير ذلك، أمَّا عمروس فقد كان أعمق فهمًا لأسرار الشريعة.. وقد أصبح قول عمروس هو القول المعمول به في الأحوال المشابهة». الإباضية في ليبيا ، القسم الأوَّل ، ص140.
(3) - سورة مريم: 59.
(1/23)
بأن قال له: «ليس في ذلك ما تخافه، فقد أباح الله التيمُّم عند الضرورة، فأبان ذلك في كتابه، وعلى لسان نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك في ابتغاء الفضل، وقطع الفيافي ــ المجاهل من الأرض ــ وقال: {وابتغوا من فضلِ الله} (1) وقال: {عابري سبيلٍ} (2) وقال: {فلم تجدوا مآءً} (3) » فلم يقنع ذلك جميعًا أبا مهاصر بل ارتحل راجعًا إلى منزله. (4)
4- من أهمِّ الحسنات التي سجَّلها له التاريخ، هو استنساخه لمدوَّنة أبي غانم بشر بن غانم الخراساني، هذا العالم الذي مرَّ بالشيخ عمروس بجبل نفوسة، فأودع عنده مدوَّنته التي رواها عن حملة العلم ــ تلاميذ أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ــ في الفروع، وهو قاصد وجهة بغداد المغرب ــ تيهرت ــ لزيارة الإمام عبد الوهَّاب بن عبد الرحمن.. فأفتى عمروس لنفسه باستنساخ الوديعة رغم أنَّه لم يستأذن صاحبها (5) فأملته عليه أخته حتَّى أتمَّاها، وردَّها في مكانها، وعندما رجع أبو غانم إليها اكتشف ذلك، بعلامة وقعت على الأصل وهي نقطة حبر لم ينتبه إليها الشيخ عمروس، أو تعمَّدها. فقال له: «أسرقت هذه؟» قال: «نعم ، سمَّاني سارق العلم» إخبارًا لا أمرًا. (6)
__________
(1) - سورة الجمعة: 10.
(2) - سورة النساء: 43.
(3) - سورة النساء: 43.
(4) - الدرجيني : طبقات ، ج2 ، ص306.
(5) - يشير الوسياني إلى أنَّه استأذنه فأبى .
(6) - ويقول عنه الدرجيني: «وكان الكتاب في اثني عشر جزءًا. وفي إثر هذا كان ما كان من إتلاف ديوان تاهرت غصبًا وحرقًا، ولولا تمسُّك عمروس بهذا الكتاب لم يبق لأهل المذهب بجهات المغرب ديوان يعتمد عليه؛ وذلك بحسن نية عمروس وبركته ويمنه». انظر: الوسياني: سير (مخ) ج1 ، ص4 . الدرجيني: طبقات ، ج2 ، ص323. الشمَّاخي: السير ، ص228 . الباروني: الأزهار ، ص253 . علي يحيى معمَّر: الإباضية في موكب ، الإباضية في ليبيا ، القسم الأوَّل ، ص138. وهذه المصادر كلُّها تعلِّق على فعل عمروس وتحمده.
(1/24)
وكأنَّه بهذا يشير إلى جواز استعمال وديعة من هذا النوع بمثل هذه الطريقة، إذا كانت في صالح المسلمين.
5 - لمَّا حضرت الوفاةُ أمَّ عمروس أوصت بوصايا وأشهدت عليها... فقيل إلى من تفوّضين تنفيد هذه الوصايا ؟ قالت إلى ذلك الذي في مهدي فأشارت إلى عمروس الرضيع ... فلمّا بلغ أشدّه شرع في تنفيد الوصايا في وجوهها، إلاّ وصيّتها بالحجّ فقد توقّف عنها. لماذا ؟ لأنَّه لا يعرف منزلة أمّه من الولاية والبراءة... وجعل يسأل في جهات من نفوسة عن أحوالها، فلم يجد من يعرف حالها وتولاّها غير امرأة واحدة، فتولاّها لذلك وحجّ عنها...
ويريد من هذا العمل أن يرشدنا إلى أمرين هامّين في مجال العقيدة:
أ- أنّ الحجّة في ولاية الدين يمكن أن تقوم بشهادة النساء والعبيد إذا كانوا ممّن يقبل قوله وتقوم به الحجّة.
ب- أنّ الذي يحجُّ عن غير متولّى فإنَّه غير مرضي الفعل ولا مشكور الحال.. (1)
جـ- والثالثة تتمثّل: في جواز استخلاف الوارث على تنفيد الوصيّة ولو كان في المهد صبيّا.
__________
(1) - الوسياني: سير (مخ)، ج1 ، ص6 . الدرجيني: طبقات ، ج2، ص325 .
(1/25)
6- كانت لأبي محمّد ملي الإيدرفي بقرة تحلبها امرأة كلّ صباح دون أيّ جهد، وذات مرّة ركضت فدفقت قدح الحليب على غير عادتها فلمّا شكت الزوجة لبعلها قال: ما هذا إلاّ لنازلة سوء شنيعة نزلت بالجبل فأخذ عكّازه وخرج مبادرا، فأتى مجمع أهل الجبل، فوجدهم مختلفين على رجل ينكل ويجلد، فسألهم عن شأنه فقالوا له: جاء فيه كتاب الوالي ... فقال: أبسواد في بياض تهرق الدماء يا نفوسة؟ أو قال: يا معشر المسلمين؟ فقالوا لعمروس: جاوبه... فقال: إذا قيل الحقّ بطل الجواب... قال: فسألوا عن الرجل فغدا هو غير المكتوب فيه... فقال لهم عمروس: إذًا قصّوا ضربه ... فأعطوا ديّته فأعطى فيهم عمروس سهمه... (1)
7- لمَّا سمع عمروس بموت الشيخ أبي مهاصر موسى بن جعفر - رضي الله عنه - ــ أكبر المعارضين لفتاويه ــ سارع ليبلغ جنازته، فوصلهم وهم يجعلون التراب على قبره، فوضع عليه يده فقال: « الآن يا أخي أمنت لك». يعني من همزات عدوّ الله إبليس ومكائده...
وفي الحديث: «إن إبليس يأتي المؤمن عند خروج روحه ويكيده، ويقول له: سلمت منِّي آمن منك الآن ياعدوّ الله» يعني ذلك الشّيخ عمروس - رضي الله عنهم - أجمعين لا يعني غير ذلك (2) قال الشمّاخي: قال الجهَّال: استراح منه وتأولوه لأموره الدنيويّة.. أعني جهال إفطمان بلد أبي مهاصر.. (3)
8)- قبيل خروجه للجهاد الذي حظي فيه بالشّهادة كتب وصيّته ومكَّنها ورثته فقال لهم: «إعملوا بما فيها وأنا خصيمكم غدا بين يدي الله» (4)
__________
(1) - الوسياني: سير (مخ)، ص14 . الدرجيني، طبقات، ص334.
(2) - الوسياني : المصدر السّابق ، ص22.
(3) - الشمّاخي : السير ، ص228.
(4) - الوسياني : المصدر السّابق ، ص4؛ الدرجيني: طبقات، ص323 ؛ الشّماخي : المصدر السّابق ، ص 228.
(1/26)
مكانته العلمية
يقول أبو زكرياء يحي بن أبي بكر: «وكان عمروس عالما كبيرا...». (1)
وقال: «وكان حافظا فاطنا حاضر الحجة». (2)
2)- وقد وصفه الشّيخ الدّرجينيُّ قائلا: «بحر العلوم الزّاخر، المبرز أوّل، السّابق وهو الآخر، الضّابط الحافظ المحتاط المحافظ، لم تشغله المجاهدة في الله عن دراسة العلوم، ولم يلهه التبحّر في العلم عمّا تعيّن عليه من مصادفة تلك الهموم.. لازم الدّرس والاِجتهاد ثمّ رابط على الجهاد.. (3) ولم تزل الأمثال مضروبة به بعلومه وآدابه، وحيال ذوي الآمال متعلّقة بأهدابه إذ كان علم الدّين يقتدى به». (4)
3)- وروى أبو الرّبيع سليمان بن عبد السّلام الوسياني عن أشياخه أنّ عمروسا عالم غاية زمانه. (5)
4)- قال الشّيخ علي يحي معمّر: «كان عمروس من أكبر أئمة العلم والدّين وله أقوال إنفرد بها وحسب من أجلها إماما». (6)
__________
(1) - سير الأيمة وأخبارهم ، ص99.
(2) - نفس المصدر السّابق .
(3) -الدرجيني: طبقات ، ص320.
(4) - المصدر السّابق ، ص321.
(5) - الوسياني : سير (مخ) ، ج1 ، ص2. علي يحيى معمّر : الإباضية في موكب التّاريخ، ج2، الإباضية في ليبيا ، القسم1 ، ص139.
(6) - الوسياني : سير (مخ) ، ج1 ، ص2. علي يحيى معمَّر: الإباضية في موكب التّاريخ ، ج2. الإباضية في ليبيا ، القسم1 ، ص139.
(1/27)
وذكر الشيخ سليمان الباروني أنَّه استشهد من نفوسة في وقعة مانو أربعمائة عالم فيهم من المشاهير والعلماء الكرام ابو ميمون وعمروس وماطوس (1)
6)- وذكره الأستاذ بحّاز ابراهيم من بين مشاهير علماء تيهرت فقال: «ويشغل عمروس بن فتح النّفوسي مكانا بارزا في طبقات الإباضية إذ كان عالما غاية زمانه.. (2) وقد صنّفه الدّرجيني في كتابه طبقات المشايخ بالمغرب في الطّبقة السّادسة (250-300هـ) (3)
7)- ذكره الشيخ أحمد بن سعيد الشّماخي في سيره عند تسمية شيوخ نفوسة ثالثهم (أبو حفص عمروس بن فتح من أمو ساكن). (4)
8)- سافر إلى الحجّ مع جماعة من أصحابه فدخلوا إلى مجلس علم يتصدّره الشّيخ محمد بن محبوب بن الرّحيل العماني، فأدنى مجلسهم دون أن يتعرّف على أعضاء الوفد.. وأثناء تجاذب الفتوى بين الحاضرين ألقى عمروس سؤالا.. فقال ابن محبوب: إن كان أبو حفص في شيء من هذا البلد فهذا السّؤال منه فقالوا له هو السّائل: فرفع ابن محبوب مجلسه وزاد في دنوه فجعل عمروس يسأله في مسائل الدّماء وأكثر، فقال ابن محبوب: هذا من مكنون العلم فلا يعلن به في قوم جهال؛ فقال عمروس لأصحابه: اِحفظوا السّؤال أحفظ لكم الجواب، فلمّا قدموا نفوسة، قال عمروس: هلمّوا ما تكلّفتكم، قالوا: لم يبق معنا إلاّ قولك إحفظوا السّؤال أحفظ لكم الجواب لنرد بها على إخواننا. ثمّ إنّ عمروسا أعادها مسألة مسألة. (5)
__________
(1) - الباروني: الأزهار الرّياضية في أيمّة وملوك الإباضية، ج2، ص282.
(2) - ابراهيم بحّاز : الدّولة الرّستمية ، ص326.
(3) - الدرجيني : ج2، ص326.
(4) - الشماخي : السير ، ص590.
(5) - الوسياني: سير (مخ)، ج1 ، ص6 ؛ الدرجيني : طبقات ، ج2 ، ص324 ؛ الشماخي : السير ، ص227.
(1/28)
9)- قال الشّيخ عبد الرحمن بكلي: «الإمام عمروس بن فتح المساكني النّفوسي إمام من أيمة الدّين وكهف من كهوف العلم في القرن الثّالث الهجري». (1)
10)-أرسل له أحد الأشياخ من علماء فزّان رسالة يطلب منه أن يؤلّف له كتابا في الأصول، فكتب إليه الكتاب المعروف بـ«العمروسي»وكتب إليه رسالة فلمّا رآه الفزّاني ــ وهو الذي ألّف الكتابين المعروفين بأصول الكلام ــ قال: النّفوسي أعلم مني.. (2)
مميزاته وعصره
أ - مميِّزاته :
فمن خلال ما استعرضنا في الأبواب السّابقة تتجلّى لك مميّزات الشّيخ فيما يلي :
1)- الورع والتّقوى: وكان له الحافز على العدل في القضاء،كما أنَّه لم يسمح لنفسه بالحجّ عن أمّه حتى يجد من زكّاها له في الولاية.
2)- الذكاء والاِجتهاد: يمكن أن تتجسّد ذلك من خلال بعض النّمادج التي وضّحتها لك في باب القضاء والفتاوي.
3)- حبّ العلم : والدّليل هو: المدّة التي قضاها في التّعلم، ثمّ تخصّصه في الفتوى، وكذا استنساخه للمدونة.
4)- تقدير العلماء : يظهر ذلك جليّا في قصّته مع داود بن ياجرين وماطوس بن هارون في إجازته شهادة أهل شروس كلّهم.
__________
(1) - الجيطالي : قواعد الإسلام ،ج1، ص12 ، تحقيق الشيخ عبد الرحمن بكلي .
(2) - الشماخي : السير ، ص229.
(1/29)
5)- إحقاق الحقّ: إنّ اقتحامه لأكثر القضايا ولو لم ترق الوالي أو الخصم يكفي دليلا لذلك.
6)- حبّ الجهاد: ولا أدلّ على ذلك من عدم تمكّن العدوِّ منه إلاّ بعد أن نصب له فخّا لإسقاطه.
7)- الشّجاعة والإقدام: فهو لا يخاف ممن يعارضه في فتوى ولو كانت نقيض رأي الحاكم ولا أدلّ على هذه الشّجاعة من عدم الخضوع لابن الأغلب في طلب العفو منه.
ب - عصره:
لقد وجد الشيخ عمروس في ظروف سياسيّة مضطربة لم تعرف الاستقرار إلاّ في فترات متقطّعة قصيرة..
1- ففي المغرب: نجد ثورة ابن فندين - ثورة ابن السمح - ثورة نفات بن نصر - فتنة ابن عرفة - غارات الأغالبة على الدولة الرستميّة وولاية نفوسة والقيروان - وقعة مانو - فتنة زواغة مع والي نفوسة - فتنة ابن طولون، وعلى النقيض من هذا نجده قد عايش الاِزدهار العلمي الذي يعدّ فيه الشيخ واحدا من نماذجه ويكفي أن نعرف أنَّ وقعة مانو فقط حصدت أربعمائة عالم من نفوسة وحدها، ولا ندري كم حصدت الثورات الأخرى، وليتجسَّد لنا هذا الازدهار الفائق في تيهرت.
كما أنَّه عايش أيضا الازدهار الاِقتصادي الذي امتاز به عصر الدولة الرستميّة وضواحيها .. هذا الازدهار الذي مدّ جذوره إلى السودان وغانة ومالي وتشاد وسجلماسة، وشارك في نشر الاسلام في هذه الربوع التي لم يصل إليها الفتح الإسلامي إلاّ من خلال القوافل التجاريّة الآتية من شمال إفريقيّة. (1)
__________
(1) - لمزيد من المعلومات راجع: كتاب الدولة الرستميّة ، للأستاذ بحاز إبراهيم.
(1/30)
2- أمّا في عمان بالمشرق: فإنّنا نجده في عُمان قد عاصر إمامة غسان ابن عبد الله اليحمدي(ت207هـ) ــ وعبد الملك بن حميد(ت226هـ) ــ والمهنا بن جيفر(ت277هـ) ــ والصلت بن الملك الخروصي(ت273هـ) ــ وراشد بن النظر اليحمدي(ت277هـ) ــ وعزّان بن تميم الخروصي(ت280هـ)، ولقد كان الرخاء والاستقرار يسود عهود الأئمّة الأربعة الأولى بصفة عامّة لولا تقطّعه بفترات من الكوارث الطبيعيّة والبشريّة، أمّا في عهود الإمام الخامس فقد عمّت فيه الفوضى والتعصّب للقبيلة (عدناني، يماني) وبلغ أشدّه في عهد الأخير منهم فانتشرت الفتن الداخليّة بين القبائل وتوالت حتّى استنجد المضريون لخلع الإمام بعامل المعتضد العبّاسي محمّد بن بور في عمان فاستغل الخليفة الفرصة لاحتلال عمان فأمدّ الوالي بخمسة وعشرين ألف مقاتل فاسفرت المعركة عن قتل الإمام وعدد كبير من العمانيين منهم أربعمائة عالم إلى أن بويع لمحمّد بن الحسين الخروصي سنة 282هـ، وثمانية آخرين إلى سنة 320هـ. ومع ذلك لم تخل من علماء أجلاّء لهم باع طويل في التأليف والمناظرة مثل: موسى بن عليّ بن الحصين العنبري وبشير بن المنذر -أحد حملة العلم- ومحمّد بن محبوب بن الرحيل -الذي التقى به الشيخ عمروس في مكّة - وأبو المؤثر الصلت بن خميس وغيرهم كثير... (1)
3- أمّا في بغداد: فقد تعاقب على الخلافة الإسلاميّة هارون الرشيد (ت:193هـ) ــ والأمين (ت:198هـ) ــ والمأمون (ت:218هـ) ــ المعتصم (ت:227هـ) ــ والواثق (ت:232هـ) ــ المتوكل على الله (ت:
__________
(1) - لمزيد من المعلومات راجع: كتاب عمان تاريخ يتكلَّم، لمحمَّد بن عبد الله السالمي وناجي عساف. والعقود الفضِّيَّة في أصول الإباضيَّة، للحارثي ، ص256.
(1/31)
247هـ) ــ المنتصر (ت:284هـ) ــ المستعين بالله (ت:252هـ) ــ المعتزّ (ت:255هـ) ــ المهتدي (ت:256هـ) ــ المعتمد (ت:279هـ) ــ المعتضد (ت:289هـ).
وهذه القائمة الطويلة دليل على عدم الاستقرار السياسي في عاصمة الدولة العبَّاسيَّة، وهذا لا ينفي وجود ازدهار مرموق في الجانب العلميِّ والاقتصاديِّ.
4- أمَّا في الأندلس: فقد شهد أواخر أيَّام عبد الرحمن الداخل (ت:172هـ)، ثمَّ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق