عنوان البحث: أثر الإيمان باليوم الآخر على السلوك الاقتصادي للمسلم
المؤلف: محمد بن صالح حمدي
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
أثر الإيمان باليوم الآخر على السلوك الاقتصادي للمسلم (المعدل)
د: حمدي محمد
أستاذ محاضر بجامعة الحاج لخضر باتنة ... الجزائر
البريد الالكتروني: ecohamdi@gmail.com
الهاتف: 213552817660
(1/1)
ملخص البحث: تناول الباحث أثر الإيمان باليوم الآخر على السلوك الاقتصادي للمسلم الذي ينبع من عقيدة راسخة في القلب أولا، وبالوعي التام بحقيقة الحياة الدنيا، لكونها مجالا للتسابق نحو الفوز الحقيقي في الدار الآخرة، يستهل البحث ببيان مفهوم العقيدة بصفة عامة و الإيمان باليوم الآخر كمقوم أساسي من مقومات العقيدة بصفة خاصة، فإذا تمكنت هذه النظرة الشاملة في العلاقة بين الحياة الدنيا و الآخرة أثمرت سلوكا متميزا في ربط العقيدة بالاقتصاد في الإنتاج و الإنفاق و الاستهلاك وسائر الظواهر الاقتصادية، مدعما بيان هذا الأثر من سلوك الصحابة رضوان الله عليهم، كنموذج للحياة الإنسانية الواعية لهدفها في الحياة، يخلص الباحث إلى هذا الإيمان يحرر المسلم من أسر المادة و حب الدنيا و كيف يحولها إلى وسيلة عمل و سعي جاد و مسؤولية نحو تحقيق الهدف الأكبر للإنسان و السعي نحو ابتغاء مرضاة الله.
Abstract
Researcher showed the impact of faith of the last day on the economic behavior of the Muslim which stems from a well-established doctrine in the heart firstly, and the full consciousness in the fact of this life , because it is the area of the real race to win in the hereafter, the Study begins with the statement of the general doctrine concept and the faith in the last day as a fundamental element of doctrine, in particular, so if this overview was generalized in the relationship between this life and the last day resulted a distinct behavior in connecting doctrine to the economy in production, consumption , spending and other economic phenomena, This effect is supported by a statement of the behavior of the caliphs, God bless them, as a model for the conscious human life to its aim in life, the researcher concluded that this faith frees the Muslim of constraints of material life.
(1/2)
الكلمات المفتاحية: العقيدة، الرسالة الاستخلافية، اليوم الآخر، الإنفاق في سبيل الله، النظرة الكونية الشاملة، العلاقة بين العقيدة و الاقتصاد، نماذج السلوك الاقتصادي، العلاقة بين الدنيا و الآخرة.
مقدمة: خلق الله الإنسان على هذه الأرض وسخر له ما في الكون لرسالة واضحة و غاية محددة، هو أن يتعبد الله بحريته و إرادته، بينما تخضع بقية المخلوقات من حيوان ونبات و جماد لبارئها و خالقها بفطرتها التي ألهمها الله إياها، و نظرا لطبيعة عبودية الإنسان الاختيارية، {و هديناه النجدين} (البلد:10) فهو يعيش حياتين، حياة الاختبار و العمل و حياة الجزاء بلا عمل، فالدنيا و الآخرة، تتفقان في الخط و الهدف فالأولى مقدمة و مزرعة للأخرى، و تختلفان في طبيعة كل منهما، أولاهما فانية منتهية و الثانية خالدة مستمرة أبدية.
إن ركائز التوحيد الأساسية- بعد الإيمان بوحدانية الله تعالى و إخلاص العبادة له و بالرسل المرسلة و الكتب المنزلة- الإيمان باليوم الآخر كمحطة نهائية تنتهي إليه الحياة الإنسانية و أنها غاية كل إنسان يسعى للوقاية من جحيمها و الفوز بنعيمها، معتبرة من جانب آخر أن الدنيا هي المعبر الوحيد و القنطرة الأساسية التي يعبر منها الإنسان إلى الآخرة، و أن مصيره ما هو إلا انعكاس لكسبه و عمله في الدنيا، فإذا استقرت هذه العقيدة في قلب الإنسان و تمكنت هذه العلاقة بين الدارين في تصوراته الفكرية امتدت لتشمل الحياتين معا واتسعت آفاقه إلى الحياة الأبدية و لا
(1/3)
يسجن فكره للتخطيط و العمل لهذه الحياة الضيقة الفانية، تنطلق كل تصرفاته السلوكية و العملية من دائرة هذه الرؤية الواسعة الآفاق، مدركا تمام الإدراك دوره في الحياة ضمن رسالة الاستخلاف التي أناط بها الله تعالى الإنسانية لما خاطب ملائكته بقوله"، {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:20] وأنها هي الفرصة الوحيدة للعمل الصالح من أجل الفوز بالسعادة الأبدية.
وفي هذا البحث يحاول الباحث أن يسلط الضوء على أهمية الإيمان باليوم الآخر ضمن مقومات التوحيد، و على أثره في سلوك المسلم و هو يمارس الرسالة الاستخلافية في الأرض، ذلك ضمن محورين اثنين:
المحور الأول: الإيمان باليوم الآخر مفهومه و أسسه وخصائصه
1 توحيد الالوهية مقوماته و أهميته
2مكانة الإيمان باليوم الآخر في توحيد الألوهية
3خاصية الوحدة الزمانية بين الدنيا و الآخرة
المحور الثاني: الإيمان باليوم الآخر و السلوك الاقتصادي
1عمارة الأرض وعلاقتها باليوم الآخر
2آثار الإيمان باليوم الآخر على عمارة الأرض:
أ-أثر الإيمان باليوم الآخر في العمل و الإنتاج
ب - أثر الإيمان باليوم الآخر في الإنفاق
ج-أثر الإيمان باليوم الآخر في الاستهلاك
3الأثر الإيجابي للإيمان باليوم الآخر في السلوك الاقتصادي للصحابة (رضوان الله عليهم)
(1/4)
خاتمة
أولا: الإيمان باليوم الآخر مفهومه و أسسه وخصائصه
1 توحيد الألوهية مفهومه، مقوماته و أهميته
التوحيد لغة مأخوذ من مادة وحد و منه الواحد، و هو أول العدد (1)،و وحيد و متوحد أي منفرد، و اصطلاحا علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه، و عن الرسل لإثبات رسالتهم، وسمي هذا العلم به تسمية له بأهم أجزائه، فكل أجزاء العقيدة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتوحيد. وقد يسمى علم الكلام، إما لأن أشهر مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء القرون الأولى، هي ان كلام الله المتلو حادث أو قديم، وإما لأن مبناه الدليل العقلي (2)، أما مصطلح العقيدة فقد جاء في مرحلة متطورة من الفكر الإسلامي، يشتق لفظ عقيدة لغويا من كلمة عقد أي ربط و إحكام الوثاق، نقيض الحل، ويقال عقدت الحبل فهو معقود، و اعتقد الشيء، صلب و اشتد (3) فهي تفيد الجزم و التيقن و التصديق، و العقيدة ما يدين الإنسان به، (4) فالمعتقد متيقن من صدق تصوراته وانطباقها على الواقع انطباقا لا يدع مجالا للشك، وبهذا تتمايز العقائد عن المعارف النظرية، ولم يستخدم هذا اللفظ، أما القرآن الكريم فيوظف في معرض حديثه عن تيقن الإنسان بصدق تعاليم السماء كلمتي آمن و إيمان. و العقيدة اصطلاحا:"مجموعة من قضايا الحق البديهية المسلمة بالعقل و السمع و الفطرة، يعقد عليها
__________
(1) الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مطبعة السعادة/ دت، 1/ 343
ابن منظور، لسان العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط:1، س: 1413/ 1993،2/ 721
(2) محمد عبده، رسالة التوحيد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ب ط، س: 1988،ص:7
(3) ابن منظور، لسان العرب، المرجع نفسه، 2/ 202
(4) رجب عبد الجواد ابراهيم، معجم المصطلحات الإسلامية في المصباح المنير، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط:1، س: 1423/ 2002
(1/5)
الإنسان قلبه و يثني عليها صدره جزما بصحتها، قاطعا بوجودها وثبوثها، لا يرى خلافها انه يصح ان يكون أبدا." (1)
أركان الإيمان في الإسلام:
تتحدد مقومات الإيمان كما تعرضها نصوص الكتاب إلى خمس: الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر (2)، وتضيف نصوص الحديث مقوما سادسا و هو الإيمان بالقضاء و القدر خيره و شره، من حديث جبريل عليه السلام (3).وقد صنفها بعض دارسي علم العقيدة إلى أربعة أقسام: (4)
القسم الأول الإلهيات: الإيمان بوجود الله عز و جلّ، أساس مسائل العقيدة كلها، ومنه تتفرع بقية الأمور الاعتقادية، وهي إثبات الوحدة لله تعالى في الذات و الفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون، ومنتهى كل قصد (5)
القسم الثاني: النبوات: النبوءة مأخوذة من النبأ بمعنى الخبر، ومعناها وصول خبر من الله بطريق الوحي إلى من اختاره من عباده لتلقي الوحي.
القسم الثالث: الكونيات: كل ما عُلم بطريقة القطع و اليقين من شأن الموجودات، مما امر الله تعالى بمعرفته و الاعتقاد بوجوده، وتشمل الموجودات: الإنسان و الجان و الملائكة
القسم الرابع: الغيبيات: كل مالا سبيل إلى الإيمان به إلا عن طريق الخبر اليقيني، كالإخبار اليقينية عن اشراط الساعة و قيام الساعة و الحشر و الحساب و الميزان و الصراط و الجنة و النار.
__________
(1) ابوبكر جابر الجزائري: عقيدة المؤمن، مكتبة العلوم و الحكم، المدينة المنورة، ط:1،س:1420/ 1999،ص:14
(2) .............. " (البقرة285) أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله وملائكته و رسله
(3) رواه مسلم
(4) محمد سعيد رمضان البوطي، كبرى اليقينيات الكونية، دار الفكر، دمشق، بيروت، ط:8، س:1422/ 2001،ص:77
(5) محمد عبدةن رسالة التوحيد، مرجع سابق، ص:7
(1/6)
ومما تتميز به عقيدة التوحيد أنها ليست مجموعة تصورات ذات طبيعة نظرية منفكة عن الحياة العملية للفرد و المجتمع بل هي منظومة من التصورات الهادفة إلى التأثير في الفعل الإنساني من خلال القيم و المبادئ التي تنبثق منها.
و الإيمان باليوم الآخر وهو جزء من قسم الغيبيات، يحتل مكانة هامة بين المقومات الأخرى، فهو شطر الإيمان، وذو أثر حاسم في منهج الحياة شعورا و سلوكا، و الميزان في يد المصدّق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب و المستريب الشاك فيه، فالمصدّق بيوم الدين يعمل و هو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، لحساب الآخرة لا لحساب الدنيا و يتقبل الأحداث خيرها و شرها و في حسابه أنها مقدمات ونتائجها هناك في الدار الآخرة (1)
إن الإيمان باليوم الآخر ليس معرفة نظرية بحتة كالتيقن بحركة المجرات و دوران الشمس، بل هي معرفة تتعلق مباشرة بمسؤولية الإنسان عن أفعاله المكتسبة في زمن وجوده الدنيوي، وتحمله لتبعاته يوم معاده، وهذا الارتباط لا يقتصر على الإيمان باليوم الآخر بل هو ما يميز عقيدة التوحيد بكل مكوناتها، فهي ليست مجرد تصورات ذات طبيعة نظرية منفكة عن الحياة العملية للفرد و المجتمع، بل هي منظومة من التصورات الهادفة إلى التأثير على الفعل الإنساني. (2)
و لقد أدركت قريش منذ الوهلة الأولى البعد العملي للعقيدة الجديدة، و استشعرت خطرها على مصالحها الاقتصادية و مؤسساتها، فقاومتها كل المقاومة، واستخدمت مختلف الوسائل للقضاء على الكيان الإسلامي الناشئ، وذلك حتى قبل معرفة البعد التشريعي و القانوني للدين الجديد، فقد أدركت أن مبدأ التوحيد يؤكد وحدة الخالق ووحدة الخلق و الذي يدعو إلى العدل و القسط في المعاملات و يحارب البغي و الظلم في المعاملات، ويسوي بين قريش و غيرها من القبائل و الشعوب.
2مكانة الإيمان باليوم الآخر في توحيد الألوهية
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، مج::6، ص:3700
(2) لؤي صافي، العقيدة و السياسة، معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، ص:55
(1/7)
الإيمان باليوم الآخر له دور كبير في استقامة العبد، فالذي يعلم أن هناك حسابا على ما يفعله من أخطاء، وأن هناك جحيما أبديا يودع فيه المجرمون المكذبون بيوم الدين، فإن ذلك من شأنه أن يدفعه لاجتناب الوقوع في المعاصي، فإن زلت قدمه يوما سارع بالاعتذار و الندم و طلب العفو و الصفح. فهو ركن ركين من أركان صرح الإيمان، لذلك كان و لا يزال الكفار و المشركون ومن سار على نهجهم يتشككون في قضية البعث و الحساب. (1)
و لأهمية الموضوع و ضرورة الإيمان الراسخ به، فلقد أفرد له القرآن مساحة كبيرة و تناوله من عدة جوانب، تناوله من جانب إثباته بالأدلة العقلية الدامغة، على قدرة الواحد القهار على إحياء الموتى و إعادة خلقهم من جديد للحساب و الجزاء، ومن جانب وصف أحداثه بشيء من التفصيل مع التركيز على مخاطبة المشاعر ترغيبا و ترهيبا تشويقا و تحذيرا، بشتى الصور و المشاهد، لحمل النفس على الطاعة واجتناب المعاصي، ومن جانب آخر يمثل الإيمان باليوم الآخر تحقيق العدل الإلهي الذي لا يكون إلا في تلك الدار {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 46] فالدنيا دار ابتلاء و اختبار، فقد يظلم العباد بعضهم بعضا، ومنهم من يقترف الذنوب و يجترح السيئات و لا يقتص منه، وهذا يتنافى مع العدل الإلهي الذي قامت عليه السماوات و الأرض، إلا أن هناك منزلة أخرى و محطة نهائية حيث تلتقي الخلائق أمام محكمة الله العادلة في ذلك اليوم المشهود لينال كل فرد جزاء عمله و كسبه.
3خاصية الوحدة الزمانية بين الدنيا و الآخرة
من خصائص الإيمان باليوم الآخر أنه يعطي للحياة الإنسانية بعدا زمنيا لا متناهيا و لا محدودا، لكونه يربط ارتباطا وثيقا بين الحياتين، الدنيا و الآخرة، من حيث التصور و العمل، رغم انفصالهما بالفناء الأول و الحياة البرزخية التي هي مرحلة انتقالية، فإذا سلّم الإنسان بهذه العلاقة
__________
(1) بناء الإيمان من خلال القرآن، مجدي الهلالي، ص:66
(1/8)
و اقتنع أن ما يضحي به في الدنيا يجده يوم القيامة موفيا موفورا، اجتهد في العمل لرفع رصيده من الأعمال الصالحة، فهو يقارن بين الحياتين و يقدم الباقية على الفانية، و تتولد له الرغبة و الدافع للمزيد. بينما الذي لا يوقن باليوم الآخر ولا يؤمن بالغيب يخلد إلى الحياة الدنيا لكونها الفرصة الوحيدة للتمتع بمباهجها، وهو لاهث وراء إشباع غرائزه لأنه موقن أن الدنيا لا توفر له كل احتياجاته، و يشعر بالغبن إذا هضمت حقوقه فيصاب بالإحباط لكونه لم يجد من ينصفه فيعيش عيشا ضنكا.
فالحياة في رحاب هذا الدين ترفع العمر و تبارك فيه و تزكيه و تسمو به، فالحياة في التصور الإسلامي ليست تلك الفترة القصيرة التي تمثل عمر الإنسان، فحقيقة الحياة تمتد طولا في الزمان و تشمل الدنيا و الآخرة، وتمتد عمقا في العوالم فتجعل الآخرة ماثلة أمام المؤمن لا تغيب عنه، فإن ضاع له حقا من حقوق الدنيا تيقن أن العدالة الإلهية سوف تنصفه في الآخرة فيعيش سالما وقلبه مطمئنا بالإيمان.
ثانيا: الإيمان باليوم الآخر و السلوك الاقتصادي
1عمارة الأرض وعلاقتها باليوم الآخر
إن عمارة الارض هو المفهوم القرآني لإصلاح الأرض وإحيائها و استخراج كنوزها ومعادنها وتسخيرها لخدمة الإنسان و توفير أسباب الحياة و التشييد (هو انشاكم من الأرض واستعمركم فيها) [هود: 61]. و إن الطبيعة البشرية تقتضي من الإنسان أن يكدح و يسعى من أجل كسب قوته و توفير احتياجاته الروحية و الفكرية و المادية، فعمارة الأرض جزء هام من رسالته في الحياة و التي يترتب عليها مصيره في الحياة الأخرة، ولقد وضع الله تعالى في كتابه العزيز نموذجا حيا لدورة حياة الإنسان شاملة كاملة متمثلة في قصة أبينا آدم عليه السلام، لتبقى صورة منطبعة في قلب كل إنسان عن مسيرة حياته من بدايتها إلى مستقرها، مذكرا بالعقبات التي اعترضت حياة آدم عليه السلام وهي إتباع الهوى و غواية الشيطان، وقد وضع الله تعالى له الوسائل لاجتياز
(1/9)
تلك العقبات، وزوده بالنصائح و التعليمات حتى يفوز في اختبار الدنيا بنجاح لينال السعادة الأخروية، و يذكر القرآن الكريم في كل محطة يورد القصة برسالة الإنسان في الدنيا فيحذره من غواية الشيطان و يذكره بالخطأ الذي وقع فيه أبوه آدم و كيف عفا الله تعالى عنه بتوبته و استغفاره، يقول تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وإنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون} [البقرة:38] {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين، قال فيها تحيون و فيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف:25] فالآيتان تؤكدان على حقائق هامة و تصورات شاملة لحياة الإنسانية:
-عداوة الشيطان للإنسان عداوة أبدية.
-الإيمان و العمل الصالح و التوبة أساس الفوز و النجاح
-الحياة الدنيا دار مستقر ومتاع إلى حين.
-الدار الآخرة هي حياة الاستقرار و الجزاء الحقيقي.
وعليه فالطابع الأساسي للتصور الإسلامي هو الرباط الوثيق بين حياة الدنيا و حياة الآخرة، فكل عمل فيه خير الدنيا و عمارتها فهو عمل صالح يستحق الجزاء الأوفى عند الله تعالى.
ومن الخطأ الشائع أن نميز بين أعمال الدنيا مثل تناول الطعام وأعمال الآخرة مثل الصلاة و تلاوة القرآن، فهو تقسيم صوري في إطار النظرة الشمولية، فمجرى الحياة واحد و زمانها واحد، و الصلاح و الطلاح يعودان إلى حركة القلب ووجهته، فمن طعم ليتقوّى على طاعة الله فهو صالح و من صلى ليكسب بين الناس مكانة فهو طالح، ولا قيمة للظواهر و العناوين، وإنما القيمة لاتجاه الحياة و المحور الذي تدور عليه.
(1/10)
إن التفريق بين شؤون الدنيا و الآخرة مع اطراح حركة القلب كان وراء التخلف الشائن الذي أزرى بأمتنا و أعجزها عن نشر رسالتها. (1)
2آثار الإيمان باليوم الآخر على عمارة الأرض
إن المسلم وهو يسعى في عمارة الدنيا الفانية قد تشعر بالحرمان من الثمار الآنية التي يجنيها من وراء سعيه وكده، غير أن إيمانه الراسخ باليوم الآخر يطمئن إلى الجزاء الأبقى و الأوفى الذي ينتظره، فينطلق في سعيه وعمله مشرئبا إلى يوم الفوز الأكبر و الرضوان الأعظم مستصغرا كل العقبات، مستهدفا الحسنيين، فإن لم تكن الأولى فالأخرى (والآخرة خير و أبقى) [الأعلى:17]. وهذه نماذج للسلوك الاقتصادي للمسلم:
أ-أثر الإيمان باليوم الآخر في العمل و الإنتاج
العمل و الإنتاج يشكلان محورا أساسيا في الدورة الاقتصادية، فالعمل الإنساني شرط أساسي لتحويل الموارد المركوزة في الطبيعة إلى سلع و خدمات ينتفع بها الإنسان، و الإنتاج هو إيجاد المنفعة و زيادتها، أو انه جهد يجعل المورد صالحا أو أكثر صلاحية للوفاء بحاجات الإنسان (2)،
يرتبط مفهوم العمارة في الإسلام بكونها جزء من رسالة الإنسان في الحياة، ولو أجرينا مقارنة بينها و الإنتاج في المفهوم الوضعي الذي يهتم بالجانب المادي و من الحياة تمتعا و تفاخرا، وإلى رفع الطاقة الإنتاجية أو زيادة الدخل القومي، بينما العمارة في المفهوم الإسلامي تتميز بخصائص تعطيها معنى بالشمولية و تربطها بالعقيدة الإسلامية التي ترى الحياة الدنيا هي مطية الآخرة، وأنها دار عمل وكدح و إنتاج، ومن ثمّ فإن من خصائص العمارة أنها عبادة و فريضة في آن واحد.
__________
(1) محمد الغزالي، المحاور الخمسة للقرآن الكريم، ص:149
(2) محمد حمدي، مدخل على الاقتصاد الإسلامي، ص: 45
(1/11)
انطلاقا من الأسلوب الإسلامي في الترغيب و الترهيب و التشويق و التحذير، يستخدم القرآن نفس الطريقة في التحفيز على الإنتاج و العمارة، و التحذير من التكاسل و البطالة و سوء استخدام الموارد بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
أولا: التحفيز و التشويق
يقول الرسول (ص) " من غرس غرسا فأكل منه طير أو بهيمة كان له فيه صدقة " (1) ... فهذا الأثر النبوي يضفي العبادة على الغراسة التي هي نوع من أنواع العمارة و الإحياء، وقد روى بعض العلماء أنه من غرس غرسا يكون له أجرها ولو بعد موته مادامت تلك الغراس قائمة، وذكروا أنه من غرس أربعين غرسة حتى أخذت من الأرض فهي فكاكه من النار (2) , بهذا غدت الغراسة و الزراعة صنف من أصناف العبادة التي ترفع الدرجات و تمحو الخطايا و تكون سترا بين الإنسان و النار، وهناك أثر آخر يحمل نفس الدلالة: سبع يجري للعبد أجرهن و هو في قبره بعد موته: من كرى نهرا – يعني أجرى نهرا- أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو علّم علما أو ورّث مصحفا أو ترك ولدا صالحا بعد موته" (3).
فالعمارة المتمثلة في استصلاح الأراضي و إحيائها، إلى جانب أهميتها المادية في دفع عجلة التنمية و توفير حاجات المجتمع، تمثل حافرا مهما لنيل ثواب الآخرة، فإذا اعتقد المسلم أن جهده لن يضيع حتى و لو لم ينل ثمرة جهده في الدنيا لسبب من الأسباب، فهو على يقين تام أن أجره الأخروي مدخر و لم يضيع.
هكذا تفعل عقيدة الإيمان بتحفيز العمارة و رفعها إلى مقام العبادة التي ينال بها حسنة الدنيا و الآخرة، فإذا كانت ثمرة الدنيا احتمالية فإن ثمرة الآخرة مضمونة بلا ريب، فهذا يجعل المستثمر و
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحرث، ج:5،ص:3، رقم:2320
(2) أبو العباس أحمد بن محمد، القسمة و أصول الأرضين، ص:459
(3) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، أنظر: مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي، ط:1 دار إحياء الكتب العربية، ج:2، ص:50
(1/12)
الزارع يقدم على العمارة و لو كان هامش الربح الدنيوي ضئيل، فتتضاعف بذلك فرص التنمية و العمارة.
العمارة فرض وواجب: إلى جانب كون الإنتاج و التنمية عبادة ينال بها أجر الدنيا و الآخرة، فهي واجب على كاهل الدولة و الأفراد، يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني: (1) " إن الله فرض على العباد الاكتساب لطلب المعاش ليستعينوا به على طاعة الله، و الله يقول: {و ابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [الجمعة:10] فجعل الاكتساب سببا للعبادة، ويقول (ص) " طلب الحلال الفريضة بعد الفريضة"، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد"
وهذه النصوص تدل على ارتفاع درجة الإنتاج إلى الفريضة التي يسأل الإنسان عنها كما يسأل عن الفرائض الدينية، فهو من الفرائض الكفائية التي يتعين وجودها على مستوى الجماعة دون تعيين فرد للقيام به، وقد عدّد الإمام ابن عابدين فروض الكفاية بأنها كل علم لا يستغنى عنه في قيام أمور الدنيا كالطب و الحساب و أصول الصناعات كالفلاحة و الحياكة و السياسة (2).
ثانيا: التحذير و الترهيب:
و في مقابل هذا الأمر هناك نهي عن البطالة و ترك العمل مع القدرة عليه، و استمراء التسول و سؤال الناس، مما سيجعل من صاحبه يوم القيامة عبرة لغيره، فيعرف الناس ذنبه بمجرد النظر إليه، نكتة سوداء، وسمة عيب له بين الخلائق يوم القيامة، فقد جاء إلى النبيء (ص) رجل من الأنصار يسأله، فأرشده إلى العمل و تعلم حرفة خيرا له من السؤال، فالتزم الرجل بإرشاد (ص) وعاد إليه بعد مدة و قد احترف حرفة و كسب مالا، فقال (ص) " هذا خير لك من أن تجيء
__________
(1) الشيباني محمد بن الحسن، الاكتساب فبي الرزق المستطاب، ص:15
(2) ابن عابدين الحاشية، ج:2، ص:42
(1/13)
المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: ذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع" (1)
الظلم في مجالات النشاط الاقتصادي له أوجه كثيرة، بدءا من المحاباة في التعيينات و الترقيات و عدم إعطاء العامل أجره المناسب لكفاءته، أو محاولة أكل أجره و عدم دفعه عند استحقاقه، أو استعمال الرشوة في حرمان حقوق الناس و أكل أموالهم بالباطل، وأية محاولة للاستيلاء على المال العام، أو أي تدليس أو غش أو غبن في المبادلات باستعمال الطرق الملتوية باستخدام الكذب وعدم الصدق و النصح بين المعاملين، ويترتب على هذه المخالفات الشرعية عقوبات شديدة في الدنيا و الآخرة، وتأتي أهميتها أن الظالم قد ينفلت من عقوبة الدنيا، لضعف المنظومة القانونية أو الرقابية، غير أنه لا يمكن له أن ينفلت من حساب يوم القيامة، حيث المحاسب هو العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، ونكفي بهذا الصدد بهذين النصين من الكتاب الكريم و من السنة المطهرة، يقول تعالى في شأن الغلول (أخذ المال العام): {وما كان لنبيء أن يغل ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران:161]. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيء (ص) أنه قال:" قال الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطلا بي ثمّ غدر و رجل باع حرا فأكل ثمنه، و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره". (2) فهذا الوعيد الشديد المتضمن في النصين تجعل المؤمن الموقن باليوم الآخر لا يفكر أصلا في الاقتراب من أموال الغير، فإن سولت له نفسه زجرها بهذا الوعيد الشديد
ب - أثر الإيمان باليوم الآخر في الإنفاق
إن الإنفاق بمختلف صوره وأنواعه، الاستهلاكي و الاستثماري، العام و الخاص، له دور فعال و بارز في الحياة الاقتصادية، حيث أن كثيرا من المتغيرات الاقتصادية تعتمد في حساباتها و تحديدها على مدى فعالية الإنفاق، (3) وهو يمثل جانب الطلب في أبجديات الاقتصاد الوضعي إلى جانب
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، ما تجوز المسالة
(2) رواه البخاري كتاب البيوع، إثم من باع حرا
(3) باسم أحمد عامر، نظرية الإنفاق في ضوء القرآن الكريم
(1/14)
العرض، فالطلب هو الموجه الرئيس لدفة الاقتصاد، حيث أن الإنتاج و نمطه يرجع أساسا إلى الطلب السوقي على السلع المنتجة و تحديد أسعارها، فالموارد تخصص وفقا لاتجاهات الطلب.
ونظرا لقيمة الطلب (الإنفاق) فقد اعتنى به القرآن الكريم و خص له آيات كثيرة في الحث عليه و بيان أنواعه وشروطه وجعل الإنفاق في سبيل الله صفة من صفات المتقين و بيّن الجزاء الذي أعده الله تعالى للمنفقين، و بالمقابل توعد البخل و التقتير و الاكتناز وكلها صفات تتنافى مع الإنفاق. وللتحفيز على الإنفاق فقد ربطه ربطا وثيقا بالإيمان باليوم الآخر المتمثل في الثواب الأخروي الذي أعده الله للمنفقين، بالإضافة إلى الخير العاجل في الدنيا.
ولما كانت حقيقة الإنفاق هو تخلي الإنسان عن جزء من ماله إلى جهة ما، فهذا الأمر يحتاج إلى باعث و دافع قوي لكي يسهل عليه إخراج المال، خاصة إذا علمنا أن الإنسان بفطرته يضن بالمال و يستأثر به و يصعب عنه التضحية به، وقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة الإنسانية {و إنه لحب الخير لشديد} [العديات:8]. كما أن الطبيعة البشرية تنتظر المقابل و تود المكافأة حين تقدم على الإنفاق على الغير للتغلب على الإمساك المركوزة في نفسه. لكن الشرع الحنيف عالج هذا الجانب النفسي من غريزة حب التملك بمشروعية الإنفاق، فجعل هذا التشريع مقرونا بالجزاء المترتب بالخلف و المضاعفة و الوفاء، وتؤكد على حصول المقابل في الآخرة ما هو أعظم من هذه الأموال في الحياة الدنيا (1)
انطلاقا من نظرة التوازن في الجزاء الأخروي في القرآن الكريم بين الوعد و الوعيد، فقد ذكّر بالوعيد الشديد للممتنعين عن الإنفاق و مكتنزي الأموال و الممسكين عن أداء حقوق المال {و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34]
وهذه النظرة القرآنية تجعل المؤمن باليوم الآخر حذرا يقظا و مدركا للمسؤولية الكاملة على تصرفاته وهو موقن انه سيقف يوما ما بين يدي الله للحساب و الجزاء.
__________
(1) باسم أحمد عامر، نظرية الإنفاق في ضوء القرآن الكريم، ص:194
(1/15)
فذكر الجزاء الأخروي يغرس في قلب المسلم باعثا روحيا و أخرويا على الإنفاق غير الباعث المادي الدنيوي، مما يسهل على النفس عملية الإنفاق، بل تصل إلى قمة السعادة الروحية حين يتمكن هذا الشعور في القلب و يصل إلى درجة اليقين بالله و بصدق وعده و بجزيل ثوابه.
وهذه الميزة ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي حين مزج بين الجانب المادي و الروحي و ربط بين الحياتين، في توافق و توازن بينهما، ولا نجد لها نظير في الاقتصاديات الوضعية، حيث الانغماس في الجانب المادي الصرف، وإما الاقتصار على الجانب الروحي، فالمسلم عندما ينفق أمواله لعمارة الأرض و استثمارها و الانتفاع من خيراتها، فإنه في الوقت نفسه يجعل نصب عينه ميزان الحسنات و السيئات و مسألة الجزاء الأخروي، أما غير المسلم و من لا يعتقد باليوم الآخر وفق التصور الإسلامي فإنه بلا شك سينعكس ذلك الاعتقاد على سلوكه الاقتصادي في الإنفاق، فلا يبتغي من وراء ذلك سوى إشباع غرائزه و حصوله على أقصى منفعة ذاتية دنيوية.
ج-أثر الإيمان باليوم الآخر في الاستهلاك
يعدُ سلوك المستهلك من المحاور الرئيسية في التحليل الاقتصادي لكونه المحطة الأخيرة و الهدف النهائي للنشاط الاقتصادي، أما الاقتصاد الإسلامي فهو يتجاوز التحليل السلبي المجرد للظاهرة و الوقوف عند حدود رصدها و محاولة اكتشاف مؤثراتها إلى البحث في مؤثراتها السلوكية سواء بالسلب أو الإيجاب، وإحداث التأثير النفسي و الروحي بما يحقق أهداف الاستهلاك كوسيلة لأداة رسالة الإنسان (1)
ينطلق الاقتصاد الإسلامي في دراسة الاستهلاك من تحديد مفهوم الحاجة الذي لا يقتصر على إشباع الجانب المادي كما يرى الاقتصاد الوضعي، فالإنسان مركب من مجموعة عناصر روحية فكرية و جسمية ممزوجة و متداخلة، لا يوجد عنصر مستقل عن الآخر، لو فقد منها عنصر لما بقي إنسانا، وطالما أن فطرة الإنسان هي هكذا، فإن حاجة الإنسان هي أيضا ذات طبيعة مركبة
__________
(1) سمير محمد نوفل، دور العقيدة في الاقتصاد الإسلامي، ص:323
(1/16)
حتى و لو اتخذت مظهرا معينا، فحاجة الإنسان للطعام مثلا ليست لعنصر معين من عناصر الإنسان، وإنما هي حاجة كل الإنسان، لأن الجسم لا يشبع وحده بمعزل من بقية العناصر، كما أن الطعام يؤثر في الروح و الفكر كما يؤثر في الجسم، ومن ثمّ اشترط الإسلام في الطعام أن يكون طيبا ذاتا و معنى و أن يحقق التوازن بين عناصر الإنتاج ما أمكن. ومن جهة أخرى فالحاجة ليست مجرد تحقيق لذة أو دفع ألم، كم يذهب الفكر الوضعي، وإنما هي وظيفة موضوعية هي المحافظة على القوى و العناصر الإنسانية المختلفة و العمل على تنميتها و ترقيتها، فحاجة الإنسان للأكل ليست لدفع ألم الجوع أو تحقيق لذة الشبع فحسب و إنما للمحافظة على الجسم و بناء خلاياه (1).
و الإسلام حين ينظر إلى الاستهلاك بهذا المفهوم الواسع و يضعه في إطار رسالة الإنسان، وأنه فطري و من ثمة فهو ضروري، وكل ما كان كذلك فلا يمنع الإسلام منه بل يقف منه موقف الحث و الترغيب غير مكتف بدافع الفطرة و الغريزة، فبقاء الإنسان و استمرارية نوعه ليعمر الأرض ويكون خليفة فيها بحق و يعبد الله لا يتأتي إلا بالاستهلاك.
ولو استعرضنا الآيات البيّنات في موضوع الاستهلاك نجدها تحث على الاستمتاع بالطيبات ضمن ضوابط محددة و غاية سامية مع شكر المنعم و حسن عبادته، والتذكير بالمصير الذي نهاية كل مخلوق، إذ يقول تعالى في هذا الصدد: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه و إليه النشور} [الملك:15] وفي صيغة الإنكار على من يحرم على نفسه التمتع بالطيبات يقول تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده و الطبيات من الرزق} [الأعراف:31]، وعلى سبيل الحث و الأخذ بمظاهر الحياة و الشعور بنعمة الله في حدود الاعتدال يقول تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31]
__________
(1) محمد حمدي مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، مرجع سابق، ص:65
(1/17)
فالقرآن الكريم يحدد ثلاث مناطق ومراتب الاستهلاك و الإنفاق وهي: الإسراف و القوامة و التقتير و ينهي المسلم عن دخول منطقتين وهما الإسراف و التقتير و يبيح له البقاء في المنطقة الوسطى و هي القوامة، فيقول تعالى: {و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان:67]
وعلى النقيض من ذلك جاء التحذير من الإسراف و التبذير الذي يُعدّ تبديدا للموارد الاقتصادية في غير موضعها و حرمان المستحقين لنصيبهم العادل منها وربط النص القرآني مصير المبذرين بمصير الشيطان، (1) وهذا نذير عقاب و عذاب واقع لا محالة، إذ يقول تعالى: {و آت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل و لا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشيطان و كان الشيطان لربه كفورا} [الإسراء:27]
وقد عدّد الرسول (ص) مظاهر الإسراف محذرا منها و متوعدا المسرف بأشد العذاب يوم القيامة، منها استعمال آنية الذهب و الفضة التي توحي بالخروج من منطقة القوامة و الاعتدال إلى الإسراف و التبذير والبطر و الكبر و ينمّ عن التعالي عن الناس و عن الأعراف المعهودة في أدوات الأكل و الشراب و وضع الأشياء في غير محلها و يقول عليه السلام:" إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" (2)
نتأمل هذا الحديث الذي ربط بين الإسراف في استخدام النعم في غير محلها في الدنيا و العذاب الأليم الذي أعده الله للمسرفين المبذرين يوم القيامة، فالمؤمن الحق لا يفكر أصلا في هذا السلوك الخلقي الشائن لكونه يعيش في منطقة القوامة مهما كان كسبه و ماله، إلا أن هذا الوعيد يعصم من النفس الأمارة بالسوء، ويجعل حرمانها من الشرب في آنية الفضة في الدنيا سببا للفوز بالجنة و التمتع بنعيمها الذي يتضمن الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة، فيقول تعالى: {و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا و دانية عليه
__________
(1) محمد سمير نوفل، دور العقيدة في الاقتصاد الإسلامي، ص:326
(2) رواه غبن ماجه في سننه،، كتاب الأشربة، باب الشرب في آنية الفضة
(1/18)
ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا} [الإنسان:16]
إنه تقابل عجيب بين المعتدلين و المسرفين في الاستهلاك في الدنيا، كيف ينقلب الوضع تماما في الدار الآخرة حيث يجرجر المسرفون في بطونهم نار جهنم، بينما يتنعم المعتدلون الصابرون بما حرموا به أنفسهم بالتمتع بلباس الحرير و الشرب و الأكل في آنية الذهب و الفضة.
فإذا اعتقد المؤمن و تيقن أنه ما من نعمة حرم منها نفسه من متع الحياة الدنيا سيمتعه الله تعالى يوم القيامة بمثلها و بخير منها طهارة و حلاوة، إلا كان له حافز على الصبر و ابتغاء ما عند الله الذي هو خير و أبقى.
ٍ2الأثر الإيجابي للإيمان باليوم الآخر في السلوك الاقتصادي للصحابة (رضوان الله عليهم)
من أجل رصد أثر الإيمان باليوم الآخر في السلوك الإنساني، نعرض نماذج حية وقعت في التاريخ الإسلامي، حينما أدرك هذا الإنسان حقيقة الإيمان باليوم الآخر.
لقد أدرك الصحابة الكرام الذين تربوا في مدرسة النبوءة و عاشوا و تفاعلوا مع نزول القرآن الكريم على قلب الرسول المربي محمد (ص)، وتشربوا عقيدة الإيمان باليوم الأخر إلى حد اليقين المطلق، فانعكس على سلوكهم و هم يتعاملون بمال الدنيا وهم على إيمان راسخ أن ما أنفقوه سيخلفه عليهم بأضعاف مضاعفة في تلك الدار الأبدية الدائمة، وهذا السلوك لا نجد له تفسيرا منطقيا إلا في ظل عقيدة الإيمان بالله و باليوم الآخر، وإلا فهو تصرف غير رشيد بموازين الحياة المادية، إذ كيف يعقل أن ينسلخ الإنسان عن ماله و عن أعز ما يملك إيثارا لغيره بدون مقابل مادي، سوى ابتغاء رضوان الله و الرجاء بالمضاعفة و الخلف في اليوم الآخر.
وقد اتخذ الصحابة الكرام أسلوبين من أساليب الصدقة التي أرشدهم إليها النبيء (ص) وهما:
أ/ أسلوب الصدقة المباشرة
(1/19)
ب /أسلوب الوقف
أ/ الأسلوب الأول و يتمثل في الصدقة المباشرة وعادة ما تكون عينية و يحول ملكيتها إلى المصدق عليه، وهذه نماذج سريعة منها:
(ا) لما نزل قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض و يبسط وإليه ترجعون} [البقرة:245]، قال أبو الدحداح يا رسول الله، إن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده فقال: قد أقرضت ربي حائطي (بستان) به ستمائة نخلة. و أم الدحداح و أبنائها فيه، فناداها: أخرجي فقد أقرضته ربي- عز و جل- قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح (1)
(ب) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال الخليفة لهم: إن شاء الله لا تمسون غدا حتى يأتيكم فرج الله، فلما كان صباح الغد قدمت قافلة لعثمان، فغدا عليه التجار فخرج إليهم و عليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه فسألوه أن يبيعهم قافلته، فسألهم كيف تربحونني؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادني، قالوا: فالعشرة خمسة عشر، قال قد زادني، قالوا و من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: إنه الله، زادني بكل درهم عشرا، فهل لديكم أنتم مزيد؟ فانصرف التجار عنه، وهو ينادي اللهم إني وهبها لفقراء المدينة بلا ثمن، و بلا حساب (2)
(ج) استمع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} [آل عمران:92] فسارع إلى الإنفاق بمختلف أنواع الإنفاق رغبة فيما عند الله و زهدا في تلك الدنيا، فقد ذكر طلحة بن عبد الله بن عوف أن أهل المدينة كانوا عيالا لعبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم و ثلث يقضي دينهم و يصل ثلثا (3)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3:346)
(2) أصحاب الرسول (ص)، محمود المصري، ص:170
(3) المرجع نفسه نقلا عن السير للإمام النهبي (1/ 88)، ص:242
(1/20)
بـ/ الأسلوب الثاني: الوقف الذي يعني تحبيس الأصل و تسبيل الثمرة، وقد أرشد الرسول الكريم محمد (ص) وهو القدوة الحسنة أصحابه إلى أسلوب ناجح في ربط العمل الدنيوي بالأجر في الآخرة لما علموا أن الإنسان إذا مات انقطع عمله و توقف تدفق الحسنات عليه، فدلهم إلى تحبيس الأموال لتبقى صدقة جارية إلى يوم الدين فيقول الرسول (ص) "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" (1) و الصدقة محمولة عند العلماء على الوقف، فقد اشترى الرسول أرضا بِحُر ماله و بنى فيها مسجده بالمدينة (2) فتسارع الصحابة رضوان الله عليهم وتسابقوا على وقف أموالهم على جهات البر المختلفة.
ومن أشهر من أوقف من الصحابة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيما يرويه الشيخان: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبيء (ص) يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها و تصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، فقال: أنه لا يباع و لا يوهب و لا يورث" (3)
فلولا هذا اليقين الصادق باليوم الآخر لما أقدم عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و أبو الدحداح و غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، على هذا الإنفاق السخي وإيثار أجر الآخرة على متاع الحياة الدنيا.
خاتمة: استعرض الباحث في هذه الورقة أهمية الإيمان باليوم الآخر في السلوك الإنساني عامة والسلوك الاقتصادي، أكد على قضية جوهرية محورية أن ذلك لا يتأتى إلا ضمن رؤية شاملة للحياة الإنسانية و معرفة الهدف الأسمى للحياة الدنيا وعلاقتها باليوم الآخر، تناول الباحث ضمن المحور الأول حقيقة العقيدة و مكانة الإيمان باليوم الآخر، رصد في المحور الثاني، علاقة الاقتصاد
__________
(1) أخرجه مسلم 25، الوصية (1631،) و البخاري: الأدب المفرد (38)
(2) ذكر ذلك البخاري في باب: وقف الارض للمسجد (2774)
(3) المرجع نفسه (الشروط:2737)
(1/21)
باليوم الآخر، توسع في المحور الثالث لتتبع آثار هذا الإيمان بدءا بنماذج أثره على السلوك الاقتصادي للصحابة رضوان الله عليهم، وعلى بعض المظاهر الاقتصادية منها: الإنفاق و الإنتاج و الاستهلاك، الغرض منه إعطاء صورة واقعية ملموسة إلى جانب الأثر الشعوري الوجداني.
بعد استعراض مكانة وأثر الإيمان باليوم الآخر في السلوك الاقتصاد المسلم، فالسؤال الذي تطرح نفسه بإلحاح و يبحث عن إجابة شافية، لماذا لم يظهر هذا الأثر الذي رصدناه في واقع المسلمين في حياتهم اليوم، على الرغم أنهم يؤمنون بالله و باليوم الآخر؟
إن الإجابة عن ذلك، بكل بساطة، أن إيمانهم سطحيا مظهريا لا ينفذ إلى العمق وإلى اليقين بأن الحياة الدنيا هي دار ابتلاء و أداء رسالة الإنسان وأن الآخرة هي الحيوان، ماداموا لم يدركوا دورهم في الحياة و علاقتهم بالخالق و بالكون الذي يحيط بهم، فلن تظهر آثار هذا الإيمان في السلوك، فقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقائق من خلال تبصرة القرآن الكريم فوعتها قلوبهم، وترجمتها جوارحهم في أرض الميدان. فعلى المسلمون اليوم أن يتدبروا في القرآن الكريم وإدراك هدفهم وفق تعاليمه و تبصرته، وأن يتخذوا من حياة الصحابة الكرام ومن اهتدى هديهم أسوة حسنة في نظرتهم للحياة الدنيا.
و الحمد لله أولا و أخيرا و صل اللهم و بارك على سيدنا محمد في الأولين و الآخرين و الحمد لله رب العالمين.
مراجع البحث:
(1/22)
أبوبكر جابر الجزائري، عقيدة المؤمن، مكتبة العلوم و الحكم، الدينة المنورة، ط:1، س:1420/ 1999
ابن منظور، أبو الفضل جمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق