الكتاب : أئمة المغرب الأوائل لمهنا السعدي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
عبق من سير الأئمة
أئمة المغرب الأوائل
بقلم
مهنا بن راشد بن حمد السعدي
1423هـ / 2002م
abujaifar@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمدا وعلى آله وأصحابه الغر الميامين .
هذا بحث متواضع أعددته عن أئمة الإباضية الأوائل بالمغرب ، راجيا أن يكون مفيدا لكل من يقرؤه ، وأعتذر عن الأخطاء اللغوية والعلمية فأنا مجرد طالب علم متطفل على موائد العلم ، فمن وجد شيئا من الأخطاء أرجو أن ينبهني عليها حتى أصحح الخطأ وله جزيل الشكر .
كذلك بالنسبة للاستنتاجات التي سأطرحها في موضوعي أرجو عدم اعتمادها الاعتماد الكلي حيث أني مجرد طالب ولست باحثا متخصصا ، فأرجو العودة إلى المصادر والمراجع وسؤال المختصين عن ذلك .
وأقول أخيرا هذه مجرد مدارسة للإفادة والاستفادة .
وإلى صلب الموضوع :
عنوان هذا البحث : أئمة المغرب الأوائل
إن تاريخ المغرب وبالأخص تاريخ الإباضية هناك تاريخ مشوق وجدير بالبحث والدراسة والاعتناء من قبل الباحثين ، وذلك لأن الكثير من تاريخ الإباضية لم يتعرض للبحث فهو كالمادة الخام التي تنتظر من يزيل عنها غبار الزمن ، وكذلك لأنه تاريخ مشرف سطر فيه الإباضية أئمة وعلماء ما عجز عنه الآخرون ، والتاريخ شاهد على ذلك ، وهناك أسباب أخرى عديدة لا نود إطالة الحديث عنها في هذه العجالة .
قد يتساءل الواحد منا عن أوائل الأئمة الإباضية بالمغرب ، ومن هو أول إمام بويع هناك ؟ وكيف تمت مبايعته ؟ ومن جاء بعده ؟ وأين تلقى العلم ؟ وكيف كانت الدولة في عهده ؟ وأسئلة من هذا القبيل .
وهذا ما سنعرفه من خلال هذا البحث المتواضع .
قد يتبادر إلى الذهن أن أول من بويع بالإمامة في المغرب هو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري رضي الله عنه في عام 140هـ .
(1/1)
ولكن الحقيقة بخلاف ذلك فهناك أئمة إباضية سبقوا هذا الإمام ، والذي ذكرته المصادر التي توفرت بين يدي أنه كان مسبوقا بإمامين وكانت لهم مآثر سجلها التاريخ لنا ، ثم بعدهما بويع أبو الخطاب .
والإمامان اللذان سبقا الإمام أبا الخطاب هما : الإمام الحارث بن تليد الحضرمي ، وبعده الإمام أبو الزاجر إسماعيل بن زياد التفوسي .
وقبل هذين الإمامين قام الإباضية بتعيين شخص يدعى عبد الله بن مسعود التجيبي رئيسا عليهم ولم يكن إماما ولكنه كان يتولى القيام بالمهام التي يقوم بها الإمام في العادة .
1- الإمام الحارث بن تليد الحضرمي ( 131- 140هـ ) :
ذكرت بعض المصادر وجود أئمة في المغرب سبقوا الإمام أبا الخطاب ، ومنهم الحارث بن تليد الحضرمي ، الذي بويع بالإمامة في المغرب قبل الإمام أبي الخطاب في الفترة بين عامي ( 131 و 140هـ ) ، واختار عبد الجبار بن قيس المرادي قاضيا ومستشارا له ، وقد درسا على يد الإمام أبي عبيدة في البصرة ، وشاركا في ثورة أبي حمزة الشاري ، الذي أرسله الإمام طالب الحق إلى مكة والمدينة ، وكانت الثورة في عام 129هـ ، وانتهت في عام 130 هـ ، ثم بعد ذلك اتجها إلى المغرب الأدنى ، ولعل ذلك بإشارة من الإمام أبي عبيدة ، وبايعه الإباضية في المغرب بعد مقتل رئيسهم عبد الله بن مسعود التجيبي (1) ، وقد اختلف في إمامته فقيل إمامة دفاع (2) ، وقيل أنها كانت إمامة ظهور (3) .
__________
(1) - بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، ج2 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1421هـ / 2000م ، ص119 ، رقم الترجمة 253 ـ محمد علي دبوز ، تاريخ المغرب الكبير ، ج3 ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1: 1383هـ / 1963م .، ص411.
(2) - عوض محمد خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، مطابع دار الشعب ، عمان ، الأردن ، 1978م ، ص 139 .
(3) - معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، رقم الترجمة 253 .
(1/2)
والسبب الذي دفع الإباضية إلى مبايعة الحارث ليكون إمام دفاع هو قتل رئيسهم عبد الله بن مسعود التجيبي في عام 126هـ وقيل 127 هـ ، على يد الياس بن حبيب والي طرابلس لأخيه عبد الرحمن بن حبيب الذي انتزع ولاية أفريقية من حنظلة بن صفوان الوالي الأموي (1) .
ولم تذكر المصادر السبب الذي دفع الياس بن حبيب لقتل عبد الله بن مسعود التجيبي ، ومن المحتمل أن التجيبي قام بنشاط كبير أدى إلى تهديد حكم الأسرة الفهرية في أفريقية ، فتخلصوا منه قبل أن ينظم الإباضية في ثورة مسلحة ضدهم (2) .
وسبب اختيار الإباضية لعبد الله بن مسعود التجيبي رئيسا لهم حتى أنه تلقب بلقب الرئيس هو خوف الإباضية من انتشار المذهب الصفري في المغرب على حساب المذهب الإباضي ، وذلك لحركة الصفرية النشطة في المغرب حتى أنهم قاموا بثورة بين عامي ( 122 و 125هـ ) ، وبالتالي سيخسر الإباضية تحقيق حلمهم في إقامة دولة للإباضية هناك ، فكانت هذه نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإباضية في شمال أفريقيا فكثفوا جهودهم الدعوية ، وزادوا عدد الدعاة الذين أصبحوا يجوبون المناطق المغربية ، وأمروا عليهم شخصا منهم عارفا بالمذهب مخلصا له ومتحمسا في سبيل نشره وهو عبد الله بن مسعود التجيبي إلا أنهم لم يبايعوه كإمام عليهم ولكن اكتفوا بلقب الرئيس ، وهذا دليل على أن إمامة الظهور لم يحن وقتها بعد (3) .
وعبد الله بن مسعود التجيبي تذكر بعض المصادر أنه أخذ العلم عن الإمام جابر بن زيد ، وقيل بل عن تلميذه الإمام أبي عبيدة ، وكذلك أخذ العلم عن داعية المغرب سلمة بن سعد في أوائل القرن الثاني الهجري (4) .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص138- معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243، 277 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/411 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص139.
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص138 .
(4) - معجم أعلام الإباضية ، 2/277 ، رقم الترجمة : 600 .
(1/3)
وكان لقتل رئيس الإباضية أثرا كبيرا عليهم ، فكان هذا الحدث محركا قويا لهم دفعهم للثورة العلنية ضد الحكم القائم المتمثل بالأسرة الفهرية التي يتزعمها عبد الرحمن بن حبيب ، وقد حاول عبد الرحمن هذا أن يخفف وقع المصاب وأعلن غضبه وعدم رضاه عن عمل أخيه في قتل التجيبي ، فعزله وولى مكانه حميد بن عبد الله العكي ، ولكن ذلك لم يجد نفعا عند الإباضية وذلك لغضبهم الشديد لقتل رئيسهم فثاروا بقيادة الحارث بن تليد الحضرمي ونصبوه إمام دفاع عليهم (1) .
وقد حاول عبد الرحمن بن حبيب القضاء على هذه الثورة بكل الوسائل المتاحة سواء كانت سلمية أم حربية إلا أنها لم تجد نفعا ، واستطاع الإباضية السيطرة على طرابلس والمنطقة الواقعة بين طرابلس وقابس وسرت ، مما اضطر عبد الرحمن بن حبيب للخروج بنفسه للقضاء عليهم وتمكن من هزيمتهم والقضاء عليهم (2) .
وتختلف المصادر المتوافرة حول مصير الحارث وعبد الجبار اللذين تزعما الحركة الإباضية في هذه الفترة ، فالمصادر السنية تذكر بأنهما قتلا أثناء المعارك التي جرت بين الإباضية وبين ابن حبيب (3) ، أما المصادر الإباضية فتذكر أن الرجلين وجدا مقتولين وسيف كل واحد منهما مغمد في جثة صاحبه (4) .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص 139 ـ بالحاج بن عدون قشار ، اللمعة المضيئة في تاريخ الإباضية ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط2 : 1411هـ / 1990م ، ص20 .
(2) - نشأة الحركة الإباضية ، ص140 .
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص141 .
(4) - أحمد بن سعيد الدرجيني ، كتاب طبقات المشائخ بالمغرب ، ت : إبراهيم طلاي ، ج1 ، ص24 ـ أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي ، كتاب السير ، ت : أحمد بن سعود السيابي ، ج1 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1407هـ / 1987م ، ص114 ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/413 - معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243 .
(1/4)
والحقيقة أن المصادر الحديثة على العكس من القديمة فصلت الحديث في قضية الحارث وعبد الجبار، ومن هذه المصادر الحديثه تاريخ المغرب الكبير لمحمد على دبوز ، ومعجم اعلام الإباضية ، ونشأة الحركة الإباضية للدكتور عوض خليفات .
فنجد الدكتور عوض خليفات يفصل الحديث في قضية الحارث وعبد الجبار تفصيلا لا نجده عند غيره من الباحثين ، واعتمد فيما ذكره على ما نقله من كتب أهل السنة من أمثال كتاب العبر لابن خلدون ، وكتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي وغيرهما ، وأما المصادر الإباضية التي اعتمد عليها في موضوع الحارث وعبد الجبار منها الجواهر المنتقاه للبرادي ، و السير للشماخي ، والسير وأخبار الأمة لأبي زكريا وغيرها .
ولا ننكر أن بعض المصادر الإباضية الحديثة فصلت الحديث نوعا ما في مسألة الحارث وعبد الجبار ومن هذه المصادر تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز ، ومعجم أعلام الإباضية ؛ أما المصادر الإباضية القديمة كالطبقات للدرجيني والسير للشماخي لما تناولت موضوع الحارث وعبد الجبار لم تذكر هذا التفصيل الذي ذكره د/ عوض خليفات ، وإنما مرت عليهما مرورا سريعا وفصلت الحديث في قضية قتلهما وما نتج بعد ذلك من الخلاف عند علماء الإباضية هل هما في الولاية أم البراءة أم الوقوف ؟
(1/5)
فنجد الدرجيني وهو متقدم على الشماخي يقول : " الحارث وعبد الجبار كانا رجلين موصوفين بالصلاح ، وهما من أهل الولاية ، فوجدا في موضع واحد مقتولين وسيف كل واحد منهما في جثة الآخر ، فوقع الاختلاف فيهما فقائل يقول أن كل منهما قتل الآخر فينبغي أن نبرأ منهما فهذا أرذل الأقوال ، وقائل بأن كل واحد منهما قتل الآخر إلا أنا لا ندري الباغي منهما فنبرأ منه ولا المبغي عليه فنتولاه فلا يسعنا إلا الوقوف عن ولايتهما والبراءة منهما هذا قول أصحاب عبد الله بن يزيد ، فقائل أنهما باقيان على ما كانا يستحقانه من الولاية لأن صلاحيتهما متيقنة وقتل أحدهما الآخر مشكوك فيه فلا نتوقف عن ولايتهما .... وهذا قول أصحابنا " إهـ (1) .
وذكر بعد ذلك أنه لا يبعد أن يكون عبد الرحمن دبر هذه المكيدة وقام بقتلهما وجعل سيف كل واحد منهما في صاحبه لينشر الخلاف والفرقة في صفوف الإباضية ، وهذا ما ذكره كذلك الباحث محمد علي دبوز ، والدكتور عوض خليفات وغيرهما من الباحثين (2) .
__________
(1) - الطبقات ، 1/24 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/413 - نشأة الحركة الإباضية ، ص141 ـ معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243، ترجمة رقم : 253 ، وترجمة رقم : 536 ـ اللمعة المضيئة ، ص20 .
(1/6)
فلم يزد الدرجيني على ذلك ، ولم يذكر أن الإباضية بايعوا الحارث بالإمامة ، ولم يذكر ثورة الحارث وقتاله لعبد الرحمن حتى أنه لم يذكر عبد الرحمن هذا ، وإنما كنا عنه وعن من معه بالبغاة ، ولم يذكر قبله أن الإباضية انتخبوا رئيسا لهم ولقبوه بالرئيس وهو عبد الله بن مسعود التجيبي ، إلا أننا نجد تلميح بسيط في الطبقات بكونهما أي الحارث وعبد الجبار من أئمة المسلمين ، فنجد الدرجيني يذكر أن موضوع الحارث وعبد الجبار فتح من جديد في الفترة من عام ( 400 و 450هـ ) ، فنجده يقول : " .... ثم كان بعد ذلك بأيام مجلس آخر حضره جل العزابة المشائخ فيهم أبو عمران فسألهم أبو عمران ما تقولون فيمن وقف لكم في أئمة المسلمين - يقصد الحارث وعبد الجبار - ؟ فأداروا السؤال بينهم حتى انتهى إلى المدوني ، فقال : من وقف فيهم دون أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه .... " إهـ (1) ، فمن كلمة " أئمة المسلمين " والتي يقصد بها الحارث وعبد الجبار يمكن أن نستشف أن الحارث كان إماما مبايعا من قبل الإباضية .
والحقيقة أن الشماخي في سيره صرح بذلك ، وذكر أن الحارث وعبد الجبار كان أحدهما إماما والآخر قاضيا له ، إلا أنه لم يوضح أيهما الإمام وأيهما القاضي ، وذكر أنهما قاما بناحية طرابلس على عامل مروان بن محمد ، فلم يذكر أنهما قاما على عبد الرحمن بن حبيب ودولته الفهرية التي قضت على عامل الدولة الأموية حنظلة بن صفوان ، ثم بعد ذلك ذكر أنهما وجدا مقتولين وسيف كل واحد في الآخر دون أن يبين أحداث أخرى تتعلق بهما (2) .
__________
(1) - الطبقات ، 2/391 .
(2) - السير ، 1/ 114 .
(1/7)
إلا أن هناك من الباحثين المعاصرين من الإباضية من ذكر بعض التفصيل زيادة عما جاء في السير كالشيخ سالم بن حمد الحارثي في العقود الفضية ، والباحث محمد علي دبوز في كتابه تاريخ المغرب الكبير ، وأصحاب معجم أعلام الإباضية ؛ فنجد الشيخ سالم الحارثي ذكر أن أول إمامة قامت للإباضية في المغرب في طرابلس سنة 131هـ هي إمامة الحارث وعبد الجبار ، إلا أنه لم بين أيهما الإمام وأيهما القاضي ، ولا كيف تمت البيعة ، وإنما اكتفى بذكر قيامهما على عامل مروان بن محمد ، والذي زاده على ما في السير هو ذكره لعبد الرحمن بن حبيب فيقول : " ... ووجدا - الحارث وعبد الجبار - قتيلين بعد معارك دارت بينهم وبين عبد الرحمن بن حبيب إذ جاءهم بجيش من المغرب والبربر " إهـ (1) .
ولكنه لم يذكر المصادر والمراجع التي استقى منها معلموماته التي ذكرها في كتابه العقود الفضية ، إلا أنها لا تخرج عن المصادر المتداولة كالطبقات والسير والأزهار الرياضية وأمثالها .
ونجد الباحث محمد علي دبوز ، و أصحاب معجم أعلام الإباضية يذكرون بعض التفصيل في سيرة الحارث وعبد الجبار وأتوا ببعض ما جاء به د/ عوض خليفات كما بينا أعلاه لما فصلنا الحديث عن الحارث وعبد الجبار ، ولمزيد من التوسع انظر تاريخ المغرب الكبير ص411 ، و معجم أعلام الإباضية 2/119 ، 243، ترجمة رقم : 253 ، وترجمة رقم : 536 .
وقد اختلفت المصادر هل كان الحارث إمام أحكام وعبد الجبار قاضيه ؟ أم أنهما اشتركا في الحكم ؟ أم أن الحارث هو القاضي والإمامة كانت لعبد الجبار ، واتفقت على أن الإمامة كانت بينهما على حيز طرابلس المغرب (2) .
__________
(1) - سالم بن حمد بن سليمان الحارثي ، العقود الفضية في أصول الإباضية ، ص237 .
(2) - معجم أعلام الإباضية ، 2/119، ترجمة رقم : 253 .
(1/8)
إلا أننا نجد بعض المصادر ترجح كون الحارث إمام الحرب وعبد الجبار إمام الصلاة ، وهذا يعزز القول بأن الحارث كان إمام دفاع وعبد الجبار قاضيا له ، هذا ما رجحه الشيخ علي يحيى معمر في كتابه الإباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثانية ص45 ، وكذلك هذا الذي رجحه الباحث محمد علي دبوز (1) .
إذا فالذي يظهر مما سبق من كلام الشيخ الشماخي والشيخ الحارثي والشيخ علي يحيى معمر والباحث محمد علي دبوز وأصحاب معجم الإباضية أن الحارث كان إماما للإباضية سواء كانت إمامة دفاع أم ظهور ، وأن إمامته كانت أول إمامة للإباضية في المغرب والله أعلم .
2- الإمام إسماعيل بن زياد النفوسي ( 131 - 140هـ ) :
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، هامش ص139 ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/411 .
(1/9)
بعد موت الحارث وعبد الجبار ، قام الإباضية بمبايعة إمام آخر بيعة دفاع ، وهو الإمام أبو الزاجر إسماعيل بن زياد النفوسي (1) ، وكانت بيعته في سنة 131هـ أو 132هـ كما جاء في معجم أعلام الإباضية ، وهناك بعض المصادر ذكرت أن بيعت هذا الإمام كانت سنة 132هـ (2) ؛ إلا أن هذا التاريخ غير دقيق ، وذلك أن الحارث الإمام السابق للإمام إسماعيل شارك في ثورة أبي حمزة الشاري والتي انتهت في سنة 130هـ ، فانتقل الحارث مع عبد الجبار إلى المغرب والطريق إلى المغرب يحتاج إلى فترة زمنية طويلة بوسائل النقل السابقة الخيل أو الجمال أو الحمير أو حتى عن طريق البحر، ولنقل على أقل تقدير سنة ، إذا سيكون وصولهما إلى المغرب في سنة 131هـ ، تنظيم الإباضية وتجميع القوة وإقامة الإمامة يحتاج إلى مدة من الزمن ، ثم بعد ذلك قتالهم لعبد الرحمن بن حبيب الفهري ظل مدة من الزمن ، وبعد موت الحارث وعبدالجبار يحتاج الإباضية وقتا لتنظيم صفوفهم ، فليس من المعقول أن تكون سنة مبايعة إسماعيل بن زياد 131هـ أو 132هـ ، فلعلها متأخرة عن ذلك ولكن قبل سنة 140هـ ، وهي السنة التي قتل فيها الإمام إسماعيل بن زياد ، والله أعلم .
__________
(1) - معجم أعلام الإباضية ، 2/56 ، رقم الترجمة : 108ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/414 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/414 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص142 .
(1/10)
وقد عظم شأن هذا الإمام وكثر أتباعه ، فنجح في دخول مدينة قابس بتونس ، وبعد جولات من القتال مع عبد الرحمن الفهري تمكن هذا الأخير من قتل إسماعيل بن زياد في معركة قرب قابس وذلك سنة 140هـ (1) ؛ وقد ذكر الباحث عوض خليفات أن هذه المعركة كانت في سنة 132هـ ، وقتل فيها الإمام إسماعيل النفوسي ، ثم ذكر أن الإباضية ظلوا في حالت كتمان بعد هذه الهزيمة إلى أن بزغ فجر إمام جديد من أئمة أهل الحق والإستقامة في سنة 140هـ (2) .
3ـ الإمام أبو الخطاب المعافري ( 140 - 144هـ ) :
هو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ، أصله من اليمن ، وكان من ضمن حملة العلم الخمسة إلى المغرب الذين تلقوا العلم في البصرة على يد الإمام الجليل أبي عبيده مسلم بن أبي كريمة رحمه الله (3) .
والإمام أبو عبيده كما هو معلوم أخذ العلم عن الإمام جابر بن زيد رضي الله عنه الذي بدوره أدرك الصحابة وأخذ عنهم كابن عباس وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن مسعود وأنس بن مالك وغيرهم كثير رحمهم الله تعالى ، وقد كان الإمام جابر من خاصة طلاب عبدالله بن العباس رضي الله عنهما ، وقد شهد له بالعلم كما هو معلوم (4) .
وأرى أنه من الضروري الترجمة باختصار للإمام أبي عبيدة رحمه الله تعالى حتى نعلم أن ما صنعه من إنجازات عظيمة لم تأت من فراغ ، وسأكتفي بما ذكره شيخنا العلامة القنوبي حفظه الله في ترجمته للإمام أبي عبيدة .
- ترجمة الإمام أبي عبيدة :
اسمه :
__________
(1) - معجم أعلام الإباضية ، 2/56 ، رقم الترجمة : 108 .
(2) - نشأة الحركة الإباضية ، ص142 .
(3) - محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، مكتبة الاستقامة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1418هـ / 1997م ، ص149 .
(4) - نشأة الحركة الإباضية ، ص87 .
(1/11)
هو الإمام الكبير المحدث الحافظ الثقة الثبت الزاهد المجاهد أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي - بالولاء - كان مولى لعروة بن أدية التميمي ، وقيل إن اسم أبيه كورين ، وكني بابنته عبيدة ، التي كانت لها أخبار وآثار تتعلق بالنساء ترويها عن أبيها رحمه الله تعالى (1) ؛ وقد اختلف في أصله فقيل : حبشي ، وقيل : فارسي ، وقيل : كردي ، ذكر ذلك شيخنا علامة العصر ومفخرته الحافظ المحقق أحمد بن حمد الخليلي ـ حفظه الله ـ في رسالة له حول المسند أشار إليها الشيخ القنوبي (2) .
مولده :
وقد ولد الإمام أبو عبيدة في البصرة سنة 45هـ أو بعدها بقليل ، وعاش في البصرة في كنف شيخه ومولاه عروة بن أدية رحمه الله تعالى فورث عنه شجاعته وزهده وتقواه ، ثم انتقل إلى الإمام جابر بن زيد رحمه الله تعالى فأخذ عنه الحديث والفقه والسياسة ، ثم خلفه بعد وفاته في رئاسة المذهب ، فدرس الطلبة وأرسلهم إلى البلدان الشاسعة لتعليم أهلها ولإقامة العدل فيها متى أمكن ذلك ، وناظر المخالفين فأقام عليهم الحجة ،
وأوضح لهم المحجة ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء (3) .
شيوخه :
__________
(1) - سعيد بن مبروك القنوبي ، الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط1 : 1416هـ/ 1995م ، ص26 .
(2) - المصدر السابق ، ص26 .
(3) - المصدر السابق ، ص26 ، 27 .
(1/12)
أخذ العلم عن جماعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما رواه الإمام الربيع - رحمه الله تعالى - عنه أنه قال : سمعت ناسا من الصحابة يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من حكم بين اثنين فكأنما ذبح نفسه بغير سكين )) (1) ، وأخذ العلم كذلك عن جماعة من التابعين كجابر بن زيد ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وضمام بن السائب ، وأبي نوح الدهان ، وجعفر بن السماك ، وصحار العبدي الذي عده غير واحد من العلماء من الصحابة كابن سعد في الطبقات وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة كما ذكر الشيخ القنوبي حفظه الله (2) .
تلامذته :
وأخذ عنه العلم خلق كثير لا يحصى عددهم ، منهم : الربيع بن حبيب ، وسلمه بن سعد ، وعبد الله بن يحيى الكندي ، وأبو أيوب وائل الحضرمي ، وأبو المهاجر الحضرمي ، وأبره بن الصباح الحميري ، وأبو سفيان محبوب بن الرحيل ، وخلف بن زياد البحراني ، وغيرهم كثير (3) .
عدالته وثناء العلماء عليه :
__________
(1) - الربيع بن حبيب الأزدي ، الجامع الصحيح ، مكتبة مسقط ، مسقط ، سلطنة عمان ، ط1 : 1415هـ/ 1994م ، 2/157 ، حديث رقم 590 .
(2) - الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص27 ، 28 .
(3) - المصدر السابق ، ص29 .
(1/13)
وقد وثقه جمع من العلماء ذكر منهم شيخنا القنوبي : الدرجيني صاحب الطبقات ، والبدر الشماخي صاحب السير ، وقطب الأئمة ، وهؤلاء من الأصحاب ، وذكر من المخالفين يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل ، فقد سأله أحمد بن حنبل عن أبي عبيدة .... قال - أي يحيى بن معين - : رجل روى عنه معتمر ليس به بأس .... . ومن شاء التأكد فالينظر كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل 3/11- 12 ، ترجمة رقم 3922 (1) ؛ قال الشيخ القنوبي : " هذا ومن المعلوم أن ابن معين من المتشددين في الجرح والتعديل كما نص على ذلك الذهبي وغيره ، وأن قوله : " لا بأس به " هو بمنزلة قوله : " ثقة " على ما ذهب إليه كثير من أئمة الحديث ، قال العراقي في ألفيته ، عند ذكره لمراتب الجرح والتعديل :
وابن معين قال من أقول لا بأس به فثقة ... إلخ " إهـ (2) .
وقد زعم بعضهم جهالة أبي عبيدة محتجا بما ذكره أبو حاتم ومن تابعه بجهالة أبي عبيدة ، وهذا كلام لا قيمة له ، فأبو حاتم معروف عنه التسرع في هذا الباب ، فكم من ثقة حكم بجهالته ، منهم بعض رجال الشيخين (3) .
على أن مسلم بن أبي كريمة الذي حكم بجهالته أبو حاتم غير الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة قطعا ، لأن مسلما الذي ذكره أبو حاتم يروي عن الإمام علي ، وأبو عبيدة الإمام راوي المسند عن الإمام جابر لم يرو عن علي شيئا ، بل لم يكن أبو عبيدة مولودا في حياة علي (4) .
ونظرا لتسرع أبي حاتم في الحكم بالجهالة ، نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتماد على حكمه بالجهالة ، ما لم يوافقه غيره (5) ، وموافقة الذهبي ومن يقلده لا عبرة بها ، لما علم من متابعة الذهبي لأبي حاتم في هذه القاعدة ، كما صرح به في أول " الميزان " (6) .
وفاته :
__________
(1) - المصدر السابق ، ص30
(2) - المصدر السابق ، ص31 .
(3) - المصدر السابق ، ص32 .
(4) - المصدر السابق ، الهوامش ص32 .
(5) - المصدر السابق ، ص34 .
(6) - المصدر السابق ، ص34 .
(1/14)
وقد توفي رحمه الله تعالى في عهد أبي جعفر المنصور ( 136- 158هـ ) ، قال شيخنا القنوبي حفظه الله : " إلا أني لم أجد دليلا يعين السنة التي توفي فيها ، والذي يظهر لي أنه توفي سنة 150هـ أو بعدها بقليل ، بدليل ما ذكره أبو سفيان رحمه الله تعالى : ( من أن أبا عبيدة رضي الله عنه أفتى بقتل معن بن زائدة بعد أن قتل زجرا الحضرمي رحمه الله تعالى بعد أن أمنه ) وقد قتل معن سنة 150هـ بسجستان على المشهور والله أعلم " إهـ (1) ، وذكر بعض الباحثين أن وفاته كانت في حوالي سنة 145هـ (2) .
جهاده العلمي والدعوي :
وقد قام الحجاج بسجن أبي عبيدة ، ولم يخرج من السجن إلا بعد موت الحجاج عام 95 هـ ، وكان ذلك مع بداية حكم سليمان بن عبد الملك عام ( 96- 99هـ ) ، وبعد خروجه من سجن الحجاج تبوأ قيادة المذهب الإباضي ، وذلك أن الإمام جابر توفي في سنة 93هـ ، فأصبح أبو عبيدة الإمام الأول للإباضية (3) .
وقد قام الإمام أبو عبيده باستقطاب طلاب العلم من مشارق الأرض ومغاربها كاليمن وعمان والمغرب وخرسان ومصر وغيرها ، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء الكثير من أبناء هذه الأماكن ممن درس عند الإمام أبي عبيده وعاد إلى وطنه عالما جليلا ناشرا لمشعل الخير والهداية ، ونضرب أمثلة على ذلك ليس على سبيل الحصر ولكن للتمثيل لا غير .
- اليمن :
ممن أخذ العلم عنه من أهل اليمن الإمام أبو الخطاب المعافري وسيأتي الحديث عنه لاحقا ، ومنهم الإمام طالب الحق عبدالله بن يحي الكندي ، وقد أقام دولة شامخة في حضرموت وآثارها لازالت باقية إلى الآن شاهدة على ذلك التاريخ الزاهر ، ومنهم وائل بن أيوب الحضرمي ، وأبو المهاجر الحضرمي ، أبرهة بن الصباح الحميري وغيرهم (4) .
- رحلتي إلى اليمن :
__________
(1) - المصدر السابق ، ص35 .
(2) - منهج الدعوة عند الإباضية ، ص116 .
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص103 .
(4) - الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ، ص29 ـ العقود الفضية ، ص184.
(1/15)
لقد يسر الله تعالى لي زيارة اليمن في صيف سنة 1424هـ / 2002م ، وهي بلاد رائعة الجمال بها الكثير من الأماكن السياحية التي تستحق الزيارة ، وقد أعجبتني كثيرا ، وأعجبني أكثر الكرم اليمني وحسن الضيافة الذي لمسته عند أهل اليمن ، وكذلك طيبتهم وشهامتهم وحسن أخلاقهم ، وقد زرت العديد من المناطق كمأرب ، والعاصمة صنعاء ، وإب ، وتعز ، وزرت كذلك حضرموت ( معقل الإباضية سابقا ) ، وزرت مدينة شبام الواقعة في حضرموت ، وهي مدينة أثرية عريقة عجيبة البناء كانت معقلا للإمام طالب الحق وللإباضية في حقب التاريخ السابقة ، ومبانيها من الصاروج وهي عبارة عن مباني ذات طوابق عديدة تشبه ناطحات السحاب في مصطلح العصر الحديث ، ويحيط بها سور متين من الخارج ، وقد تعجبت كيف استطاعوا بناء مثل هذه المدينة البديعة الضخمة والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الرقي الحضاري والتقدم الذي وصلوا إليه في ذلك العصر .
وهي لا زالت مسكونة إلى الآن ، إلا أن سكانها الآن ليسوا على المذهب الإباضي ، وتوجد بها متاحف شاهدة على عصور الرقي السابقة ، فترة الإمامة الزيدية ، و قبلها فترة الإمامة الإباضية .
وقد أخبرني أحد الأخوة الأعزاء من إباضية اليمن حفظهم الله تعالى وقد رافقنا في تلك الرحلة المباركة أنه لا زال هناك وجود لبعض الإباضية في حضرموت من بقايا الإمام طالب الحق وخاصة كبار السن منهم إلا أنهم لا يعرفون مذهبهم وتسميته ، ولكنهم يصلون بنفس صلاة الإباضية ، وعندما تسألهم لماذا يصلون هكذا ؟
يقولون : وجدنا أهلنا وآبائنا يصلون هكذا ، ولا يرضون التخلي عما هم عليه أسأل الله تعالى لهم الثبات على الحق .
(1/16)
فهذا يدل على أن من بقي من أتباع طالب الحق حافظوا على مذهبهم وعقيدتهم بالرغم من الرياح العاتية والعواصف الهوجاء التي تعرضوا لها من قبل ولاة بني أمية على اليمن بين قتل وتشريد وانتهاك للحرمات والأموال وسبي للذراري بعد سقوط دولة الأمام طالب الحق رحمه الله ( 129- 130هـ ) .
ومن الأمثلة على جرائم ولاة بني أمية بحق إباضية اليمن قيام عبد الرحمن بن يزيد بن عطية نائب ابن عطية على اليمن - بعد استشهاد طالب الحق - بإرسال جيش إلى حضرموت بقيادة شعيب الباقري ، وأمره بحصد الإباضية في كل مكان ، فقتل الصبيان ، وبقر بطون النساء ، وأخذ الأموال ، وخرب القرى ، والله المستعان (1) .
وهذا غيض من فيض ، فهل هذا من أفعال المسلمين ، وما الفرق بين هؤلاء وما اقترفوه من جرائم في حق الإباضية وبين اليهود وما يرتكبونه من جرائم وحشية بحق إخواننا الفلسطينيين ، والتي تتعارض مع أبسط مبادئ الإنسانية .
وتوجد في اليمن مخطوطات إباضية سواء في المكتبات أو المتاحف ، والكثير منها في بيوت اليمنيين ، ويعتبرونها من مقتنياتهم الشخصية ولا يرضون التخلي عنها ؛ وقد ذهب وفد من عمان من وزارة الثراث إلى اليمن ، وعاد ببعض المخطوطات والآثار الإباضية ، إلا أن الأمر يحتاج إلى مزيد تعمق ودخول إلى بيوت اليمنيين ، واستخراج ما لديهم من كنوز إباضية مفقودة ، خاصة شيوخ القبائل منهم كما سمعت من أحد اليمنيين أنهم يحتفظون بمكتبات ضخمة في بيوتهم تحوي الكثير من المخطوطات والآثار .
- وقفات مع د/ محمد عيسى الحريري :
الوقفة الأولى :
__________
(1) - محمد عيسى الحريري ، الاتجاهات المذهبية في اليمن حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، عالم الكتب ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1417هـ / 1997م ، ص28 .
(1/17)
الدكتور محمد عيسى الحريري ألف كتابا تناول فيه مراحل انتشار المذاهب الإسلامية ، وعنونه بـ " الاتجاهات المذهبية في اليمن " ، وهو كتاب جيد فيه معلومات لا بأس بها عن المذاهب الإسلامية في اليمن ، إلا أنه لا يخلوا من بعض الانتقادات من ناحية اعتماده على النقل وعدم تمحيصه لما ينقل التمحيص الجيد .
وقد خصص الفصل الثاني عن المذهب الإباضي ودخوله اليمن ، وتناول قيام دولة الإمام طالب الحق والأحداث المتعلقة بذلك إلى أن سقطت ، ثم تناول أوضاع الإباضية في اليمن بعد سقوط دولة الإمام طالب الحق .
والحقيقة أنه كان منصفا في حديثه عن الإباضية وسيرتهم في اليمن ، ونأخذ مثالا على ذلك قوله في الإمام طالب الحق نقلا عن الأصفهاني صاحب الأغاني : " على كل حال أقام عبد الله بن يحيى طالب الحق في صنعاء أشهرا ، يحسن السيرة في الناس ، ويلين جانبه لهم ، حتى كثر جمعه ، ووفدت عليه الخوارج من كل جانب ، وبايعه كثير من اليمانية ، الذين رأوا فيه من يخلصهم من ظلم بني أمية وجورهم " إهـ (1) .
ونجده قبل ذلك في ص17من نفس الكتاب يبن الفرق بين الإباضية وغيرهم من الخوارج كالأزارقة والنجدات ، فوصف الإباضية بالاعتدال والتسامح بعكس الخوارج الآخرين الذين نهجوا منهج الشدة والتكفير مع مخالفيهم .
ووضح أن الكفر عند الإباضية قسمان كفر ملة ( شرك ) ، وكفر نعم ( يطلق على المسلم المرتكب للكبيرة والمبتعد عن الحق ) ، فذكر أن الإباضية عندما يطلقون على مخالفيهم كلمة كفر لا يقصدون بذلك كفر الشرك وإنما يقصدون كفر النعمة ، بمعنى أن المخالفين عصاة موحدين غير مشركين ، وبالتالي لا يجوز استحلال دمائهم ( بلا موجب لذلك ) ولا غنم أموالهم ولا سبي ذراريهم .... إلخ ؛ وهذا كلام جميل يشكر عليه ، فقد أنصف .
الوقفة الثانية :
__________
(1) - الاتجاهات المذهبية في اليمن ، ص21 .
(1/18)
بالرغم من إنصافه ، إلا أنه وللأسف الشديد لم يعتمد على المصادر الإباضية في نقله إلا مصدرا واحد فقط وهو كتاب : أصدق المناهج في تمييز الإباضية من الخوارج للشيخ سالم بن حمود بن شامس البطاشي .
واعتمد كذلك على كتاب : نشأة الحركة الأباضية للباحث عوض خليفات ، ونعترف أن الباحث عوض خليفات كان منصفا في بحثه ، وتجرد من كل الأهواء ، فجاء كتابه صادقا أعطى لكل ذي حق حقه ، إلا أنه ليس من الإباضية مع أن هذا لا ينقص من قيمة كتابه ، ولكن من أراد الحقيقة ناصعة بيضاء عن الإباضية ، فعليه أن يرجع إلى كتبهم ومؤلفاتهم وعلمائهم لتنجلي له حقيقتهم وتتضح ، وكذلك يقال بالنسبة للمذاهب الإسلامية الأخرى .
وقد اعتمد كثيرا في حديثه عن الإباضية على كتاب المقالات كالأصفهاني والطبري وابن الأثير ، وكتب هؤلاء مليئة بالأخطاء والتشنيع على الإباضية لأسباب معروفه لا نحتاج إلى ذكرها .
هذا الأمر أدى به إلى الوقوع في بعض الأخطاء التي لا تمت بصله إلى الإباضية ، فنسبها إليهم ، وسنذكر هذه الأخطاء في الوقفات التالية .
الوقفة الثالثة :
قال في ص20 : " دخل عبد الله بن يحيى صنعاء ، وقبض على الضحاك بن زمل ، وإبراهيم بن جبلة بن مخرمة ، وحبسهما ، وجمع الخزائن والأموال ، واستولى عليها لصالح الخوارج " إهـ ؛ وقد اعتمد فيما ذكره على ما نقله من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ، وهو كلام خاطئ ولم تقربه ريحة الصحة ، فالإباضية لا يجيزون غنم أموال المخالفين ولا سبي ذراريهم ، فكيف يقال أن طالب الحق استولى على تلك الأموال لصالح الخوارج !!!!!
ولكن الحقيقة أنه وزعها على فقراء اليمن ، حيث أن بني أمية سلبوا تلك الأموال من أهل اليمن جورا وظلما ، بالرغم من أن طالب الحق وأصحابه كانوا في أمس الحاجة لتلك الأموال لتقوية دولتهم ، إلا انهم تركوها لأن دينهم وعقيدتهم وتقواهم تمنعهم من ذلك .
(1/19)
فما ذكره الأصفهاني يتعارض مع عقيدة الإباضية تعارضا تاما ، فالإباضية لا يجيزون غنم مال المسلم ولا سبي ذراريه سواء كان مخالف أو غير مخالف في حرب أو في غيرها ، ومن شاء التأكد فاليراجع كتب الإباضية ، ومن هذه الكتب للتمثيل لا للحصر :
1- دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ، بكير بن سعيد أعوشت ، ص38 - 42 .
2- الإباضية بين الفرق الإسلامية ، الشيخ علي يحيى معمر ، ج2 ، ص 276 ـ 287 ، ص 294 .
وأكتفي بنقل نص واحد لقطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف اطفيش رحمه الله ، وهو من أئمة الإباضية الذين يحتج بقولهم ، قال : " لا نحل مال الموحد لا بالكبيرة ولا بالصغيرة في حرب ولا في غيرها لا للغني ولا للفقير " إهـ (1) .
الوقفة الرابعة :
قال في ص21 : " وقد كانت بيعة اليمانية لطالب الحق من منطلق أنه يمني ... يضاف إلى ذلك أن هذه المبادئ صادفت هوى في نفس طالب الحق الذي ينتمي إلى قبيلة كندة ، وهذه القبيلة اشتهرت بأنها قبيلة الملوك ، فوافق تطلع وحب طالب الحق للسلطة ، تطلع أهل اليمن إلى زعامة يمنية تقود المسلمين وتخلصهم من بني أمية " إهـ .
وهذا الكلام أعلاه فيه ما فيه من الافتراء على طالب الحق ، وعلى إباضية اليمن الذين بايعوا طالب الحق ، وكذلك على الإباضية بصفة عامه .
__________
(1) - علي يحيى معمر ، الإباضية بين الفرق الإسلامية عند كتاب المقالات في القديم والحديث ، ج2 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، مطبعة المدينة ، الخوض ، سلطنة عمان ، ط4: 1421هـ / 2000م ، ص 294 .
(1/20)
فالإباضية سواء كانوا من أهل اليمن أو من غيرهم لما بايعوا طالب الحق لم يبايعوه من منطلق كونه يمني ، ومن منطلق قبلي ، ولكن بايعوه من منطلق شرعي عقائدي ، وذلك أنهم وجدوه يتصف بالصفات التي تؤهله لهذا المنصب الخطير ، وهذه الصفات التي يعتمد عليها الإباضية في اختيار الأئمة هي : العلم والصلاح والقدرة على القيادة والمعرفة بالحروب ، فلا ينظرون إلى القبيلة أو النسب أو القرشية كما هو حاصل عند بعض المذاهب ، فهذه الأمور تأتي بعد ذلك ، إذا كان ذلك في مصلحة الدولة أو ما شابه ذلك .
وكتب الإباضية شاهدة على ذلك ولسنا بحاجة إلى استعراض منهجهم في اختيار الإمام وتنصيبه وشروطه ، فالمقام لا يتسع لذلك ، ومن أراد التأكد فكتب الإباضية موجودة شاهدة على المبادئ السامية التي تتميز به هذه الفئة من المسلمين ، فاليرجع إليها وسيجد ما يشفي غليله ويزيل الغبش عنه .
وأكتفي بنقل نص واحد لإمام من أئمة الإباضية في ذلك ، وهو الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي - وهو من علماء وأئمة حضرموت - ، حيث قال لبعض الصفات التي توجب قيام الإمامة : " ... فإذا اجتمع لأهل الدعوة - يقصد الإباضية - هذا الوصف ، وجب أن يعقدوا الإمامة لأفضلهم في الدين والعلم والورع " إهـ (1) .
ومن الكتب الإباضية التي يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن :
1- الخوارج والحقيقة الغائبة ، الشيخ ناصر السابعي ، ص162 .
2- الإباضية بين الفرق الإسلامية ، الشيخ علي يحيى معمر ، 2/52 .
3- الإباضية مذهب إسلامي معتدل ، الشيخ علي يحيى معمر ، ص25 - 26 .
4- دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ، بكير بن سعيد أعوشت ، ص 113 - 122 .
5- منهج الدعوة عند الإباضية ، د/ محمد صالح ناصر ، ص197 .
الوقفة الخامسة :
__________
(1) - أبو إسحاق الحضرمي ، مختصر الخصال ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، 1404هـ / 1984م ، ص193 .
(1/21)
قوله كما مر سابقا في ص21 : " وقد كانت بيعة اليمانية لطالب الحق من منطلق أنه يمني .... فوافق تطلع وحب طالب الحق للسلطة .... " إهـ .
هذا الكلام الذي نسبه إلى الإمام طالب الحق من (( تطلعه إلى السلطة والحكم وحبه لذلك )) ، هو كلام باطل ، وافتراء على طالب الحق ، فما دليله على ذلك ؟! ومن أين جاء بهذا الزعم ؟!
وخطب طالب الحق دالة على صلاحه وتقواه ، وأنه لم يخرج طمعا في ملك ، وإنما خرج للقضاء على الظلم والجور وإقامة العدل وتطبيق الشريعة ، ويظهر ذلك جليا في خطبته التي ألقاها عندما دخل صنعاء حيث يقول : " أيها الناس ، من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى ، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء ، فما نسيهم ربهم ، وما كان ربك نسيا " إهـ (1) .
فما أعظمها من كلمات لا تخرج إلا من قلب مؤمن غيور على أمته وعقيدته ، فأنَّا لطامع في سلطة وملك أن يقدر على مثل هذا الكلام أو على مثل تلك الأعمال ، فهو أجبن وأحقر من ذلك !!
كذلك فإن أفعال الإمام طالب الحق لما حكم اليمن تدل على أنه ليس ممن يطمع في الملك والسلطان ، ولا أدل من ذلك قيامه بتوزيع المال الذي وجده في خزائن ولاة بني أمية في اليمن على فقراء اليمن ، ولم يأخذ منه
__________
(1) - أبو فرج الأصفهاني ، الأغاني ، ج20 ، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، ص99 .
(1/22)
حتى درهما واحدا لا هو ولا أصحابه بالرغم من حاجتهم إليه (1) ، فليس من ديدن الإباضية حب السلطة والملك والرغبة فيها لهوى في النفوس ، فهذا ديدن غيرنا والتاريخ شاهد على ذلك ، فكم من المواقف لأئمة الإباضية تدل على زهدهم في الملك وعدم طمعهم به ، فمن ذلك قول الإمام عبد الله بن وهب الراسبي لما بويع بالإمامة ، فقبلها و قال : " أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ، ولا أدفعها فرقا من الموت " (2) .
ومن ذلك أيضا لما توفي الإمام عبد الرحمن بن رستم المؤسس للدولة الرستمية ، جعل أمر الإمامة شورى في ستة نفر كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمالت نفوس أهل الحل والعقد من علماء الإباضية إلى شخصين من الستة ، وهما مسعود الندلسي ، وعبد الوهاب بن عبد الرحمن ، وتداولوا الأمر فاختاروا مسعود الأندلسي ، فلما علم بذلك ؟ هل رقص طربا وفرحا بهذا المنصب الذي أقبل عليه ؟
كلا والله ، ولكنه هرب ورعا من تحمل هذه الأمانة العظيمة ، فبايعوا بعد ذلك عبد الوهاب ، فكان مسعود الأندلسي أول من بايع (3) .
وكذلك قصة مبايعة الإمام سالم بن راشد الخروصي رحمه الله ، فلما علم بذلك غشي عليه من هول وقع الخبر عليه ، فلما أفاق رفض ، فأمر الإمام السالمي بضرب عنقه ، فسألهم : إن مت هل أنا في الولاية أم في البراءة ؟ فكان الجواب : أنه في البراءة ، فوافق رحمه الله ، وبويع ودموعه تنهمر من عينيه لعظم الأمانة التي سيتحملها كما ذكر ذلك الشيخ الشيبة في نهضة الأعيان ؛ فرحم الله تلك الأبدان ، وأسكنها فسيح الجنان ، فأين هؤلاء من ملوك بني أمية وبني العباس وغيرهم ، الذين يقتل الواحد منهم أباه وأخاه طمعا في شهوة الملك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
الوقفة السادسة :
__________
(1) - منهج الدعوة عند الإباضية ، ص130 .
(2) - المصدر السابق ، ص198 .
(3) - الطبقات ، 1/46 .
(1/23)
قوله في ص31 من نفس الكتاب : " وقد اشتهرت الإباضية في اليمن بألقاب لم تعرف عنهم في غير اليمن ، فعرفوا باسم ( المصرَرة ) ، وذلك لأن الواحد منهم كان يتخذ لنفسه صرة أو كيسا فيه رمل حول مجرى البول ، وكلما ابتل الرمل من البول بدده واستعمل غيره ، وذلك تشددا وتحرزا من النجاسة " إهـ .
وقد نقل مؤلفنا هذا الكلام من كتاب " صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز " لابن المجاور ص278 ؛ وقال في الهامش من نفس الصفحة : ويرجع ابن المجاور هذا التشدد لتأثرهم بمذهب ابن حنبل ؛ وهذا الكلام - وهو تأثر الإباضية بمذهب ابن حنبل - سنرد عليه في الوقفة السابعة .
وأما ما ذكره من اشتهار الإباضية في اليمن باسم ( المصررة ) !! وأنهم يضعون صره أو كيس فيه رمل حول مجرى البول ... إلخ !!!! فهو كلام غريب ، فمن أين جاء بهذا الزعم ؟ ومن أين له أن ينسب مثل هذه الترهات إلى الإباضية سواء كانوا يمنيين أو غير يمنيين ؟
فهذه كتب الإباضية الفقهية أو غير الفقهية المختصرة أو المطولة لا يوجد فيها مثل هذا الزعم !! ، نعم يوجد في بعض الكتب الفقهية سواء كانت إباضية أو غير إباضية أنه يرخص للمبتلى بالسلسل وغيره أن يضع ثوبا أو شيئا على مجرى البول ، اتقاء للنجاسة حتى يؤدي عبادته بشكل صحيح ، وهذا ليس محصورا عند الإباضية ، فهي موجوده في كل الكتب الفقهية لمختلف المذاهب ، ويرخص ذلك للضرورة ، وليس لمن هو سليم معافى !!
الوقفة السابعة :
قال في ص32 من نفس الكتاب : " وهناك إشارة عند ابن المجاور سبق أن ألمحنا إليها ، بأن الإباضية يتمذهبون بمذهب الإمام أحمد بن حنبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق