"" C http://www.shamela.ws
الكتاب : آثار الانحراف الفكري وعلاجه لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
آثار الانحراف الفكري وعلاجه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله حق حمده أحمده حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده لا حد لغايته ولا أمد لنهايته يفوق حمد الحامدين ويربو على شكر الشاكرين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم تسليما عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابيعيهم إلى يوم الدين
أما بعد،، (*)
فأهنئ نفسي وأهنئكم بمطلع هذا العام الدراسي الجديد وأسأل الله ( سبحانه وتعالى ) أن يجعله عام يمن وبركة ، وأن يوفق الجميع بالعب(أ) فيه من مناهل العلم والإقتباس من نوره ، إنه تبارك وتعالى ولي التوفيق ، هذا ودرسنا هذا يرتبط بالدروس السابقة التي كانت تدور حول محور واحد. هذا المحور هو محاولة الدلالة على أن المنهج الإسلامي هو المنهج المرتقب لهذه الإنسانية الضالة الحائرة بعدما فتشت عن منهج تسير عليه وقد اختلفت سبلها فتفرقت بها كما هو الشأن في كل سبيل يزيغ عن صراط الله المستقيم كما قال عز من قائل " إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعو السبل فتفرق بكم عن سبيلي " (1)
(1/1)
وقد أخذت الكلمات التي تتساقط من أفواه كثير من رجال السياسة والفكر من غير المسلمين تنم عن ضرورة هذا التوجه إلى هذا المنهج الرباني وأنه لم تبق أمام البشرية تجربة من أجل محاولة إنقاذها من هذه الإنتكاسة التي وقعت فيها إلا هذا المنهج فحسب فلا بد من أن تعود إليه بمشيئة الله ( سبحانه وتعالى ) وقد استجدت في الساحة الإسلامية والدولية في هذه الأيام مستجدات أما بالنسبة للساحة الدولية فهناك التدهور الإقتصادي الذي يدل على أن المناهج البشرية مناهج لم تبنى على أساس سليم إذ هي مناهج استنتجتها عقول البشر القاصره المحدودة التي تتحكم فيها الأهواء وتسيطر عليها النزاعات المتعددة فلذلك أخذت في الفشل يوما بعد اليوم وهذا مما يؤكد ما ذهبنا إليه من ضرورة الرجوع إلى المنهج الرباني الذي جاء به القرآن الكريم وجاءت به السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أما بالنسبة إلى الساحة الإسلامية فهناك الكثير الكثير من الأمور التي يندى لها الجبين ويتفطر لها القلب وتجوب النفس منها آسى من بين هذه الأمور هذه الإعتداءات المتكررة من قبل أعداء الإسلام على المسلمين ومن بينها ما يستجد كل يوم في الساحة الإسلامية من خلافات بين المسلمين أنفسهم وصراعات بعضها فكري وبعضها سياسي وبعضها عسكري وهذا مما يدعو هذه الأمة إلى مزيد من التبصر وهو أمر بطبيعة الحال يدل على المرض العضال الذي أصاب هذه الأمة التي هي أمة منتظرة بقيادة هذه الإنسانية فإذا لا بد من علاج هذا المرض بعد تشخيصه من أجل أن تكون هذه الأمة أمة صحيحة صالحة لقيادة الإنسانية ولا ريب أن هذه الأمراض الفتاكة ما هي إلا نتيجة حتيمة لكثير من الأسباب لذلك كان من المفروض على هذه الأمة أن تقطع أولا دابر هذه الأسباب وأن تستأصلها استأصالا لتتمكن من علاج أمراضها هذه الأسباب متنوعة ومتعددة لذلك كان لازما على من يريد لهذه الأمة الخير أن يتفقد هذه الأسباب سببا سببا وأن يحرص كل
(1/2)
الحرص على تشخيص ما نتج عنها من هذه الأمراض ثم بعد ذلك على وصف الدواء الناجح ، الذي يؤدي بهذه الأمة بمشيئة الله ( سبحانه وتعالى ) إلى البرء(ب) من عليها وفي مقدمة هذه الأسباب الإنحراف الفكري فإن عدم التصور الصحيح عندما تتراكم على النفس الظلمات وتحول بين بصيرتها وبين الحقيقة ذلك كله هو من أهم الأسباب التي تجعل العلل تتفشى فإن الغبش(ت) عندما يحول بين البصر وبين الوصول إلى الأشباح كما هي يؤدي بطبيعة الحال إلى الكثير الكثير من الخطأ فكيف إذا كان هذا الغبش يحول بين البصيرة وبين الإهتداء إلى الحقيقة ، ومن أجل ذلك نجد في كتاب الله سبحانه وتعالى التركيز أولا على جلاء صورة العقيدة الصحيحة وإبرازها للناس ظاهرة جلية وهذا أمر مضى عليه المرسلون وقد تلذذت به الكتب السماوية بأسرها من قبل فإنه ما من رسول من أولئك الرسل إلا وكانت دعوته الحقة أولا مبينة على العقيدة الصحيحة والتصور السليم ، وكل رسول جاءت دعوته من أجل إصلاح الإنسانية صادعة أولا بكلمة التوحيد " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا اله إلا أنا فاعبدون وكذلك بعثنا في كل أمة رسولا أن إعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " . والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا أول ما دعا إلى كلمة لا اله إلا الله هذه الكلمة التي تقيم الناس على طريق سواء وعلى منهج صحيح بحيث تسوي قبل كل شي بين القوي والضعيف والقاصي والداني فهي موئل الإحتكام في كل شئ هذه الكلمة تثبت أن الحاكمية(ث) لله ( سبحانه وتعالى ) وأن العباد جميعا يجب عليهم أن يحتكموا إليه { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }. (2)
(1/3)
ولا ريب أن الإنحراف في تصورات الإنسان يؤدي به إلى الإنحراف في كل شؤون الحياة فإن شؤون كلها إنما هي مبينة على تصورات قبل فترة غير بعيدة اطلعت فيما اطلعت عليه على كتابة لبعض الكاتبين جاء صدر هذه الكتابة أنه في تاريخ حكم الفراعنة بمصر كانت أسرة من أسر هؤلاء الفراعنة وهي الأسرة العاشرة حاكمة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون وهي الأسرة الأخيرة في سلسلة الأسر الفرعونية التي حكمت مصر وكان من بين الفراعنة الذين حكموا مصر من هذه الأسرة ببطشهم وجبروتهم وسوء صنيعهم فرعون يسمى (أنبسيس) (ج) وكان لهذا الفرعون طبيب خاص يسمى (سنوحي) وكان في وقته كبير الأطباء في مصر وقد كتب هذا الطبيب مذكرات له عن مشاهدته في عهد ذلك لفرعون وهذه المذكرات أخفاها وظلت في الخفاء إلى أن جاءت عهود التنقيب والاكتشاف فعثر عليها وترجمت إلى العديد من اللغات وطبعت طبعات متعددة وتوزعت فيما بين الناس وكان مما جاء في هذه المذكرات مما خطه ذلك الطبيب بقلمه أنه كان في أحد الأيام متجولا في بعض الشوارع المصرية ، فإذا هو يشاهد جثة من الجثث قطعت أوصلها قطعت يداها ورجلاها وما من موضع فيها إلا وفيه أثر من آثار العذاب وهي كأنما تتنفس آخر أنفاسها فأخذ هذه الجثة إلى بيت المرضى وحاول علاجها وكان صاحب الجثة في الغيبوبة وأفاق بعد شهرين من العلاج المستمر فصاحب الجثة كان رجلا يسمى (إخناتون ) وهو رجل كان معروفا حسب الأعراف في ذلك الوقت في المجتمع المصري بنبله ومعروفا بسعة ماله ومعروفا بكثرة رخاءه كانت عنده أسباب الراحة وكان عنده الكثير الكثير من الأموال فلما أفاق الرجل من غيبوبته طرح عليه طبيبه الذي عني به تلكم العناية البالغة سؤالا (ما الذي حل بك ؟ ) .
(1/4)
فأجابه بأن الحاكم الذي هو ( إنبسيس ) طلبه إلى قصره أمره أن يتخلى عن كل مايملك من مزارع ومساكن وعبيد وجواري وكنوز وأن لا يتمسك بشي من ذلك فسلم إليه الأمر ولكنه طلب منه أن يسمح له بيته الذي يسكنه كما طلب منه أن يسمح له بعشر ما يملك من خزائن الذهب و الفضة فما كان من ذلك الحاكم القاسي الغليظ القلب إلا أن أمر به فقطعت أوصاله وأنزل به من العذاب ما أنزل ثم رمي بعد ذلك في الطريق بهذه الحاله وهو عار من جميع الملابس وظل هذا الرجل وهو يعاني من الحرمان والمرض والفقر والعناء والذلة مدة تزيد على عقد من السنين وكل أمنيته أن يأتي اليوم الذي ينزل بهذا الفرعون القاسي من العذاب ما يجعله نكالا ويتشفى هذا المصاب منه ببرود قلبه بما ينزل عليه من أثر ذلك النكال الذي ينزل بمن تعدى على نفسه وتعدى على ماله وشاء الله (سبحانه وتعالى) أن يموت ذلك الفرعون بعد عشر سنوات أو ما يزيد على ذلك منذ أوقع هذا الأمر بذلك المسكين ، وهذا الطبيب بسبب كونه طبيب القصر وبسبب كونه كبير الأطباء كان من المفروض حسب الأعراف أن يحضر مراسم الدفن فلما حضر مراسم الدفن سمع أصوات الكهنة تنطلق بتمجيد ذلك الفقيد .
وكان مما يقولونه أيها الشعب المصري إنكم قد فقدتم إلها هو أبر الإلهة وأرحمهم بعباده وألطفهم بهم فقد كان للشعب المصري أبا حنونا وكان لطيفا بالفقراء والمساكين والمحرومين , فاخذوا يعددون الأوصاف التي يلبسونها إياه بغير بينه ، بمجرد الإفتراء أو بمجرد حب تمويه الحقيقة ويكيلون له الثناء كيلا .
(1/5)
... يقول الطبيب فكنت محتارا من هذا الامر كيف يمدح هذا الطاغية هذا المدح وكيف يكال له هذه الثناء وكيف يظهر بهذه الصورة وكيف تموه الحقيقة على هذا الجماهير فكانت الجماهير تبكي بكاءا مرا بسبب فقدها من تعتقد فيه الالوهية وتعتقد فيه الرحمة والرفق واللطف مع كون هذه الجماهير ما من أحد فيها إلا وهو مرزؤ برزية من قبل هذا الطاغية نفسه ثم قال بينما كانت الأصوات أصوات البكاء تتعالى إذا بي أسمع صوتا يعلو هذه الأصوات كلها فنظرت فإذا هذا الذي يبكي هو ذلك المحروم الذي نكب بتلكم النكبة(ح) وتلكم الرزية التي لا تقدر بقدر وجد ( إخناتون ) مشدودا بالحبال وهو يبكي مع حالته تلك بكاءا مرا على ذلك الطاغية الذي رزءه في نفسه ورزءه في ماله فظن هذا الطبيب أن ذلك البكاء كان بسبب الفرحة بما أصاب ذلك الطاغية فاقترب منه يهدئه ولكنه كان الأمر بخلاف ذلك إذ فوجىء وهو يقول له: يا )سنوجي( ما كنت أحسب (أنسيس ) بهذا القدر من الرحمة والبر و الإحسان على عباده حتى سمعت من كهنتنا(ح) ما سمعته من وصف ، يقول : فعجبت من ذلك ونظرت إلى جثته وما من موضع أصبع فيها إلا وهو مصاب فعلم أنني محتار من أمره فقال لي يا( سنوحي ) لقد كان أنسيس على حق عندما فعل بي ما فعل ذلك لأنني عصيت أوامر الإله وإنه لجدير بمن عصى أوامر الإله بأن يصيبه بأكثر مما أصابني وقد كان من سعادتي أن يكون عقابي على يديه فإن من سعادة العبد أن يكون عقابه على يد إلهه هذا مع أن هذا الطاغية كان من أكثر الفراعنة طغيانا.
(1/6)
ويقال بأنه دخل في حرب مع النوبة وجند لهذه الحرب نحو الخمس من الشعب المصري وقد قتل نحو ثلث الجيش فما كان منه إلا أن عاد على البقية بالتقتيل لأنهم لم يثبتوا في مواجهة عدوهم ، وفي ليلة من ليالي مجونه أمر بإحراق العاصمة المصرية ومع ذلك كان يكال له هذا الثناء ولئن كان ذلك الطبيب الذي شاهد ما شاهده في ذلك العصر من تجميد هذا الظالم وهو نفسه شاهد ما شاهد من طغيانه وظلمه وجبروته فبقي حائرا من الأمر فإنه مما يدعوا إلى الحيرة أن يكون كثير الناس بعدما نزل عليهم القرآن وبعدما جاءهم الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بالهدى من عند الله سبحانه وتعالى وبعدما عمهم هذا النور الرباني الذي أشرق على هذه الأرض وهو تنزيل من حكيم حميد لا يزالون يمجدون أولئك أنفسهم وإن تعجبوا فعجبوا من شاعر هو محسوب من الشعراء الإسلامين يمجد هذه الفراعنه انفسهم تمجيدا ويبدأ منهم تهمة الظلم والجور وتهمة الفساد والإنحراف حتى يقال في وصفهم :
ولست بقائل ظلموا وجاروا .. إلى آخر ما يكيل لهم الثناء مع أن القرآن الكريم يصفهم بما يصفهم به ، فالقرآن الكريم يقول في فرعون :{ إن فرعون علا في الأرض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين }(4) .
ويقول في فرعون {ما أمر فرعون برشيد }(5) إلى آخر ما يصف به هذا الطاغية ومن كان على شاكلته ممن سلكوا سلكه فكيف يأتي أحد يشهد الشهادتين وينتسب إلى أمة الإسلام ويكيل الثناء لهؤلاء الناس الذين كشف القرآن الكريم مما بهم وخلد ذكرى سوءاتهم وسيائتهم وبين ما كانوا عليه من الفساد والانحراف والظلم ولئن لم يكن هؤلاء ظلمة فمن ذى عسى أن يكون الظالم ولئن لم يكن الظلم في أعمال هؤلاء فماذا عسى يكون الظلم وأعجب من ذلك أن يخاطب أحد الفراعنة خطاب تمجيد وتعظيم لا يليق إلا بجلال الله بحيث يقول في الخطاب له :
جلت ذتك العلية عن أن
تنالها اللقاب والأسماء
(1/7)
ونجد إلى وقتنا هذا الكثير من المؤسسات الكبرى تنسب إلى أولئك ويفتخر المفتخرون وبهم يشيدون بأعمالهم ويشييدون بآثارهم فأمة هذا شأنها أليست هي أمة مهابة بالحبل ؟ أليست هي أمة مصابة بأمراض نفسية ؟ أليست هي أمة أولى أن تعالج وهل هي أمة تصلح أن تقود الإنسانية على هدي كتاب الله وعلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي لا تزال إلى وقتنا هذا تمجد مواريث الجاهلية مع أن الله (سبحانه وتعالى) أمرأن تقطع صلتها بالجاهلية تمام القطع وأمرها أن تقطع صلتها بكل من حاد الله ورسوله يقول الله سبحانه وتعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كان آبائهم أو أبنائهم أو أخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } (6) ويقول سبحانه تحذيرا للمؤمنيين أن لو أقرب قرابتهم عندما ينحرفون عن هذا النهج الصحيح يقول عزوجل (يل أيها الذين امنوا لا تتخذوا أباءكم أو إخوانكم أوليا إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فؤلئك هم الظالمون )
ويحذر الله (سبحانه وتعالى) من موالاة جميع أعدائه إذ يقول تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليه بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم إن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي تشرون إليهم بالمودة وانا أعلم ما خفيتم وما أعلنتم ومنيفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ، إن يثقوا فيكم يكونوا لكم اعداء ويبسطوا اليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } . (7)
(1/8)
ثم يقول بعد ذلك : {وقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغظاء ابدا حتى تومنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } (8) أي ذلك مما استثنى من التأسي ليس لكم أن تتأسوا بإبراهيم في ذلك تأسوا به في موقفه به في صلابته ولكن لا تتأسوا به في إستغفار بعدو من أعداء الله لأن كان ذلك الإستغفار عن موعده وعدها إياه ( فلما تبين له أنه عدوا لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم )(9) ويقول الله سبحانه : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (10) ثم يقول : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (11) فقوله سبحانه : ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر )(12) يدل المفهوم أن من لم يتأس بهم ليس هو من الذين يرجون الله واليوم الآخر ويدل على وجوب سلوك هذا المنهج يتهديده سبحانه وتعالى لمن خالف قوله : ( ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (13).
(1/9)
ويقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) (14).
(1/10)
وهذا مما يدل على أن هذه الموالاة لا تنتج إلا عن مرض نفساني فمن كان بريئا من هذه الامراض لا يمكن بحال من الاحوال أن تكون منه هذه الموالاة لأعداء الإسلام ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا نادمين )(15) (وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ )(16) ثم بين أن هذه الموالاة هي التي تؤدي – والعياذ بالله – الى الانسلاخ من الإسلام لأن هذه الموالاة بطبيعة الحال تفضي في النهاية أمرها إلى خلع ربقة(خ) الإسلام نهائيا من عنق صاحبها لذلك حذر الله ( سبحانه وتعالى ) أن ذلك من إرتداد عندما قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(17) ثم بين ( سبحانه وتعالى ) من يجب على المسلم من يحصر ولاءها له فيقول إنما (إنما) وإنما هي إردة الحصر (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(18) ثم يبين كيف تكون الموالاة فيما بين المؤمنين أنفسهم بعد أن يتولوا الله سبحنه وتعالى ورسوله سببا لنصر والتمكين والإستخلاف في الارض إذ يقول الله سبحانه وتعالى : { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }(19)
(1/11)
فإذن على هذه الأمة أن تتجرد من هذه الأمراض وأن تعالج نفسها منها وذلك بالرجوع إلى المعتقد الصحيح الذي يجعل المؤمن لا يتولى إلا الله ورسوله والذين آمنوا وموالاة المؤمن للمؤمن تعني أن يشد المؤمن على يد المؤمن بحيث سيتمسكان جمعياً بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ويأخذ كل واحد منهما بحجزة الدين الحنيف فلا يفرط في شئ من تعاليم الدين ولا يساوم على شئ من المبادئ لأن هذه المساومة لا يمكن أن تقبل قط في الإسلام إذ الإسلام لم يرضى من أول يوم للمساوسة ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) التحذير البالغ من قبول هذه المساومة فعندما أراد المشركون أن يساوموه على العقيدة قال له الله تبارك وتعالى " قل يا أيها الكافرون*لا أعبد ما تعبدون*ولا أنتم عابدون ما أعبد *ولا أنا عابد ما عبدتم*ولا أنتم عابدون ما أعبد*لكم دينكم ولي دين "(20) وقال سبحانه وتعالى تحذيراً للنبي ( صلى الله وعليه وسلم ) وللمؤمنين من اليهود والنصارى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "(21) فمهما رضي الإنسان بمساومتهم إلا أنهم لن يرضوا منه إلا بالتخلي تماماً عن ملته والالتفاف إليهم والانضمام في جماعتهم والانخراط في سلكهم والاستظلال بلوائهم ومن أجل ذلك كان النبي ( صلى الله علية وسلم ) شديد الحذر من قبول هذه المساوسة وكان يربي أصحابه وبربي أمته على الاستقلال في كل مناهج الحياة حتى لا يتأثر الإنسان بإتباع أعداء الإسلام في شئ وهذا واضح حتى في الأمور العادية فإن النبي ( صلى الله علية وسلم ) عندما كان في يوم من الأيام في حال دفن ميت وكان قائماً واقفاً فمرَ به يهودي وقال هكذا تصنع أحبارنا فلم يكن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإ أن قعد وأمر أصحابه بالقعود حتى لا يتأثروا بشيء من عادات اليهود وهكذا شأن المسلمين الأقوياء يجب على المسلمين قبل كل شئ أن يربوا نفوسهم على ذلك وأن يقطعوا صلتهم بكل
(1/12)
عادات الجاهلية وبكل مآثر الجاهلية وبكل مفاخر الجاهلية فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحرص على تجليد هذه الأمة الإفتخار بعادات الجاهلية وبآثار الجاهلية وبما كان عليه الآباء الذين درجوا من قبل الإسلام حتى تكون صياغة هذه الأمة في فكرها وفي سلوكها وفي جميع تصرفاتها وأعمالها صياغة إيمانية قرآنية لا تخرج عن إطار الإسلام الحنيف الذي حدده ورسمه القرآن الكريم ورسمته سننه ( صلى الله عليه وسلم ) ولئن كان الإنسان يعجب من حال ذلك رزء في نفسه وفي ماله ثم بعد ذلك ينقلب إلى البكاء على هذا الذي ظلمه وأنزل به ما أنزله من الهوان والظلم فما يعجب أيضاً من حال أولنك الذين كانوا يموهون الحقائق بجماهير الناس من أجل تبرير الظلم وتصويغه ومن أجل توطئة الأكناف للظالمين على هامة الناس حتى يقضوا من جميع الناس مآربهم .
(1/13)
فإن كثيراً مما لحق هذه الأمة من أمثال هذه الأفكار أيضا هو أمر يدعو إلى العجب مع وجود القرآن الكريم الذي جاء محذراً من الظلم ومحذرا حتى من الركون وهو الميل ولو كان ميلاً يسيرا إلى الظالمين فالله تبارك وتعالى يقول " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "(22) يحذر الله تبارك وتعالى من الركون وهو كما فسره المفسرون الميل ولو كان ميلاً قلبيا يسيراً فكيف بما إذا كان هنالك تبرير للظلم وتصويغ لهذا الظلم وإظهار للظالمين في مظهر العدول الذين استقاموا على الطريقة ومشوا على طريق القرآن الكريم ومنهج الرسول ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) هذا أمر أيضاً يدعو إلى العجب فمثل هذه الأفكار يجب على الأمة أن تتجرد منها لتتبوأ مكان القيادة بين الأمم هنالك الكثير الكثير من المواريث التي شاعت في أوساط هذه الأمة من جراء الانحراف الفكري وهي مواريث فكرية وتاريخية وإنحرافية عن سواء الصراط يجب على الأمة أن تتجرد منها هنالك تبرير للظلم والظالمين فقد وجد من فقهاء هذه الأمة من وطأ الأكناف للظالمين وبرر لأولئك الظلمة أن يستمروا على ما هم فيه وعليه وهذا أمر حاصل ففي تاريخ بني أمية الذين انحرفوا عن المنهج السديد الذين كان عليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والذي كان عليه خلفاؤه الراشدون في منهج بني أمية هذا الكثير الكثير من الإنحراف وقد انحرفت أفكار الناس مع هذا الانحراف الذين كان في عصر بني أمية ونحن نجد من الكاتبين الذين تتعبوا هذه الحقائق واستلهموا الفكر الصحيح من وراء النظر في الأحداث التي مرَ بها التاريخ نجد من بني هؤلاء من سجل بقلمه كلاماً هو حريٌ بأن يكتب بما الذهب من بين هؤلاء الإمام أبو الأعلى المودودي في كتابه " التجديد في هذا الذين" حيث وصف الأمر في عهد بني أمية بأنه كان أمراً خطيراً وأن العهد كان في حقيقته عهداً جاهليا وإن ليس لبوس الإسلام والفارق بين هذه الجاهلية والجاهلية الأولى التي جاء رسول
(1/14)
الله ( صلى الله عليه وسلم ) لتبديد ظلماتها واستئصال شافتها أن هذه أخطر بسبب كونها تلبس لبوس الإسلام فعندما ما يريد أن يقاومها أحد من الناس يحارب بإسم الإسلام ويتنكر له بإسم الإسلام وهذا الذي وقع فعلاً فعندما قام أبو حمزة الشاري – رحمه الله تعالى – كان الكثير من الناس التهم لهذا السائر المسلم على الظلم وقالو بأنه خارج عن الدولة الإسلامية وأنه انتهك حرمة الحرمين الشريفين إلى آخر ما وصفوه به مع أنه كلامه واضح في خطبه فهو يدعو إلى الاستمساك بالقرآن وإتباع ما كان عليه الرسول ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) وعدم التفريق في أحكام الله سبحانه وتعالى كان يدعو إلى أن يكون الإحتكام إلى الله ( عزوجل ) في كل دقيقة وجليلة ومع ذلك يبرر صنيع الذي يسأل عن كتاب الله فيجيب بقوله " نضعه في الجو الق" ويسأل عن اليتيم فيقول نأكل ماله ونفجر بأمه هذا من الانحراف الفكري الذي لحق هذه الأمة . ومثل ذلك ما كان في عهود العباسين ومن العجيب أن يجمع بني أمية وبنو العباس جميعاً في الولاية ويصورو جميعاً بأنهم حماة ، حمى الإسلام وبأنهم الذين دافعو عن حوزة هذا الدين وبأنهم كانوا الملاذ لهذه الأمة إلى آخر ما و صفوا به مع أن بني العباس ثأروا على بني أمية واستأصلوا شأفتهم وقطعوا دابرهم وقتلوهم شر تقتيل و فرشوا البسط على جثثهم وتناولوا الطعام على موائد على هذه البسط من الوجه الأولى .
(1/15)
فقتلوهم شر تقيتل و فرشوا البسط على جثثهم وتناولوا الطعام على الموائد على هذه البسط وهم يئنون من تحنهم ثم يُجمع هؤلاء وهؤلاء جميعاً في الولاية ويكال الثناء على هؤلاء وهؤلاء جميعاً أليس ذلك من المفارقات البينة الواضحة هذا وقد أدى ذلك إلى إصدار الفتاوى لأنه مهما عمل الخليفة أو عمل من يسمى بالحاكم مهما عمل من أعمال ومهما فعل من أفعال فإنه يجب أن تخضع له الرقاب وأن تذل له النفوس وأن توطأ له الأكناف وأن يستكين له الناس وأن يتقبل ذلك كله منه وأن لاينكر عليه وأن لا يثار عليه بل يجب على الناس التسليم والإنقياد مهما بلغ لهم الأمر أليست هذه هي الفرعونية بعينها والقيصرية بعينها مع أن الله سبحانه وتعالى يحذر حتى من الركون إلى الذين ظلموا " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ "(23) فكيف يرضى المسلم لذلك وممن صور هذه الحالة التي كانت في عهد بني أمية وفي عهد بني العباس التصوير الصحيح الكاتب الشهير الأستاذ العلامة أبو الحسن الندوي المفكر الإسلامي في كتابه القيم " ماذا خسر الناس بانحطاط المسلمين " هذا الكتاب جاء فيه تصوير عجيب لذلك الواقع إذ بين أن الناس كانوا مذللين في ذلك الواقع لشخص واحد وهو الشخص الذي يسمى بالخليفة أو الملك فمن حوله تدور الحياة بأسرها لأجله يزرع الزارعون ومن أجله ينسج الناسجون ومن أجله يكدح الكادحون ومن أجله تفتح الفتوح ومن أجله تذلل الدنيا بل من أجله تخرج الأرض جميع خزائنها فكل ذلك مما يسخر لهذا الشخص وحده الحياة كلها تدور حول محوره وقطب الحياة بأسرها وما الناس إلا أتباع له وعليهم أن يرضوا إن حصل لهم شئ من الفتات الذي يتساقط من بين يديه وإن حرموا من ذلك فعليهم الصبر وإن رزقوا من ذلك فعليهم الشكر وإن حرموا من ذلك فعليهم الصبر ويقول معقباً على ذلك لأن هذه الحياة لا يجوز أن
(1/16)
تسمى حياة إسلامية وأن هذا العهد لا يجوز أن يسمى عهداً إسلامياً بل هو في حكم الإسلام ليس صالحا لأن يبقى يوماً واحداً ونجد نحن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على خلاف ذلك تماماً فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لتمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتقبضَن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليخالفن الله بين وجوهكم وليضربن ببعضكم رقاب بعض "(24) أي على الأمة أن تقبض على يد الظالم وأن تأطره على الحق أطرا وبدون ذلك فإن هذه الأمة تكون أمة هوان وذلة هي حرية بأن تختلف قلوبها وأن يؤدي الأمر إلى أن يضرب الله سبحانه وتعالى ببعضها رقاب بعض وهذا ما حصل فعلاً في هذه الأمة نتيجة البعد عن هذا المنهج الصحيح ونحن عندما ننظر إلى السيرة التي سارها السلف الصالح نجد هذه السيرة بعيدة تمام البعد عن مثل هذه الأفكار فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلن أمام الجمهور أيها الناس إذا رأيتم في اعوجاجاً فقوموني فيقول له أحد من هؤلاء الناس " والله لو رأنيا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا " فما يكون عنه "رضي الله عنه" إلا أن يرتاح ضميره لهذه الإجابة ما كان منه إنزال البطش بهذا الذي أجابه بهذه الإجابة وإنما كان جوابه يدل على سروره البالغ حيث حمد الله سبحانه وتعالى على أن وجد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم اعوجاج عمر بسيفه هذه الروح هي التي يجب أن تسود في هذه الأمة وهذا التصور هو الذي يجب أن يسود في هذه الأمة عندئذ تكون أمة قوية ومن أخطر الخطر أيضاً أن يكون الإنحراف بهذه الأمة في فكرها يصل بها إلى الإرجاء وذلك مما يسوغ المعاصي وهذا مما نقراه ونسمعه من الكثير من الناس حتى أنني سمعت أحد الدعاة يقول مع الأسف الشديد في محارم الله تعالى جميعا بأن هذه من الصغائر بحيث لا يعتبر كبيرة إلا أن يشرك الإنسان بربه سبحانه وتعالى مع أن الله سبحانه وتعالى يحذر الناس من الوقوع في معاصيه " وما كان لمؤمن
(1/17)
ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ظل ظلا لا مبينا "(25) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي والسنائي وإبن ماجه وإبن جرير الطبري من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول عليه أفضل الصلاة والسلام "إذا أذنب العبد ذنباً نكتت في قلبه نكتتاً سوداء فإن هو نزع وتاب واستغفر صقل وإن هو عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك أران ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قول الله تبارك وتعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "(25) فكيف يسوغ لأحد أن يهون من شأن حرمات الله تبارك وتعالى مع أن الله عزوجل حصر مغفرته لمن جمع بين خصال أربع يقول عزوجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى "(26) ويحذر هذه الأمة من الاغترار بالأماني والتشبث بالآمال فهو تعالى يقول " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فؤلئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا "(27) يقول سبحانه " من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزغ يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون "(28) ويقول " من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجز الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعلمون "(29) وهكذا تترادف الآيات القرآنية لتؤكد أنه لا مجال لأن يتشبث الإنسان بالأماني وأن يغتر بها وأن هذا التشبث بالأماني هو سبب الاندفاع إلى معاصي الله والانزلاق في مهاوبها فالله سبحانه وتعالى يقول " ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم المعرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما
(1/18)
كسبت وهم لا يظلمون"(30) يحذر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة من التعلق بمثل هذه الأماني ثم إنه سبحانه وتعالى ينوط الفلاح في الآخرة والنجاح في الدنيا على تقواه عزوجل فهو يقول "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(31) ويقول سبحانه وتعالى "واعلموا أن الله مع المتقين"(32) ويبين أن العاقبة لتقوى ويقول سبحانه وتعالى مبينا أن السعادة التي مبأتها جنة عرضها السموات والأرض إنما هي للمتقين إذ يقول سبحانه "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"(34) هكذا يبين لنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات وفي غيرها من الآيات الكثيرة بأنه لا نجاة إلا لمن استمسك بحبل التقوى ثم إن السلف الصالح كانوا وهم يواجهون أعداهم يحذرون من معاصيهم أكثر مما يحذرون من أؤلئك الأعداء ما كانوا يستهينون بحرمات الله ولا يتجرؤون على مخالفة أوامره فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما جند الأجناد لمواجهة كسرى وجنوده قال للجند ولقائده مخاطبا قائد الجند أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فأن تقوى الله أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة على العدو وأوصيك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف علي من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله فإن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا واعلموا أن في سيركم عليكم من الله حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم
(1/19)
سلط عليهم من هو شرٌ منهم كما سلط على بني إسرائيل إذ عملوا بمعاصي الله كفار المجوس " فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا "(35) واسألوا لله العون على أنفسكم كما تسئلونه النصر على عدوكم أسأل الله ذلك لي لكم " بهذه الروح تمكن ذلك السلف الصالح واستطاع أن يذلل بمشيئة الله تعالى الصعاب وأن يصل إلى حيث ما يصل فأنتشر هذا الدين في أرجاء الأرض فلو نظر إلى وضع المسلين في ذلك العصر من حيث القوة المادية ونظر إلى وضع عدوهم لوجد أمراً عجباً كيف استطاع أولئك المسلمون أن يخرجوا هؤلاء الجبابرة من هذه الأرض التي كادوا يمتلكونها صاغرين(د) وأن يطهروا من رجسهم هذه الأرض وأن يذيقوا الإنسانية طعم العدل إنما كان ذلك بتقوى الله وإلا فحسب الإنسان أن يقف على بعض قلاع هؤلاء الجبابرة التي كانوا يتحصنون فيها وينظر كيف يمكن لمن كان سلاحه السيف والرمح أن يسطوا على من كان في هذه القلاع حتى يخرجهم منها خاسئاً ذليلا مع أن أولئك كانوا كثراً من حيث العدد فلينظر أحدنا إلى مثل الآثار الموجودة في منطقة الجرش في الأردن وهي من آثار الروم يخيل الإنسان أن من كان في مثل تلكم القلاع الحصينة لا يخشى من عدو ولو جاءته الطائرات من أعلاه وجاءته الدبابات من أسفلة لا يخشى من العدو فكيف تمكن المسلمون أن يخرجوا أولئك الروم صاغرين أذلاء من هذه ألاماكن وإن يدحروا جموعهم مع قلتهم هم وكثرة هؤلاء الأعداء ومع ما للأعداء من وسائل دفاعية كيف أمكنهم مع ذلك أن يخرجوهم صاغرين من هذه الأماكن ما كان ذلك إلا بقوة اليقين وبالصلة بالله سبحانه وتعالى وبالتطبيق الدقيق للإسلام بعدم التفريط في شئ من تعاليم الإسلام كانوا مستصجين لنور القرآن في كل تصرفاًتهم وفي كل أعمالهم كان الجندي منهم يمسك كتاب الله بإحدى يديه ويمسك السلاح باليد الأخرى فهو لا يضع السلاح ولا يرفع إلا بتوجيه من الله سبحانه وتعالى لذلك تمكنوا مما تمكنوا منه كانوا رهباناً باليل
(1/20)
وفرسانا بالنهار يقضون سحابة نهارهم وهم في صيام وجهاد ويقضون ليلهم وهم في تبتل وتهجد بين يدي الله سبحانه وتعالى لذلك تمكنوا من هؤلاء الأعداء ما كانوا سيتخفون بحرمات الله فإذا يجب قبل كل شئ أن يكون هنالك تصور صحيح من كل ناحية من النواحي ثم بعد ذلك يجب أن يكون المسلك مسلكاً سليماً وهذا ما سوف نتعرف عن بعض النقاط منه فبي الدروس الآتية إنشاء الله تعالى ونسأل الله عزوجل أن يلهمنا الرشد والسداد وأن يمنَ علينا بخير الدنيا وخير الآخرة وأن يجعلنا من عباده المخلصين ومن حزبه المفلحين ومن جنده الغالبين ومن أوليائه المتقين وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم إنه تعالى على كل شئ قدير وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) : هذه المقدمة منقولة من محاضرة أخرى لسماحته وبنفس عنوان هذه ولكن الحلقة الثانية من " الإنحراف
الفكري" وذلك بسبب فقد المقدمة الأساسية لتأخر في التسجيل على الظاهر .
حاشية تخريج الأحاديث والسور
(1) : الآية 40 من سورة يوسف
(2) : الآية من سورة
(4) : الآية 4 من سورة القصص
(5) : الآية من سورة
(6) : الآية 22 من سورة المجادلة
(7) : الآية 1 من سورة الممتحنة
(8) : الآية 4 من سورة الممتحنة
(9) : الآية 114 من سورة التوبة
(10) : الآية 4 من سورة الممتحنة
(11): الآية 6 من سورة الممتحنة
(12): الآية 6 من سورة الممتحنة
(13): الآية 6 من سورة الممتحنة
(14): الآية 51،52 من سورة المائدة
(15): الآية 52 من سورة المائدة
(16): الآية 53 من سورة المائدة
(17): الآية 54 من سورة المائدة
(
(1/21)
18): الآية 55 من سورة المائدة
(19): الآية 56 من سورة المائدة
(20): سورة الكافرون
(21): الآية120 من سورة البقرة
(22) : الآية 113 من سورة هود
(23): الآية113 من سورة هود
(24): رواه الطبراني في الاوسط ورجاله ثقات، ولكن بلفظ يختلف قليلا
(25): الآية 36 من سورة الأحزاب
حاشية تبيين معاني الكلمات والمصطلحات .
(أ) : العبء : العبء. و- الحمل و- الثقل من أي شيء كان .
(ب) : برأ المريض بَرأً وبُرأَ شفي وتخلص مما به .
(ت) : الغبش : بقية الليل وظلمة آخره
(ث) : تأكد من اسمه أكثر فهكذا نحسبه على اجتهادنا السمعي
(ج) : النكبة : نكبت الريح نكوبا مالت عن مهاب الريح
(ح) : كهنتنا : كهن له كهانة أخبره بالغيب فهو كاهن
(خ) : ربقة: الربق حبل ذو عرى .
(د) : صاغرين : أذلاء
المحتويات :
1 / المقدمة
2 / ضرورة التوجه نحو المنهج الرباني
3 / أولا على جلاء صورة العقيدة الصحيحة وإبرازها للناس
4 / فأمة هذا شأنها أليست هي أمة مهابة بالحبل ؟
13 / حاشية تخريج الآيات والأحاديث
13 / حاشية تخريج المعاني والمصطلحات
14 / المحتويات
(1/22)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق