أري د البحث في أصول الدين مزيدة غير منقحة لمصطفى شريفي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

أري د البحث في أصول الدين مزيدة غير منقحة لمصطفى شريفي

 





الكتاب : أدب الاختلاف في الإسلام لباجو مصطفى - مادة خام
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
بسم الله الرحمن الرحيم
أدب الاختلاف في الإسلام
إعداد: د. مصطفى صالح باجو
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية. قسنطينة
تمهيد
أهمية الموضوع
الإسلام دين وحدة وتوحيد، وكما يقال هو دين قائم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
والآيات والأحاديث الداعية إلى الوحدة طافحة في الكتاب والسنة, وشعائر الإسلام كلها تدعم هذا المقصد العظيم. مثل: صلاة الجماعة، شرائع الصوم، الحج، النهي عن الغيبة والنميمة، والظلم والاعتداء، كل المسلم علىالمسلم حرام دمه وماله وعرضه" لأن الظلم داعية الفرقة والخصام والنزاع. وآيات "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" "إنما المؤمنون إخوة" يقاتلون في سبيله صفا" "فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" حديث "لا تحاسدوا و لاتباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا". "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"
ذم اليهود "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى"
امتنان الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - "وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم"
النهي عن الفرج في الصلاة "ولا تتركوا الفرج للشيطان" ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"
تحليل مفاهيم عنوان البحث.
تحديد معنى الخلاف والاختلاف، الممنوع والمسموح، أو المذموم والممدوح.
هل اختلاف القلوب كاختلاف الآراء؟
وهل هناك تلازم بينهما؟
ما الاختلاف المشروع؟ وما المذموم؟
الاختلاف والخلاف، تحديد المفاهيم.
سنة الله في الخلق الاختلاف، " { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [ :].
توثيق حديث "اختلاف العلماء رحمة"
الاختلاف لا يعني دائما أن الكل على صواب،
طبيعة النصوص في الشريعة تحتمل في معظمها أكثر من معنى، وهو دليل على مشروعية الاختلاف، لابتلاء العقل وتكليفه الفقه والفهم،
الأبعاد الحضارية لحديث "الصلاة في بين قريظة" فلم يخطئ أحدا منهم رغم أن الأمر صريح في قضية تعبدية، في الصلاة.
(1/1)
وجوب تحري الحق والصواب، واحتمال العذر للآخر: إما لجهله، أوقصور فهمه، أو عدم بلوغه الحجة، أو احتمال دليله لمعنى آخر رجح عنده.
موقف علماء الإسلام من الاختلاف، منذ عهد الصحابة.
نشأة علم أصول الفقه : اختلاف أهل العراق والرأي مع أهل الحجاز والأثر.
توظيف الخلاف من طرف الساسة وتجار المصالح، والمتعالمين، والمتعصبين. على مدار التاريخ الإسلامي.
جهل المسلمين عقد من المشكل،
البعد عن روح الإسلام والجهل بحقائقه وكلياته ومقاصده، وغياب الترتيب السليم للأوليات، زاد للمشكل حدة.
تأصيل أدب الاختلاف في القرآن الكريم.
تأصيل أدب الاختلاف في السنة النبوية.
تأصيل أدب الاختلاف في منهج الأئمة المجتهدين.
تأصيل أدب الاختلاف في نتاج علماء الإسلام.
صلة أدب الاختلاف بالعقيدة الإسلامية.
صلة أدب الاختلاف بمقاصد الشريعة الإسلامية.
عواقب إهمال أدب الاختلاف على المجتمع الإسلامي. الفرد، المؤسسة، المجتمع، الدولة.
الواقع المعاصر للمسلمين: التضحية بالأهم لحساب المهم أو التافه في أكثر الأحيان. تسويغ المتفق على حرمته انتصارا للمختلف فيه.
نماذج من التاريخ: ضياع الأندلس، فلسطين،
نماذج من الحاضر: الحروب المعاصرة، حرب الخليج الأولى والثانية، وعواقبها الخطيرة . الفتن والصراعات الداخلية والتآكل على شتى المستويات: المؤسسات المدارس الجامعات الأحياء الجامعية، العشائر الأسر، الإدارة التجارة الصناعة. العلاقات العامة بصفة عامة.
أسباب الاعتداء على أدب الخلاف: ضعف الموقف، إفلاس الحجة، الانتصار للنفس، العجب والغرور، حب الظهور، الجهل بحقائق الإسلام، اختلاط المعايير والأولويات،
العلاج: العلم والأخلاق، والوعي بطبيعة الخلاف، وما يجوز فيه وما لا يجوز.
(1) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور مصطفى باجو
قسنطينة، الجزائر.
الاثنين 19 شعبان 1422هـ/ الموافق لـ 05 نوفمبر 2001م
- - - ((((( - - - - (((((
(1/2)
نصوص منقولة من كتب التراث
فضل العقل
الْبَابُ الأوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ أُسًّا وَلِكُلِّ أَدَبٍ يَنْبُوعًا , وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلا وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا , فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً بِأَحْكَامِهِ , وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ , وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ , وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ الشَّرْعُ , وَقِسْمًا جَازَ فِي الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِثْلَ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إلَى هُدًى , أَوْ يَرُدُّهُ عَنْ رَدًى } . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ عُمِلَ دِعَامَةٌ وَدِعَامَةُ عَمَلِ الْمَرْءِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْفُجَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : أَصْلُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ , وَحَسَبُهُ دِينُهُ , وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ أَحَدًا عَقْلا إلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ أَفْضَلُ مَرْجُوٍّ , وَالْجَهْلُ أَنْكَى عَدُوٍّ . وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ عَقْلُهُ وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ .
(1/3)
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْمَوَاهِبِ الْعَقْلُ , وَشَرُّ الْمَصَائِبِ الْجَهْلُ . وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ , وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَّانَ : يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُهْ 18 يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي النَّاسِ إنَّهُ عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنْ الأشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ إذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ..... وَقَالَ آخَرُونَ , وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : إنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ . وَذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا وَقَعَ عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ . فَأَمَّا مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ , وَالأصْوَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ , وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ , وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ بِالشَّمِّ , وَالأجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ بِاللَّمْسِ , فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ هَذِهِ الأشْيَاءَ ثَبَتَ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ خُرُوجَهُ فِي حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ .
(1/4)
وَأَمَّا مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ , وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو مِنْ حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ , وَأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ , وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ الْعَاقِلِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ , وَكَمَالِ عَقْلِهِ , فَإِذَا صَارَ عَالِمًا بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِعَقْلِ النَّاقَةِ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ , كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ النَّاقَةَ مِنْ الشُّرُودِ إذَا نَفَرَتْ . وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ : إذَا عَقْلُك عَقَلَك عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ . وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { الْعَقْلُ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ } . أدب الدنيا والدين، علي بن محمد الماوردي، دار مكتبة الحياة.
خطر الهوى
(1/5)
الْهَوَى : فَصْلٌ : وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ , وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ; لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ الأخْلَاقِ قَبَائِحَهَا , وَيُظْهِرُ مِنْ الأفْعَالِ فَضَائِحَهَا , وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا , وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ . ثُمَّ تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قوله تعالى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ { وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ { وَغَرَّتْكُمْ الأمَانِيُّ } يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ , وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ . إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ , وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ , وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً , وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلا . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الأمَلِ . فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ وَطُولَ الأمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى ; لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ .
(1/6)
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ غَلِطَ بِاسْمِهِ , فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ , أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ مَقْطُوعٌ , وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَصَى هَوَاهُ , وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ . وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رحمه الله : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ يَعْتَادُهُ الْهَوَى فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ وَقَدْ أَشْمَتَ الأعْدَاءَ جَهْلا بِنَفْسِهِ وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالا عَوَاذِلُهْ وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ فَلَمَّا كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ , وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ , وَيَدْفَعُ خِدَاعَ حِيلَتِهِ ; لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ , وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ . وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قُوَّةَ سُلْطَانِهِ وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
(1/7)
فَأَمَّا الْوَجْهُ الأوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ دَفْعِهَا , وَيَضْعُفُ عَنْ مَنْعِهَا , مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا , وَهَذَا يَكُونُ فِي الأحْدَاثِ أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ; لِقُوَّةِ شَهَوَاتِهِمْ ; وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ , كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ لَذَّةٍ عُذْرَا وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ , وَمُتَسَلِّطٌ ظَلُومٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ , وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ . وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا عَاقِلا أَرْدَى الْهَوَى عَقْلَهُ مَالَك قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ أَسِيرَ الْهَوَى إنَّمَا الْعَقْلُ عَلَيْهِ أَمِيرُ وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ , وَقُبْحِ الأثَرِ , وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ , وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } . أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ الْمَكَارِهِ , وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
(1/8)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ , وَآجِلَهَا وَخِيمٌ , فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ , فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ , فَإِنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك مُسَوِّفًا , وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا , وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا , وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا , فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ , كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : صَبَرْتُ عَلَى الأيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتْ وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ فَإِذَا انْقَادَتْ النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا , وَبِالنَّفْسِ مَقْهُورًا , ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الأوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ الْمَخْلُوقِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ , وَعَصَى هَوَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
(1/9)
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ , فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ , وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ , وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ; فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ , وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ . وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ , وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى طَاعَةً لِرَبِّهِ , وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِهِ . وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ نَفْعًا . وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ; { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } . أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ الْمَوْعِظَةِ . وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : الْهَوَى عَمًى .
(1/10)
قَالَ الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَنْ تَوَدُّ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : وَلَسْت بِرَاءٍ عَيْبَ ذِي الْوُدِّ كُلِّهِ وَلَا بَعْضَ مَا فِيهِ إذَا كُنْت رَاضِيَا فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي : فَهُوَ اشْتِغَالُ الْفِكْرِ فِي تَمْيِيزِ مَا اشْتَبَهَ فَيَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي اتِّبَاعِ مَا اسْتَسْهَلَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ أَمْرَيْهِ , وَأَحْمَدُ حَالَيْهِ , اغْتِرَارًا بِأَنَّ الأسْهَلَ مَحْمُودٌ وَالأعْسَرَ مَذْمُومٌ فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَوَرَّطَ بِخِدَعِ الْهَوَى وَرِيبَةِ الْمَكْرِ فِي كُلِّ مَخُوفٍ حَذِرٍ , وَمَكْرُوهٍ عَسِرٍ . وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ : الْهَوَى يَقْظَانُ وَالْعَقْلُ رَاقِدٌ فَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ , وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ . وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ , وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَحَسْمُ السَّبَبِ الأوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى نَظَرِ عَيْنِهِ . فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ , وَالشَّهْوَةَ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى , وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ , وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
(1/11)
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ; لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ , فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلا , وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ , وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ . فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ , وَلِلْهَوَى آثَرُ . وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك , وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك . وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ , وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ . وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ , وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ , فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ بَعْدَ الْفَوْتِ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك مُعْرِضًا , فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا . وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ جَهْلا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ : الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ , وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ , فَانْزِلْ عَنْ الْهَوَى تَسْلَمْ , وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ , وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
(1/12)
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ , وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ , وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ الْمَآثِمِ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ : سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ , وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى . فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ , وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ , فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ , وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ . فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ , وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ . وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى , وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى , وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا , وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا . فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عليه السلام : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
(1/13)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ : مَا مَنْ رَوَى أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ حَتَّى يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ وَلَقَلَّمَا تُغْنِي إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ وَقَالَ آخَرُ : يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ . فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلَا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ . إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلَاوَتِهِمْ , فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ . أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ , وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ . فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا , وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا .
(1/14)
إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ , وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ . هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلَاذًا , وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
أدب الدنيا والدين، علي بن محمد الماوردي، دار مكتبة الحياة.
الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ , وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ , وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ ; لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ , وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ أَمْرًا , أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ زَجْرًا . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ } . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالْآخَرُ عَابِدٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ رَجُلا } . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ . وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك مَالا .
(1/15)
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ : يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ , وَإِنْ كُنْتُمْ وَسَطًا سُدْتُمْ , وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِلْمُ شَرَفٌ لَا قَدْرَ لَهُ , وَالأدَبُ مَالٌ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ خَلَفٍ , وَالْعَمَلُ بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا , وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا , وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك , وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك , وَيُقَوِّمُ عِوَجَك وَمَيْلَك , وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك , وَأَمَلَك . وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه : قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ . فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ : لَا يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ الْإِمَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ ; لِأَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْعِلْمِ . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ ; لِأَنَّ فَضْلَهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِهِ . فَلَمَّا عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ جَهِلُوا فَضْلَهُ , وَاسْتَرْذَلُوا أَهْلَهُ , وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ الأمْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ , وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ , أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إقْبَالُهُمْ عَلَيْهَا , وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا .
(1/16)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ ; لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلا , وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا . وَهَذَا صَحِيحٌ , وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ الْعِلْمِ , وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ الزَّاهِدِينَ , وَانْحَرَفُوا عَنْهُ وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ الْمُعَانِدِينَ ; لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ . وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : جَهِلْت فَعَادَيْت الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَمْ الْمَالُ ؟ فَقَالَ : بَلْ الْعِلْمُ . قِيلَ : فَمَا بَالُنَا نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الأغْنِيَاءِ وَلَا نَكَادُ نَرَى الأغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الْعُلَمَاءِ ؟ فَقَالَ : ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ وَجَهْلِ الأغْنِيَاءِ لِفَضْلِ الْعِلْمِ . وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : لِمَ لَا يَجْتَمِعُ الْعِلْمُ وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ : لِعِزِّ الْكَمَالِ . فَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ : وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى : تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا بِمَا لَا يُتْعِبُ ضِرْسًا , وَلَا يُسْقِمُ نَفْسًا . فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً . فَقَالَ : فَاقَتِي إلَى كَلَامِكُمْ , أَشَدُّ مِنْ فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُمْ , إنِّي طَالِبُ هُدًى لَا سَائِلُ نَدًى .
(1/17)
فَأَذِنَ لَهُ الْعَالِمُ , وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلَ عَنْهُ فَخَرَجَ جَذِلا فَرِحًا , وَهُوَ يَقُولُ : عِلْمٌ أَوْضَحَ لَبْسًا , خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ , وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ , وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ . قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ النَّاسِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ حَقَّهُ , وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ يَقُولُ : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلا } . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ , وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ يَرَى أَرْضًا , وَلَا يَعْرِف طُولا وَلَا عَرْضًا . وَقِيلَ لِحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ : أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : اسْتَفْرَغْنَا فِيهَا الْمَجْهُودَ , فَلَمْ نَبْلُغْ مِنْهَا الْمَحْدُودَ , فَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ أَظُنُّهُمَا لَهُ : يَا نَفْسُ خُوضِي بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ إلَّا إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ
أدب الدنيا والدين، علي بن محمد الماوردي، دار مكتبة الحياة.
(1/18)
أَدَبُ الْمُتَعَلِّمِ فَصْلٌ : وَسَأَذْكُرُ طَرَفًا مِمَّا يَتَأَدَّبُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ . اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ تَمَلُّقًا وَتَذَلُّلا فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُمَا غَنِمَ , وَإِنْ تَرَكَهُمَا حُرِمَ ; لِأَنَّ التَّمَلُّقَ لِلْعَالِمِ يُظْهِرُ مَكْنُونَ عَمَلِهِ , وَالتَّذَلُّلَ لَهُ سَبَبٌ لِإِدَامَةِ صَبْرِهِ . وَبِإِظْهَارِ مَكْنُونِهِ تَكُونُ الْفَائِدَةُ وَبِاسْتِدَامَةِ صَبْرِهِ يَكُونُ الْإِكْثَارُ . وَقَدْ رَوَى مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْمَلَقُ إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ } . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ذَلَلْت طَالِبًا فَعَزَزْت مَطْلُوبًا . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا . وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ ; إذَا قَعَدْت , وَأَنْتَ صَغِيرٌ حَيْثُ تُحِبُّ قَعَدْت , وَأَنْتَ كَبِيرٌ حَيْثُ لَا تُحِبُّ . ثُمَّ لِيَعْرِفَ لَهُ فَضْلَ عِلْمِهِ وَلِيَشْكُرَ لَهُ جَمِيلَ فِعْلِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَّرَ عَالِمًا فَقَدْ وَقَّرَ رَبَّهُ } . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : لَا يَعْرِفُ فَضْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْفَضْلِ .
(1/19)
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا فَاصْبِرْ لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ , وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ خَامِلا ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا التَّعْظِيمَ لَا بِالْقُدْرَةِ وَالْمَالِ . وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الأدَبِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : لَا تَحْقِرَنَّ عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ أَثْوَابُهُ فِي عُيُونِ رَامِقِهِ وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي طَرَائِقِهِ فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا بِفِهْرِ عَطَّارِهِ وَسَاحِقِهِ حَتَّى تَرَاهُ فِي عَارِضَيْ مَلِكٍ وَمَوْضِعُ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ وَلْيَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي أَخْلَاقِهِمْ , مُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ ; لِيَصِيرَ لَهَا آلِفًا , وَعَلَيْهَا نَاشِئًا , وَلِمَا خَالَفَهَا مُجَانِبًا . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { خِيَارُ شُبَّانِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُيُوخِكُمْ وَشِرَارُ شُيُوخِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُبَّانِكُمْ } . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } .
(1/20)
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الأدَبِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : الْعَالِمُ الْعَاقِلُ ابْنُ نَفْسِهِ أَغْنَاهُ جِنْسُ عِلْمِهِ عَنْ جِنْسِهِ كُنْ ابْنَ مَنْ شِئْت وَكُنْ مُؤَدَّبًا فَإِنَّمَا الْمَرْءُ بِفَضْلِ كَيْسِهِ وَلَيْسَ مَنْ تُكْرِمُهُ لِغَيْرِهِ مِثْلَ الَّذِي تُكْرِمُهُ لِنَفْسِهِ وَلْيَحْذَرْ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ , وَالْإِدْلَالَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ . قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَذَلُّ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : عَالِمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ جَاهِلٍ . { وَكَلَّمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ : بِنْتُ الرَّجُلِ الْجَوَادِ حَاتِمٍ . فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ , ارْحَمُوا غَنِيًّا افْتَقَرَ , ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ } . وَلَا يُظْهِرُ لَهُ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ , فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ , وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ . وَرُبَّمَا وَجَدَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ قُوَّةً فِي نَفْسِهِ لِجَوْدَةِ ذَكَائِهِ وَحِدَةِ خَاطِرِهِ , فَقَصَدَ مَنْ يُعَلِّمُهُ بِالْإِعْنَاتِ لَهُ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ إزْرَاءً بِهِ وَتَبْكِيتًا لَهُ , فَيَكُونُ كَمَنْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْمَثَلُ السَّائِرُ لِأَبِي الْبَطْحَاءِ : أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَهَذِهِ مِنْ مَصَائِبِ الْعُلَمَاءِ وَانْعِكَاسِ حُظُوظِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا عِنْدَ مَنْ يُعَلِّمُوهُ مُسْتَجْهَلِينَ , وَعِنْدَ مَنْ قَدَّمُوهُ مُسْتَرْذَلِينَ .
(1/21)
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَإِنَّ عَنَاءً أَنْ تُعَلِّمَ جَاهِلا فَيَحْسَبُ أَهْلا أَنَّهُ مِنْك أَعْلَمُ مَتَى يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ إذَا كُنْت تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يَهْدِمُ مَتَى يَنْتَهِي عَنْ سَيِّئٍ مَنْ أَتَى بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ تَنَدُّمُ وَقَدْ رَجَّحَ كَثِيرُ مِنْ الْحُكَمَاءِ حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى حَقِّ الْوَالِدِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : يَا فَاخِرًا لِلسَّفَاهِ بِالسَّلَفِ وَتَارِكًا لِلْعَلَاءِ وَالشَّرَفِ آبَاءُ أَجْسَادِنَا هُمْ سَبَبٌ لَأَنْ جُعِلْنَا عَرَائِضَ التَّلَفِ مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ذَاكَ أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَفِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَهُ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ , وَلَا يَدْعُوهُ تَرْكُ الْإِعْنَاتِ لَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ , فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَا بَعْضُ الأتْبَاعِ فِي عَالِمِهِمْ حَتَّى يَرَوْا أَنَّ قَوْلَهُ دَلِيلٌ , وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ , وَأَنَّ اعْتِقَادَهُ حُجَّةٌ , وَإِنْ لَمْ يَحْتَجَّ , فَيُفْضِي بِهِمْ الأمْرُ إلَى التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَبْطُلَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إنْ انْفَرَدَتْ أَوْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ عِدَادِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا شَارَكَتْ ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَرَى لَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ لِمَنْ أَخَذُوا عَنْهُ فَيُطَالِبُهُمْ بِمَا قَصَّرُوا فِيهِ فَيَضْعُفُوا عَنْ إبَانَتِهِ , وَيَعْجِزُوا عَنْ نُصْرَتِهِ , فَيَذْهَبُوا ضَائِعِينَ وَيَصِيرُوا عَجَزَةً مَضْعُوفِينَ .
(1/22)
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلا يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلَالَةٍ صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فَاسِدَةٌ , وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لَا خَيْرَ فِيهِ . فَأَمْسَكَ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ تَعَجُّبًا ; وَلِأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ مُحْتَشِمًا . وَقَدْ حَضَرَتْ طَا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *