عنوان البحث: أسماء الذم بين حفظ الدين وحفظ سائر الكليات الأخرى للشريعة الإسلامية
المؤلف: مصطفى بن محمد شريفي
[ورقة بحثية مقدمة في: المؤتمر الإسلامي العالمي الثاني: «الوسطية والاعتدال والحد من التطرف الديني» تحت شعار: «دور الحوار والتأطير الديني في تحقيق الأمن الروحي و القومي». يومي 24 و 25 إبريل 2015 فاس، المغرب]
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
أسماء الذم بين حفظ الدين وحفظ سائر الكليات الأخرى للشريعة الإسلامية
د. مصطفى بن محمد شريفي
جامعة نزوى - سلطنة عمان
ورقة بحثية مقدمة في:
المؤتمر الإسلامي العالمي الثاني: «الوسطية والاعتدال والحد من التطرف الديني» تحت شعار: «دور الحوار والتأطير الديني في تحقيق الأمن الروحي و القومي».
يومي 24 و 25 إبريل 2015
فاس، المغرب.
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله القائل في محكم تنزيله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ} (سورة الأنفال: 1). والصلاة والسلام على رسوله الذي مدحه بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: 107)، وبقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنَ اَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُومِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة: 128). أمَّا بعد:
فإنَّ هذه الورقة البحثيَّة تتناول «أسماء الذمِّ بين مقصد حفظ الدين وبين حفظ سائر المقاصد الكلِّيَّة للشريعة الإسلاميَّة»، والمقصود بأسماء الذمِّ ما يتنابز به المسلمون فيما بينهم من تكفير وتفسيق وتبديع، وما في معناها، وما يترتَّب عليها من أحكام بالتعدِّي على حرمات المسلم والإنسانيَّة. والمقصود بالمقاصد الكلِّيَّة: حفظ النفس، والعقل، والنسل، والمال، وكذا القيم العليا مثل: الحرِّيَّة والرحمة والعدالة.
ولا شكَّ أنَّ خاصِّيَّة الربَّانيَّة التي تمتاز بها الشريعة الإسلاميَّة - مصدرا ومنهجا وغاية - يجعل من المستحيل التناقض بين نصوصها القطعيَّة الآمرة بحفظ المقاصد الكلِّيَّة، وبين النصوص التي يستند عليها من يدعو إلى التنافر بين المسلمين، بإصدار أسماء وتوظيفها على المخالفين في بعض المسائل الكلاميَّة أو السياسيَّة أو الفكريَّة ...
ولا يخفى أنَّ الدافع الأساس وراء إصدار تلك الأسماء وتوظيفها هو: دعوى المحافظة على الشريعة الإسلاميَّة (حفظ الدين)؛ وعليه فالإشكال المطروح هو: كيف يمكننا التوفيق بين تلك الدعوى - حفظ الدين، وهو مقصد قطعيٌّ من حيث المبدأ - وبين سائر المقاصد الكلِّيَّة التي جاءت الشريعة الإسلاميَّة لحفظها؟ فأين الخلل؟ هذا ما تسعى هذه المداخلة إلى الجواب عنه.
وسنحاول في هذه المداخلة المرافعة عن الأطروحة الآتية: إنَّ الخلل يكمن في سوء فهم الشريعة الإسلاميَّة، أو ادِّعاء القطعيَّة واليقين في قضايا هي في الأصل اجتهاديَّة، ولا يجوز أن تكون سببا في إقصاء كلِّ النصوص القطعيَّة الداعية إلى وحدة المسلمين ونبذ الفُرقة، والموجبة حفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ... مع إعطاء نماذج من الماضي والحاضر.
أسأل الله أن يوفِّقنا جميعا إلى ما يحبُّه ويرضاه، ويهدينا سبل السلام.
د. مصطفى بن محمد شريفي
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربيَّة - جامعة نزوى - سلطنة عُمان
(1/2)
مدخل
1 - علاقة الأسماء والأحكام بمقاصد الشريعة:
أجمع علماء المقاصد على أَنَّ الشريعة الإسلاميَّة جاءت لحفظ الكلِّيَّات الخمسة (1)، وَلِكُلٍّ من هَذِهِ الكلِّيَّات علاقة بموضوعنا:
- فحفظ الدين والعقل مقصدان رئيسان في موضوعنا، وهو الجانب الأوَّل من ورقتنا هذه؛ فَإِنَّ التمييز بين الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وبين الملزم وغير الملزم، وبين الأصل والفرع، وبين الدين والرأي ... يهدف أساسا إلى حفظ الدين والعقل من التشوُّهات الفِكرِيَّة التي تراكمت عَلَيْهِ عَبْرَ قرون من الفتن والمحن، وبالتالي يُؤَدِّي إلى عرض الإِسلاَمِ في صورته الحنيفيَّة السمحة البيضاء، لا تشوبه ألوان الدم والجمر، بالاقتتال بين الإخوة الأشقَّاء.
- وحفظ النفس والنسل والمال هو الجانب الثاني من هذه الورقة، إذ ما من شكٍّ في أَنَّ سوء التوظيف للأسماء والأحكام يُؤَدِّي إلى آثار وخيمة: إزهاقًا للأرواح، وإضرارا بالنفوس، وإهلاكًا للحرث والنسل، وإتلافًا للأموال، وتشويهًا لصورة الإسلام.
2 - أسماء الذمِّ القطعيَّة الثبوت والدلالة:
لا ريب أَنَّ ما نَصَّ عَلَيْهِ القرآن الكريم من أسماء الذمِّ بقطعيِّ الدلالة، هو التوظيف الإيجابيُّ لأسماء الذمِّ؛ لأنَّ الله تعالى هو أحكم الحاكمين، وهو أدرى بما يصلح لعباده لَمَّا صرَّح بتصنيف عباده إلى مؤمن وكافر، ومحسن ومسيء، ومخلص ومنافق ... وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه المسلمون، ويشمل ذلك ما يأتي:
أ- توظيف أسماء الذمِّ على المنصوص عليهم في القرآن الكريم، كإبليس وفرعون وقارون وأبي لهب ...
ب- توظيف أسماء الذمِّ على الْمُتَّفَق عَلَيْهِم من عصاة الموحِّدين، كأسماء الزاني والسارق والقاذف وأحكامهم ...
غير أَنَّ الإشكال في توظيف أسماء الذمِّ حسب اجتهادات العلماء، مِمَّا هو عرضة لتأثير الظروف السِّيَاسِيَّة والاِجتِمَاعِيَّة، سواء الاجتهادات في فهم النصِّ، أم الاجتهادات في تنزيلها على الواقع، أم في ”ابتداع“ تسميات ذميمة وإطلاقها على الناس.
وسنحاول التركيز على توظيف المسلمين لأسماء الذمِّ وآثاره، ومقارنته بما تقرَّر في مقاصد الشريعة من حفظ
__________
(1) وإن اختلفوا في حصرها في الخمس أو زيادة مقاصد أخرى. ينظر: يوسف العالم: المقاصد العَامَّة للشريعة الإِسلاَمِيَّة، ص155، 167 ... البوطي: ضوابط المصلحة، ص218 - 220 ... جمال الدين عطيَّة: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص51 - 54، 122 ... الريسوني أحمد: نَظَرِيَّة المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص70 - 71، 246 ...
(1/3)
الكلِّيَّات الخمسة.
أوَّلاً: مقصد حفظ الدين بين القطع والظنِّ
مقصد حفظ الدين في مجمله قطعيٌّ؛ وصيانة الأمَّة من الزيغ، يكتسي أهمِّية كبرى في الفكر والحضارة الإسلاميَّين، فقد يضحِّي المسلم بنفسه وماله من أجل المحافظة على الدين، ومن طبيعة الإنسان الدفاع عن معتقده بشتَّى الوسائل، وهذه ظاهرة عَامَّة في المجتمعات البَشَرِيَّة، وليس أمرا خَاصًّا بالمسلمين (1).
ولقد تأسَّس علم الكلام بهدف إثبات العقائد الدينيَّة بإيراد الحجج ودفع شُبه أهل الزيغ والكفر والضلال (2) ... فالمقصد الأساس من هذا العلم هو حفظ الدين؛ وبالتالي فهذا من أولى أولويات المسلم من أجل الحفاظ على الاعتقاد، وهذا أمر واجب وضروريٌّ إذا عنينا بالاعتقاد القضايا المتَّفق عليها، وأدلَّتها قطعيَّة ثبوتا ودلالة.
ولكنَّ الموازين قد تنقلب رأسا على عقب إذا رُفعت بعض المسائل الخلافيَّة، والتي في أصلها ظنِّيَّة إلى مستوى القطع، فيصبح الدفاع عن الظنيَّات دفاعا عن الدين، وبهذا تختلُّ الموازنة بين مقصد حفظ الدين وبين سائر المقاصد، فتكون نتائجه على النفس والنسل والعرض والمال وخيمة. ولتصحيح الوضع، ولتفادي ظواهر العنف بين الطوائف الإسلاميَّة بات من الضروريِّ تصحيح الرؤى الاعتقاديَّة، والتمييز بين القطعيِّ والظنِّيِّ، وبين الوحي والاجتهاد البشريِّ وتقديم الأَوْلى منهما.
1 - الجانب القطعيُّ من مقصد حفظ الدين:
لا يخفى عن كُلِّ مطَّلع على علوم الشريعة الإسلاميَّة أَنَّ حفظ الدين أَوَّل المقاصد التي جاء الشرع لحفظها؛ ونظرا لِمَا يترتَّبُ عن الخطأ في إطلاق الأسماء الذميمة من سفك للدماء وهتك للأعراض، فَإِنَّ هنالك علاقة وطيدة بين أسماء الذمِّ وبين مقصديْ حفظ الدين وحفظ النفس.
والكلُّ يعترف بضرورة حفظ حقوق المسلم، لاسيما منها: الدماء، وترك التنابز بالألقاب، ولكنَّهم إذا تناولوا المسائل الخلافيَّة مع إخوانهم المسلمين، سلقوهم بألسنة حِداد، إلاَّ من رحم ربُّك. وسنبيِّن في الآتي خطورة الفكر التكفيريِّ، من حيث أدلَّته وأقوال العلماء فيه؛ وبالتالي سنلاحظ أَنَّ هناك انفصاما كبيرا بين الطرح النَّظريِّ، والواقع العمليِّ.
__________
(1) من ذَلِكَ: الصراع الكاثوليكي البروتستانتي، وغيرهما. وقد يكون الدين مُجَرَّد غطاء تبريري لأسباب اقتصاديَّة أو اجتِمَاعِيَّة. ينظر: قبي: ظاهرة العنف السياسي، ص28 - 29.
(2) وردت عدَّة تعريفات لعلم الكلام، تختلف باختلاف توجُّه أصحابها. ينظر: الإيجي عضد الدين: المواقف، ص7. ابن خلدون: المقَدِّمَة، ص458. الجرجاني: التعريفات، 162 - 163. الثميني: معالم الدين، 1/ 17. الثميني: النور، ص24. الباجوري: تحفة المريد، ص17. السالمي: معارج الآمال، 1/ 184.
(1/4)
أ- رحمة الشريعة الإسلاميَّة ويسرها أمر قطعيٌّ:
إِنَّ مقصد التيسير ونفي الحرج من المقاصد القطعيَّة في الشريعة الإسلاميَّة (1)، فقد تكرَّر في القرآن الكريم التنصيص على هذا المقصد تكرارا ينفي عنه أيَّ احتمال للمجاز أو التأويل، منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة: 185)، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فيِ الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (سورة الحج: 78)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنكُمْ} (سورة النساء: 28)، كما نصَّ الله تعالى على أَنَّ الرَّسُول J جاء رحمة للعالمين: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: 107). ودعا - عليه السلام - في عدَّة أحاديث إلى التيسير وعدم التشديد، منها قوله لمعاذ وأبي موسى الأشعريِّ لَمَّا بعثهما إِلىَ اليمن: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا» (2). وقوله J: « بُعثت بالحنيفيَّة السمحة» (3)، وقوله: «عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ» (4)، وقوله: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا» (5) ...
ولكن مع كلِّ هذا فإنَّ من العلماء من يميل إلى التشدُّد والتشديد في الدين، فيوسِّعون من دائرة الإلزام، ويضيِّقون من دائرة المباح و «إنَّ توسيع دائرة الإلزام ليس من مقصودات الشريعة، بل العكس هو الصحيح» (6)؛ لِذَلِكَ شدَّد النَّبيء J النكير على من يضيِّقها، ففي الصحيحين: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» (7)، لأَنَّ في ذَلِكَ تضييقا لدائرة العفو والرحمة، وهو خلاف ما أمرنا به رسول الله J: « ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله العافية فإنَّ الله لم يكن نسيًّا»، وتلا هذه الآية: {ومَا كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [سورة مريم: 64] (8).
وقد تعرَّضت دائرة الدين إلى تقليص شديد حَتَّى بدا أيُّ انحراف عن خطِّ المذهب قيد أنملة، ولو في قَضِيَّة اجْتِهَادِيَّة، انحرافا عن الدين، يعرِّض صاحبه إلى شفا حفرة من النار!.
__________
(1) ينظر: ابن عاشور: مقاصد، ص42.
(2) متَّفق عليه. البخاري: كِتَاب الجهاد والسير، باب ما يُكره من التنازع والاختلاف ... رقم: 2873، 3/ 1104. مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، رقم: 1733، 3/ 1359.
(3) رواه أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهلي، رقم: 22345، 5/ 266. قال العجلوني: «رواه أحمد في مسنده بسند حسن». كشف الخفاء، 1/ 52.
(4) نصُّ الحديث: «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ J فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ، فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا، فَقَالَ: مَهْ! عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا». البخاري: كِتَاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، رقم 1100.
(5) بَقِيَّة الحديث: « ... وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». البخاري: كِتَاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم: 39، 1/ 23. النسائي: كِتَاب الإيمان وشرائعه، باب الدين يسر، حديث رقم: 5034، 8/ 122.
(6) عبد الجواد: السلطة في الإسلام، 1/ 16.
(7) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، باب ما يُكره من كثرة السؤال وتكلُّف ما لا يعنيه، رقم: 6859، 6/ 2658. مسلم: كتاب الفضائل، باب توقيره وترك إكثار السؤال عمَّا لا ضرورة إليه، رقم: 2358، 4/ 1831.
(8) رواه الحاكم في مستدركه، رقم: 3419، 2/ 406. قال ابن حجر: «أخرجه البزار وقال: سنده صالح. وصحَّحه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه». وقال الهيثمي: «وإسناده حسن ورجاله موثَّقون». فتح الباري، 13/ 266. مجمع الزوائد، 1/ 171.
(1/5)
وإذا تأمَّلنا كثيرا من المسائل الكلاميَّة والسياسيَّة وجدناها مسائل اجتهاديَّةً قائمة على استدلالات ظنِّيَّة، رُفعت إلى مقام أصول الدين، فضلا عن اجتهاد العلماء لرسم الحدود الفاصلة بين مسائل الدين ومسائل الرأي، أو المسائل القطعيَّة والمسائل الظنيَّة.
ب- وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة مقصد قطعيٌّ:
مقصد توحيد الأُمَّة الإسلاميَّة مقصد قطعيٌّ، ثابت بنصوص كثيرة في القرآن والسُّنَّة، وإنَّ كلَّ دعوة في هذا السبيل هي التزام بأوامر الله، وكلَّ دعوة إلى غيره استنكاف عنها. والآيات القرآنيَّة، والأحاديث النَّبويَّة متضافرة في وجوب الأُخوَّة في الدين، والتحابب والتناصر في الله، ومراعاة حقوق بعض المسلمين تجاه بعض، نكتفي بأدلَّة القرآن الكريم في الدعوة إلى الوحدة (1)، مراعاة للاختصار:
- قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء: 92).
- وقال: {وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (سورة الْمُومِنُونَ: 52).
- وقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (سورة آل عمران: 103).
ومع هَذِهِ الآيات الصريحة يحلو للبعض أن يستهينوا بهذا المقصد القطعيِّ، ويسعوا في تشتيت شمل الأُمَّة، لمجرَّد بعض الخلافات الكلاميَّة أو السياسيَّة، ويتَّهم مخالفيه بالكفر، أو البدعة، أو المروق من الدين ... ومع الأسف فإِنَّ مثل هذه الأصوات هي التي تَرُوجُ في العوامِّ أكثر، قال القاسميُّ: «وقد وُجد بالاستقراء أَنَّ صوت الغالي أقوى صدًى، وأعظم استجابة؛ لأنَّ التوسُّط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كُلِّ عصر ومصر، وأمَّا الغلوُّ فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم» (2)، وكيف لا والشيطان أقسم أن يكون أكثريَّة الناس من حزبه، وهو لهم بالمرصاد إذ قال: {أَرَآيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنَ اَخَّرْتَنِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة الإسراء: 62)، وقال: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ ءَلاَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنَ اَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (سورة الأعراف: 16 ـ 17).
ج- أدلَّة خطورة التكفير وما في معناه:
الخطأ في التكفير له علاقة وثيقة بمقصديْ حفظ الدين، من حيث إنَّ الخطأ فيه يعدُّ تقوُّلاً على الله بغير علم. وقد ذكر الله تعالى من المحرَّمات: { ... وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة الأعراف: 33)، وإنَّ الأدلَّة على خطورة التكفير وما في معناه كثيرة ومتضافرة من القرآن وَالسُّنَّة، نكتفي بالبعض منها:
- قال تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاَلْقَابِ بِيسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
__________
(1) عرض كثير من العلماء والباحثين أَدِلَّة هَذَا المقصد، ينظر على سبيل المثال: هاني ساعي: القانون في عقائد الفرق، ص31 - 34.
(2) جمال الدين القاسمي: الجرح والتعديل، ص4.
(1/6)
الظَّالِمُونَ} (سورة الحجرات: 11)، فإنَّ فِعْل السخرية واللَّمز والنَّبز فسوقٌ (1).
- وقال تعالى في الحديث القدسيِّ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ! ... » (2).
- وقال رَسُول اللهِ J : « مَنْ قَالَ لأخيه: يَا كَافِرُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْكَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ أَحَدُهُمَا» (3).
- وقال J : « ... وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» (4). قد يعجب المرء من تشبيه اللعن والتكفير بالقتل في هذا الحديث، وَلَكِنَّ المتأمِّل للواقع المعيش يدرك العلاقة الوطيدة بين التكفير والقتل والاقتتال؛ فكم من دماء سُفكت بسبب اتِّهَامها بالكفر، وقد تكون بريئة مِمَّا نُسب إليها.
وهكذا نلاحظ أنَّ الخطأ في إطلاق التسمية الذميمة على من لا يستَحقُّها يعدُّ من الفسوق، وقد يبوء التكفير على المكفِّر، واللعن كالقتل؛ وبالتالي فإنَّ لإطلاق أسماء الذمِّ مساسًا خطيرًا بمقصد حفظ الدين.
د- تشديد العلماء في مسألة التكفير والدماء:
روى الخلاَّل (5) في السُّنَّة، أَنَّ الإمام البخاريَّ لقي أكثر من ألف رجل من أهل العلم «ولم يكونوا يكفِّرون أحدا من أهل القبلة بالذنب» (6). والمقصود بالتكفير هنا هو الْمُخْرِج من الْمِلَّة؛ لأنَّ من علماء السلف من يقول بكفر دون كفر (7).
وقد رَدَّ المسلمون على منحى الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة كفر شرك، فقد روت المصادر أَنَّ جابر بن
__________
(1) ينظر: الطبري: 26/ 133 - 134. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 16/ 328. القطب اطفيَّش: تيسير التفسير، 13/ 433.
(2) البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم: 6137، 5/ 2384.
(3) رواه الربيع بن حبيب واللفظ له، والشيخان. الربيع: بَابٌ فِي الإِيمَانِ وَالإِسْلاَمِ وَالشَّرَائِعِ، حديث رقم: 65، ص45، بزيادة: «وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ». البخاري: كتاب الأدب، بَاب مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ، حديث رقم: 5752، 5/ 2263. مسلم: كتاب الإيمان، بَاب بَيَانِ حَالِ إِيمَانِ مَنْ قَالَ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ، حديث رقم: 60، 1/ 79.
(4) مُتَّفَق عَلَيْهِ واللفظ للبخاري. البخاري: كتاب الأدب، بَاب مَا يُنْهَى مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ، حديث رقم: 5700، 5/ 2247. مسلم: كتاب الإيمان، بَاب غِلَظِ تَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ ... حديث رقم: 110، 1/ 104.
(5) أبو بكر أحمد بن محمَّد بن هارون الخلاَّل (311هـ/923م): مفسِّر حنبليٌّ عالم بالحديث واللغة. من بغداد. من كتبه: ”تفسير الغريب“، و”طبقات أصحاب ابن حنبل“، و”السنَّة“ ... ينظر: الزركلي: الأعلام، 1/ 206.
(6) اللالكائي: اعتقاد أهل السُّنَّة، 1/ 175.
(7) كما في حديث تكفير من ادَّعَى لغير أبيه، وَسَمَّاهُ علماء من السلف كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ، كما يقسِّمون الفسق إلى نوعين أيضا: الفسوق، والفُسُوق دُونَ فُسُوقٍ، وهو مرويٌّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ». الترمذي: كِتَاب الإيمان، باب ما جاء سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، حديث رقم: 2635، 5/ 21. وقد استعرض الغاربي جملة من القائلين بكفر النعمة من علماء السلف. وذكر منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وإبراهيم النخعي، وأبا بكر الجصاص، وابن عبد البر، وأبا العَبَّاس القرطبي، ومجد الدين ابن تيمية، والنووي، وأبا البركات النسفي، وأبا حيان الأندلسي، والعيني، وابن رجب، وابن حجر. ووثَّق أقوالهم بالإحالات على مصادرهم. ينظر: مقالتا الأسماء والأحكام، ص87 - 89.
وَسَمَّاهُ بعض المعاصرين: الكفر العَمَلِيَّ، والكفر المجازيَّ، والكفر الأصغر. ينظر: البهنساوي: الحكم وقَضِيَّة تكفير المسلم، ص49. ناجح إبراهيم وعلي محمَّد: حرمة الغلوِّ في الدين، ص113 - 121. السامرائي: التكفير في القرآن وَالسُّنَّة، ص429 - 430. الواعي: الفهم الإِسلاَمِيُّ بين الغلوِّ والاعتدال، ص26 - 35. بازمول: التكفير وضوابطه، ص20 - 29.
(1/7)
زيد ناقش الخوارجَ (1)، وَأَنَّ أبا بلال مرداس بن أديَّة (2) عارض نافع بن الأزرق (3)، وَأَنَّ عبد الله بن إباض آثر التسامح والدعوة إلى الشورى بدل الوقوع في صراع دمويٍّ مع الحكم الجائر (4)، وَأَنَّهُ انفصل عن ثورة عبد الله بن الزبير (5)، وَأَنَّهُ كان مع عبد الله بن الصفار (6) في رفضهما للتيَّار التكفيري (7). وقال ابن عبد العزيز « ... فاتَّقوا الله في الدماء! ثُمَّ اتَّقوا الله في الدماء! لا تقربوها إِلاَّ بحلِّها، فَإِنَّكُم إنْ تواقعوا دما حراما يُحبَطْ عملكم، ويُبطلْ كدحُكُم، فالتثبُّت التثبُّت، وَإِيَّاكُم والعجلة إلى الدماء والسرعة إلى الإقدام عليها إِلاَّ بأمر واضح» (8). ويضيف في مسألة شبيهة قائلا: «فاتَّقوا الله في الدماء، وعظِّموا أمرها، وتمكَّثوا، ولا تسرعوا إلى إصابتها، فإنَّ أمرها عند الله عظيم، فإنَّكم أن تتركوا دمًا أحلَّه الله لكم خير من أن تهجموا على ما تشكُّون فيه، والإقدام على الدماء بالشبهات حوبٌ عظيم، وبُعدٌ من الله سحيق لمن انتهك ذلك واجترأ عليه» (9).
ومع أَنَّ أئمَّة السلف يحذِّرون أَشَدَّ التحذير من التكفير واستباحة الدماء، فإنَّ البعض لا زالوا مصرِّين على التكفير والتبديع لأتفه الأسباب. ولا يمكننا الفصل بين التكفير ونتائجه في الواقع المعيش. فما نراه يوميًّا من سفك للدماء بين المسلمين ليس إلاَّ نتائج للأفكار المتطرِّفة. فخطؤنا يكمن في أَنَّنَا نريد أن نعالج النتيجة دون أن نعالج الأسباب؛ فنكرِّس الواقع المتردِّي.
يقول حجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي: «إِنَّهُ لا يسارع إلى التكفير إِلاَّ الجهلة، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا، فإنَّ استباحة الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلة المصرِّحين بقول لا إله إِلاَّ الله محَمَّد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم» (10).
ومثله ما عزاه القاسميُّ إلى الحنفيَّة من قولهم فيمَا معناه: «لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُكَفَّرَ الْمَرْءُ فِي أَمْرٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَجْهًا، وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لاَ يُكَفَّرُ، يُرَجَّحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ عَلَى التَّكْفِيرِ لِخَطَرِهِ فِي الدِّينِ» (11). وعدَّ الإمامُ محَمَّد
__________
(1) ينظر: الدرجيني: طبقات، 2/ 208 - 209. المحرمي: الصراع، 306 - 308.
(2) أبو بلال مرداس بن حُدَيْر (أو ابن أُديَّة) التميمي (61هـ/ 670م): تابعيٌّ عالم شاعر ورع من أئمَّة الإباضيَّة. لازم جابر بن زيد وأخذ عنه، والتقى عددا من الصحابة منهم ابن عبَّاس وعائشة. شارك في صفِّين وأنكر التحكيم، وكان من أهل النهروان ونجا. أنشأ جماعة سرِّية منظَّمة ضدَّ جورة بني أميَّة، ولكنَّه أنكر على الخوارج تعرُّضهم للناس بالسيف. سجنه عبيد الله بن زياد، ثمَّ أطلقه. واجهَ جيش ابن زياد مرَّتين، انهزم مرداس واستشهد غدرًا في الثانية. ينظر: جمعِيَّة التُّرَاث: معجم أعلام الإِبَاضِيَّة، ترجمة رقم: 874، 2/ 411 - 412.
(3) ينظر: المحرمي: الصراع، 306 - 308.
(4) ينظر: النامي: دراسات، 84 - 85. المحرمي: الصراع، 306 - 308.
(5) المحرمي: الصراع، 306 - 308.
(6) عبد الله بن صفار الصريمي التميمي (نحو 60هـ/680م): تنسب إليه فرقة الصفريَّة من الخوارج. ينظر: الزركلي: الأعلام، 4/ 93.
(7) سامي صقر: جابر بن زيد، 60 - 61. نقلا عن المحرمي: الصراع، 306 - 308.
(8) [أبو غانم]: الديون المعروض، المدوَّنة، 3/ 322.
(9) المصدر نفسه، 3/ 323.
(10) الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص135. وينظر: السنوسي: شرح المقَدِّمَات، ص104 - 105. هاني ساعي: القانون في عقائد الفرق، ص303. محَمَّد عمارة: فتنة التكفير، ص22، 62.
(11) جمال الدين القاسمي: الجرح والتعديل، ص39.
(1/8)
عبده (1) هذا الكلام من القواعد الدِّينيَّة المشتهرة بين المسلمين (2).
ويقول الدكتور محمَّد عمارة: «فالتقريب بين المذاهب، والذي يمثِّلُ الميدان الحقيقيَّ الفكريَّ المطلوب، هو الذي يوحِّد الأُمَّة في الأصول والثوابت، وفي أمَّهات العقائد والمسائل الفكريَّة .. وهذا هو ميدان علم الكلام .. والجهد التقريبيُّ ـ الغائب والمطلوب ـ هو نزع (الألغام الفكريَّة - التكفيريَّة) التي تقصم وحدة الأُمَّة بالتكفير لفريق من الفرقاء، أو مذهب من المذاهب؛ لأَنَّ التكفير هو نفيٌ للآخر، يقصم وحدة الأُمَّة ... » (3).
2 - الجانب الظني من مقصد حفظ الدين:
إنَّ أغلب الفرق الإسلاميَّة ترى نفسها هي الممثِّل الوحيد للإسلام، والمسائل التي تتميَّز بها هي من قبيل القطعيِّ، إذ الاعتقاد ينبغي أن يكون جازما، ومن باب حفظ الدين عليها أن تستميت في الدفاع عن آرائها. وهذا لا عتاب عليه إذا لم يؤدِّ إلى إقصاء الآخر، وإنَّما العتاب في اعتبار المخالف في تلك المسائل الكلاميَّة أو السياسيَّة خارجا عن حظيرة الدين، وإطلاق أبشع الأسماء عليه. وهذا الإقصاء مبنيٌّ غالبا على أدلَّة ظنيَّة، منها: أدلَّة القرآن الظنيَّة الدلالة، وأدلَّة السنَّة الظنِّيَّة الثبوت أو الدلالة، والأقيسة والإلزامات الظنِّيَّة، وبيان ذلك في الآتي باختصار حسب ما يسمح به المقام:
أ- اعتماد أدلَّة ظنيَّة الثبوت أو الدلالة:
لا شكَّ أَنَّ القرآن قطعيُّ الثبوت، وأنَّه هو المرجع الأوَّل قبل الاختلاف وبعده، قال تعالى: {يَآ أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} (سورة النساء: 59). وممَّا لا شكَّ فيه أيضا أنَّ في القرآن الكريم ما هو ظنِّيُّ الدلالة. وكلُّ الفرق الإسلاميَّة تدَّعي اعتمادها على محكمات القرآن وتذر متشابهه، ويمكن أن تجد فيه - ولو بتكلُّف أحيانا - ما يؤيِّد وجهة نظرها. كما أنَّ في السنَّة ظنِّيُّ الثبوت أو الدلالة، أو كلاهما؛ وبالتالي فإنَّ الخلاف لن يُحسم.
والآية لم تَنُصَّ على أَنَّ التنازع يرتفع بالكلِّيَّةِ إذا تمَّ الرَّدُّ إلى الله والرسول (القرآن والسنَّة)؛ لأَنَّ الاختلاف في الفهم من سنن الله في البشر، وإنَّما نصَّت على أَنَّ ذلك خير وأحسن مرجعا ومصيرا؛ فإذا بحثنا في مسألة خلافيَّة، ووجدنا أَنَّ المخالف يستند فيها إلى القرآن والسنَّة عذرناه وإن لم نتَّفقْ معه في الرأي، وفي هذا خير عميم، ومآل قويم، وهو جمع الشمل، وتقبُّل رأي المسلم الآخر بقبول حسن.
__________
(1) محَمَّد عبده بن حسن خير الله (1266 - 1323هـ/ 1849 - 1905م): أحد أقطاب زعماء الإصلاح في العالم الإسلامي. ينظر: أحمد أمين: زعماء الإصلاح، ص357 - 429. الزركلي: الأعلام، 6/ 252 - 253.
(2) ينظر: الأعمال الكاملة للإمام محَمَّد عبده، دراسة وتحقيق: د. محَمَّد عمارة، طبعة بيروت، 1972، 3/ 283 - 289. نقلا عن محَمَّد عمارة: فتنة التكفير، ص23.
(3) محَمَّد عمارة: المرجع نفسه، ص45.
(1/9)
وفيما يخصُّ أسماء الذمِّ فكثيرا ما يستند علماء الكلام إلى ظنِّيِّ الدلالة من القرآن أو على أحاديث آحاديَّة، وقد تكون ظنِّيَّة الدلالة أيضا، ويقومون بتنزيلها على الفرق المخالفة وآرائها؛ فيظنُّها غير المتخصِّص في الشريعة أقوالا لا تعقيب عليها؛ لأنها تستند على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه. وهنا مكمن الخطر، فيرتفع الرأي والاجتهاد في فهم النصِّ الظنِّيِّ الثبوت أو الدلالة إلى مرتبة الوحي المقدَّس.
ب- اعتماد إلزامات ظنِّيَّة:
أقرَّ الإمام أبو حامد الغزاليُّ بأنَّ كلَّ فرقة ترمي الأخرى بتكذيب شيء ممَّا جاء به القرآن أو الرَّسُول J، إذ قال: « ... لأَنَّ كُلَّ فرقة تكفِّر مخالفتها، وتنسبها إلى تكذيب الرَّسُول. فالحنبليُّ يكفِّر الأشعريَّ زاعما أَنَّهُ كذَّب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى [ ... ] والأشعريُّ يكفِّره زاعما أَنَّهُ شبَّه وكذَّب الرسول [ ... ] والأشعريُّ يكفِّر المعتزليَّ زاعما أَنَّهُ كذَّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى [ ... ] والمعتزليُّ يكفِّر الأشعريَّ زاعما أَنَّ إثبات الصفات تكثير للقدماء [ ... ] ولا ينجِّيك من هذه الورطة إلاَّ أن تعرف حدَّ التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه؛ فينكشف لك غلوُّ هذه الفرق، وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا» (1)؛ وما الجدال في أغلبه بين الفرق إلاَّ إلزامات!. وبالتالي نلاحظ أنَّ هذه الطريقة ليست دوما قطعيَّة؛ لأنَّها تُلزم الخصم بما لم يقله، وقد يُتأوَّل كلامه على غير مراده، وقد يُبتر من سياقه ...
لذلك لا بدَّ من الابتعاد عن الإلزامات؛ لأنَّ أغلبها ظنِّيٌّ والغزاليُّ نفسه لم يسلم من الوقوع فيما عابه على غيره، إذ كفَّر الفلاسفة في ثلاث قضايا (2)، مع أَنَّهُم مؤوِّلون غير مكذِّبين، فجاء ابن رشد ليبيِّنَ أنَّه كان مخطئا في تكفيره، وأنَّهُ لم يكن قاطعًا فيه (3).
ثانيًا: الواقع العملي
إنَّ علماء الإسلام قديما وحديثا بقدر ما تحرَّوا في مسائل الدماء، وحذَّروا من مغبَّة التساهل فيها ... إلاَّ أنَّ التطبيق العمليَّ صعُب في كثير من الأحيان الالتزام بذلك. ولا ريب أنَّ الواقع الذي نعيشه - منذ افتراق الأمَّة طرائق قددًا - من التكفير وما في معناه بين الفرق الإسلاميَّة أكبر شاهد، ولهذه الظاهرة أسبابها في تراثنا
__________
(1) فيصل التفرقة، ص24. ومن ذَلِكَ اتِّهَام أبي عَمَّار المخطئين في التأويل بالكذب على الله، أو التكذيب بالصدق: {فَمَنَ اَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (سورة الزمر: 32)؛ وبالتالي يسوغ الحكم عَلَيْهِم بالكفر. ينظر: أبو عَمَّار: الموجز، 2/ 262.
(2) حسب تصريح الغزالي، فقد كفَّرهم في إنكارهم حشر الأجساد، وفي إنكارهم العقوبات الحِسِّيَّة في الآخرة، وفي «أَنَّ الله لا يعلم إِلاَّ نفسه، وَأَنَّهُ لا يعلم إِلاَّ الكلِّيَّات»، فهذه عنده «أَوَّل درجات الزندقة»، وهي زندقة مقيَّدة لا مطلقة. ينظر: فيصل التفرقة، ص51 - 53. وأَمَّا حسب تعبير ابن رشد فقد كفَّرهم «في القول بقدم العالم، وبأنَّهُ تعالى لا يعلم الجزئيَّات تعالى عن ذلك، وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد». فصل المقال، ص39.
(3) وأرجع خطأه إمَّا إلى سوء فهم مقصود الفلاسفة، أو إلى الاختلاف في التسميات. ينظر: فصل المقال، ص39 - 45. تهافت التهافت، ص43، وفي أغلب الكتاب.
(1/10)
الإسلاميِّ. لا أريد أن أنكأ جراح الأمَّة باستعراض ما في المصادر الكلاميَّة من تبادل لِتُهَم التكفير بين المسلمين، فإنِّي أكتفي بالإشارة إلى بعض ما نجده فيها من مسائل وأحكام تكفيريَّة، بسبب خلافات كلاميَّة (1).
1 - أثر الخلافات الكلاميَّة في التكفير:
- من المسائل التي كانت سببا في التكفير: القول بإثبات خلق القرآن أو نفيه، ذمُّ أصحاب الحديث، رَدُّ شيء ممَّا جاء في كتاب شرح السُّنَّة للبربهاري، التأويل، الاشتغال بالمنطق ...
- ومن الشَّخصيَّات والفِرَق التي مَسَّها هذا التكفير: الإمام أبو حنيفة، والحسين الكرابيسي (2)، وأحمد بن نصر الخزاعي (3)، وأبو مسهر (4)، ومحمَّد بن حبَّان البستي (5)، وأبو الوليد الباجي (6)، ولسان الدين ابن الخطيب (7)، والجهميَّة، والمعتزلة، والفلاسفة، والأشعريَّة، والصوفيَّة، والمرجئة، والرافضة، والقدريَّة ...
- ومن الاتِّهامات الواردة في حقِّ بعضهم: نقض الإسلام عروة عروة، وأنَّهم أشدُّ على المسلمين من اللصوص، وأنَّ نيَّتهم إبطال القرآن والحديث، ووصمهم بالزندقة والتعطيل والارتداد، وأنَّهم أشدُّ كفرا من المشركين، شيعةُ الشيطان، مثلُ الصابئين، مجوسٌ، ملحدون، يهودٌ، أكفر من اليهود والنصارى، أكفر من المشركين ...
__________
(1) ينظر: اللالكائي: اعتقاد أهل السُّنَّة، 2/ 227 - 329. ابن الصلاح: فتاوى ابن الصلاح، 1/ 210 - 211. ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ص 476 - 487. الشاطبي: الاعتصام، 2/ 343، 481 - 483. النشَّار: مناهج البحث، ص145 - 146. حسن المالكي: قراءة في كتب العقائد، ص105 - 121، 143 - 150. السقَّاف: السَّلفيَّة الوهَّابيَّة، ص73 - 74. علاَّل: التعصُّب المذهبي، ص32 - 41. العربي إدناصر: الفكر الأصولي والوعي السياسي في إعادة التأسيس للمفاهيم. مجلَّة الكلمة، فصليَّة تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث: العدد 59، السنة الخامسة عشرة، 1429هـ/ ربيع 2008، نسخة رقميَّة.
(2) أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي (248هـ/862م): فقيه بغداديٌّ شافعيٌّ متكلِّم عارف بالحديث. له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه والجرح والتعديل. ينظر: الزركلي: الأعلام، 2/ 244.
(3) أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي (231هـ/846م): من أشراف بغداد. كان يخالف من يقول بخلق القرآن ويقدح في الواثق بالله. بايع له جماعة فأراد بهم الخروج، فقبض عليه الواثق وقتله بيده في سامراء وبعث برأسه إلى بغداد فنصب فيها ستَّ سنوات! وجسده بسر من رأى. ينظر: الزركلي: الأعلام، 1/ 264.
(4) أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي (140 - 218هـ/757 - 833م): من حفَّاظ الحديث والمغازي وأيَّام الناس والأنساب. ويقال له: ابن أبي دارمة. امتُحن ليقول بخلق القرآن فأبى فأدخل السجن، ومات فيه. ينظر: المرجع نفسه، 3/ 269.
(5) أبو حاتم محمَّد بن حبَّان بن أحمد التميمي البستي (354هـ/965م)، ويقال له: ابن حبَّان: مؤرِّخ، علاَّمة، جغرافيٌّ، محدِّث. ولد في بست من سجستان، وتنقَّل في الأقطار. تولَّى قضاء سمرقند. ثمَّ توفِّي في بست. مصنَّفاته كثيرة، منها: ”المسند الصحيح“، و”روضة العقلاء“، و”الثقات“. ينظر: المرجع نفسه، 6/ 78.
(6) أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي (403 - 474هـ/1012 - 1081م): فقيه مالكيٌّ كبير، من رجال الحديث. أصله من بطليوس ومولده في باجة بالأندلس. رحل إلى الحجاز وبغداد والموصل ودمشق وحلب وعاد إلى الأندلس، فولي القضاء في بعض أنحائها. من كتبه: ”السراج في علم الحجاج“، و”إحكام الفصول“، و”المنتقى“ ... ينظر: المرجع نفسه، 3/ 125.
(7) لسان الدين ابن الخطيب أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله (713 - 776هـ/1313 - 1374م): وزير مؤرِّخ أديب. ولد ونشأ بغرناطة، وبها كان وزيرا. ثمَّ انتقل إلى فاس. وُجهت إليه تهمة الزندقة واتِّباع الفلاسفة. أفتى بعض الفقهاء بقتله، فقتل وهو في السجن. له نحو ستِّين مؤلَّفا، منها: ”الإحاطة في تاريخ غرناطة“.ينظر: المرجع نفسه، 6/ 235.
(1/11)
- ومن الأحكام المترتِّبة عن هذا التكفير: جواز اللعن، وعدم إجازة عيادة مرضاهم، ولا مجادلتهم، ولا التسليم عليهم، ولا مناكحتهم، ولا أكل ذبيحتهم، ولا الصلاة عليهم، لا نصيب لهم في الإسلام، ووجوب استتابتهم فإن تابوا وإلاَّ قُتلوا، والحكم عليهم بالخلود في النار، ولا يخلَّد في النار ـ عند أهل السُّنَّة ـ إلاَّ المشركون.
فهذه الأحكام تدلُّ على أَنَّ الكفر المقصود هو المخرج من المِلَّة، ويؤدِّي إلى فقدان المكفَّر كُلَّ حقوقه باعتباره مسلمًا موحِّدًا، وهو موقف أخطر بكثير ممَّا ذهب إليه قدماء الإباضيَّة، حيث يحافظ المكفَّر عندهم - كفر نعمة بسبب خلاف كلاميٍّ - على كُلِّ حقوق المسلمين، إلاَّ الولاية، وهي في أصلها قلبيٌّ، لا تظهر آثاره في السلوك العمليِّ إِلاَّ قليلا.
وهذا التسرُّع في التكفير أزمة الفكر الإسلاميِّ عمومًا، نتيجة ظروف الصراع الفكريِّ المحتدم، والتعصُّب (1)، ونقص الالتزام بضوابط التكفير، كـ «معرفة حجج الخصم، وارتفاع موانع تكفيره، ومعرفة شبهه واعتذاراته من قوله لا من نقل خصمه» (2)، وكذا ضوابطُ التحرِّي والتبيُّن المطلوبان شرعيًّا ومنهجيًّا (3). قال أحد الباحثين ما ملخَّصه: لقد اكتشفنا خطأنا إذ كفَّرنا أبا حنيفة وأصحابه، فهذا يدعونا إلى مراجعة تكفيرنا لفرق أخرى كالشيعة والمعتزلة والصوفيَّة والأشاعرة وغيرهم، وقد اكتشفنا خطأنا في النقل ونسبة أقوال إلى أبي حنيفة هو بريء منها؛ «فمعنى هذا أنَّ عندنا خللاً في النقل، فنصحِّح الروايات في تشويه الخصم ولا نتفهَّم حجَّة الطرف الآخر، ولا نسمع له، ونكفِّر بأشياء ليست مكفِّرة، أو نكفِّر بإلزامات لا يجوز التكفير بها، فلازم القول ليس بقول، وهذا أيضًا كُلُّهُ ممَّا ينبغي أن يُدرس، لننقد أنفسنا قبل نقد الآخرين، ولنعرف مدى قولنا بالباطل وتصديقنا له، ومدى تفهُّمنا لحجَّة الطرف الآخر» (4). وهذا الكلام ينبغي أن يقوله كُلُّ باحث نزيه لأتباع فرقته.
وأمَّا التسرُّع والتعميم في الحكم بالتفسيق والتضليل والتبديع فلا شكَّ أنَّ المطَّلع على التراث وعلى مواقع الإنترنت سيجد أمثلة كثيرة من هذا القبيل. وقد استعرض البستيُّ في كتابه «البحث عن أدلَّة التكفير والتفسيق» عدَّة أدلَّة ـ أغلبها عَقلِيَّة ـ على التكفيرات والتفسيقات المتبادلة بين فرق المسلمين، وتوصَّل في أغلبها إلى أَنَّهَا ليست صحيحة (5).
ومثل هذه الأسماء والأحكام الخطيرة قد تلقَّفتها بعض الجماعات المتطرِّفة، واستندت إليها في جرائمها ضدَّ الإنسانيَّة، وأهلكت بها الحرث والنسل، وشوَّهت بها صورة الإسلام. ووضعت في آذانها وقرًا عن سماع الأصوات المعتدلة، المنادية بتحكيم قواطع الوحي، وضوابط العقل. كما استغلَّتها بعض السياسات المتعاقبة على الأمَّة
__________
(1) ينظر: علاَّل: التعصُّب المذهبي، ص32 - 41.
(2) حسن المالكي: قراءة في كتب العقائد، ص108.
(3) ينظر: بازمول: التكفير وضوابطه، ص19 - 51. محَمَّد الحسن الدَّدو الشنقيطي: فقه العصر، ص47 - 49.
(4) حسن المالكي: قراءة في كتب العقائد، ص108.
(5) نوافقه في أغلبها، وبعضها تحتاج إلى نقاش. ينظر: أغلب صفحات الكِتَاب، لاسيما ص166 - 174.
(1/12)
الإسلاميَّة، لتتفنَّن بشتَّى وسائل التعذيب والقتل والتدمير. وما ذاك إلاَّ بالبعد عن المنهج الربَّانيِّ القطعيِّ. مع أنَّ ديننا هو الإسلام، وهو من اشتقاقات كلمة «سلم»، وتحيَّتنا السلام، وسمَّانا أبونا إبراهيم مسلمين!.
2 - توظيف أسماء الذمِّ على المخالفين:
كثيرا ما تطلق كلُّ فرقة من المسلمين شرَّ الأوصاف وأقبحها على مخالفيها (1)، وقد يكونون من نفس المدرسة (2)، وأحيانا دون تثبُّت أو مناقشة. قال حجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي: «واعلم أَنَّ للفرق في التكفير مبالغات وتعصُّبات، فربَّما انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كُلِّ فرقة سوى الفرقة التي يعتزي إليها» (3).
يُلاحَظ لدى أغلب الفرق الإسلاميَّة أَنَّ المسألة الكلاميَّة التي تختلف عن رأي المذهب (أيِّ مذهبٍ) إذا قال بها أحد علماء المذهب حاولنا أن نوجد لها مبرِّرات ترفع عنه حكم التكفير، وأمَّا إن جاء بها المخالف اعتبرناها مسألة قطعيَّة (مسألة دين لا مسألة رأي) لا يجوز الخلاف فيها، وقطعنا فيها عذره. وأَنَّ النقاش إذا كان ردًّا على أحد المخالفين كان الأسلوب عنيفا، ولا مكان فيه لحسن الظنِّ بالآخر إلاَّ قليلا، أمَّا إذا كان النقاش ردًّا على أحد علماء المذهب كان أسلوب الحوار أرفق، والتماس الأعذار فيه أسبق.
وهذا ما يعتب عليه الإمام أبو حامد الغزالي بكلام في غاية الأهمِّيَّة، إذ قال فيما معناه: إذا كانت مخالفة الإمام الأشعريِّ كفرا، فقد خالفه الباقلاَّنيُّ في بعض المسائل الكلاميَّة (4)، فإن شُدِّد عَلَيْهِ ووُسم بالكفر، فلِم كان أولى بالكفر من الأشعريِّ، أَلِمُجرَّد السبق الزمنيِّ، فإن كان السبق مقياسا فقد سبق المعتزلةُ الأشعريَّ فلِمَ لَمْ يكونوا أَوْلى بالحقِّ منه؟ وإن رُخِّص في الخلاف للباقلاَّنيِّ فلِم يُحجَر على غيره؟ ولِمَ يَتعسَّف بعض المتعصِّبين في تبرير آرائه، ويعدُّونها من قبيل الخلاف اللفظيِّ، بينما يشدِّدون على المعتزلة في خلافهم للأشاعرة؟ (5).
وإذا كان هذا الطرح الراقي من الإمام الغزالي في حقِّ أهل السُّنَّة فحسب، فنحن نعمِّمه على سائر الفرق الإسلاميَّة. وقد سبَقَنَا الشيخُ البستي الزيدي إلى هذا التعميم، وإلى التماس الأعذار للفرق، فأغلب كتابه اعتذارات لمقالات الإسلاميِّين، ليصل في النهاية إلى أَنَّهَا لا تستلزم ال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق