الكتاب : أبو مسلم الرواحي حسان عمان لمحمد ناصر
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطلوع
أبو مسلم الرواحي حسان عمان
تقديم
مقدمة
من هو الشاعر أبو مسلم؟
أبو مسلم أديبا لامعا:
ثانيا: الفن الشعري:
أبو مسلم فقيها
مؤلفاته:
العقيدة في شعره
الإسلام في شعره
هل كان قوميا؟؟ !
الابتهال في شعره
لماذا اهتم أبو مسلم بقصيدة الابتهال؟
قراءة أدبية في شاعر العلماء وعالم الشعراء
أبي مسلم ناصر بن سالم الرواحي العماني
( 1273- 1339هـ/ 1857- 1920م)
توزيع: مكتبة مسقط
سلطنة عمان: 1416هـ/ 1995م
رقم الإيداع
35/96
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: سماحة الشيخ الموقر: أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان.
الحمد لله الذي أجرى على ألسنة الفصحاء روائع البيان، ففاضت أفواههم بينابيع الحكم التي تغذي الأفكار وتطرب الوجدان، والصلاة والسلام على أفصح العرب والعجم، الذي تسامى إلى ذروة البلاغة بما أوتي من جوامع الكلم سيدنا محمد القائل: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا" وعلى آله وصحبه وكل من سلك في الحياة جادة دربه.
(1/1)
أما بعد: فإن الله سبحانه يختص من يشاء من خلقه بما يشاء من هباته، وقد أكرم الجنس البشري بنعمة البيان، والناس فيها متفاوتون تفاوتهم في سائر الآلاء، وقد ميز سبحانه اللسان العربي فكان أبلغ الألسن وأفصحها في التعبير، ولا غرو فإنه اللسان الذي اختاره الله لأن يكون لسان كتابه الخاتم لما أنزل، المصدق لما قبله، المهيمن على ما سبقه، الميز ما بين كتب الله الموحاة إلى النبيين من قبل، بكونه معجزا بذاته، لا يفتقر إلى آية تعضده أو برهان يصدقه، لأنه أجل من كل آية وأبلغ من كل برهان. ومن أبرز وجوه إعجازه التي تتجاوز الحصر بيانه المحكم الباهر الذي خر له كل بيان ساجدا، وإن كان من قبله شامخ الأنف مرفوع الجبين، ورغم كل تحد ومكابرة من خصومه اللُّد لم يتجاسروا أن ينزلوا إلى حلبة مباراته، مع ما تكرر منه من دعوتهم إليها بعبارات تستفز عزائمهم وتستجيش نخواتهم وتؤجج حماسهم، وما ذلك إلا لأنه ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ (فصلت، الآية 42).
(1/2)
ولئن كان اللسان العربي هيأه القدر الإلهي لأن يكون لسان هذه الرسالة -فكان لغة كتابها المحكم وبيان رسولها الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام- فلا غرو إن أضاف إليه الوحي مآثر لم تكن تذكر فتحول من لسان قومي إلى لسان عالمي، كيف وقد أصبح لسان الدعوة الحق وأمة الإيمان يفتح البصائر على معارف القرآن، ويهدي النفوس البشرية إلى خير الأخرى والأولى، ومن هنا تجلت لنوابغه الإسلاميين مواهب تحار منها الألباب إذا استطاعوا -بفيض من أسرار القرآن وهدي من أنواره- أن يجمعوا بين بلاغة القول، وصدق المعنى، وبعد المرمى، وخصوبة الخيال، ودقة النظر، والغوص في أعماق محيطات المعاني لاقتناص جواهر الحكم، فكان بيانهم زاخرا بالمعارف، مشيدا بالحقائق، تتهذب به النفوس، وتستنير به الأفكار، وترق به المشاعر، كيف والمعارف القرآنية غذّته بروحها، والهداية المصطفوية سقته صفو رحيقها.
(1/3)
ولئن كان التفاوت في كل شيء من سمات البشر التي لا تفارقهم فإن فرسان هذا الميدان هم أيضا في حلبته متفاوتون: فمنهم المجلّي، ومنهم المصليِّ، ومنهم من هو دون ذلك، وإن مما لا يمارى فيه من خبر هذا الفن أن من الذين أحرزوا قصبات السبق في مضماره العلامة الجليل الشاعر المفلق، والباحث المحقق/ أبا مسلم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني الرواحي، إذ آتاه الله عز وجل موهبة من لدنه ملِّكته نواصي البيان شعرا ونثرا، ومع تنوع مجالاته الشعرية كان في كل منها الفارس المُجَلِّي، فإذا ما انطلق بيعبوبه السباق في أي ميدان لم يكد يبلغ شأوه أو يشق غباره، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالحضرة الإلهية، أم كان فيما يخص مقام جناب المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام-، أم كان عائدا إلى عقيدة الحق، أم مديحا لأهله الأبرار، أم دعوة إلى وحدة الأمة، أو استنفارا لعزائمها واستنهاضا لهممها، أو رثاء وتأبينا لأعلام إصلاحها، أو حكمة تجلو الحقيقة من خدرها المصون فتبدوا سافرة للناضرين، وهو مع ذلك كله العالم الرباني الذي عبّ إلى أن رَوِيَ من مناهل القرآن وينابيع السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فأشربت روحه وعقله وقلبه ومشاعره صفو الشريعة والحقيقة، وانعكس أثر ذلك على شعره ونثره، فتميزا بروح إيمانية لا يكاد يحس أثرها إلا في بيان من نحا هذا النحو، وشرب من هذا الكأس.
(1/4)
ومع كل ذلك فإن الدهر لم ينصف أبا مسلم، إذ لم يوف أدبه ما له من حق في الدراسة والتحليل، وذلك دَيْن في ذمة الأدباء الإسلاميين، ولا ريب أن كل من عرف أبا مسلم حق المعرفة من الأدباء يؤرق ليله ويقض مضجعه هاجس الضمير الذي يدعو بإلحاح إلى وفاء هذا الدَيْن، لذلك استجاب لهذا الداعي وتجرد لهذا الواجب أخونا الأديب الحاذق الأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر بدافع من غيرته على الإسلام وأدبه، ولعمري إن كاهله لجدير بأن يحمل هذا العبء ليكفي بذلك نظراءه من الأدباء الإسلاميين مسؤولية إهمال هذا الواجب، وقد جاءت دراسته وافية بالمطلوب لائقة بمقام الشخصية المدروسة وأدبها، وليست بحاجة إلى التفريط من أمثالي، فحسبها أن تظهر للقراء بوجهها المشرق وحلتها القشبية ومفاتنها المتناسقة، ولا أملك إلا أن أقول: بارك الله في أديبنا الباحث وجزاه عن عمله هذا خيرا، ورحم الله أبا مسلم في المصلحين الخالدين.
أحمد بن حمد الخليلي
مسقط في 19 ذي القعدة 14
المفتي العام للسلطنة
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يصدق الدينَ إلاَّ من يُناصحُه= ولا يتمٌّ بغير النُّصح إيمانُ
تلكم وصيًّة حسَّان لكم ثبتتْ = فإنني اليوم للإسلام حسَّانُ
"أبو مسلم"
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كلما حلت ذكرى مولد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حلت في نفسي ذكريات احتفالات المولد البهيجة، وتيقظت في أعماقي تلك المظاهر البهية التي تصاحب هذه المناسبة السعيدة، وقد ارتسمت في ذاكرتي الطفولية مع ما ارتسم فيها من ألوان وأضواء وأصوات ومناظر طالما ارتبطت بهذه الذكرى العظيمة.
(1/5)
ولكن أجمل هذه المناهج كلها تعمقا وتأصلا في نفسي هي تلك المظاهر الاحتفالية التي كنت أشهدها طفلا ويافعا مع والداتي في ساحة المسجد (القرارة) العامر، حيث يكتظ بالرجال والنساء والشباب والشيوخ، ليتمتعوا بالأناشيد الدينية والمولدية العصماء التي ينشدها أو يلقيها بصوته الرخيم وأدائه المتميز رائد الحركة الإصلاحية وإمامها بوادي ميزاب الشيخ بيوض إبراهيم (رحمه الله)، وما زلت أردد من حين إلى آخر ذلك المطلع الجميل للمولدية: "رَوّح اللهم شخصه الكريم، بنور مع صلاة وتسليم، اللهم صل وسلم وبارك عليه". لأن هذا المطلع كان الحاضرون في المسجد يرددونه جميعا مع الشيخ في آخر كل مقطع من المولدية.
وما كنت أعلم إلا بعد سنين أن صاحب المولدية هو الشاعر العماني الأصيل أبو مسلم الرواحي، وكانت تلك نقطة التعارف بيني وبين الشاعر التي عرفت فيها نفسا شعريا إسلاميا قويا.
وعندما حطت بي الأقدار في أرض سلطنة عمان وجدت بها الناس يرددون في إعجاب وفخر نونيته (الفتح والرضوان)، ففتحت هذه النونية أمامي أفقا جديدا من تاريخ عمان، وأطلعتني على صفحة أخرى من صفحات هذا الشاعر الملهم. مما دفع بي إلى البحث عن ديوانه وقراءته، وكنت كلما قرأت قصيدة وددت أن أقرأ له أخرى وأخرى.
وازددت اقترابا من شعر الشاعر عندما أسند إلي تدريس الأدب والنصوص لطلاب معهد القضاء الشرعي سنة 1413هـ. فقد كان من بين ما اخترت للتدريس نصوصا للشاعر العظيم أبي مسلم، وهكذا استحوذ على مشاعري، واحتل من قلبي مكانة عظيمة؛ لأني اكتشفت فيه شاعرا مسلما قويا، وشاعرية متدفقة، ونفسا أدبيا فياضا، تميز بها عن الشعراء العمانيين الآخرين تعبيرا وتصويرا.
(1/6)
وكنت أعجب كيف ظل هذا الشاعر المسلم مجهولا في الشعراء الإسلاميين، لا يكاد يعرفه سوى القلة القليلة من الأدباء، بل وجدتني أمام جهل يكاد يكون كليا عن حياته ومسيرته الشعرية حتى عند العمانيين أنفسهم، وقد ازددت مع الأيام قناعة -بناء على دراسة متأنية في شعر الشاعر، ولو أنها جزئية- بأن هذا الشاعر لا يقل مرتبة، ولا يتأخر درجة عن المكانة التي يحتلها بعض الشعراء المعاصرين له من أمثال شوقي، وحافظ، ومطران، وغيرهم...
على أن أبا مسلم يمتاز على هؤلاء بأنه شاعر مسلم بأتمِّ معنى الكلمة، إسلامي في رؤاه، وفي مواقفه، وفي أدواته الفنية، وبذلك يستحق أن يكون رائدا لمدرسة إسلامية في الشعر العربي الحديث.
وهكذا رأيت -بناء على ما سبق- أن أقدم للقارئ الكريم هذه الملاحظات التي كنت أسجلها أثناء قراءاتي لشعر هذا الشاعر الفحل، وأحسب أني جمعت منها ما يستحق أن يكون مدخلا لدراسة هذا الشاعر الذي سيظل في حاجة إلى دراسات أشمل وأكمل.
سائلا الله التوفيق فيما قدَّمت، والمغفرة فيما أخطأت.
محمد صالح ناصر
مسقط في يوم الخميس: 4/5/1414هـ - 21/10/1993م
من هو الشاعر أبو مسلم؟
حياته ومكانته:
هو ناصر بن سالم بن عديم بن صالح بن محمد بن عبدالله بن محمد البهلاني الرواحي العماني المكنّى "أبو مسلم".
ولد في أحضان بيت علم وفضل في مدينة محرم، أعز بلاد بني رواحة في عمان بعد انتقال أجداده من بهلا إلى وادي محرم. وتوجد روايتان لتاريخ ميلاده إحداهما تقول: إنه ولد سنة 1273هـ وهي لابن أخ المترجم له الكاتب الأديب سالم بن سليمان الرواحي.
والثانية تقول: إنه ولد سنة 1277هـ، وهي رواية ابن المترجم له مهنا بن ناصر البهلاني، وهي التي يرجحها الشيخ أحمد الخليلي لوجود قرائن تؤيد هذا الرأي.
والشاعر أبو مسلم ينتمي إلى أصول كريمة تعود إلى قبيلة عبس المشهورة، وتعتبر في عمان من القبائل الكبرى.
(1/7)
وقد أحاطت الرعاية الربانية بالشاعر منذ ولادته، فنشأ نشأة كريمة في حضن عائلة معروفة بالعلم والصلاح، فقد كان والده قاضيا للإمام عزان بن قيس، وكان من قبله جدُّه الرابع عبد الله بن محمد قاضيا في وادي محرم أيام دولة اليعاربة، وكان توليه القضاء آنئذ دلالة على النضج العلمي والاستقامة الخلقية، إذا لا يختار له، بل لا يقبل فيه إلا من أهلته مواهبه وأخلاقه لهذا المنصب الهام.
نشأ الشاعر أبو مسلم في وادي محرم، وأخذ علمه عن عدد من المشايخ؛ أولهم والده سالم بن عديِّم، ثم انتقل إلى بلدة (السيح) حيث جلس إلى الشيخ محمد بن سليم الرواحي، وكانت دراسته لا تختلف عن زملائه، حيث يكون التركيز على المواد الشرعية واللغوية، وعلى رأسها حفظ كتاب الله الذي تبدو آثاره ظاهرة في شخصية أبي مسلم علما وأدبا وسلوكا، وكان قرينه وخلفه في هذه المرحلة الشيخ أحمد بن سعيد الخليلي، وكانت البيئة والعصر مساعدين على نبوغ أبي مسلم، إذ شاع بينهما الأدب وازدهر الشعر، فاشتهر غير واحد من الأدباء، نذكر منهم على سبيل المثال خميس بن سليم في مدينة سمائل، ومنهم الشاعر _صاحب الغزل الرقيق_ ابن شيخان الذي يكاد يعتبره الدارسون في مرتبة أبي مسلم.
وكان من زملائه في الدراسة كما قلنا الشيخ العلامة أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي، وهو الذي عناه بقوله في قصيدته النونية الشهيرة وهو يحن إلى عمان:
... أرتاح فيها إلى خلّ فيبهرني =صدق وقصد ومعروف وعرفان
(1/8)
فالمحيط الأدبي الذي تنفس فيه الشاعر كان من أقوى العوامل المساعدة له على النبوغ والتفوق، هذا المحيط الذي يُعرّفه أحد الكتاب بقوله: "كان المحيط الأدبي في زمن الشاعر خصيبا، فكثيرا ما اجتمع الأدباء ودرسوا إنتاج رفاقهم، وكانت القصيدة تلاقي حفاوة بالغة لدى الناس". وهكذا بدأ لقاؤه مع قرض الشعر منذ الخامسة عشرة من عمره. ويبدوا أن ما جلبت عليه نفس أبي مسلم من طموح وتفتح طوّحت به إلى الغربة بعيدا عن وطنه، لا ندري أسباب ذلك بالتحديد؛ ولكن المؤكد هو أن نفسية مثل نفسية أبي مسلم تضيق بالمجالات الضيقة والبيئات المختلفة، وطموح أي مسلم ما كان ليرضى بالحد الذي وصل إليه علما أو مالا.
كان دون العشرين من عمره يفيض حماسة واندفاعا حين زم حقائبه متوجها إلى زنجبار من شرق أفريقيا، وكانت زنجبار آنذاك في عصرها الذهبي الإسلامي العماني، عصر السلطان برغش بن سعيد، الذي وجد العمانيون في أحضانه الدفء والرعاية والحدب والعناية، وكان هذا السلطان يتطلع إلى الاستفادة من الخبرات العمانية في كل المجالات، يحرضهم على الهجرة إليه والعيش في ظل دولته، وكان من همه ألا يبقى بعمان من أخيارها أحد إلا جلبه إلى زنجبار ليكونوا جمالها العربي، وإظهارا لشرف عمان في وجوه أهل أفريقيا، فاجتلب أهلَ عمان تقديرهُ وإحسانه وفضله وامتنانه، فكانوا يزورون عمان ويستوطنون زنجبار، وكان والد المترجم له الشيخ سالم بن عديّم الرواحي ممن هاجر إلى زنجبار وعمل بها قاضيا من قضاة السلطان برغش.
وهكذا هاجر الشاعر أبو مسلم إلى زنجبار وبقي بها خمس سنوات، دون أن نعلم ما كان عمله في هذه المدة هناك، لأن المصادر لم تفدنا بذلك، وعاد إلى زيارة عمان في سنة 1300هـ، غير أن إقامته بها لم تطل، فما لبث أن حنَّ مرة أخرى إلى زنجبار لما وجد بها من رعاية السلطان المذكور.
(1/9)
وفي سنة 1305هـ حط رحاله بزنجبار، وألقى بها عصى التسيار واستوطنها بكل معنى الكلمة، وكان قد أمضى فترة من حياته في الجزيرة الخضراء، ثم انتقل إلى زنجبار بعد وفاة والده. وأكب في زنجبار على تكوين نفسه بنفسه في دراسة عصامية جادة، واستهوته فيما استهوته كتب الفقه والأدب، وما لبث أن بزغ نجمه واشتهر أمره قاضيا نبيها، وعالما فقيها، وأديبا لامعا.
وفي عهد السلطان بن ثويني تقلد منصب القضاء، ثم تولى منصب رئاسة القضاء بها، وكانت له منزلة رفيعة، ومرتبة عالية لدى الحكام، لاسيما السلطان حمد بن ثويني، والسلطان حمود بن محمد بن سعيد.
يقول سالم بن سليمان عن مكانته في عهد حمد بن ثويني ومنزلته عنده: "فكان ممثلا لطاعته، منفذا لكلمته، ملبيا لدعوته، مستمعا لقوله، حاكما بأمره، وتنصب للقضاء الشرعي في دولته، حتى أيام السيد علي بن حمود بن محمد، ثم استقال من خدمة الشرع، وصرف همته في التأليف وإحياء آثار السلف الصالح، وإنشاد الأذكار، ولكن عيّنت له الحكومة مقدارا من المالية يأخذه كل شهر مكافأة على ما انتدب إليه سابقا من خدمة الشرع الشريف، وكان إليه المرجع في مهمات الدعاوى وعظائم الأمور".
ويبدوا أن شهرة الشاعر الفقهية ذاعت في العالم الإسلامي كله، نستدل على ذلك من علاقاته بأعلام الإصلاح في عصره مثل الشيخ السالمي، وسليمان الباروني باشا، ومحمد بن يوسف اطفيش الجزائري، واطلاعه الواسع على مجريات الأحداث الإسلامية من حوله، كما تدل على ذلك جريدته التي أصدرت بزنجبار تحت عنوان (النجاح)، بل تدل على عبقرية مؤلفاته القيمة، ولاسيما في ميدان الأدب والشريعة بشهادة كل من قرأ ديوانه، أو اطلع على نثار جوهره، ولا أحسب أن عالما يستطيع أن يتولى رئاسة القضاء في زنجبار لو لم يكن على هذا النحو من التفوق والتبحر في العلم.
(1/10)
يقول الشيخ سالم بن حمود البطاشي: "وفي زنجبار من رجال العلم الذين هم أشهر من نار على علم منا ومن غيرنا كانوا تحت علمه الخفاق بأصول الدين، وأصول الفقه، وقواعد السنة النبوية، فإن ذلك يشهد له به تأليفه... وقد أخبرني جملة من أهل العلم الذين عاشوا في زنجبار عن أحوال هذا الشيخ الذي تخلد له حسن الأحدوثة في أمته وفي وطنه وفي ملته، فإنه قام بواجبات عديدة، وأحرز قصب السبق في ميادين النضال العلمي، فكان ولا يزال في الرعيل الأول بين أترابه، وكانت له نوادر أدبية حيرت عقول الكثير من أترابه ومعاصريه... "
.
ويبدو أن من أهم أعماله في زنجبار إصدار جريدة النجاح التي تعد من أوائل الصحف العربية ظهورا، وكم كنا نأمل أن لو اطلعنا على كلِّ أعدادها لنعرف مكانتها وقيمتها واتجاهاتها، ولو أن الشيخ أحمد الخليلي نوه بها تنويها كبيرا، وهذا العمل يدل على أفق هذا الرجل وتفتحه الواسع على الأحداث من حوله، وتطلعه إلى التعريف بالفكر الإسلامي والاستفادة من هذا الفن الذي لم يكن يعرفه الكثير من المثقفين العرب آنذاك، حتى عدَّه شوقي الذي جاء من بعد "آية من آيات هذا الزمان":
لكل زمان مضى آية = ... وآية هذا الزمان الصحف
ويقول عنها الشيخ أحمد بن سعود السيابي:
"ومن منطلق نبوغه في الأدب واهتمامه به قام بتأسيس جريدة النجاح في زنجبار، وعنيت بخدمة الأدب العربي والقضايا الإسلامية والأحداث الدولية، وكان هو رئيس تحريرها لفترة غير قصيرة من الزمن".
وهكذا ظل بين وظيفة القضاء عاملا، ومطولات الفقه مجتهدا، وأمهات كتب الأدب والشعر أديبا لامعا، وجريدة النجاح صحفيا ناجحا، وبين بعض طلابه الذين تلقوا عنه مربيا حانيا، إلى أن توفاه الله في اليوم الثاني من شهر صفر 1339هـ عن عمر يقارب ثلاثا وستين سنة، قضاها مجتهدا يعمل في سبيل العلم، والعقيدة، والأخوة الإسلامية. ودفن حيث مات في مدينة زنجبار التي يوجد بها قبره إلى اليوم.
أبو مسلم أديبا لامعا:
(1/11)
ما من شك في أن الدراسات الأدبية والنقدية ستكشف ذات يوم بأن هذا الشاعر العبقري كان واحدا من رواد بعث الشعر العربي في أوائل القرن العشرين، وأن عمله في هذا الصدد لا يقل أهمية عن عمل محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وإن لم يفقهما في بعض الجوانب.
فأبو مسلم يمثل الشاعر الإسلامي الحقيقي الذي تجلت في شعره الشخصية الإسلامية في أجل مظاهرها وأصفى صفاتها، عقيدة وقولا وسلوكا. ولا يصنف أبو مسلم كما ذهب إلى ذلك الدكتور أحمد درويش في عداد أشهر شعراء عمان وحسب، وأنا حين أذهب إلى هذا الرأي لا أستند في قولي هذا إلى الموضوعات التي استقطبت الشاعر أبا مسلم، أو المواقف والرؤى التي تميَّز بها شعره، بل لأن أبا مسلم أوتي من الموهبة الشعرية، والتعبير الفني ما جعله يرقي بالقصيدة العربية من إطارها التقليدي المعروف إلى إطار فني جديد لم يسبقه أحد إليه فيما يعرف آنئذ من الشعر العماني.
والذي جعل شعر أبي مسلم لا يعرف إلا عند أهل عمان بخاصة هو عدم اطلاع الأدباء والنقاد في العالم العربي والإسلامي على شعره، إذ ما يزال هذا الشاعر وشعره مجهولا في وطنه بلْه خارج وطنه.
وحسبنا أن نجلي هنا بعض ملامح شعر هذا العبقري فنقول:
أولا: الأغراض:
يتساءل الأديب صالح بن عيسى الحارثي: "هل عندنا نحن العمانيين شاعر يمثل ميولنا؟ هل عندنا شاعر يمثل روحانيتنا؟ هل عندنا شاعر يمثل أخلاقنا؟ هل عندنا شاعر في شعره أمجادنا؟ هل عندنا شاعر يربطنا بأمتنا العربية الكبرى؟ هل عندنا شاعر يخرج بنا من عزلتنا في الجنوب الشرقي من هذه الجزيرة فينبه إخواننا العرب إلينا؟ ".
ثم يجيب قائلا:
(1/12)
" لكن نفسي أيها القارئ الكريم، هذه النفس التي عجمتها المأساة في عمان، هذه النفس التي عاشت منذ حداثتها مع الأحداث في عمان تجيب مطمئنة واثقة بأنها وجدت الشاعر، بل لأنها وجدت شعراء لكل عصر، ووجدت شاعرا عبَّر عن عمان في كل العصور، إن شاعرنا في عمان هو أبو مسلم ناصر بن عديم الرواحي... ".
إن هذا الأديب يعبر عن طريق غير مباشر عن اهتمامات الشاعر أبي مسلم الذي استطاع أن يعبر في شعره عن كل الأغراض التي تهم الإنسان المسلم المعاصر.
إن أبا مسلم يتخذ الأدب وسيلة هادفة لتربية الفرد المسلم لأنه يعتقد أن الأدب رسالة وتوجيه وأمانة، وهذا الإحساس إنما يدفعه إليه شعوره الإسلامي العميق.
وقد صاحبته هذه النظرة العميقة في كل ما كتب شعرا كان أم نثرا، وأشير بصفة خاصة إلى رائعته المسماة "النشأة المحمدية" التي اتخذ فيها سيرة الرسول العطرة وسيلة لإيقاظ الشعور الإسلامي الصحيح في نفس المسلم منذ صغره، فهو عندما يحدثنا عن أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يحدثنا عنه بأسلوب استعراضي وصفي تقليدي، وإنما هو يلمح إلى أخلاقه العالية ليلفت إليها نظر المسلمين اقتداء وتأسيا.
هذا التوجه هو الذي دفع أبا مسلم لأن يهتم في شعره بالإنسان المسلم في الواقع المعاصر، فعالج بشعره موضوعات حضارية على غاية من الأهمية والعمق والشمولية، فكتب في التاريخ، والحضارة، والعقيدة، واللغة، والشخصيات، والسيرة. واهتم بالجوانب الإنسانية، الجانب الروحي في شعر السلوك، الجانب العقلي في شعر التاريخ، الجانب العاطفي في شعر الحنين والطبيعة، فكان في ذلك يحرك في متلقي شعره كل هذه الأحاسيس التي تربط الإنسان بماضيه من جهة، وتجعله يعيش عصره وواقعه من جهة ثانية.
(1/13)
لذا فإنه من الصعب على الدارس التقليدي الذي ألف منهج التجزئة في دراسة الشعر أن يتوصل إلى تذوق حقيقي لهذا الشاعر، حتى في أبيات الحكمة التي تملأ شعره في جميع أغراضه... إن شعره كل لا يتجزأ؛ لأن له رؤية شمولية تنظر إلى الإنسان المسلم من خلال كل موضوع يعالجه، فقد تبدو لك العقيدة حنينا إلى الوطن، ولكنك عندما تستبطنها وتغوص في أجزائها تجدها استنهاضا وإثارة، وقد تقرأ الأبيات فتحسبها رثاء، ولكنك عندما تتذوق هذا النوع من الرثاء تجده تجليات عميقة ونظرات نافذة في الكون والحياة والناس وهكذا... وقد صدق من قال عنه: "وأنا أعتقد أن شعر أبي مسلم في حقيقته كله جانب واحد، وإن تجزأ فهو يلتقي في ناحية واحدة وهي الاستنهاض، فأنت سوف تراه عندما يعبد ربه فيدعوا بالشعر ويسبحه به، يعود إلى الظالمين فيستنزل عليهم غضب الله، فكأنه يريد أن يطهر أولا نفس قارئ شعره بذكر الله ليهيئها للعمل خالصة في مقابلة الظلم".
ولا أحسب أننا نفسر هذا الموقف بهذا التفسير السطحي، إن الشاعر حسب رأيي- والله أعلم- يربط المسلم في كل مواقفه بما هو أصل وهو العقيدة الصحيحة، يربط مقاومة الظلم بالعقيدة، لأن المسلمين لو فعلوا ذلك ما غلبهم غلاب، ولو استشعروا بهذه القوة الكامنة في نفوسهم ما قهرهم جبار، وذلك هو الفهم الحقيقي لدور الدين الذي يتسامى عن الطقوس والعبادة الشكلية إلى روح تغشى نفس المسلم وتدفعه إلى الحركة الدائبة، والنشاط المستمر، والتغلب على الصعاب مهما تكن شاقة، والوقوف في وجه الظلم بكل القوة التي يحملها الإنسان المسلم بين جنبيه حضارة ودينا؛ وليس أدل على هذا المنحنى القوي عند أبي مسلم من رائعته المشهورة النونية المعروفة بقصيدة (الفتح والرضوان) كما سنوضح ذلك في مكانه.
(1/14)
وهذه الرؤية المتوثبة بين حنايا الشاعر هي التي تفسر ما يشعر به من تقصير في حق أمته الإسلامية؛ التي يود أن يناصرها ويؤازرها بكل قواه، ولكن الظروف قاهرة لا يجد إلا الشعر وسيلة، والعلم أداة، لأجل ذلك تجده مستنهضا مبشرا بكل حركة تقوم لاسترداد عزة الإسلام والمسلمين أينما كانوا فيقول:
لو يكون الشعر نصرا لم أزل =أنظر الأنجم لا أرضى الدور
لو ملكنا السيف لم نرجع إلى=قلم في النصر إن قام عثر
وفهمه الرؤيوي الشامل هذا، هو الذي هداه إلى معارضة مقصورة ابن دريد بمقصورة طويلة لا لغرض الاستعراض اللغوي كما فعل ابن دريد، وإنما للاستنهاض وبعث الروح الإسلامية الجهادية في النفوس ليحطموا القيود التي أخذ الاستعمار الغربي بعامة والإنجليزي منه بخاصة يكبل بها الأوطان العربية قطعة قطعة وشبرا شبرا.
ليس لنا إلا التفاف قوة = ... بقوة ومفتدي بمفتدى
ليس لها إلا نفوس أطفأت = ... أضغانها واشتعلت بها التقى
يلمُّها الإيمان قلبا واحدا= ... وهيبة الله وسورة الهدى
إذا رمت بقوسها واحدة= ... وما رمت وإنما الله رمى
ثانيا: الفن الشعري:
إن براعة أبي مسلم لا تكمن في نظرته الشمولية التي تحدثنا عنها من حيث تناول مختلف الموضوعات، بل إن البراعة الحقيقية عنده تتمثل في مقدرته القائمة على المزج الكلي بين الشكل والمضمون، فهو لا يعرض عليك التاريخ أحداثا ووقائع جامدة، ولا يذكرك بالقبائل والقرى العمانية أسماء تترى وتتوالى، وإنما هو يصب ذلك كله في صور فنية متحركة نابضة بالحياة، متوثبة بالمشاعر، فترى العاطفة الصادقة بارزة في كل كلمة يخطها، حتى لو كانت أحداثا تاريخية مضت عليها القرون، كما فعل ذلك في النهروانية، أو كما جسّم ذلك من خلال الصور الفنية النابضة وهو يحن إلى كل قطعة في أرض عمان في (النونية). وصدق من قال فيه:
(1/15)
"إنه- فيما نعتقد- كان شاعرا فقيها، أو شاعرا مؤرخا، أو شاعرا نسّابة، أو شاعرا مفكرا، أو شاعرا متحمسا لفكرة وطنية، ولم يكن فقيها يلجأ إلى الشعر ليصب فيه آراءه، أو عالما بالتاريخ والأنساب يقدم للناس فكرته في شكل منظوم، أو متحمسا لأفكار قومية يستعين بموسيقى الشعر على جمع القلوب حولها؛ لكنه كان قبل كل شيء شاعرا سلّط بصيرته الشعرية على حقول مختلفة فأكسبتها كثيرا من لون الربيع الشعري ومناخه".
ولا نشك إطلاقا في أن البيئة الجديدة التي عاش فيها في زنجبار كانت من العوامل القوية في إكساب أدبه هذه الشاعرية الفياضة، فقد انتقل من اللون الصحراوي الذي تغلب عليه الصفرة ووحشة الجدب إلى اللون الأخضر الذي يبعث البهجة في النفوس، ويضيء في حناياها الأمل والانشراح.
وأكسب كل ذلك لغته الشعرية حيوية وتجدّدا، فكثرت فيه الصور الفنية والاستعارات والمجاز، وأضفى عليها الخيال المجنح نوعا من الانطلاق وراء كل ما هو مجهول، ولحاقا بكل ما هو مطلق، أو بعبارة أدق: أكسب لغته نوعا من الحرية في التصوير والتعبير معا، على أن الشاعر ظل محافظا على بعض الأصول التي غزت شعره في الطفولة مثل القرآن الكريم والشعر العربي القديم، فأنت تلحظ بروز هذه اللغة التي تداخل قصائده وتمتزج بها امتزاجا فيعطيها كل ذلك مذاقا خاصا، ونكهة محببة هي المذاق والنكهة التي تجذبنا إلى شيء ما يجمع بين الأصالة والتجديد، ويحرك في أنفسنا الماضي والحاضر معا.
أبو مسلم فقيها
(1/16)
يتفق أغلب العلماء الذين تحدثوا عن مؤلف أبي مسلم (نثار الجوهر) بأنه يدل على علم غزير، وتعمّق أصيل في علوم الشريعة الإسلامية، ولا شك في أن حقيقة نثار الجوهر شرح لنظام الجوهر؛ لكن على أسلوب بديع، إذ كان وضع الشرح ممتزجا بالنظام امتزاج الدم باللحم، أو امتزاج اللبن بالماء بحيث لا يعرف الشرح من الأصل، فكأنه لحمة وسداه، لا تتميز إحداهما من الأخرى، مع تحقيق يشهد به العقل، وتدقيق وإيضاح يدعمه النقل، فإن العلامة أبا مسلم له إدراك قوي في الفقه، فينقل وينتقد، ويستدل ويرجح، ويفند ويصحح ويؤكد بقوة إدراك وبوعي لا يتطرق إليه ارتباك.
هذا العمل التأليفي القيم وصلنا مبتورا، فقد كان المؤلف -رحمه الله- يأمل على ما يقال أن يتم اثنين وعشرين جزءا يتناول فيها كل أبواب الفقه؛ ولكن المنية حالت دون أمنيته تلك، ولم يصلنا منه سوى ثلاثة أجزاء تنتهي عند نهاية باب الصوم.
ومع ذلك فإن ما ألفه فيه يدل على نبوغه الفائق، وتحقيقه الواسع، فهو يعتبر بحق مجتهدا مطلقا على حد تعبير الشيخ أحمد بن سعود السيابي.
مؤلفاته:
من مؤلفات أبي مسلم التي وصلتنا ما يلي:
1-النشأة المحمدية (في المولد النبوي الشريف).
2-النور المحمدي والكنوز الصمدية (رسالة دينية).
3-النفس الرحماني في أذكار أبي مسلم البهلاني (في القصائد الصوفية).
4-كتاب السؤالات.
5-العقيدة الوهبية، وهو كتاب في التوحيد في أسلوب حواري بين أستاذ وتلميذ.
6-ديوان أبي مسلم.
7-نثار الجوهر.
8-كان آخر ما ألفه (ثمرات المعارف) وتدعى أيضا: (سموط تخميس الثناء)، وهذا العمل تخميس لميمية الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي العالم الرباني المعروف، فقد انتهى من كتابتها في يوم 28 محرم 1339، أي قبل وداعه الدنيا بثلاثة أيام.
وكانت وفاته في الثاني من شهر صفر 1933هـ. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
العقيدة في شعره
(1/17)
لعل من أهم المقاييس التي يعتمدها الدارسون والنقاد في معرفة الأديب الناجح من غيره ما يميز أدبه من سمات تفرده عن غيره، وتغدو طابعا له خاصا به.
وبعبارة أدق: إن الأدب الناجح هو الذي تبرز فيه شخصية الأديب واضحة جلية تعبيرا وتصويرا، موقفا ورؤية؛ لأن هذا المقياس أو هذا النجاح يدل على قوة شخصية الأديب وعبقريته، ومدى قدرته على السيطرة على أدواته وفنه.
وفي أدب أبي مسلم الرواحي -الشاعر العماني الأصيل- تتجلى هذه الميزة بكل الصفاء والنقاء، فأنت عندما تقرأ شعره تدرك لأول وهلة أنك مع شاعر مقتدر يتصف بالأصالة والقوة في كل بيت يقوله، وما سر قوته وأصالته غير التوافق التام بين شخصيته وبين إبداعه، أنت تشعر لأول قراءة بأنك مع أديب مسلم بحق يتجلى الإسلام في شعره بأحاسيسه الإسلامية الصادقة، ومشاعره الدينية النبيلة، ولغته المستوحاة من القرآن الكريم، ومواقفه الإيمانية الرصينة، وأفكاره المحمدية المستنيرة. نلمس ذلك كله في شعره السهل الممتنع، لأن أبا مسلم شاعر مسلم بكل ما في الكلمة من معنى، شعرا وشاعرية.
ومن هنا فإن المنهج الصائب في رأينا هو أن نذكر الاتجاهات التي تشتمل عليها تلك القصائد فنقول: شعر الاستنهاض، وشعر الحكمة، وشعر الابتهال، وشعر الوعظ، وشعر الرثاء، وشعر الحنين.
أما أن نقول القصائد الدينية أو القصائد القومية باعتبارهما موضوعين مستقلين عن بعضهما البعض فذلك ما لا يتماشى مع اتجاه الشاعر ومواقفه ورؤاه.
على أن هذا التقسيم نفسه لا يسلم إطلاقا من التداخل، فقد نجد للشاعر قصيدة في الاستنهاض وفيها الحنين والحكمة، كما نجد له قصيدة في الرثاء وفيها الوعظ والإرشاد وهكذا.
(1/18)
ويغدو الابتهال قسما هاما في ديوان أبي مسلم، ولعله أكبر الفنون التي استقطبت اهتمام الشاعر، استجابة لدافع ذاتي وموضوعي، بحكم ورعه وتقواه وزهده، لا بحكم منصبه قاضيا أو مفتيا، كلا! لأن الإحساس القوي بالامتثال للدين سيرة وسلوكا لا علاقة له بالمنصب أو الوظيفة. ولا أحب أن أوافق على تسمية هذا النوع من الشعر قصائد دينية، أو شعرا دينيا كما يذهب إلى ذلك بعض من كتبوا عنه؛ لأن شعر أبي مسلم كله شعر ديني، الدين سداته ولحمته، والدين مصدره ومورده، والدين باعثه وهدفه، إذ نخشى لو وافقنا على هذا التقسيم أن يظن أنّ لأبي مسلم قصائد دينية وأخرى غير دينية، أو يظن أن بعض الشعر عنده يخلو من الإحساس الديني، فقد يصح هذا المنهج مع غيره من الشعراء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، أو الذين كتبوا في كل الفنون تلبية لرغبات قد لا تكون ذاتية تصدر عن أحاسيسهم الداخلية، بل هي استجابة لمناسبات ما، كما نجد ذلك عند شوقي وحافظ مثلا.
(1/19)
ولو نحن درسنا شعر أبي مسلم غير هذا النحو من اعتبار الدين عنصرا أساسيا في كل القصائد لأخللنا بالمنهج السليم لدراسة شعر أبي مسلم، بل لظلمنا رؤية الشاعر نفسه لمكانة الدين في الشعر. ونحن عندما نقول: إن شعر أبي مسلم صورة صادقة لعقيدته الإسلامية فإنما نبني ذلك على ما عرف عن الرجل من سلوك قويم، وإيمان ثابت، وانقطاع إلى الله في أمور دينه ودنياه. وقد جاء شعره معبرا أصدق تعبير عن هذه الأحاسيس. الإيمان بالله هو مفتاح شخصيته، والإيمان بالله مفتاح شاعريته، والقارئ لا يستطيع أن يتذوق أو يفهم شعر أبي مسلم بعيدا عن هذا المنظور، وكم من شاعر تظاهر بالزهد في شعره وهو زنديق في حياته ومعاملاته! فإن هذا النوع عندما تقرأ شعرهم تشعر بالافتعال والتكلف، وقد لا نستطيع أن نصل إلى اكتشاف ذلك من خلال القصيدة أو القصيدتين، ولكن عندما نتناول شعرهم من رؤية شمولية وموقف متكامل ندرك هذا الانقطاع في الخيط الشعري الذي يربط بين الحالة الشعرية إن لم يكن في القصيدة باعتبارها وحدة عضوية متماسكة، ففي التناقض بين القصيدة والأخرى تدرك لا محالة أن الرجل يعاني من انفصام في شخصيته، وتقلقل في مواقفه، فهو يبدو متصوفا في بعض قصائده، ويبدو بعدها عربيدا ماجنا في أخرى، ولا أحب أن أضرب الأمثلة من الشعر العربي القديم أو الحديث فهي أوضح من أن تخطأها عين الدارس، أما أبو مسلم فهو من هذا النوع من الشعراء الذين سلكوا في طريق الدين من أول خطوة، وأخلصوا حياتهم لله من أول نفس.
(1/20)
إن شعر أبي مسلم صورة صادقة ونموذج حي لشعر الشراة الذين تميز شعرهم أبدا بصدق العقيدة الإسلامية وصفاتها ووضوحها، بحيث يغدو كل شعره يصب في هذا البحر الخضم بحر الإيمان بالله ورجاء ما عنده قولا وعملا، وهذه العلاقة التي أثبتناها بين شعر أبي مسلم وشعر الشراة ليست قائمة على الاستنباط والاستنتاج واستنطاق النصوص وحسب، وإنما هي ظاهرة قلبا وقالبا في أشعاره، وهو طالما كتب مفتخرا بهذه العقيدة التي تربطه بأسلافه أصحاب (النهروان)، وقصيدته الشهيرة "النهروانية" أصدق دليل
وفيها يقول:
جزى الله أهل النهروان وضاءة =وما فوق مرضاة الإله أجور
كما جاهدوا في الله حق جهاده =وقاموا بما يرضى وفيه أُبيروا
وماتوا كراما قانتين وكلهم =على الموت صبار هناك شكور
شراة سراة لا يخط غبارهم =وإن أبلجت فوق الأمور أمور
إذا انتهكت من دين الإسلام حرمةفليس لهم عيش هناك قرير
نفوسهم حيث ابتلوا وجه ربهم=قرابين منهم قدمت ونذور
ندين لوجه الله طوعا بحبهم=وما شنآن الملحدين مضير
وفي رائعته (أفيقوا بني القرآن) يستعرض أخلاق صحابة رسول الله الكريم وسيرة السلف الصالح التي يراها دوما طريق هداية. على المسلمين التشبت بها إن هم كانوا يرغبون في الانتصار على أعدائهم، وبعد أن يعدد صفات العباد الزهاد المجاهدين من الشراة
يقول:
أولئك أبرار الإباضية الألى =على نهر (حرقوص) وزيد كوارع
هم القوم أحرار الوجود سمت بهم =إلى الله عن حظ سواهالمنازع
محبتهم ديني بها أبتغي الرضا =إلى الله والزلفى وهم لي ذرائع
ودعوتهم لي سنة وجماعة =أجاهد في إحيائها وأقارع
هذا الإحساس القوي بالانتماء إلى الشراة كثيرا ما دفعه إلى الغوص في أعماق التاريخ مصورا حوادثه، مستنطقا أحداثه، مستخرجا منها العبرة، مبرزا كل ذلك من خلال أسلوب شاعري مؤثر، يعتمد الصور الحسية والمشاهد المتحركة.
(1/21)
وهو بهذا الإحساس عن عقيدة الشراة مثلَ نفي الباري جل وعلا حيث يقول في قصيدته (برهان الاستقامة):
سبحان ربي تقديسا لعزته= في عمله النفي والإثبات منحصر
بالذات للذات معلوماته انكشفت= ما ثم واسطه في الذات تعتبر
وكونه النفي والإثبات حكمته =يقضي بإدراكه المنفي لو نظروا
وبعد أن يبسط حجج النافين رؤية الله دنيا وأخرى في أسلوب يذكرنا بأسلوب الكلاميين يقرر في آخر القصيدة:
هذا هو الحق لا أبغي به بدلا=بأي حال ولو عادتني العصر
إني لا نصر ذا حتى يقوم به=والمؤمن الحق للإيمان ينتصر
وكدليل على أن الخيط النفسي الذي يسلك فيه أبو مسلم شعره هو الإيمان بالله أولا وقبل كل شيء ما نراه في قصائده كلها من تفويض الأمر لله في كل نازلة ألمت به، جليلة كانت أم حقيرة، أصابته في نفسه أم ذويه أم أمته، تعلق الأمر بشيء مادي أم معنوي.
فهو طالما رفع أكف الضراعة إلى الله ليجيب دعوته ويحسن حاله وحال أمته، وهو طالما اشتكى سوء حظه وانقطاع حيلته وهوان أمره على الناس؛ ولكنه لم ينس قط أن يعلق أمره كله بالله رب العالمين.
وديوان أبي مسلم مليء بهذه المواقف الإيمانية المشرقة، ولعله من بين القلة من الشعراء الذين أفردوا قصائد مطولة في الابتهال، فقد كتب قصيدة تجاوزت الألف بيت في مناجاة الله مناجاة مبكية خاشعة تسيل رقة وعذوبة، بدأ كل مطلع فيها باسم من أسماء الجلالة، وإذا كانت هذه القصيدة في حاجة إلى وقفة طويلة فلا أقل من أن نستدل بها على ما نقول من هذا المقطع الذي عنوانه: الرحمن جل جلاله، وفيه يرفع الصوت ضارعا خاشعا:
إلهي افتقاري لازم لحقيقتي=إلى رحمة الرحمن في كل لحظة
إلى رحمة الرحمن تحت جماله=أبث اضطراري طارقاتي وشكوتي
إلهي يا رحمن أستعطف الرضا=وأستكشف البلوى وغمي وكربتي
إلهي يا رحمن أستوهب الغنى=ففي سعة الرحمن إلهي غنيتي
إلهي يا رحمن أسأل رحمة=تلم بها صدعي وترحم غربتي
بجودك يا رحمن كل بلية =وإن عضمت قد آذنت بتشتت
(1/22)
إلهي يا رحمن لاذ بك الرجا=فمن على ضعفي بأرحم نظرة
بعاطفة الرحمن عاذت حقائقي=وعمري وفقري وانقطاعي وذلتي
كأني بأبي مسلم حين يفوض الأمر إلى الله بمثل هذا اليقين الراسخ ينطلق من قول رسول الكريم: "لن تدرك حلاوة الإيمان حتى تعلم أن القدر خيره وشره من الله". أو كما قال في حديث آخر: "حتى تدرك أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك" والاستسلام لأمر الله زاده في حلة وترحاله، في حال سروره وحزنه، في أمنه وخوفه، وذلك موقفه بعد أن تلقّى خبرا بسوء أصاب ابنه (المهنا):
وإن أمرا قضاه الله منحتم=في الأمن والخوف والأسفار والوطن
وإن عاقبة الإنسان غايتها=أخذ على الحذر أو أخذ على السكن
والسر في الشأن تنبيه اللبيب على=أن المقادير لا تقاد بالرسن
وربما جزعت نفس لنازلة=وعلها كخيال طاف في الوسن
وربما سلم العصفور في شرك=وربما جاءه السكين فيالوكن
بأخذ المرء من كأس تلذ له=وربما اشتار شهد النحل من حبن
ويحرص أبو مسلم على إيراد الأمثلة من واقع الحياة اقتناعا وإلزاما، فهو شاعر حكيم يجيل النظر في الناس وعلاقتهم بالكون والحياة، وأيد رأيه بهذا المثال المضروب المستخرج من البيئة العمانية إمعانا منه في التوضيح وإقامة الحجة.
كما نلحظ ذلك في قوله:
ويشرب المرء من كأس تلذ به=وربما اشتار شهد النحل من حبن
فالحبن من الأشجار المشهورة في أودية عمان، وهي شجرة الدفلى كما يسمى في بعض الجهات، وكما كان أبو مسلم يوصي نفسه ومن خلال نفسه متلقي شعره كذلك كان يوصي أقرب الناس إليه وهم أبناؤه، فإن أعز ما يوهب الإنسان الأبناء الصالحين، وأحلى أمانيه أن يحقق الله آماله في ذريته، لذا فإن أبا مسلم عندما يوجه النصح لابنه (المهنا) يصدر في ذلك عن خلاصة تجاربه، ويهدي إليه رحيق علمه وحكمته. فما هي الوصية التي أوصى بها ابنه المهنا؟
صبرا بنيِّ على الزمان وصرفه =إن الزمان محارب الأحرار
(1/23)
أين الفرار عن المقدّر للفتى=إن الأمور رهائن المقدار
نكل الأمور إلى المهيمن إنه =تدبيره يقضي على الأفكار..
... واصبر فإنك ناجح إن كنت في=كل الصروف بمنهج الصبار
واجعل صلاحك مسلكا لتنال من=بر الكريم مواهب الأبرار
كم كربة نزلت وضاق نطاقها =فتفرجت باللطف والإيسار
ما خاب من وكل الأمور لربه=فهو المفرج كربة الإعسار
وإذا كانت هذه النصيحة موجهة إلى ابنه وفلذة كبده وهي أعز ما يقدمه والده لولده، لأنه خلاصة تجاربه وعلمه في الحياة والكون والناس. فإن أبا مسلم يقدم النصيحة نفسها لأصدقائه وأحبائه ولعلهم عاتبوه على بعده واغترابه، فأجابهم, وفي إجابته توجيه وحكمة حيث يقول:
أحبتنا ما البعد شيئا نطيقه=ولكنه من جملة الحكم في الأزل
نريد قرارا واغتباطا وألفة=ذلك شأن لا يضاف إلى العلل
لقد دبر الرحمن أمر عباده=فدع عنك حتى أو متى أو عسى وهل
علينا الرضا فيما يجئ به القضا =وأهلا بما نحسو من الصاب والعسل
وهكذا يبدو أبو مسلم في هذا الاتجاه الذي هو جزء حي من شخصيته, وهو في سلوكه ومذهبه في الحياة شديد الخشوع لله مذعنا لعظمته وجلال سلطانه, مأخوذا بحكمته وحسن تدبيره وبديع صنعه في خلقه، صادق الرجاء في رحمته ولطفه به, يشكو إليه عجزه وضعف حيلته، وسأله أن يكون له عونا على عدوه، وأن يحبط كيده ويرد مكره إلى نحره. "إن كل دراسة لشعر أبي مسلم لا تنطلق من هذا المنطق العقدي تظلمه" وتبخسه حقه، ولن تستطيع بالتالي النفاذ إلى أسرار عالمه, ولا الغوص في محيطه النفسي العميق.
(1/24)
فقد ينظر الدارس السطحي إلى نزعة التصوف في شعر أبي مسلم, كما ينظر إلى هذه النزعة عند غيره من شعراء التصوف وما أكثرهم، ولا سيما في عصور الانحطاط، وهو إن فعل ذلك جانبه الصواب لا محالة، ولم يلمس حقيقة أفكار الشاعر ومواقفه ورؤاه؛ لأن منطلقات التصوف عند أبي مسلم منطلقات عقدية إيجابية لها علاقة بعقيدة الشاعر ونظرته إلى الحياة محاولة منه لفهمها لا للهروب منها. وهذا فرق أساسي ولا شك، وهذه النظرة عند أبي مسلم تعود بجذورها إلى السلف الصالح من الشراة الذين ما فتئ أبو مسلم يفتخر بالانتماء إليهم. "وإن الدارس لأدب الشراة في كل عصوره، ولا سيما في عصره الذهبي منتصف القرن الأول والقرن الثاني الهجريين يلاحظ ولا شك ما يتميز به ذلك الأدب من نزعة صوفية زاهدة تنظر إلى الدنيا وما فيها من لذات على أنها عرض زائل ومتاع باطل، خليق بالاحتقار والازدراء، وهي ترنو إلى حياة أخلد، ولذة أبقى وعالم أمثل...
وسوف نعود إلى هذه القضية بحول الله عندم نتعرض لشعر الحكمة عند أبي مسلم، لأنها المفتاح الذي نفتح به مغاليق شعره، ونفهم على أساسها أبعاده العقلية والنفسية.
الإسلام في شعره
قد يكون من عدم الإنصاف استخدام المنهج التقليدي الذي يقيم الدراسة الأدبية على أساس الأغراض أو الموضوعات، أو بعبارة أدق: المنهج الذي يقيم الدراسة على أساس المضمون دون اعتبار لجانب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق