آثار المصالحة الوطنية في النفس والمجتمع لسليمان موسلمال - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

آثار المصالحة الوطنية في النفس والمجتمع لسليمان موسلمال

 





الكتاب: آثار المصالحة الوطنية في النفس والمجتمع
المؤلف: سليمان بن محمد موسلمال
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
والصلاة والسلام على رسول الله.
المصالحة الوطنية
جاء في ديباجة قانون الميثاق من أجل السلم
تاريخ الجزائر سلسلة من النضالات المتعاقبة التي خاضها شعبها ومن ينكر ذلك يا ترى؟، وكلّ هذه النضالات توّجت بنتائج رائعة ودائمة، والتي نطلب من الله تعالى أن يديمها عليه، ليتبيّن لأعدائه أنّه على قدر كبير من الوعي بمّا يحاك له من المكائد التي واجهها الواحدة بعد الأخرى بكلّ شجاعة وثقة، وخرج منها مظفّرا منتصرا، ومن هذه النتائج الغالية التي لا تقدّر بثمن وقد سجّلها في تاريخ نضاله الطويل استقلال الجزائر والحمد لله، حيث حقّق الشعب حرّيته وسيادته التي انتزعت منه بالقوّة، وقد استردّها بالقوّة كذلك، ونصر دين الله بما بناه من مساجد ومدارس ومعاهد وجامعات وغيرها من مشاريع عظيمة، الهدف منها المحافظة على الشخصية الجزائرية الإسلامية العربية.
وقد ضحّى الشعب على مرّ السنين بكلّ غال ورخيص في سبيل تحقيق ذلك، وما زال يضحّي على مرّ التاريخ، ضحّى بنفسه ودمه وماله من أجل استرجاع البلاد من المحتلّ الغاشم، الغاصب لأرضه، وتلك هي ضريبة كلّ شعب عزيز غيور يريد الحريّة، ويأبى الخنوع والاستسلام للمستعمر، ولا يرضى الدناءة لدينه ولغته ووطنيته.
(1/1)
وقد أدّاها هذا الشعب المضحّي برضى وقناعة ضمير لتبلغ الجزائر من بعد هذه التضحيات كلّها مستقبلا وضّاء في فترة قصيرة بالنسبة لحياة الشعوب فأصبحت مثالا يحتدى به، سواء على صعيد الكفاح والاستقلال، أو في اختصارها للزمن من أجل بلوغ غاياتها، وهي بلا شكّ بالغة إيّاها طالما أنّ القيادة التي تقودها تؤمن بمصلحة البلاد والشعب، وتدعوه في كلّ آن وحين بالتحلّي بالأخلاق الكريمة والتصالح والتفاهم والتعاون والتسامح لإحباط مكائد الأعداء ومخططاتهم الدنيئة التي تسعى لتخريب البلاد وتدمير منشآتها، التي حقّقتها طوال السنين بجهد جهيد وبسواعد الشعب وتضحياته الجسام، وقد جعلت هذه القيادة الوطن الجزائري أرضا ترعى فيها قيم التسامح والحوار والتفاهم والحضارة.
هذه القيادة التي تتجسّم بكلّ وضوح وشفافية في شخصية الرئيس المناضل المخلص لبلاده، وما تحمّله في سبيل تحقيق ذلك من آراء وتوجيهات بناءة وموضوعية.
إنّ الشعب الجزائري المناضل المضحّي إذا استمدّ قوّته من وحدته، واعتصم بما يؤمن به من القيم الروحية والأخلاقية الإسلامية العريقة والصحيحة التي أرشده إليها ربّنا تعالى ورسوله محمّد {- صلى الله عليه وسلم -}، والتي تمسّك بها آباؤه وأجداده في أشدّ الأزمات وأصعب الأيّام، فإنّه يستطيع التغلّب على أشدّ المحن قساوة، كما تغلّب الجزائريون الأوائل على كلّ الأزمات التي سلّطها عليهم العدوّ الغاشم طوال سنين الكفاح والمقاومة، وذلك رغم ضعفهم وقلّة خبراتهم ومواردهم، وقوته الكبيرة المضاعفة فهذه صفحات بيضاء ناصعة قد تركها أجدادهم، فيجب عليهم هم كذلك أن يضيفوا إليها صفحات أخرى جديدة حتّى يبقى تاريخهم حافلا بالأمجاد، وذلك بضبط النفس أمام هذه الشدائد التي يبتليهم الله بها، ويسلّطها عليهم ليبلوهم أيّهم أحسن عملا.
(1/2)
ولقد صبر الشعب الجزائري والحمد لله، واستمرّ في التصدّي والمقاومة لهذه الانحرافات النفسيّة التي أصابت بعض أفراده، نطلب الله لهم الهداية والرجوع إلى الجماعة، والمساهمة في بناء وطنهم الحبيب الجزائر.
والحمد لله ألف مرّة أنّ الجزائر لم تنزلق ولم تصل إلى الحالات التي كان يتمنّاها لها أعداؤها، مثل الانقسام، أو عواقب أخرى لا تحمد عقباها.
خاصة وقد سخّر لها ربّها هذه القيادة الرشيدة التي أخرجتها من أزمتها بسلام ونجاح، وبقي الشعب والحمد لله موحّد تحت قيادته المؤيّدة، والتي بعثت فيه الوعي والنظر إلى المستقبل البعيد بعين بصيرة وقلب واع لما يحاك ضدّه من مخططات التدمير والإحباط وذلك بفضل توجيهات رئيسه المخلص.
وهكذا نهل الشعب الجزائري بفضل توجيهات قيادته الرشيدة من رصيد الماضي النضالي المجيد، واستمرّت عناصر الشعب التي تتمتّع بالحيويّة المفعمة وبالطاقات القويّة تعمل لتخطّي الانقسامات المبنيّة على خلفيات مردودة ومرفوضة من قبل الناس الحكماء الذين يريدون الخير والصلاح والتقدّم لبلادهم الغالية.
وهكذا ضمّت القيادة الرشيدة صفوف اولئك الذين هم الغالبية العظمى من أبناء الشعب المخلصين الذين يؤمنون أنّ خلاص الأمّة ووحدتها يتصدّران القضايا الأولوية، وهو نشر الأمن والوئام بين صفوف الشعب في مختلف نواحي الوطن، حتّى يعيش حياة كريمة سعيدة هنيئة، يطمئن فيها على دمه وشرف عائلاته ومصادر رزقه.
إنّ الشعب الجزائري تكبّد كلّ هذه المحن والمصائب المتعدّدة، وبفضل وعيه واتحاده استطاع أن يخرج منها سالما في وحدته الوطنية التي لا تقدّر بثمن.
(1/3)
لقد دفع ثمن العشريّة السوداء حسّا ومعنى، هذه الفترة العصيبة التي مرّت عليه، وما فيها من إزهاق الأرواح، وإراقة للدماء، وتخريب وتدمير للممتلكات، ولكنّه أدرك أنّه أصبح من الواجب عليه أن يتسامى نهائيا فوق هذه المأساة التي لا يستفيد منها أيّ أحد، والتي يجب أن لا تتمثل في مجادلات نظرية مجرّدة، بل أن يحقّق ذلك في الواقع الملموس والمحسوس، وذلك من أجل سلامة وطنه وضمان رقيّه وأمنه وإرجاع مكانته وثقته التي كان يتمتّع بها عند الشعوب الأخرى.
إنّ هذا التسامي مسألة حيويّة، وهي تحقّق أمن الممتلكات والأرواح والأعراض، وكلّ ما له حرمة وقيمة لتحقيق حياة كريمة فاضلة، والتي يتمنّاها كلّ عاقل يريد أداء دوره في الحياة كاملا غير ناقص، وهو البناء والتشييد والإعمار وتحقيق الخلافة التي أرادها الله تعالى لهذا الإنسان الذي كرّمه وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.
قال تعالى:
{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة}. ... س ... سورة البقرة ـ آية: 29.
وقال تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا}. ... س ... سورة الإسراء ـ آية: 70.
إنّ الشعب الجزائري تغلّب على هذه المحنة النكراء بفضل توجيهات قيادته الرشيدة، والتي كوّنت فيه الحسّ المدني اللازم لتجاوزها، وبفضل إصرار الشعب واستماتته في نشر الأمن والسلام، لأنّه متيقّن بكلّ عمق بأنّ ذلك في فائدته وفائدة الأجيال الصاعدة من أولاده وحفدته، ولكي ينتزع من تصوّرها ذلك التعصّب المقيت والحميّة الجاهليّة التي تقتل وقته دون فائدة لدنياه أو آخرته، وتستنزف منه كلّ قواه التي هو في أشدّ الحاجة إليها لبناء جزائر الحرّية والاستقرار والرخاء والوئام والسلام.
(1/4)
وتحقّقت الأهداف النبيلة السامية التي كان يصبو إليها والحمد لله، وذلك بفضل ما تحلّى به الشعب من وطنيّة وتضحيّة وإخلاص، ولما بذلته وحدات الأمن ووحدات الجيش الوطني الشعبي من تضحيّات جسام، من أرواحهم الغالية في سبيل التصدّي لهذه الأزمات، وتحقيق الحياة الهنيئة المستقرّة لكلّ عنصر من عناصر الشعب العزيز في أي بقعة كان فيها من الوطن الحرّ.
إنّ الجزائر وطن لكلّ الجزائريين، أيّا كانت أصولهم وعقائدهم، ولكلّ جزائري الحقّ الكامل أن يعيش على أرض وطنه بكلّ حريّة وكلّ تقدير وكرامة، ما لم يمسّ أو يهدّد حقّ الغير في التمتّع هو كذلك بهذه الحقوق أو يهدّد الأمن العام للوطن. ومقابل تلك القيمة والكرامة والحريّة، فعليه أن يؤدّي هو كذلك الحقوق الواجبة عليه نحو وطنه لأنّ الحياة أخد وعطاء.
والشعب الجزائري معروف باعتزازهّ بدينه الإسلام، أفضل وأحسن الأديان، وهو دين يضمن لأتباعه الحرية والتقدير والاحترام، ويأمرهم بالتحلّي بالأخلاق الفاضلة، أخلاق التسامح والتعاون ونشر الأمن والسلام والوئام، وهو دين حضارة راقية ومتينة.
إنّ هذه المقوّمات الوطنية هي ملك للشعب بأكمله، ولا يحقّ لأحد أن يستأثر بشيء منها، أو يستغلّها لأغراضه الخاصّة، أو لتحقيق مصالح
محدودة تكون للبعض دون الآخرين.
لقد أصبح هذا الشعب في مستوى راق من التفكير، ودرجة عالية من النضج ومن التفتّح والاقتناع بأنّه دون التمسّك بهذه المبادئ الجوهرية، ومن دون عودة السلم والأمن وانتشارهما في كلّ ربوع الوطن، فإنّه لا يستطيع أيّ مسعى آخر أن يثمر نتائج طيّبة من حيث التقدّم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
(1/5)
وطالما أنّ الشعب قد عايش مثل تلك الفترة الماضية العصيبة والمظلمة في تاريخ بلاده المشرق والناصع، فإنّه يدرك إدراكا جيّدا وواعيا بأن مثل تلك الظروف لا توفّر له ما يصبو إليه من التقدّم والتطوّر والاستقرار والرفاهية، وإنّه يقدّر بكلّ وعي ما للسلم والأمن من أهميّة بالنسبة للأفراد، وبالنسبة للأمة الجزائرية جمعاء.
إنّ المصالحة الوطنية حقّ وغاية ينشدها كلّ عناصر الشعب لأنها تحقّق مصالحهم جميعا، وهم مستعدّون أن يضحّوا في سبيل تحقيق ذلك بكلّ غال وعزيز لديهم كما ضحّى الآباء والأجداد من قبل في سبيل تحقيق الهدف الأسمى الذي ترمي إليه كلّ الشعوب ألا وه الاستقلال والحرّية، وما هذه الحياة إلاّ عبارة عن تضحيات يقدّمها كلّ من يريد تحقيق حياة العزّ والكرامة والحرّية.
إنّ صمود الشعب وإصراره على اعتناق سياسة الوئام المدني وتحقيقها في واقع حياته يمكّنه من إحباط كلّ مساعي التخريب والتدمير التي تهدف إلى تشتيت شمل الأمّة، كما تحقّق له حقن الدماء، واستعادة استقرار الجزائر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
إنّه بتمسّكه بهذا المشروع الوطني الفريد من نوعه على مستوى العالم لا يفتح الباب لأيّا كان في الجزائر أو خارجها أن يمسّ بمؤسساته الوطنية ولا أن يزعزع استقرار الدولة ونظامها، أو ينقص من شرف المخلصين الذين بنوا الجزائر بتضحياتهم الثمينة ودافعوا عنها سواء في الحاضر أو الماضي، ولا أن يشوّهوا صورة الجزائر على الصعيد الدولي.
وبتمسّكه بهذه المبادرة الحسنة التي هي خطوة بنّاءة ونقطة بيضاء ناصعة في مسيرة تاريخ الجزائر الحافل بالتضحيات، يدعو كلّ مواطن ومواطنة إلى الإسهام في توطيد الوحدة، وتعزيز الشخصية الوطنية، وترقية مستوى المعيشة، وإلى الحفاظ على ديمومة تطبيق ما جاء في بيان ثورة أوّل نوفمبر 1954 من قيم نبيلة عبر الأجيال المتلاحقة.
(1/6)
وهو يؤكّد تصميمه على ترسيخ قدم الأمّة على طريق الحداثة، والعمل والبناء من أجل ترقية شخصيته وهويّته.
وتعتبر فرصة المصالحة الوطنية كذلك مناسبة عظيمة وثمينة وفريدة من نوعها لاستعادة الجزائر الجريحة الوعي الوطني عند كلّ المواطنين، ولدفن أسباب الشقاق الذي ألمّ بها، وهدّد مصالحها على المدى القريب والبعيد، ويعتبر انطلاقة جادّة نحو لمّ الشمل وإدماج كلّ عناصر الشعب في قطار البناء والتشييد الذي أطلقته الجزائر من أجل الأجيال الصاعدة، هذه الانطلاقة التي سترسي الظروف المواتية لفتح عهد جديد.
وهذه هي فرصة ثمينة يتحقّق بها القضاء على العنف وإعادة بناء الثقة التي فقدها كثير من عناصر الشعب، وزرع بذور الأمل في الحركة والتنقّل عبر نواحي الوطن، والتي هي من اللوازم الضرورية للبناء والتعمير، وإرجاع الطمأنينة الحقيقية التي تعتبر أرضية للديمقراطية الحقّة، وللحياة الآمنة جيلا بعد جيل.
وهي فرصة مواتية كذلك لاندماج العناصر التي غرّر بها في وسط المجتمع، لتصبح عناصر بناء وتشييد، وذلك باستغلال قوتّها وذكاءها ونشاطها في سبيل بناء جزائر المستقبل، وفي سبيل نشر الوئام والسلام الذي يعود عليهم بالخير أوّلا وعلى عائلاتهم وجميع عناصر مجتمعهم.
إنّ إحياء الأمل من جديد لدى المواطنين هو العمل من أجل ضمان تكافؤ الفرص، والنهوض بالاقتصاد الوطني نحو مسيرة بناءة تضمن فرص العمل لجميع أفراد الشعب.
وإنّ إحياء الأمل هو كذلك حمل شبابنا على الاقتناع بأنّ التفوّق بجدارة والاجتهاد الدؤوب والصبر والمصابرة هي سبل كفيلة لاعتلاء المراتب وإحراز الدرجات الرفيعة والمكانة المعتبرة أمام الشعوب المختلفة والتي تغيّرت نظرتها نحو هذا الشعب البطل.
(1/7)
وإحياء الأمل يتجسّد كذلك في حرص طويل الأمد على توفير الأسباب التي تتيح لشباب الجزائر النشيط، وطلاّب العلم الجادون كي يتلقوا التعليم اللازم والتكوين الضروري لهم، ممّا يؤهّلهم للتفتّح على الحوار البنّاء والمناقشة الهادئة التي تضمن تفادي مثل تلك التصادمات، أو اللّجوء إلى مثل تلك الأعمال الغير العقلانية والتي تصيب البلاد في صميم مبادئها الاجتماعية والاقتصادية.
إنّ الشعب الجزائري بكلّ طبقاته قد علّق آملا واسعة، ووضع كامل ثقته في قيادته وعلى رأسها القائد المجاهد فخامة رئيس الجمهورية ومعاونيه، الذين دعوا بكلّ إخلاص ونيّة حسنة إلى هذه المبادرة الطيّبة والحكيمة لحقن دماء الأشخاص الأبرياء، والمحافظة على الممتلكات العامة التي هي ملك للشعب، وهذه المبادرة تشتمل على سداد الرأي وسلامة التفكير وحسن النيّة وبعد النظر.
إنّ الجميع قد اقتنع ـ والحمد لله ـ أنّ هذا التقتيل والتخريب والتدمير لا يخدم مصلحة أحد مها كان، وأنّ هذا العنف والتعدّي على الحرمات والأنفس والثمرات سلسلة لا يمكن أن تنقطع إذا لم يساند ويوافق على هذا القرار الرشيد الذي دعا إليه رئيس الجمهورية، وأنّه لا بدّ أن يتخذ القرار الشجاع والمبادرة الجريئة والقويّة، حتّى يفسح المجال للحوار الهادئ البنّاء الذي يضمن الحقوق لكلّ عنصر من عناصر الشعب، ويرمي إلى إرساء قواعد الأمن والسلم والهدوء والطمأنينة وقبول جميع الآراء، مهما اختلفت كي يوجّه أصحابها الوجهة الصحيحة التي تخدم مصلحة الوطن كلّه، وتحترم جميع الأفكار بشرط أن لا تمسّ بمصالح الشعب وحرياته وحرماته وممتلكاته.
إنّ هذه المصالحة الصالحة والمؤيّدة التي توافق الشرع الحنيف، وتسير في نفس الاتجاه، وهي تدعو إلى ما دعا الدين الإسلامي الذي جاء لحقن الدماء والمحافظة على الأموال والأنفس والثمرات، وهذا ما يسمّى في الإسلام بالكليات الخمس، وقدجاءت الشريعة للمحافظة عليها وهي:
(1/8)
الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل.
إنّها تصلح بين الأشقاء الذين أشعل الشيطان نار الفتنة بينهم فسقطوا فيما سقطوا فيه من فتنة وعداوة، وهي تعتمد أساسا على التسامح والصفح الجميل، مصداقا لقوله تعالى لرسوله {ص}:
{فاصفح الصفح الجميل}. ... سورة الحجر ـ آية:85.
وهي تدعو إلى نسيان الأحقاد، وعدم طلب الثأر والانتقام، وهذا ما يدعو إليه ديننا الحنيف كذلك حيث يقول تعالى:
{يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنّه لكم عدوّ مبين} ... سورة البقرة ـ آية: 206.
وديننا الإسلامي بريء كلّ البراءة من الإجرام والعنف الذي يقوم به بعض عناصره على مستوى العالم الذين يظنّون أنّهم ينتمون إليه، ولكنّ الشيطان وسوس لهم بذلك لكي يفسد عليهم دينهم، هذا الدين الذي ينتسب إليه الشعب الجزائري منذ القديم، وهو دين آبائه وأجداده، وهو دين الحوار والعدل والمحاورة بالتي هي أحسن، لا دين العنف والقتل والتدمير كما ينسب إليه أعداءه ذلك.
قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}. ... سورة النحل ـ آية:125.
وهذه المصالحة الوطنية تدعو إلى كلّ القيم والأخلاق الإنسانية التي يدعو إليها دين القيم الحضارية الرفيعة التي تأسّس وتبنى عليها كلّ الحضارات الراقية.
وهذا الدين هو القاعدة الأساسية التي ضمنت وتضمن للشعب الجزائري وحدته وتماسكه وتعاونه واتحاده، كما ضمن له ذلك في الأزمات المختلفة التي مرّ بها عبر التاريخ ولا أدلّ على ذلك من تماسكه واتحاده أمام العدوّ أثناء الثورات الجزائرية المتعدّدة التي خاضها في مختلف العصور.
(1/9)
إنّ مشروع المصالحة الوطنية سعى لطيّ صفحات أليمة سوداء سطّرت في صفحة تاريخ الجزائر من بعض العناصر الذين دفعوا للوقوع فيما وقعوا فيه، وقد كان هذا الطيّ بأسلوب حضاري لم يشهد التاريخ مثله إلاّ في الأيام الأولى للرسالة الإسلامية عندما قال الرسول {ص} لأعدائه وظالميه كلمته المشهورة:
{اذهبوا فأنتم الطلقاء}.
وهذا هو الأسلوب الجدير بالأمّة الجزائرية المتحرّرة، وهو يتسامى فوق كلّ العواطف والتوجّهات، ولا يسعى إلاّ إلى شيء واحد وهو تحقيق الأمن والتقدّم والازدهار لعامة الشعب بكلّ طبقاته، ويرمي فقط إلى تحقيق المصلحة العليا للبلاد، ولفتح جميع مجالات الاستثمار ومشاريع التنميّة والعمل في كافّة القطاعات وفي جميع المستويات.
إنّ نتائج المصالحة عظيمة وجليلة وستظهر منافعها شيئا فشيئا، وذلك على مرّ السنين وتعاقب الأجيال، والواقع التاريخي هو الذي سيظهر تلك المنافع والنتائج المباركة والإيجابية، والتي ستتفاعل مع الزمن وتقلّباته وتطوّراته.
ولا يستطيع أحد مهما أوتي من بعد النظر وجودة الكتابة وقوّة الكلمة أن يحدّد ويبيّن كلّ هذه النتائج الطيّبة، لأنّه سينقطع هو عن الحياة ولكن ستبقى تلك المنافع والنتائج على مرور الأيام والأعوام وسينتفع بها الأجيال المتعاقبة والمتلاحقة، وكلّهم يدعون بالخير والرحمة لمن كانت له يد أو حركة أو كلمة في إرساء مثل هذه الوضعية الحسنة، وما عند الله خير وأبقى.
وقد صدق شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء حين أنشد يقول:
بلادي بلادي، الأمان الأمان ... أغنّي علاك بأيّ لسان
جلالك تقصر عنه اللّغى ... ويعجزني فيك سحر البيان
إليك صلاتي وأزكى سلامي ... بلادي بلادي، الأمان الأمان
(1/10)
وأعلى وأغلى تلك هذه المنافع هي تلك الثقة التي سيتعامل بها الشعب فيما بين عناصره جميعا، وفيما بينه وبين الشعوب الخارجية التي كانت تنظر إليه بأنّه رائد الكفاح ومثال في تحرير البلاد، والحمد لله فقد بدأت تلك الصلات وتلك الثقة ترجع شيئا فشيئا، وصارت الدول تتسابق وتتنافس للفوز بأسواق الجزائر ونيل المشاريع والاستثمارات داخل أراضيها.
وإذا تحقّقت السكينة الاجتماعية والطمأنينة النفسيّة في الواقع، وغرست في النفوس فستنمو بفضلها الحركات، وتزكو المبادرات، وتحلّ المعاملات الديمقراطية الحقّة محلّ العنف والتناحر والتدابر والتنافر، وكذا ينمو التنافس الحرّ الشريف محلّ الحسد والغشّ والمخادعة، وبفضل كلّ ذلك سيسترجع أصدقاء الجزائر نظرة الإعجاب التي كانوا ينظرون بها إلى هذا البلد العزيز، بلد المليون ونصف المليون شهيد، وقبلة الثوار، وملجأ الأحرار، ومصدر المبادرات الجريئة، والمواقف الشجاعة الثابتة، وذلك رغم كلّ ما يكاد ضدّها من مكائد على مختلف الأزمان والأيام.
وصدق الشاعر (مفدي زكرياء) حين يقول:
جزائر أنت عروس الدنا ... ومنك استمدّ الصباح السنا
وأنت الجنان الذي وعدوا ... وإن شغلونا بطيب المنا
وأنت الحنان وأنت السما ... ح وأنت الطماح وأنت الهنا
وأنت السمو وأنت الضمير الصريح الذي لم يخن عهدنا
ومنك استمدّ البناة النقاء فكان الخلود أساس البنا
و ألهمت إنسان هذا الزمان فكان بأخلاقنا مؤمنا
و علّمت آدم حبّ أخيه عساه يسير على هدينا
صنعت البطولات من صلب شعب سخيّ الدماء فرعت الدنا
وعبّدت درب النجاح لشعب ذبيح فلم ينصهر مثلنا
ومن لم يوحّد شتات الصفوف يعجّل به حمقه للفنا
(1/11)
إنّ التاريخ سوف يسجّل ويشهد الزمان أنّ القيادة الجزائرية وعلى رأسها فخامة رئيس الجمهورية (عبد العزيز بوتفليقة) ومن جانبيه قوات الأمن الوطني وعناصر الجيش الشعبي الوطني ومن ورائه كلّ أفراد الشعب بمختلف شرائحه لم يقصّروا في ترسيخ مبادئ الثورة الجزائرية، وتجسيد آمال الشهداء الأوفياء والمجاهدين المخلصين الذين حرّروا البلاد ووفّروا لها كلّ عوامل الأمن والأمان والسلام والتقدّم والازدهار.
وسوف يظهر ذلك على مرّ الأيام وأنّ كلّ اولئك وقفوا للدفاع عن مكاسب الثورة المجيدة، وأنّ هذه الضجّة ما هي إلاّ مؤامرة مفتعلة مدبّرة، القصد منها عرقلة الجهود الجبّارة التي ضحّى من أجلها الشعب في مختلف الميادين، وخاصّة منها في ميدان الديمقراطية والتعدّدية الحزبية الذي نهجها هذا البلد بكلّ شجاعة وثبات وثقة، هذه المبادرة الجريئة والعظيمة التي لم يستطع القيام بها كثير من الشعوب.
أليس المقصود من هذه المؤامرات المتعدّدة إفقاد الشعب الجزائري ثقته في قيادته، وإثارة نار العداوة والبغضاء والشحناء بين عناصره بمختلف انتماءاتهم العقائدية، واختلاف أصولهم العرقية، وتوجّهاتهم الحزبية والسياسية، ولكن والحمد لله فقد وقف الشعب كرجل واحد ضدّ كلّ تلك المؤامرات، وقال كلمته بكلّ صراحة وشجاعة وذلك تحت رعاية قيادته الرشيدة:
ـ لا للتفرقة ـ لا للفتنة ـ
قال: لا لكلّ ما يدبّر ضدّه من عرقلة لتقدّمه ومساسا بسمعته.
الدعوة الإسلامية و التسامح
(1/12)
إنّ الحضارة الإسلاميّة منـذ أن وضع الرسول (ص) أسسها والصحابة الكرام الـذين كانوا في منتهى الوحدة والتعاون والحبّ والمسامحة والوئام، وعبر العصور لم تكن في فترة من فتراتها أو مرحلة من مراحلها صانعة للكراهية ولا داعية للحرب والغزو والعدوان وإزهاق الأرواح، هـذا مع أعدائها، أما بين عناصرها فمن باب أولى، وما نراه اليوم من كراهية المسلمين بعضهم لبعض قد وسوس لهم به الشيطان الـذي لا يرضى ولا يحبّ لهم الاتحاد ولا التعاون ولا المسامحة، حتّى لا يعيشوا في هناء وطمأنينة ووئام، ولا يؤدون عباداتهم وطقوسهم كاملة، وكلّهم اطمئنان وثقة ببعضهم البعض.
وما مبدأ الدفاع عن الدولة ا?سلامية الـذي وضعه الرسول {ص} إلا وسيلة للدفاع عن النفس ضدّ المذلّة والامتهان.
إنّه قد ساد الدولة الإسلامية التي انتشرت إلى الشرق والغرب نوع من السلام الإسلامي استمرّ لقرون طويلة رغم أنّه يوجد بين الشعوب الإسلاميذة أصحاب الديانات الأخرى من اليهودية والنصرانية الـذين يسمون أهل الكتاب، فقد عاشوا جميعا تحت راية الدولة الإسلامية في عزّة وكرامة نفس، وهم آمنون على نفوسهم وأهليهم وأموالهم راضين بالحكم وبالسلطة التي هم تحت رايتها.
ومنـذ عهد الرسول {ص} كانت بداية الدعوة الإسلامية عن طريق القدوة والموعظة الحسنة متمثلة في قوله تعالى:
{ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} ... سورة النحل ـ آية: 125.
وفي عهد الصحابة من بعده والتابعين الأولين الـذين حملوا راية الدعوة ونشروا الدين في جميع نواحي العالم، مطبّقين في ذلك قول ربّهم عز وجل:
{ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إّنني من المسلمين} ... سورة فصلت ـ آية: 33.
(1/13)
وأغلبية الدول التي دخل أفرادها الدين الإسلامي والموجودة في آسيا وأعماق إفريقيا لم تشهد احتلالا إسلاميا بالقوّة ولا بالحرب، كما يدعي الأعداء، بل شهدت تسامحا وعدلا إسلاميا مما جعل الشعوب المختلفة تدخل في دين الله أفواجا.
ولما سمعت تلك الشعوب كلمات القرآن، وانبهرت بسيرة الرسول {ص} وسيرة أصحابه وتسامحهم وتواضعهم مع الناس أجمعين اهتدت بتلك الخصال التي كان المسلمون يجسدونها كاملة غير ناصعة في أخلاقهم ومعاملاتهم مع كلّ أمّة يتّصلون بها، حتّى أصبحوا صورة كاملة وواضحة لسيرة نبيّهم محمد {ص} الـذي قال فيه ربّنا تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم} ... سورة القلم ـ آية: 04.
لما علم منهم ربّهم هـذا الإخلاص وأنّهم لا يطلبون شيئا من حطام الدنيا بهـذه الدعوة، ولا منصبا، وأنّهم لا يرجون إلاّ رحمته عزّ وجلّ، وليس لهم هدف إلاّ الفوز بجنّته، أعانهم في نشرهم لهـذا الدين العظيم في مختلف نواحي العالم، وأصبحوا سادة وعظماء محترمين أيّنما حلوا وارتحلوا.
ولكن ويا للأسف لمّا انحرف المسلمون في العصور الأخيرة عن طريق الإخلاص لهذا الدين، وبدّلوا وغيّروا بسيرتهم وأخلاقهم الجديدة سيرة نبيّهم، وتعلّقوا بمتاع الحياة الدنيا يطلبون الرئاسة والزعامة والسلطة، تسلّط عليهم أعداؤهم بل تسلّط بعضهم على بعض فظهروا أمام تلك الأمم أناس لا يتورّعون عن فعل ما يحلوا لهم ممّا يخالف شريعة ربّهم وسنّة نبيّه {ص}، وقد مالوا ميلا كاملا إلى الدنيا واقتنائها وامتلاكها، وأحبّوها حبّا شديدا وكرهوا الموت، عند دلك سلط عليهم ربّهم الأمم المختلفة وصدق فيهم قول رسولهم محمّد {ص}:
{ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
قالوا أمن قلّة نحن يا رسول الله؟
قال بل انتم يومئـذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، وليلقينّ الله في قلوبكم الوهن، ولينزعنّ المهابة من قلوب أعدائكم.
قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت}.
(1/14)
فإذا أراد المسلمون استرجاع قيمتهم ومكانتهم بين الأمم الأخرى فعليهم بالرجوع إلى دينهم والتمسّك بشريعة ربّهم واتّباع سنّة نبيّهم.
هـذا الدين الـذي هو هداية للعالمين، ورحمة للناس أجمعين.
قال تعالى:
{وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} ... سورة الأنبياء ـ آية: 107.
فغاية الله من هـذا الدين إقامة الحقّ والعدل المطلق بين الناس جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين، يدعوا إلى تحقيق الإخاء، وصيانة الدماء، وحفظ الأعراض والأموال.
السلام مبدأ إسلامي
إنّ الدعوة إلى السلام والتمسك به ليست دعوة جديدة في حياة المسلمين ولا هي غريبة عن الأمّة الإسلامية، وإنّما هي دعوة قد استقرت في ضمائر المسلمين منـذ بعث الله تعالى الرحمة المهداة، فعلّمهم كيف يتعاملون مع من يظلمهم ويتعدّى عليهم، وذلك ما دعا إليه كتاب الله عزّ وجلّ، القرآن الكريم:
قال تعالى:
{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الـذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم} ... سورة فصلت ـ آية:34.
فالله تعالى أرشد إلى هـذا المبدإ الإسلامي الـذي هو من أسس ومبادئ بنائه وتكوينه، وأمر أتباعه بالتمسك به، وتطبيقه في حياتهم اليوميّة، وهذا ليس مع المسلمين مثلهم فقط، بل مع الناس جميعا حتّى أتباع الديانات الأخرى، لأنّه تعالى يعلم ـ وهو خالق هذا الإنسان ـ أنّ المجتمع لا يستقرّ، ولا يتقدّم ولا يزدهر إلاّ بمثل هذه الأخلاق.
وقد طبّق رسول الله {ص} مبدأ التسامح في حياته تطبيقا حقيقيا سواء مع أصحابه، أو مع أعدائه، وجسّد هذا المبدأ لأصحابه ولأعدائه سواء بسواء، وذلك كي يعلّمهم ويقنعهم بأنّ حياة الإنسان في هذا الكون وعلى وجه هذه البسيطة لا يمكن أن تتحقق ولا يسعد ويهنأ مع بني جنسه داخل المجتمع إلاّ بتطبيق مثل هذه الأخلاق في واقع حياتهم بقناعة تامّة وبكامل الموضوعية، ولا يمكنهم تحقيق ذلك في الواقع إلاّ إذا جرى في حياتهم مجرى الدم في عروقهم.
(1/15)
إنّ السلام مبدأ من المبادئ العالية الرفيعة الغالية التي عمّق الإسلام جذورها في النفوس الطيّبة المعتدلة، حتّى أصبحت جزءا وأساسا من كيان المجتمع المسلم الذي بني على تقوى من الله ورضوان وصار من عقائده التي لا يحيد عنها إلاّ مضطرب النفس، الغير المعتدل في سلوكه وأخلاقه وتسلّط عليه الشيطان فأراد له أن يكون ممّن يشوّه دين الله ويبعد عنه عباده حتّى لا يدخلوا فيه ويصيروا من أتباعه.
لقد نادى رسول {ص} منذ بعثته ودعا مند مطلع فجر الإسلام وإشراق نوره، وبعث صيحته المدويّة في آفاق الأرض، يدعو إلى السلام والأمان والوئام، ويضع كامل الخطط اللازمة لتحقيق ذلك وتطبيقه في الواقع لكل فرد من أفراد هذه الخليقة مهما كان أصله وانتمائه حتّى يصل بالإنسانية إلى المستوى العالي والرفيع والكريم الذي خلقت من أجله في هذا الكون وهو تحقيق الخلافة.
إن الإسلام يحترم حياة كلّ نفس حيّة ويقدّ سها ويكرّمها.
قال تعالى:
{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبّات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا}
سورة الإسراء ـ آية: 70.
فهو يحفظ لكل نفس رطبة حقّها في الحياة، ويحبّبها للناس لأنّها هي المطيّة التي يصلون بها إلى الآخرة، وينالون رضوان الله وجنّته، لذلك أحاطها بقوانين وشرائع تحميها من كلّ ما يهدّدها وهذا حتّى يدفع الخوف عن كلّ عنصر في المجتمع مهما كان انتماؤه ومهما كانت عقيدته، ما دام قد خلقه ربّه في هذه الأرض ووهب له الحياة ليحيا ويعيش، فلا أحد يستطيع أن يسلبه هدا الحقّ أو يهدّده، وبهذا الضمان للحياة يستطيع كلّ إنسان أن يعيش ويعمل في اطمئنان ويبنى ويعمّر هذا الكون، كلّ فى مجال اختصاصه الذي خلق من أجله، و يستفيد منها استفادة تعينه على عبادة ربّه عبادة صحيحة كاملة ويحقّق الغايات التي خلق من أجلها فى هذا الكون مثل الرقي و التقدّم وهو مظلّل تحت مظلّة الأمن والأمان و السلام و الوئام.
(1/16)
ولا أدلّ على ذلك من أنّ الله تبارك و تعالى منزل هذا الدين ... و مشرع هذه الشريعة قد اشتقّ له اسمه من هذه الكلمة وهي السلام فسمّاه الإسلام، وذلك لأنّ الإسلام و السلام يلتقيان في توفير الطمأنينة والأمن والوئام بين عناصر المجتمع جميعا، كما أنّه اسم من أسمائه الحسنى فسمّى نفسه تبارك و تعالى ـالسلام ـ.
قال الله تعالى:
{هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبّر} ... سورة الحشر: آية: 23.
سمّى نفسه تعالى بهذا الاسم لأنّه أنزل من الشرائع الصحيحة والثابتة ما يضمن بها السلام والأمان للناس جميعا، فلا يظلم خلق من عباد الله ولا ينقص حقّه، ولا يهان مهما كان موقعه في مجتمعه الذي يعيش فيه، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا كان أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، رئيسا أو مرؤوسا.
وحامل هذه الرسالة العظيمة ذات المبادئ الراقية والداعي إليها بكل تواضع وتسامح، هو حامل راية السلام والأمان شاء من شاء، وأبى من أبى، لأنّه قد حمل إلى البشريّة الهدى والنور، والخير والرشاد والأمن والأمان وهو يحدّث عن نفسه ويقول: {إنّما أنّما الرحمة المهداة}.
ومن مميزات هذا الدين أن جعل تحيّة أتباعه هي لفظة السلام، وهذا ما شرعه ربّنا عزّ وجلّ، وسنّه رسوله {ص} لأتباع هذا الدين، وهذه العبارة:
السلام عليكم: تعني الأمن والأمان لكم جميعا، وقد أمر بها ربّنا تعالى لما يعلم ما فيها من نشر الطمأنينة والرحمة والمحبّة بين عناصر المجتمع.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله {ص}:
{لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم}. ... رواه البخاري ومسلم.
(1/17)
والسلام في أصل اللغة: السلامة، يقال: سلّم، يسلّم، سلاما، وسلامة، ومنه قيل للجنّة {دار السلام} لأنّها دار السلامة من الآفات، فإذا ما طبّقه المسلمون فيما بينهم في حياتهم الواقعية فإنّهم سيعيشون في جنّة وهم على وجه الأرض قبل دخولهم إلى الجنذة الحقيقية الدائمة التي أعدّها لهم ربّهم في الآخرة والتي جعل تحيّتهم فيها السلام.
قال تعالى: {تحيّتهم يوم يلقونه سلاما وأعدّ لهم أجرا كريما}: ... سورة الأحزاب ـآية 44.
وقد علم الله تعالى ما في هذا السلام من نشر الطمأنينة والرحمة بين عناصر المجتمع، لذلك أمر به وحثذ على نشره، ورغّب فيه ترغيبا كبيرا، وجعل فيه أجرا كريما، لأنّه يؤلّف بين القلوب ويجمعها، وينمّي الصلات ويقويها ويحبّب الإنسان إلى أخيه الإنسان.
وأولى الناس بالجنّة، وأقربهم إلى ربّه، وأحبّهم إلى خلقه، من بدأهم بالسلام.
قال {ص}: {وخيرهما الذي يبدأ بالسلام}.
ونشر السلام في العالم، وإفشاؤه بين بني الإنسان جزء من الإيمان، ويحقّق لصاحبه الدرجات العلى في الجنّة دار الرحمة والسلام.
وقد جعل الله تعالى تحيّة المسلمين فيما بينهم بهذا اللفظ العظيم لإشعارهم بأنّ دينهم هو دين الأمان والسلام، وأنّهم أهل السلام ومحبّوا السلام والوئام، ويجب عليهم نشر السلام بينهم وبين خلق الله أجمعين.
قال {ص}: {إنّ الله جعل السلام تحيّة لأمّتنا، وأمانا لأهل ذمّتنا}.
ولا ينبغي لإنسان أن يكلّم آخر ولو كان من غير ملّّته (أي غير مسلم) قبل أن يبدأه بالسلام.
يقول {ص}: {السلام قبل الكلام}.
وسبب ذلك ومعناه أنّ السلام أمان، ولا كلام إلاّ بعد الأمان.
ولا يجوز لأحد أن يغدر بآخر بعد أن يسلّم عليه، ويعتبر ذلك غدر ما فوقه غدر، وخيانة ما فوقها خيانة، وأنّه جريمة فظيعة وإثم مبين.
(1/18)
والإسلام هو دين الرحمة والمحبّة والسلام، والرحمة أشمل وأعمّ من المحبّة، فالإسلام يأمر أتباعه أن يحترموا حتّى من لايحبّون ممّن يخالفهم في معتقدهم وشريعتهم، ولا أدلّ على ذلك أنّه افتتح كتابه بالبسملة، وفيها قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ولا تقرأ سورة من سور القرآن إلاّ بعد قراءتها.
وطلب من أتباعه أن يقولوها عند افتتاح أيّ عمل من الأعمل، وأن يبدؤوا بها، وما ذلك إلاّ لما في الرحمة من خير ومن نشر للسلام والوئام بين خلق الله جميعا، ولما في ذلك من معاني واسعة ومتعدّدة في الرحمة.
ونجدها تتكرّر في مختلف آيات القرآن الكريم لتؤكّد السمة البارزة في ربوبيّة الخالق الشاملة، ولتثبّت الصلة الدائمة بينه وبين مخلوقاته وأنّها صلة رحمة وشفقة ورعاية، وليست صلة قهر وإرغام وتجبّر، صلة تقوم على الطمأنينة، وتنبض بالمحبّة والمودّة، وتعلن كلّ حين أنّ علاقة المرء بربّه علاقة حبّ ورحمة ورجاء ورضى وارتياح.
والمسلم مكلّف وهو يناجي ربّه أن يقدّم له التحيّات المباركات، ثم يسلّم على نبيّه محمد {ص} وعلى نفسه، وعلى عباد الله الصالحين، وذلك في كلّ صلاة يصليها ويقوم بها في كلّ فريضة من الفرائض الواجبة، وكذلك في السنن والنوافل جميعا.
والتحيّات التي تشتمل على السلام ركن من أركان الصلاة، وهي واجبة في كلّ صلاة يؤدّيها المؤمن لربّه عزّ وجلّ، وإلاّ فصلاته باطلة.
ولشدّة اهتمام الرسول {ص} بهذا الركن في الصلاة (التّحيات) أصبح يعلّمها أصحابه وكلّ من يدخل إلى الإسلام ويهتمّ بها، كما يهتم بالقرآن الكريم، ويعلّمهم إيّاها كما يعلّمهم سورة من القرآن الكريم.
يقول الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ:
كان الرسول {ص} يعلّمنا التحيّات كما يعلّمنا سورة من القرآن الكريم.
(1/19)
وفي نهاية هذا الفرض الواجب على المسلم (الصلاة)، والذي هو عبارة عن مناجاة ربّه مباشرة دون حجاب، يسلّم عن يمينه وعن شماله، وذلك حتّى يعطي الأمن والأمان والسلام لكلّ من حوله من الملائكة والناس وجميع المخلوقات، ويقبل على العمل في الحياة بنفس مملوءة بالسلام والرحمة والأمان.
ونستنتج من كلّ هذا أنّ الشخص الذي لا يحرص على تطبيق هذا المبدإ في حياته الواقعية بعد صلاته، أنّ صلاته غير خالصة لأنّه لم يكن لها الأثر اللازم في حياته اليومية، ولأنّه كان يصلّيها ونفسه غير حاضرة فيها الحضور الكامل، ولم يخشع فيها الخشوع المطلوب منه، ولأنّه لم يكن يعي ما كان يقول فيها، ولا يفقه ما يقرأ من كلام ربّه، ولو فقه روح الصلاة جيّدا لأمنه الناس على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، ولنهته عن الفحشاء والمنكر.
قال تعالى: {وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون} ... سورة العنكبوت ـ آية:45.
إنّ تكرار السلام من المسلم على إخوانه، وسماعه منهم دائما يحيطه بجو ديني إيماني ونفسي جيّد ومركّز نحو هذا المبدأ السامي، وهذا من شأنه أن يوقظ الحواس كلّها نحو تطبيقه في الحياة اليومية، ويوجّه المسلمين جميعا إلى التحلّي به والتزامه في حياتهم، سواء مع بعضهم البعض أو حتّى مع أعدائهم فيزرعون بذلك المحبّة والتسامح والتعاون فيما بينهم، ويحبّبون إلى غيرهم مبادئ هذا الدين الحنيف، وذلك ممّا يجلب الناس إليه فيدخلون فيه أفواجا.
وحتّى في الطريق إلى ميدان القتال كان رسول الرحمة {ص} يوجّه المقاتلين إلى نشر السلام فيما بينهم وبين عدوّهم، وذلك بتطبيق الإرشادات المتعدّدة والأوامر الصارمة التي يصدرها إليهم وهم في طريقهم إلى المعركة، ألاّ يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا الشيوخ ولا البهائم، ولا يقطعوا الأشجار.
(1/20)
ثمّ وهم في ميدان المعركة لا يجهزوا على جريح ولا يلحقوا أحدا فرّ من ميدان القتال يريد النجاة بروحه.
وبعد الانتصار فلا يطغى عليهم الفرح والسرور، ممّا قد يدفعهم إلى التمثيل بالموتى أو تخريب الديّار أو إفساد الثمار.
بل أكثر من ذلك نهى هذا الدين الحنيف عن قتل حامل السلاح إذا نطق بالشهادة وهو في ميدان القتال، لأنّه قد دخل تحت راية الإسلام دين السلام والأمان.
قال تعالى: {ولا تقولوا لمن القى إليكم السلم لست مؤمنا}
سورة النساء ـ آية: 94.
وتحيّة الله ـ عزّ وجلّ ـ لعباده المؤمنين المتّقين الذين عرفوا قدر ربّهم، وأدّوا حقّه كاملا غير ناقص، ونشروا السلام بين عباده أن يتلقّاهم غدا يوم القيامة في الجنّة بالسلام، فلا يروّعهم ولا يخوّفهم لأنّهم لم يروّعوا ولم يخوّفوا عباده في الدنيا، فالمسلم هو صاحب السلام، والمؤمن يدعوا دائما إلى السلام.
قال تعالى: {تحيّتهم يوم يلقونه سلام وأعدّ لهم أجرا كريما}
سورة الأحزاب ـ آية:44.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبيء {ص} أنّه قال: {المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه} ... رواه البخاري.
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله، أيّ الإسلام أفضل؟ قال:
{من سلم المسلمون من لسانه ويده}. ... رواه البخاري ومسلم.
أما من كانت طبيعته ظلم عباد الله وترويعهم وتخويفهم فقد توعّده ربّه تعالى بالأخذ الشديد، لأنّه نشر الخوف بين عباده.
وتحيّة الملائكة للمؤمنين عند دخولهم إلى الجنّة دار السلام هي السلام، لأنّهم نشروا السلام بين عباد الله، وجعلوه مبدأ أساسيا في حياتهم، فتدخل عليهم من كل باب وهي تقول لهم:
{سلام بما صبرتم فنعم عقبى الدار}. ... سورة الرعد ـ آية: 25.
(1/21)
والله تبارك وتعالى بلطفه ورحمته وعفوه يدعو جميع خلقه للدخول في دار السلام، لأنّه يريد منهم أن ينشروا السلام والأمان بينهم في حياتهم الدنيا.
قال تعالى: {والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. ... سورة يونس ـ آية:25.
وقال تعالى: {لهم دار السلام عند ربّهم وهو وليّهم بما كانوا يعملون}.
سورة الأنعام ـ آية:128.
وأهل الجنّة عندما يدخلونها لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلاّ قيلا سلاما سلاما، لأنّهم كانوا في حياتهم الدنيا يعرضون عن اللغو، ولا يتكلمون بكلام ينافي ويناقض نشر السلام والوئام والأمان، وهم لا يتكلّمون في دار النعيم إلاّ بلغة السلام، لما كانوا يكثرون من نشر السلام قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلاّ قيلا سلاما سلاما}.
سورة الواقعة ـ آية:26.
وكلّ هذا التعظيم للسلام، وإرشاد المسلمين إلى تطبيقه في حياتهم، ونشره فيما بينهم، يدلّ على تكريم الله تعالى لهذا المخلوق الكريم من حيث هو إنسان حيّ فيه روح، وذلك بغض النظر عن دينه وأصله وجنسه، أو وطنه ولغته ولونه.
فالله تعالى خالقه ورازقه نفخ فيه من روحه وخلقه في أحسن تقويم، ووهب له الحياة، وحفظ له هذا الحقّ في الحياة، فلا يجوز لأحد مهما كانت قوته أن يتعدّى على حياته ويسلبها منه، لأنّه بفعله ذلك يسلبه حقّا من الحقوق التي وهبه الله إيّاه وأحاطه تعالى بكلّ التشريعات التي تحميه وتدافع عنه.
الخلاصة
إنّ السلام ونشره بين عباد الله هو أمر من عنده تعالى لعباده، وذلك لما يعلم ما فيه من نشر المحبّة والتعارف والتسامح بين عباده.
(1/22)
وبالتخلّق به وتطبيقه في حياتهم الواقعية ينتشر الاطمئنان والاستقرار والأمان، فتزدهر الحياة الواقعية، ويكثر الإخاء لأنّ الناس ينصرفون إلى التفاني في العمل والإنتاج، ما داموا مطمئنين على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ولأنّهم يعلمون بأنّهم في مجتمع يحبّ السلام ويحبّ الأمان ويحارب التعدّي والظلم والترويع، وهو سبب لإزالة العداوة والخصومة والبغضاء والأحقاد من القلوب.
هذه الأخلاق السيّئة التي يحاربها الإسلام بكل قوّة وعزيمة لأنّها سبب لتخريب المجتمعات وزعزعتها، وهي تؤدّي إلى إزهاق الأرواح وإهانة النفوس، وما ازدهار الدولة الإسلامية الأولى إلاّ بسبب انتشار هذه المبادئ والأسس بين جميع عناصرها، سواء المسلمين منهم أو غيرهم، فكلّ واحد منهم محترم تحت لوائها مطمئن على حقوقه كاملة غير ناقصة.
أبعاد التسامح
إنّ التسامح يعني تغيير المفاهيم الخاطئة لدينا، وهذا ما أراد القيام به الرسل والأنبياء بوحي من الله تعالى وقد حدا حدوهم العلماء والعظماء والرؤساء في كلّ زمان ومكان على مرّ الأيام والأعوام.
وهذا رسولنا محمّد {ص} يقول: {إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق}.
فهذه المكارم المتعدّدة التي جاء بها جميع الرسل من قبله {ص} بعث هو ليؤكّدها ويثبّتها ويزيد إليها لأنّها تصدر من منبع واحد وهو الله تعالى.
فعندما نتسامح مع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *