الكتاب : كتاب أصول الدين
أو
الأصول العشرة
المؤلف : تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطِي
(القرن الخامس الهجري)
دراسة وتحقيق وتعليق: د. ونيس عامر (أستاذ محاضر بجامعة الزيتونة)
تونس، الطبعة الأولى: 2002
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
أدرج هذا الكتاب المهم في المكتبة الشاملة تعميما للفائدة ولكن من دون استشارة محققه
من علم الكلام الإباضي
كتاب أصول الدين
تأليف
تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطي
(القرن الخامس الهجري)
دراسة وتحقيق وتعليق
الدكتور
ونيس عامر
أستاذ محاضر بجامعة الزيتونة
الإهداء
إلى والديّ العزيزين الذين حرصا كلّ الحرص على تعليمي، وإلى كلّ من علمني بداية من الكتّاب.
إلى أساتذتي الجامعيين الرّاحلين منهم والذين مازالوا على قيد الحياة.
إليهم جميعا أقدّم هذه الثّمرة عربون إخلاص ووفاء.
ونيس عامر
بسم الله الرحمان الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصّلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار.
وبعد، فإنّ الباعث الأساسي الذي حفّزني على تحقيق هذه الرّسالة في أصول الدّين لأحد المتكلّمين الإباضيين وهو الشّيخ تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطي- (من علماء القرن الخامس الهجري)- ونشرها ما رأيناه من فراغ مكتباتنا في تونس والجزائر والمغرب وليبيا وسلطنة عمان وغيرهم، من مثل هذه الرّسائل وخاصّة في المذهب الإباضي الذي هو الآخر يدخل ضمن اشتغالي بتاريخ المدرسة الإباضيّة بإفريقيّة، وبعلماء الكلام بهذه الدّيار، ولعلّ ما ساعد على وجود هذا الفراغ هو عدم اهتمام الدّارسين والباحثين في هذا التّراث المتعلّق بالإباضيّة وأعلامها، من الأشياء التي ساعدت على انصراف الباحثين قدامى ومحدثين عنها، وزهدهم في الكتابة في تاريخ الفرق الإسلاميّة وأصول الدّين. لا لشيء إلاّ لكون أولئك العلماء يتمذهبون بالمذهب الإباضي الذي يصرّ أغلب الدّارسين - قديما وحديثا - على اعتباره مذهبا من مذاهب الخوارج.
(1/1)
فلقد تلقّى مؤسّسوا المذهب الإباضي فقههم وكلامهم عن إمامهم التّابعي الشّهير «أبو الشّعثاء» (1) جابر بن زيد الأزدي، الإمام المحدّث، الفقيه، والذي كان من أخصّ تلاميذ ابن عبّاس، وممن روى الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصّحابة ممن شهد " بدرا ". فقد كان إماما في التّفسير، والحديث، وكان ذا مذهب خاصّ به في الفقه. ولد سنة 21 للهجرة، وتوفي بالبصرة سنة 93 هجرية.
وفي زمن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة – أحد تلاميذ جابر بن زيد الأزدي – وعلى أيدي حملة العلم الذين أعدّهم أبو عبيدة ولقّنهم أصول الدّعوة للمذهب وأسسه – وصلت الدّعوة الإباضيّة إلى شمال إفريقيّة، حيث وجدت آذانا صاغية وقلوبا متفتّحة، دانت بها ودافعت عنها، وحاربت من أجل نصرتها وانتشارها في أرياف إفريقيّة، فقد كان للإباضيّة حضور لفت الأنظار، إذ انبثّ دعاتهم في القيروان وفي غيرها من المدن والأرياف، يعلمون النّاس أصول مذهبهم، ويقاومون الظّلم، وعسف الحاكمين، والتّعصّب العرقي الذي استند إليه ولاّة الأمر وخاصّة في عهد الدّولتين الأغلبيّة والفاطميّة. فوجد الأهلون في دعوتهم الملاذ الذي اعتصموا به، والعدالة التي طالما هفوا إليها. وقد كان نجاحهم في إفريقيّة في مطلع القرن الثّاني للهجرة سببا في وفادة بعض الفرق الأخرى كالشّيعة والمعتزلة إلى إفريقيّة باعتبارها أرضا صالحة لانتشار المذهب الإباضيّ بسبب عوامل كثيرة يتصدّرها بعد إفريقيّة عن عاصمة الخلافة، ومحدوديّة الثّقافة الدّينيّة واستشراء مظالم الولاّة من الأغالبة، فالشّيعة (الفاطميين).
__________
(1) الشّعثاء، هي ابنته وكان يكنّى بها. لذا ورد اسمه بهذه الكنية في مختلف كتب السّير الإباضيّة. وقبرها ما يزال معروفا في بلدة (فرق)، بولاية تروى بسلطنة عمان. انظر: د. صالح الصّوافي:الإمام جابر بن زيد العماني وآثاره في الدّعوة. ط2، سنة 1989، ص30.
(1/2)
والجدير بالملاحظة أنّ الفضل يعود إلى الإباضيّة في نشر الإسلام في أرياف إفريقيّة ومناطقها الجبليّة. فقد رفعوا لواء الدّعوة للإسلام ولمذهبهم بحقّ، وعلّموا السّكان – وخاصّة البربر – أنّ الثّورة على الظّلم وعلى مغتصبي الحكم من غير أهل إفريقيّة، من صميم الإسلام، وأنّ العدالة والمساواة هما اللّتان يجب أن ينشدهما المسلمون على اختلاف درجاتهم، حكّاما ومحكومين. وقد سرت هذه الرّوح في هذه الدّيار، فاتّسعت لمزيد من الثّورات، ونشدان العدل وطلب الأمثل.
إنّ هذا المذهب كتب له الانتشار في مناطق عديدة من شمال إفريقيّة: في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب... وما يزال له أتباع – إلى اليوم – عديدون بتلك البلدان، ومنهم فقهاء أجلاّء وعلماء كبار، سجّل لهم التّاريخ صورا ناصعة مشرقة، في ألسنة النّاس وفيما دوّنوه في صفحات الكتب التي لا يزال أكثرها مخطوطا عند أهل المذهب في مكتباتهم الخاصّة.
ورسالة الشّيخ تبغورين (في أصول الدّين) التي بين أيدينا، تعتبر حلقة من حلقات تطوّر علم الكلام الإباضي بشمال إفريقيّة، إذ سبقه متكلّمون كثيرون أمثال: أبي خزر يغلا بن زلتاف الوسياني (ت380هـ) وأبي الرّبيع سليمان بن يخلف المزاتي (471 هـ)، وغيرهم كثير.
هذه الرّسالة تعدّ من جملة اهتمامات متكلّمي الإباضيّة بالرّدّ على مخالفي مذهبهم. فالرّسالة تتضمّن جملة من المسائل الكلاميّة التي كانت سائدة في عصر المؤلّف، وردّ فيها على فرق كثيرة مثل المعتزلة والنّكّار والمشبّهة وردّ على العمريّة والحسينيّة أتباع عيسى بن عمير، وأحمد بن الحسين الاطرابلسي كما ردّ على فرق الخوارج من الأزارقة والبيهسيّة والنجداة والصّفريّة وغيرهم من المرجئة والقدريّة والجبريّة.
(1/3)
إنّ نشر مثل هذه الرّسالة، هو مساهمة منّا في بيان أهمّية علم الكلام في الدّفاع عن المذهب والحرص كلّ الحرص على الانتصار له، وهي من جهة أخرى إثراء لعلم الكلام الإباضي، ودليل واضح على مدى تحرّر عقول المتكلّمين وكتّاب الفرق من الإباضيّة، وأصالة تفكيرهم وتكوينهم العلمي في نشدان الحقيقة، فما خلّفه أسلافنا وأجدادنا هو بحقّ ثروتنا وتركتنا الفكريّة التي يمكن أن تساعدنا بعد تفكيكها وضبطها بجعلها مسايرة للزّمن الذي يتطوّر بتطوّر أفكار أبنائه.
إنّ تراثنا الفكري لهو دليل على عبقريتنا، وهو عنوان على فضل الأجداد على الأحفاد، وهو بالتالي مجهوداتهم المثمرة وأفكارهم وآرائهم النّيّرة.
وتكمن قيمة هذه الرّسالة في أنّها تقدّم لنا صورة واضحة عن اهتمام علماء الإباضيّة ودقّتهم في الردّ على مخالفيهم وقدرتهم الفائقة على تتّبّع المسائل الكلاميّة والفقهيّة الشّائكة ومدى تبحّرهم في مناقشة الفرق المخالفة فتراهم يؤلّفون في علم الكلام كتبا تتضمّن أسئلة افتراضيّة وأجوبة لها. فصاحبنا ألّف كتابا عنوانه: « الجهالات » كلّه أسئلة كلاميّة وأجوبة لها.
وترجع أهمّيّة هذه الرّسالة إلى كونها مخطوطة غير موجودة إلاّ عند أهل المذهب وفي مكتباتهم الخاصّة وإلى أنّها الرّسالة الوحيدة التي تناولت أصول المذّهب الإباضي. علما وأنّ أصول المعتزلة خمسة، أمّا الإباضيّة فلهم أصول عشرة تجدها ضمن هذه الرسّالة.
فمن هو صاحب هذه الرّسالة ؟
حياة الشّيخ تبغورين
(1/4)
هو الشّيخ تبغورين بن عيسى بن داوود الملشوطي (1) نسبة إلى بلدة يُقال لها ملشوطة (2) وهو من علماء القرن الخامس الهجري (3) .
أخذ العلم عن الشّيخ أبي الرّبيع سليمان بن يخلف المزاتي (4) وعن الشّيخ عبد الله اللّنتي (أبو محمد) (5) . وكان من معاصري الشّيخ أبي العبّاس محمّد بن بكر من علماء الطّبقة العاشرة (450هـ- 500 هـ) حسب الدّرجيني (6) والشّمّاخي (7) .
__________
(1) الجيطالي: قواعد الإسلام، تحقيق وتعليق بكلي عبد الرحمان بن عمر ، طبقة أولى، الجزائر (غارداية) 1975م، ج1/90. الشمّاخي " كتاب السّير،ص 432.
(2) لم يحدّدها علماء الإباضية، ويبدو أنّها اندثرت، ومن خلال كتب سير الإباضيّة أنّها تقع قرب مدينة آجلو التي حدّدها الشّيخ علي يحي معمّر بأنّها تقع قرب البلدة التي تسمّى اليوم « بلدة عمر » بالجزائر وتقع على بعد عشرين كيلومترا جنوب « تقرت» شرقيّ الجزائر. راجع الجعبيري:نظام العزّابة عند الإباضيّة الوهبيّة في جربة،ص36 و46. علي يحيى معمّر:الإباضيّة في موكب التّاريخ،ج4، ط.1979.ص344-345.
(3) الجيطالي (السّابق) ج1/90. الشمّاخي: السّير، ص432.
(4) توفّي أبو الرّبيع سنة 471 هـ. انظر ترجمته بتفصيل أكثر، عند أبي زكرياء يحي بن أبي بكر في كتاب السّيرة وأخبار الأئمّة، تحقيق عبد الرحمان أيّوب، طبعة الدّار التّونسية للنّشر1985، ص269 إلى 277. الدّرجيني: الطّبقات جزء 2 / 425 وما بعدها. الشّمّاخي: السّير ص 412.
(5) هو أبو حامد محمد عبد الله بن محمد اللّنتي، عدّه الدّرجيني في طبقاته، من الطّبقة الحادية عشرة (500/550هـ). انظر عنه، طبقات المشائخ بالمغرب، تحقيق إبراهيم طلاّي، طبعة الجزائر، 1974م، ج2، ص481-482. الشماخي: السير، طبعة حجرية سنة 1301هـ، ص440.
(6) الطبقات، 2/442 وما بعدها.
(7) الشّمّاخي: السّير 432 و 440
(1/5)
ذكر عنه الشّماخي أنّه كان « من أعظم النّاس قدرا وأكثرهم علما وأشدّهم عملا، تعلّم العلوم وعلّمها، واستفاد وأفاد، وطلب العلا فساد » (1) .
عاصر الشّيخ تبغورين كثيرا من العلماء، من الإباضيّة نذكر منهم: أبو الرّبيع سليمان بن يخلف المزاتي (السّابق) وماكسن بن الخير وأبو سليمان داوود بن أبي يوسف وأبو الرّبيع سليمان الزلفيني، وأبو العبّاس أحمد الوليلي وأبو إسماعيل أيّوب بن إسماعيل، وأبو زكرياء يحي بن أبي زكرياء والشّيخ أبي محمّد اللواتي وغيرهم كثير (2) .
تخرّج عليه جماعة كانت لهم الصّدارة في أوساطهم، لا من الرّجال فقط بل حتّى من النّساء، كالعالمة عائشة بنت معاذ (3) التي قيل عنها أنّها خير نساء «آجلو». بلغت في العلم شأوا بعيدا، وكانت تساجل العلماء وتناقشهم، وكثيرا ما يكون النّقاش في جانبها (4) .
درست هذه العالمة علم الكلام عن أستاذها الشّيخ تبغورين، وكانت تفتخر به وبدراستها عليه، وتعتبر أقواله حجّة، فإذا جرى بينها وبين أحد نقاشا في قضيّة من قضايا علم الكلام كان يكفيها حجّة أن تقول: قال تبغورين بن عيسى الملشوطي كذا وكذا، وكان هذا في نظرها أبلغ حجّة وأسطع برهان فلا تحتاج بعده إلى مزيد كلام (5) .
__________
(1) الشمّاخي: السّير، 432.
(2) انظر ترجمة هذه الشّخصيات في كتاب الطّبقات للدّرجيني، ج 2/425 إلى 482. والشّمّاخي: السّير، من ص 414 إلى 440.
(3) 10) انظر عنها:علي يحي معمّر، الإباضيّة في موكب التّاريخ (الحلقة الرّابعة) ، طبعة أولى1979، ص347. الجيطالي (السّابق) ج 1/90.
(4) 11) علي يحي معمّر: (السّابق) ص 346 – 347. الشمّاخي: السّير، ص 422.
(5) 12) علي يحي معمّر: (السّابق) ص 347.
(1/6)
ودرست عائشة بنت معاذ على فطاحل العلماء في «آجلو» وبلغت درجة في العلم يعزّ على نظرائها بلوغها، منهم أبو العبّاس أحمد بن أبي عبد الله بن بكر (1) التي قالت عنه:« لولاه لمتّ من الجهل» (2) .
وكان أبو العبّاس هذا دائرة معارف يجول في كلّ ميدان، وكانت دروسه تشبه أن تكون محاضرات تلقى في جميع الفنون، فكان المتفوقون من الطّلاب يلذّ لهم سماعه والسّباحة معه في الآفاق التي يسبح فيها.
وكانت عائشة هذه من أمهر السبّاحين في علوم الشّريعة بمختلف فروعها، وفي علوم اللّغة والأدب، وكانت ترى أن تعلّم اللّغة وآدابها وما تقوم عليه من نحو وصرف واجب أكيد على المسلم (3) حتّى يستطيع فهم كتاب الله وسنّة رسوله عليه السّلام.
وكانت تمثّل المرأة المسلمة المتعلّمة المستنيرة التي تشارك الرّجال في جميع الميادين الثّقافيّة دون أن تتخلّى عن رسالتها كأمّ ترعى بيتا، وترعى أولادا، وكزوجة تصون نفسها وبيتها وترعى زوجها في نفسها وفي ماله وفي بيته، وتوفّر له وسائل الرّاحة والسّعادة والاستقرار، ودون أن تلقى عنها ثوب الحياء والحشمة، فلم يعقها ثوبها النّسائي الفضفاض أن تناقش أذكى الطّلاب وأن تتفوّق عليهم (4) .
فقد كانت عائشة بنت معاذ في الجزائر بعلمها وسلوكها مثل أمّ ماطوس (5) في ليبيا، وقد أقامت هاتان المرأتان الحجّة على المرأة المسلمة المتفتّحة، وبرهنتا على أنّ الفتاة إذ شاءت فإنّها تستطيع أن تبلغ أقصى ما يبلغه الرّجال من المعرفة مع المحافظة على دينها وأخلاقها، وصيانة أسرتها وبيتها.
__________
(1) 13) انظر ترجمته في: الدّرجيني، الطّبقات، 2/442، 443.
(2) 14) الشمّاخي: 422.
(3) 15) علي يحي معمّر (السّابق) ص 348.
(4) 16) نفس المصدر والصّفحة.
(5) 17) اسمها « عافية» عاشت في القرن الثّالث الهجري. انظر عنها: علي يحي معمّر (السّابق) ج2، القسم الثّاني ص85 وما بعدها. وص 239 إلى 260. الشمّاخي: السّير، ص317 وما بعدها.
(1/7)
والشّيخ تبغورين رغم درجته العلميّة العالية لم يسلم من الهجران، فقد تبرّأ منه مجتمعه وبقي معزولا إلى أن أضطرّ إلى التّوبة، وبسبب ذلك سافر إلى «تينوال» كي يتوب بين أيدي من حكموا عليه بالهجران، ويعتذر ممّا نسب إليه حتّى قبلوا منه، وعندئذ استرد مكانته وعاش بين الإباضيّة كواحد منهم (1) .
هذا الشّيخ الألمعيّ، لم تترجم له المصادر الإباضيّة ولم تذكر عنه سوى أنه أتّهم عندهم بشيء لاموه عنه بل وحكموا عليه بالبراءة والهجران فقاطعه المشايخ، ويبدو أنّ هذه المقاطعة جعلتهم لا يترجمون له ولا يهتمون بحياته الأولى والأخيرة، لكنّه رغم ذلك الهجران نجد أنّ الشّيخ فرض نفسه بعلمه وبما ألّفه من كتب كانت مرجعا عند الإباضيّة في علم الكلام والفقه وغير ذلك.
مؤلّفاته:
ترك لنا الشّيخ تبغورين ثروة علميّة من التآليف القيّمة في العقائد على الأخصّ تدلّ على نباهة شأنه وعلوّ درجته، وهي:
1- كتاب أصول الدّين (في الكلام) وهو هذا الذي نحقّّقه (2) .
2- كتاب الأدّلة والبيان (في أصول الفقه) (3) .
__________
(1) 18) علي يحي معمّر: (السّابق) ص 292/293. الشماخي: السّير ص 432.
(2) 19) هو كتاب نشره الدّكتور عمر خليفة النّامي كملحق بأطروحته باللّغة الإنجليزيّة، وهو يتضمّن أصول الإباضيّة العشرة، وخمس مسائل اجتماعية نسبه إليه الشمّاخي ص 432. ومحقّق كتاب قواعد الإسلام للجيطالي (السّابق) ص 91. والحارثي في: العقود الفضّيّة في أصول الإباضيّة، طبعة دار اليقظة العربيّة سوريا لبنان، بدون تاريخ، ص 280 والبرّادي: الجواهر المنتقاة، طبعة حجريّة: ص 221. وعلي يحي معمّر (السّابق) ص 127 و 264.
(3) 20) نسبه إليه الحارثي(السّابق)ص280. ومحقّق كتاب قواعد الإسلام للجيطالي(السّابق) ص91.
(1/8)
3- كتاب الجهالات (في علم الكلام) (1) .
4- كتاب المعلّقات في أخبار أهل الدّعوة (2) .
جهود تبغورين في الكلام:
عاش الشّيخ تبغورين في النّصف الثّاني من القرن الخامس الهجري في الجنوب الجزائري متنقّلا بين ورجلان وبلاد سوف ودرجين بنفطة من بلاد تونس وقرى تلك المدن التي حوت فرقا عديدة ذكرها المؤرّخون من أهل السنّة وكتاب السّير من الإباضيّة. ويذكر الدّرجيني في طبقاته وأبو زكرياء في سيره والشمّاخي في كتاب السّير أن متكلّمي الإباضيّة كانت تدور بينهم المناظرات الكثيرة كما كانت تنظّم لها مقابلات بين متكلمّي الإباضيّة مع الفرق المخالفة مثل الواصليّة (المعتزلة) وفرق النّكّار وغيرهم، فهذه الكتب زاخرة بالمناظرات التي يمكن أن تكون دراسة للباحثين.
وقد أمكن للشّيخ بهذا التّنّقل بين الحواضر العلميّة الزّاخرة بفنون الكلام في العديد من المسائل التي كانت تثار في ذلك الوقت أن يحصل على علوم كثيرة ومن أهمّها علم الكلام الذي وصلنا منه كتابين يدلاّن على عبقريته في فن علم الكلام وهذا يعود الفضل فيه إلى ما أفاده الشّيخ من العلوم المتنوّعة والتي أفادت أيضا العقول لما فيها من النّقد النّزيه والمقارنة، وتلك تكوّنت بالإطّلاع الواسع على مختلف المذاهب القديمة والمتواجدة آنذاك والتي كما أشرنا نمت بالمساجلات العقديّة التي كانت تدور بين المذاهب المختلفة.
__________
(1) 21) هذا الكتاب كان موضع عناية من المشايخ الإباضيين لأهمّيته، فقد شرحه الشّيخ أبو عمار عبد الكافي الإباضيّ(و قمنا نحن بدراسته وتحقيقه لنيل أطروحة دكتوراه الحلقة الثالثة بجامعة الزيتونة خلال سنة 1986) والشّيخ محمد بن يوسف المصعبي (ق 12 هـ) والشّيخ أبو ستّة محمّد بن عمر القصبيّ الجربي المشهور بالمحشىّ وشرحه أخيرا أحمد بن يوسف أطفيش (ت 1914م).
(2) 22) هذا الكتاب شكّ البرّادي ص 221 والحارثي (السّابق) ص 280 نسبته إليه.
(1/9)
وقد تمكّن صاحبنا بهذا التّحصيل الواسع والنّقد المقارن من أن يخوض في بحر علم الكلام في أصول الدّين والذي كان أهمّ اهتمامات تلك المناطق وأن يصبح فيه علما بارزا، وهو ما يشهد به كتابه هذا في «أصول الدّين» وكتابه الآخر في «الردّ على الجهالات» وهو الذي اعتنى به المتكلمون من بعده فشرحوه، وكانت آخر الشّروح له في القرن التّاسع عشر.
دافع تبغورين عن آرائه – وهو إباضيّ- وردّ على الفرق الأخرى مثل المعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرهم كثير، فلم يقتصر الشّيخ في مناظراته على الفرق الإسلاميّة أو على ديانة بعينها بل اتسعت مناظراته لتشمل العديد من الفرق المناوئة له. فهو خبير بآراء المتكلّمين وكتبه تدلّ على تبحّره في آراء الفرق وكلامهم، ويدلّ على ذلك كتابه "الأدلّة والبيان" في أصول الفقه. وكتاب "الجهالات" وهو في الردّ على الجهالات (1) .
والشّيخ تبغورين رغم اتّهامه من المناوئين له وحكمهم عليه بالهجران حتّى التّوبة بين أيدي المشائخ فإنّ هذه الأحكام – كما ذكر الشّيخ علي يحي معمّر- أكثرها باطلة إلاّ أنّها تطبّق وأحيانا ما تكون صادرة من تلميذ لأستاذه (2) .
__________
(1) 23) هذا الكتاب قد شرعنا في تحقيقيه معتمدين في ذلك على نسخة واحدة وعلى شروحه المتوفرة بمكتبنا الخاصة.
(2) 24) انظر: الإباضية في الجزائر (ج: 4 ) طبعة 1/1979 ص 292 وما بعدها.
(1/10)
والهجران والإبعاد والطّرد ألفاظ تترادف على معنى واحد، وذلك متى أجرم أحد من أهل الطّريق جرما، أو ظهرت عليه خزية، أو أتى بنقيصة في قول، أو عمل، أو تضييع فإنّه يهاجره كلّ أهل الصّلاح فلا يُكلّم ولا يحضر جماعة، ولا يؤمّ ولا يؤاكل، ولا يجالس، وكأنّ خطة بينه وبين أهل الخير، فإن تاب واستغفر قبل منه، ورجع إلى الجماعة وزال عنه شين ذلك الاسم وكان بقاؤه في وحشة الهجران بقدر عظم الجرم وصغره وتوبة المجرم وإصراره، فمنهم من يتوب ويرجع في الحال، ومنهم من يبقى ساعة أو ساعتين أو يوما أو يومين (1) ... إلخ. هذه المسائل راجعها في مكانها يتّضح لك الأمر والسّلام.
نسخ الرّسالة ومنهجنا في تحقيقها
__________
(1) 25) نفس المصدر السّابق والصفحات.
(1/11)
هذه الرسالة كانت ضمن مشروع – أطروحة الدّكتور عمرو خليفة النّامي التي قدّمها لنيل شهادة الدّكتوراه من جامعة (كمبريدج)- تحقيق ثلاثة نصوص تتّصل كلّها بالتّراث الإباضيّ. كان النّصّ الأوّل فيها جزءا من كتاب « قواعد الإسلام » تأليف أبي طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي، ويتعلّق ببحث موضوع « الولاية والبراءة » وتفاصيلهما. ويتعلّق النّصّ الثّاني بمسائل أصول الدّين عند الإباضيّة، أو بمباحث علم الكلام عندهم، وهو كتاب « أصول الدّين » تأليف تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطي (1) . أمّا النّصّ الثّالث فهو « أجوبة بن خلفون » تأليف أبي يعقوب يوسف خلفون المزّاتي (2) وهي رسالة في الفقه المقارن.
إنّ كتاب « أصول الدّين » الذي بين أيدينا لمؤلّفه (تبغورين) هو نسخة مرقونة على الآلة الرّاقنة خلال سنة 1970/1971، وبها(76) صفحة قام بمقارنة نصوصها الأستاذ الدكتور عمرو خليفة النّامي (السّابق) معتمدا في ذلك على نسخ مختلفة من وارثيها بكلّ من جربة وليبيا، وقد رمز إلى كلّ نسخة بحرف.
النّسخة الأولى: رمز إليها بحرف « ت » كأصل للتّحقيق، وهي نسخة كاملة في حيازة السّيد سعيد بن عمر التندميرتي، نسبة إلى تندميرة بليبيا (طرابلس).
__________
(1) انظر، مقدّمة كتاب « أجوبة ابن خلفون » تأليف أبي يعقوب يوسف خلفون المزاتي. تحقيق وتعليق الدكتور عمرو خليفة النّامي، طبعة دار الفتح للطّباعة والنّشر – بيروت سنة 1974، ص8. حيث ذكر المحقّق أنّ هذا الكتاب كان من جملة اهتماماته...
(2) هو من علماء قبيلة مزّاتة البربريّة، وأحد أئمّة القرن السادس الهجري، نشأ وعاش في « تبن با ماطوس » إحدى القرى المجاورة لمدينة " وارجلان " جنوب الجزائر. انظر عنه، الدّرجيني: الطّبقات، ج2، ص495. الشّمّاخي: السّير، ص445. وكتابه المذكور لنا نسخة منه بمكتبتنا الخاصّة.
(1/12)
النّسخة الثّانية: وهي التي رَمَزَ إليها بحرف « ج » وهي أيضا نسخة كاملة في حيازة الشّيخ امحمد الباروني –بجادو- ليبيا (طرابلس).
النّسخة الثّالثة: وهي التي رمز إليها بحرف « م » وهي نسخة كاملة في حيازة الشّيخ علي ميلود المرساوني – مرساون – الرّحيبات (ليبيا).
النّسخة الرّابعة: وهي التي رمز إليها بحرف « ب » وهي أيضا نسخة كاملة في حيازة الأستاذ الشّيخ يوسف الباروني – جربة – بتونس.
أمّا النّسختان الخامسة والسّادسة: المرموز إليهما بحرفي « ح + ر » وهما في حيازة الشيخ علي ميلود المرساوني (السّابق) الأولى مخطوطة ناقصة والثّانية جزء من مخطوطة.
وقد اجتهدت في أن أحصل على نسخ مخطوطة من هذه الرّسالة فلم أتمكّن من ذلك لصعوبة الوصول إلى المكتبات الخاصّة ووجود ورثة آخرين لهذه المخطوطات حتّى أنّ زميلنا الأستاذ الدكتور فرحات الجعبيري - الإباضي التونسي- نصحني بالاعتماد على النّسخة المرقونة التي أعارها لي مشكورا الأستاذ الدكتور عبد الله مسعود حنبوله –اللّيبي– والإباضي مذهبا أثناء إقامته بتونس للحصول على درجة الدّكتوراه من جامعة الزّيتونة خلال سنة 1982، فله جزيل الشّكر.
أمّا طريقة التّحقيق: فهي كما قلنا (سابقا) أنّ الأستاذ عمرو خليفة النّامي قام بمقارنة النّصوص وتخريج الآيات (1) فقط، أمّا أنا فقد علّقت على المسائل الكلاميّة وشرحت البعض، وأرجعت نسبة الأقوال إلى أصحابها ما استطعت، وإلى من قال بها بعده، وأحلت على المصادر والمراجع، كما اجتهدت في تخريج ما ورد في الرّسالة من أحاديث نبويّة، وعرّفت بما ورد فيها من رجال وفرق وجماعات، وتركت الأعلام المعروفة، وأرشدت إلى مصادر بعض القضايا المطروحة تسهيلا لمن أراد المزيد من الاطّلاع. كما قمت بوضع فهرس تفصيلي يلحق بالنّصّ.
__________
(1) قمت بمراجعة الآيات ورقمها في سورها فلم أجد في ذلك أخطاء أبدا.
(1/13)
ولا تفوتني بعد هذا أن أشير إلى أنّ دراسة حياة صاحب الرّسالة وتحليل أصوله العشرة وما جاء بعدها من مسائل كلاميّة - كانت من اهتمامات متكلّمي الإباضيّة - هو من عملي الخاص.
لقد استعملت إشارة (+) للتّدليل على ما أضيف من النّسخ الأخرى وإشارة (-) للتدليل على النّقص أو السّقط من النّسخة المعتمدة وهي (ت)، فإذا كان النّقص أكثر من كلمة جعل ذلك بين معقوفتين[.]. ووضعت أرقام على النّسخة المعتمدة يبتدئ رقم (1) على وجه الورقة التي بها العنوان، ثمّ رقم (2) على ظهرها، وهكذا إلى نهاية الرّسالة. وجعل هذا الخطّ الفاصل (/) بين صفحة وصفحة.
ولا يفوتني بعد هذا العمل أن أشكر الأخّ والزّميل الدّكتور فرحات الجعبيري الذي قدّم لي يد المساعدة في الوصول إلى التّراث الإباضي - سابقا ولاحقا – وكذلك المرحوم الأستاذ عبد الله مسعود حنبوله فلهما جزيل الشّكر.
هذا وإنّي قصدت بتحقيق هذه الرّسالة ونشرها، المساهمة في إفادة الفكر الإسلامي عموما والباحثين خصوصا. وأرجو أن أكون قد وفّقت في هذا العمل راجيا أن يلبّي طلبات الباحثين في مجال أصول الدّين عند الإباضيّة وغيرهم.
وإنّني إذ اقدّم هذه الرّسالة إلى القرّاء والباحثين خصوصا، أسأله سبحانه التّسديد والتّوفيق في كلّ أمورنا والعون لنا في كلّ أحوالنا وأن يقبله مني عملا خالصا لوجهه الكريم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
تونس في 7/03/2001
موضوعات الكتاب:
(1/14)
يذكر الشّيخ تبغورين في مقدمة كتابه أن أحدا طلب منه أن يكتب له كتابا يبيّن له فيه أصول الدين الذي اختلفت فيه الأمة حتّى ساروا طرائق قِدَدًا، وأفراقا مختلفة، فوافق الشّيخ وكتب له هذا الكتاب الذي لا يمكن الشك فيما جاء فيه، ولا يتعذر على المبتدئ حفظه بأبلغ ما حَضَرَ له من البيان إلى أن قال: « ... أن أصول الدين عشرة » (1) وهي: التوحيد، القدر، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، لا منزلة بين المنزلتين، الأسماء والصّفات، الأمر والنهي، الولاية والبراءة، الأسماء والأحكام. ثم ذكر بعد ذلك مسائل أخرى كانت تشغل الإباضيّة وهي سبع مسائل:
- المسألة الأولى ... ... في الحجة.
- المسألة الثانية ... ... في الاستطاعة.
- المسألة الثالثة ... ... في العون والعصمة.
- المسألة الرابعة ... ... في القرآن وكلام الله.
- المسألة الخامسة ... ... في الرؤية.
- المسألة السادسة ... ... في الشفاعة.
- المسالة السابعة ... ... في القبر وعذابه.
وقد تناول المؤلف هذه المسائل التي سنبينها والتي كثر حولها الخلاف بين الفرق الإسلامية بعامة وفرق الإباضيّة على اختلافها بخاصة في المسائل الكلامية، وابتدأ كتابه بمسألة التوحيد وهو الأصل الأول عند جميع المتكلمين من الإباضيّة وغيرهم ثم بقية الأصول، ونحن هنا لا بد لنا من أن نبين تلك الأصول وتلك المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الإباضيّة وغيرهم من المتكلمين.
في أصل التوحيد
__________
(1) 26) من الإباضية من ذكر تسعة أصول. أنظر كتاب أصول الديانات للشيخ عامر بن علي الشماخي، بشرح عمر التلاتي، طبعة حجرية بدون تاريخ، ص 79. والاختلاف وقع هنا حول الأسماء والصفات ( وهو الأصل السابع) حسب تبغورين. قال التّلاتي: وبهذا ظهر كون الأصول تسعة وأنّ الأولى جعلها ثمانية بعدّ المنزلة بين المنزلتين وأن لا منزلة بين المنزلتين أصلا على سبيل السّرد والعدّ.
(1/15)
بين الشّيخ تبغورين أن التوحيد هو فعل العبد، وهو إفراد لله عز وجل بصفاته ونفي الأشباه عنه. وهو الإقرار والمعرفة، والفرق بين الموحد بالفتح والموحد بالكسر، أن الموحد هو الله عز وجل من قولهم: وحده العبد، والله موحد بفتح الحاء فيقال: وحده المؤمنون بالتوحيد، ووحّد نفسه بالتّوحيد، ومعنى وحد نفسه، أي أخبر عن نفسه أنه واحد. وموحّدُ بكسرها، أي فاعلا للتوحيد، فلا يقال: لم يزل موحّدا بفتح الحاء وإنما يقال: لم يزل موحّدا بكسرها.
وقال: ولا واحد في الحقيقة إلاّ الله، إذ الواحد من الخلق ينعد مع غيره، ويجري عليه العدد، والله لا يجري عليه العدد ولا التبعيض فينعد مع غيره بخلاف المخلوق. ونفى عن الله الجسمية لأن الجسم وما يوصف بصفاته هو المنعدّ المؤلف الأجزاء الذي لا ينفك من ستة جهات: أمام وخلف، ويمين وشمال، وتحت وفوق، وملاصق لشيء ومباين للآخر ولابد له من مكان يحويه وقرار يستقر فيه.
وردّ على الذين يزعمون أن الله فاعل كفعل الأجسام، فقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن نفسه أنّه حَيٌّ فاعلٌ، وأنه شيء موجود، ولم يخبر في شيء من أخباره أنه جسم ولا صورة كما يزعمون، بل أخبر أنه ليس بجسم ونفى عن نفسه الجسمانية في قوله: « ليس كمثله شيء » وقوله: « هل تعلم له سميا » واستشهد بآيات كثيرة منها: الآية 65 من سورة مريم ومن سورة الأنعام (3) والحديد (4) والواقعة (83) وق(16) والأعراف (7). قائلا لهم: أن الله ليس بجسم، فإذا قلنا: هو حيّ، فاعل، عالم، قادر: فهذه صفات المدح قد نفت عنه صفات الذم والنقص. لأن من ليس بحيّ فهو ميت ومن ليس بقادر فهو عاجز الخ ...
فمعنى الله حي أي أنه لا يجرى عليه الموت، ولا يكون في صفات الأموات. وفاعل أي قادر لا يجري عليه العجز ولا يشبه العاجزين، وكذلك في عالم وسميع وبصير وجميع أسمائه وصفاته تعالى. فالخالق لا يشبه مخلوقاته بأي وجه من الوجوه.
(1/16)
وبيّن أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بإفراد الله ونفوا عنه الأشباه ونزهوه عن الشبه في قوله تعالى:«سبحانه وتعالى عما يشركون» (1) .
وردّ على من احتج بقوله تعالى:« الله نور السماوات والأرض» (2) وقوله:«يد الله فوق أيديهم» (3) وقوله:«تجري بأعيننا» (4) وقول العرب: هذا في جَنْبِ الله، فبيّن معنى النور في اللغة الجارية بين الناس، واستدل بالآيات والأمثلة والأحاديث النبوية. كما بين معنى "اليد" في اللغة العربية واستشهد بالآيات والأحاديث النبوية فبين أن اليد أيضا تطلق على المِنّة والنّعمة، وبين أن اليمين تطلق على عدة أشياء منها الشيء نفسه وهو الصلة في الكلام، وتطلق على القوة والشدة، وتطلق على الحلف من قوله تعالى:«واحفظوا أيمانكم» (5) موضحا أنه ما من كلام إلاّ وله وجهان وأنه يجب أن يحمل الكلام على أحسنه. وأنه لو حُمِلَ القرآن على ظاهره لتناقض وتكاذب. مستشهدا بقولهم للميت: لقي فلان ربّه، وصار إلى ربه. ولم يريدوا أن ربّه في القبر !! وأن قول إبراهيم عليه السلام: «إني ذاهب إلى ربي سيهدين» (6) أي ذهابه إلى حيث أمره ربه. وألزم المشبهة بأن يعرفوا لربهم موضعا إذا صحّ عندهم أنه يزول وينتقل.
وخلاصة القول فإن الإباضيّة يرون أن الموحدين لا يتفاضلون في توحيدهم لله، لأن القائل إذا قال: تفاضلوا في التوحيد معناه أن يكون بعض التوحيد أفضل من بعض وليس ذلك بجائز، ومعرفة التوحيد إذا كانت بالدلائل تأكدت وقويت المعرفة بها وأن التفاضل في الأدلة جائز لأن من كان علمه أقوى كان أعظم حجّة وأوضح بيانا ممن أقل منه دلالة.
والمتكلّمون الإباضيون قديما وحديثا يرفضون تيّارات الإلحاد والتّشبيه ماديّة كانت أو دهريّة أو يهوديّة أو مجوسيّة أو تجسيميّة أو فيضيّة أو حلوليّة.
__________
(1) 27) سورة النحل: 01.
(2) 28) سورة النور: 35.
(3) 29) سورة الفتح: 10.
(4) 30) سورة القمر: 14.
(5) 31) سورة المائدة: 89.
(6) 32) سورة الصّافات: 99.
(1/17)
فقد بيّن الشّيخ تبغورين في غير ما مرّة أنّ هناك صفات مستحيلة عن الله تعالى مثل الحدوث، والعدم، والفناء، والموت، والجهل، والعجز، والإكراه، والصّمم، والعمى، والتّسوية بينه وبين خلقه في الذّات أو الصفات.
وجميع المدارس الكلاميّة أقرّت بأنّ الله واحد ليس كمثله شيء، ماعدا المشبّهة التي تقول بأن لله صفات مثل صفات الإنسان، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وفي أصل القدر
في هذا الأصل ردّ تبغورين على المعتزلة ومن قال بقولهم ممّن أزالوا قُدْرَةَ الله، وتقديره وسلطانه، عن أعمال العباد.
وتعرّض المؤلّف إلى قضية خلق الأفعال كغيره من المتكلمين، إذ يرى أن العالم وما فيه من جواهر وأعراض، وما فيه من خير وشر وطاعة ومعصية، هو خلق الله ومن تدبيره، إذ ليس شيء منه بخارج من تدبير الله وتقديره وإرادته وعلمه، سواء ما يضاف إلى العباد، وما لا يضاف إليهم. وليس في الإضافة للعباد ما يدلّ على أن الأفعال مضافة إليهم بالكسب والاختيار لحركاتهم وسكونهم وطاعتهم وعصيانهم، ما يزيل تدبير الله لها، وخلقه إياها، لأن الله هو الذي أحدثها فجعلها دالّة على حدوث ما حلت به من الأجسام، وجعل ذلك دلالة على وحدانيته وربوبيته عزّ وجلّ، كما جعل سائر الأفعال من الأشياء كذلك، إذ كانت الأشياء متساوية في وجه الدلالة على الله عزّ وجلّ.
وردّ على المعتزلة الذين أنكروا أن يكون فعل واحد صادرا عن فاعلين (الله والإنسان) لأنه لو جاز أن يصدر فعل واحد من فاعلين لجاز أن يكون مكان واحد لمتمكنين، وحركة واحدة لمتحركين، وقول واحد من قائلين، ولو جاز أن يكون فعل العبد خلقًا لله لجاز أن يقال: إنّ العبد فعل خلق الله، بطل أن يكون فعل العبد خلق الله، ولو جاز أن يكون الله مريدا لأفعال العباد، وجب أن يكون مريدًا للكفر والمعصية، والزور والافتراء فهذا مما لا يوصف الله عز وجل بأنه أراده.
(1/18)
وفي ردّ تبغورين على القدريّة أورد رأيهم، ومفاده أن القدريّة قالوا: لو جاز أن يكون فعل واحد من فاعلين، لجاز أن تكون حركة واحدة من متحركين، وسكون واحد من ساكنين. وهذا حكم بغير حجّة، وتمثيل بغير علة وفند هذا الرأي بما ذهب إليه من أنه لا يجوز أن يقال: فعل من فاعلين، إذ الذي يحل في كل واحد منهما، غير الذي يحل في الآخر. والله تعالى لا تحله أفعاله، بل إنها تحل في غيره من خلقه. فلما أن كانت العلة منه في إبطال حركة من متحركين مثل ما ذكر سابقا من أنه إنما سمّي المتحرك متحركا لحلول الحركة فيه، والحركة لا تحلّ في متحركين، فيوصفان بها، كان الوصف منا لله بأنه خالق لفعل العباد غير مُشبه للّذي مثّلوا، وكذلك القول في المتمكنين في مكان واحد، كالقول في متحركين بحركة واحدة، لأن المتمكّن إنما سمّي متمكنا لأنه شاغل للمكان، والمكان لا يشغله جسمان فيسميان بأنّهما متمكنان في مكان واحد. فلما أن كانت العلة في فساد متمكنين في مكان واحد، فسد التمثيل بذلك الفعل من فاعلين. فاللون مثلا يضاف إلى اثنين على وجهين مختلفين: أحدهما الخلق، والآخر الحلول، فيقال: هو خلق الله حلّ في جسد فلان، أو بياض فلان.
(1/19)
وتعرّض المؤلف إلى مسألة الشّركة والتي يرى أن لها أهمّية كبرى في حل مشكلة القدر وكأنه هنا قد طبّق مصطلح الجهة، فذكر أن الفعل له جهات عديدة، فهو محدث، ويكون طاعة أو معصية، أو حسنا أو قبيحا، وللفعل جهة خلق وهي الله، وجهة كسب وهي للعبد. وبما أنّ للفعل حيثيات، فهو ينسب للإنسان من حيث قدر عليه، وينسب لله من حيث ثبوت عجز الإنسان عنه. وجعل موضوع الشركة ليعارض بها أصحاب المخلوق " القدريّة "، وذلك لأنّ الفعل إمّا أن يكون خلقا لله، أو للعبد، وأمّا أن يكون شركة بينهما. فبيّن أنّ الشّركة تحتمل وجهين: أحدهما حقيقة، والثّاني استعارة ومجاز فالرّجلان يشتركان في مال من إرث أو تجارة، فيكون كلّ واحد منهما شريكا للآخر وهذه هي حقيقة الشّركة، وما اشتركا فيه فهو لله ملك ومال، والعبد من ذلك عبد لله، والله مع ذلك غير موصوف بالشّركة لهما، ولا لأحدهما ولا يقال لهما ولا لأحدهما: " أنّه شريك لله تعالى عن ذلك، لاختلاف جهات الملك ".
ووضّح المؤلّف أنّ الشّركة تكون أيضا على معنى المعاونة والاتّفاق كرجلين تعاونا على رفع خشبة أو تسيير سفينة، أو اتفقا على أمرٍ من الأمور فأمضياه، فيقال في هذه المعاني: أنّهما اشتركا على معنى تعاونا واتّفقا، فإذا ما دفعتِ الرّيح السّفينة لا يُقال: إنّ الله تبارك وتعالى شارك الملاّحين في سير السّفينة بالرّيح، التي جعلها تجري بها السّفينة على أنّ الملاّحين، يُقال أنّهما اشتركا في الرّئاسة لذلك فلا يُقال أنّ الله شريك لهما، ولا أنّهما أو أحدهما شريك لله في فعله، لاختلاف جهات الإضافة في الفعل ومعانيه.
(1/20)
وخلاصة رأي الشّيخ تبغورين ومن جاء بعده من متكلّمي الإباضيّة تتمثّل في معارضتهم للمذهب القدري الذي يدّعي أنّ الإنسان هو الخالق لأفعاله، ويعارضون كذلك رأي الجبريّة التي تنفي عن الإنسان كلّ مسؤوليّة بمعنى أنّ للإنسان قدرة على الفعل والله هو الذي خلق فيه هذه القدرة فلا يُحاسبه عليها. بل إنّ الحساب ينصبّ على الأعمال التي اكتسبها الإنسان اكتسابا عن طريق جوارحه وإرادته الحرّة. فالكسب عند الإباضيّة يقوم مقام الخلق عند القدريّة والمعتزلة. فالمسلم إذا صام لكنّه أكل يوما متعمّدا، فإنّ ظاهرة الجوع والعطش أمر جبريّ من عند الله عزّ وجلّ ذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يُزيل دوافعه الفطريّة. أمّا التّعمّد في الأكل وعدم ضبط الدّوافع بإرادة قويّة فأمر مكتسب من الإنسان ذاته. وعلى هذا فليس هناك تعارض بين إرادة الله تعالى وعمله الأزليّ القديم مسبقا، وبين كسب الإنسان. فقد قال أبو عبيدة الإباضيّ (1) « إنّ الله يعذّب على المقدور لا على القدر » ويتّضح من خلال هذا أنّ الإباضيّة لا يتّفقون بل ويعارضون صراحة الاتجاه القدريّ. والإباضيّة يتفقون في هذا مع الأشاعرة.
وفي أصل العدل
بيّن أنّ العدل في اللّغة هو الاستقامة كما أنّ الجور هو الميل، يقال: جار في الطّريق إذا مال عن القصد، وهما ضدّان، كما أنّ التّعديل والتّجوير ضدّان أيضا. والتّعديل لله عزّ وجلّ توحيد له، كما أنّ التّجوير لله عزّ وجلّ شرك بالله وكفر به.
__________
(1) 33) انظر المجادلة التي دارت بين أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة (من تلاميذ جابر بن زيد) وواصل بن عطاء لمّا التقيا بالمسجد الحرام. الدّرجيني: الطّبقات، ج2/246. وحول موضوع القدر، انظر: الجامع الصّحيح (مسند الرّبيع بن حبيب بن عمر الأزديّ البصريّ)، بترتيب الشّيخ أبي يعقوب يوسف الورجلاني، نشر مكتبة الاستقامة، مسقط، سلطنة عمان 1388 هـ، ج1/25. الجيطالي: قواعد الإسلام (السّابق)، ج1/29/30/31.
(1/21)
ويذهب الشّيخ تبغورين كغيره من الإباضيّة إلى أنّ العدل من أصول الدّين إذ أجمعت الأمّة عليه ونطق به القرآن وأثبتته الحكمة في العقول أنّ الله عدل لا يجور وأنّه { لا يظلم النّاس شيئا ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون } (1) وقوله تعالى: { وما ربّك بظلاّم للعبيد } (2) وبيّن أنّ العدل في صفة الله يكون اسما وصفة وهو أصل من أصول الدّين ومعناه أنّ الله عزّ وجلّ سمّى نفسه عدلا ووصف نفسه بذلك، وقد أجمع المسلمون على أنّ الله عدل، وأنّه لا يجور في حكم، ولا يظلم النّاس في فعل. وردّ على الجهميّة والمجبرة في زعمهم أنّ الله مؤاخذ العباد على غير ما عملوه ومعاقبهم على ما لم يكتسبوه ولم يختاروه.
ويبدو من خلال ما قرأنا للإباضيّة في مسألة العدل الإلهي أنّ المتكلّمين من الإباضيّة اختلفوا مع المعتزلة في هذه المسألة، فالإباضيّة يرون أنْ لا ظلم في الحقيقة أيّ التّوسّط بين إضافة الفعل إلى الله وبين إضافته إلى الإنسان، وبذلك نفوا عن الإنسان ما ليس من فعله، وأضافوا ذلك إلى الله بالمعنى التي تحسن به الإضافة إليه، وأثبتوا له القدرة على الأشياء، والتّدبير لها، وأنّه مالكها وربّها وإلهها.
ومعنى أنّ الله عدل عند المعتزلة: أنّه ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الوجوب والمصلحة. أمّا الإباضيّة فيرون أنّ الله عدل بمعنى أنّه متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقد قصد المعتزلة في نظريتهم في الله أن ينزّهوه عن الظّلم، فارتفعوا بالإرادة الإنسانيّة، وجعلوها مسؤولة عن عملها، وإن كان الإباضيّة يرون في ذلك تضييقا من قدرة الله، ولذلك قالوا بنظريّة الكسب، وملخصّها أنّه لا فاعل للأفعال إلاّ الله، وأنّه قدّر كلّ شيء قبل خلقه، ويقترن خلق الله لأفعال الإنسان بكسبه فالأفعال مخلوقة من الله مكسوبة من العبد.
__________
(1) 34) سورة يونس 44.
(2) 35) سورة فصّلت 46.
(1/22)
وبالتأمّل في مذهب الإباضيّة في أفعال العباد نجدهم يتّفقون مع الأشاعرة من أنّ جميع حركات وسكنات المخلوق الذي يتأتّى منه الفعل مخلوقة لله تعالى وأنّ الذي ينسب لذلك المخلوق اكتسابه الذي هو اقتران قدرته الحادثة بالفعل، - المخلوق لله تعالى – أي أنّ الله خالق لكلّ مخلوق يصدر منه الفعل، وخالق أيضا لسائر أفعاله الاختياريّة والاضطراريّة، فالفعل مخلوق لله تعالى وإن كان قائما بالعبد كالبياض القائم بالجسم بخلق الله تعالى وإيجاده، وخالق لقدرة الطّّاعة فيمن أراد وصوله إلى رضاه ومحبّته وقدرة المعصيّة فيمن أراد ترك نصرته وإعانته وبعده عن رضاه ومحبّته، ومُعطٍ لمن أراد به خيرا وَعْدَهُ الذي سبقت به إرادته في الأزل. على أنّ الإباضيّة في قضيّة أفعال العباد نجدهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، بعضهم يرى رأي الأشاعرة في الكسب باعتباره مقارنة القدرة بدون تأثير وبعضهم وهم الحارثيّة يرون رأي المعتزلة في اعتبار الأفعال للعباد، وأنّ الاستطاعة تكون قبل الفعل، أمّا أغلب الإباضيّة فمذهبهم ما أشار إليه الشّيخ تبغورين والشّيخ أبو خزر الحامّي – قبله – ومن جاء بعدهما من المتكلّمين مثل أبي عمّار عبد الكافي الإباضيّ وأبي يعقوب الورجلاني - صاحب الدّليل والبرهان.
وفي أصل الوعد والوعيد
ردّ الشّيخ تبغورين في هذا الأصل على المرجئة والحشويّة والشّكّاك والجهميّة والمالكيّة، لنقضهم ما اجتمعت عليه الأمّة من أنّ الله صادق في وعده ووعيده، وأنّه تعالى ليس بكاذب، والكذب عنه منفي عند جميع الأمّة وأنّه تعالى لا يشبه الكاذبين لقوله: { ليس كمثله شيء } (1) وقوله { لا يخلف الميعاد } (2) وقوله: { وما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد } (3) .
__________
(1) 36) سورة الشورى: 11.
(2) 37) سورة الزّمر: 20.
(3) 38) سورة ق: 29.
(1/23)
ويتلخّص رأي المؤلّف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق