عنوان البحث: أثر النظرة التوحيدية للعلوم على التكامل المعرفي العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع أنموذجا
المؤلف: مصطفى ابن دريسو
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
أثر النظرة التوحيدية للعلوم على التكامل المعرفي
العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع أنموذجا
ابن ادريسو مصطفى
تمهيد:
إن الحديث عن التكامل المعرفي يجرنا إلى استحضار أسس نظرية المعرفة التي تعتبر أن مصدر معارف الإنسان إما العقل أو الحس أو الوحي، هذا الأخير الذي يعتبره المسلمون رافدا معرفيا أساسيا في الحياة نظرا لعجز الإنسان عن الإحاطة بالمعارف، ولافتقاره إلى آليات التعرف على العالم الغيبي إلا مما جاء عن طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام، وبالتالي صارت نظرية المعرفة تستند إلى أسس ثلاثة لا مناص من استبعاد إحدى العناصر الثلاثة. لكن الإشكال الذي يعترض المتعلم والدارس للعلوم في هذا العصر هو القطيعة المعرفية التي تغشى عقله، والتمويه المشوه لمعارفه بحيث صار ينسب الأمور إلى نفسه، ويسمي الاكتشافات بمسميات إنسانية مغيبا أثر صانع تلك المكتشفات، ومعرضا عن تبيان حقيقة عمله أمام موجد تلك القوانين والنظريات، وهذا ما ولد إلحادا معرفيا خطيرا في العقل الإنساني، وركودا ميدانيا عن البحث في الحقائق المعرفية، وعجزا عن التبحر في العلوم والتقصي فيها، وكل ذلك سببه –في نظرنا- غياب النظرة الصحيحة عن العلاقة بين العلوم وحقيقة كون الله.
وسنحاول في هذه المقاربة أن نوضح المستور، ونكشف المحجوب عن أعين الكثير منا، تصحيحا للمنظومة المعرفية للمسلم، وتبيانا أن كل معارف الإنسان وكل الدراسات العلمية والإنسانية دون استثناء لا تخرج عن البحث في كون الله، سواء اكتشاف للجديد، أو رسكلة للموجود.
1 - النظرة التوحيدية للعلوم:
بنظرة مجردة إلى الحقائق الكونية سنتوصل إلى أن كل العلوم تبحث في كون الله، ولا تخرج عنه مطلقا، لذلك لا مجال للإلحاد أو العلمانية الداعية للفصل بين العلم والله، لأن هذه مغالطة معرفية أورثها لنا الفكر الغربي ذي القطيعة المعرفية بين ما هو من الله وما هو من البشر، بينما المسلم يؤمن أن كل شيء من الله، ويعتقد أن كل من بحث في أمر ما إنما هو ينقب في كون الله، من باب قوله تعالى: فَبِأَيِّ ءَالآَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وهذه نماذج واقعية عن هذه النظرة المعرفية التكاملية.
- علوم المادة: قد يتصور المتتبع لعلم الفيزياء والكيمياء أن القوانين التي تسير الظواهر الفيزيائية وتركب الجزئية المعدنية والغازية إنما هي قوانين مجردة عن أي تأثير خارجي، وتخضع للحتمية المطلقة،
(1/1)
فمثلا من القوانين الفيزيائية قانون الجاذبية المنسوب إلى العالم إسحاق نيوتن الذي لاحظ سقوط تفاحة فتساءل عن سبب هذا السقوط، فقد مكن هذا القانون الإنسانية من استغلاله في أوسع نطاق، وتطوير مجالات معرفية ضخمة، يعود الفضل فيها إلى مكتشف هذه الظاهرة. كما أنه من الظواهر الكيميائية ظاهرة التفاعل الذري بين العناصر الكيميائية، التي ترتبط فيها ذرات المعادن والغزازات ببعضها وفق الحاجة إلى التبادل الإلكتروني، مما يشكل جزئيا جديدا، ونمثل لذلك بتلاحم ذرتي الهيدروجين مع الأكسجين ليمدنا بجزيء الماء.
فهذا نموذج للنظرة التحليلة الفيزيائية والكيميائية لكل الظواهر المادية، وبهذه الطريقة تدرس في المدارس، وتشرَّح في المخابر، لكن المتفحص الدقيق لهذه الظواهر سيلاحظ أشياء أخرى في نفس هذه الظواهر قل ما ينتبه إليها الباحثون المسلمون فضلا عن الغربيين، ذلك أننا نجد في المثالين السابقين تغييب لحقيقة أساسية هي لب الظاهرتين وجوهرهما، لكن لا اعتبار لها مطلقا في التحليل العلمي السابق، ولا أثر لها في البحث العلمي، ونقصد بهذه الحقيقة نسبةَ الأمر إلى صاحبه الأساس، وتبيان من وراء إيجاد هذه الظواهر، ومن ثم تحقيق النظرة التوحيدية للكون.
فقانون الجاذبية بهذه النظرة الجديدة لا ينبغي أن ينظر إليه فيزيائيا وكفى، وإنما تقتضي النظرة التكاملية للمعارف أن يصرح بأن هذا القانون مما أودعه الله في كونه، وبه تسير كل الأجرام السماوية والمواد في الطبيعة، وتستلزم النظرة التوحيدية أن يقال بأن نيوتن مكنه الله من اكتشاف ما استودعه في كونه، ويقال أيضا بأن العلم استطاع بفضل الله أن يضم عنصرا كيميائيا من خلق الله إلى عنصر آخر من نفس المصدر ليحصل الإنسان في النهاية على عنصر كيميائي جديد من خلق الله.
والفائدة الأولى من هذه النظرة التكاملية للمعارف تجعل الإنسان الفاني لا يغتر فينسب الأمر إلى نفسه فقط، ويترك موجِد الظاهرة ومفعلها دون ذكر، لأن الإنسان في الحقيقة لم يأت بأمر جديد من عنده، وإنما له فضل الملاحظة الدقيقة وفضل صياغة الافتراضات المتعددة ثم التحقق منها وفق المنهج التجريبي، ليصل في الأخير إلى صياغة قانون يربط الأسباب بمسبباتها، ويقيس الأمور بدقة، فلا يحق بأي شكل تمجيد الملاحظ وتسمية القانون الجديد باسمه، وتغييب موجِد الظاهرة وراعيها، الذي هو الله.
والفائدة الثانية المستخلصة من الدعوة إل التكامل المعرفي هي غلق السبيل على الإنسان من التطاول على الظواهر الكونية واستغلالها لصالحه ومنافعه الخاصة ولو على حساب الآخرين، والحد من الاستعمال الجشع للطاقات الكونية والاختراعات بمقصد جلب الأرباح فقط، لأن الإنسان الذي يسند الأمر إلى الله، سيراعي مقصد الله من إيجاد هذه الظاهرة، ويستغل الطبيعة استغلالا عقلانيا ليس فيه تسلط ولا تجبر على الآخر.
(1/2)
أما الفائدة الثالثة فإنها تعود بالخصوص على المؤمن بالله، والمتمسك بدينه وفق كتاب الله وسنة رسوله، وسيجنيها المسلم الذي أصيب بالفتور في علمه وبالركود في التفاعل الحضاري كغيره من الفاعلين الناشطين في تقصي الحقيقة العلمية في كل شيء، وهذا الفتور كان جراء الغبش المعرفي الذي أصيب به عقله، فتأثر بالأوروبين الذين اكتووا من نار الكنيسة في عهد الظلام، فقرروا فصل الله عن العلم، فلما أصيب المسلم بشظايا هذه المعرفة عن طريق المناهج الدراسية، ومناهج البحث العلمي لم يجد منفعة في ترويض الكون له ولا تسخير كل ما فيه لصالحه وصالح الإنسانية، دون ضرر ولا أذى، ونسي الطريق السوي الذي سلكه الأنبياء والرسل عليهم السلام في دعوة قومهم عن طريق التفاعل الإيجابي مع الكون، كصنع سيدنا نوح عليه السلام للسفينة، ومداواة سيدنا عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص، وغفل المسلم أيضا عن تقصي سيرة سلفه الصالح الذين جمعوا تقصي الحقيقة في علوم الشريعة وعلوم المادة دون أي حرج معرفي، فألفوا في مختلف المجالات العلمية والشرعية على حد سواء باعتبارها أن مصدرها واحد وهو الله.
- الفلك: ما قيل عن العلوم المادة يقال عن علم الفلك، الذي نجد له أيات عديدة في القرآن الكريم توصي بالنظر في ملكوت الله تعالى، كقوله تعالى: اِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لأَيَاتٍ لِّأُوْليِ الاَلْبَابِ، كما أن الكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجهوا أقوامهم إلى حقائق فلكية دقيقة ساندها علم الفلك المعاصر، مما يدل على إيمانهم بأهمية التفاعل الإيجابي مع كون الله، فهذا سيدنا نوح عليه السلام نبه قومه إلى ظواهر طبيعية في غاية الوضوح، فبين لهم ضياء الشمس، وانعكاس ضوئها على سطح القمر ليشع نورا يتلألأ في الليلة المقمرة، فقال لقومه: اَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا. فلو أدرك المسلم حقيقة دوره في الحياة، وآمن بعدم وجود انشطار معرفي بينما هو من الله وبين ما ينسب لعلوم الدنيا لسعى أن يصل إلى القمر ما دام أنه يعكس الضوء وليس هو مصدره، ولسعى أن يكتشف كون الله بحرارة عقدية دافقة.
وتفيد هذه النظرة أيضا في هذا المجال من عدم تغييب الله مطلقا في آلائه لأجل إنسان اعتكف لشهور أو سنوات فرأى جرما سماويا فينسب إليه، فيقال مثلا: كوكب بلوتو، وينسى ذكر الله الذي خلق الكوكب وما فيه من غازات وعواصف، وأودع فيه جاذبية وأشياء أخرى لا زالت لم تكتشف بعد.
وملخص الحديث في التكامل المعرفي أنه لا ينبغي أن ننظر إلى العلم بنظرة تجزيئية، ولا يحق لنا أن نفصل بين علوم دنيوية وعلوم أخروية، لأن كل العلوم باستحضار العقيدة الصحيحة هي من الله، من
(1/3)
باب قوله تعالى: قُلِ اِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَآيْ وَمَمَاتِيَ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وقوله تعالى: إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ ءَلاَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. والنظرة التوحيدية خير محفز على التفاعل مع كون الله، وستحملنا على مشاركة الأممَ في الصناعة والفنون، واستشعار رقابة الرحمن في تصرفاتنا وأقوالنا، وستصحح لنا المفاهيم فنعتقد أن الجالس في كرسي الدراسة هو العابد الحقيقي لله، وأن المهندس المبتكرَ لقانون طبيعي جديد هو المسبح لله عمليا بعد أن كان يسبح تسبحا قوليا بلسانه وقلبه، وأن الباحث الذي يجتهد في مخبره مكتشف لآلاء الله، ومستخرج لما سخره الله لنا من حيوان ونبات ومعادن وهواء، وأن العامل في متجره ووظيفته مستخلَف من الله في أرضه.
2 - دور الأنبياء في بناء الحضارات.
إن الحقيقة العظمى التي حملها الأنبياء على كاهلهم هي دعوة الخلق إلى عبادة الله الواحد القهار (1)، وإيضاح ما أبهم على الناس، وبيان ما غاب عن أنظارهم، فلذلك كانوا مجدين في إعلام أقوامهم بالمصير المحتوم للإنسان في الآخرة، وترشيدهم إلى سنن الله في كونه، وإن الهدف من قص الله قصصهم على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو تثبيت قلبه - صلى الله عليه وسلم - وتسليته، وهداية المؤمنين ورحمتهم، يقول تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَآءِيلَ أَكْثَرَ الذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُومِنِينَ (77)، فأحداث قَصصهم هي حقائقٌ كونية وقعت في الزمن الماضي، ولا يزال إشعاعها يستنار به لحاضرنا، وسيبقى عبقُ نورِها يُستشرف به لمستقبَلنا، قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فعلينا أن نقر بأن الحضاراتِ لم تقم إلا بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام؛ هداةً ناصحين إلى الحق، ودعاة موجهين إلى التفاعل الإيجابي مع كون الله، وإن غيبت القراءةُ الجوفاءُ في كتب التاريخ المعاصر الدورَ الأساس للأنبياء في بناء حضارة أقوامهم، وأبعدت تحليلاتُ الأوربيين الذين فكوا رموزَ الكتابات القديمة ورسومَ الحفريات معاني توحيد الله، فصاروا يفسرون كلَّ صور الحكام على أنها رموز للآلهة المتعددة، ويحللون كلَّ شيء بمنطق الوثنية والشرك، وغرضُهم في ذلك إقرار حرية الإنسان الأول من القيود، وتوثيقُ الانحلال الخلقي والفحش والمنكر كأصول متجذرة في العنصر البشري.
فلو أخذنا كمثال الحضارة المصرية فسنجد أنها انتشرت في بلاد صحراوية تحرقها الشمس،
__________
(1) الصابوني: النبوة والأنبياء: 36.
(1/4)
واحتشدت في واد ضيق يرويه نهر النيل، واتسعت إلى عدة مدن، ودامت 30 قرنا (1)، السلطة الكاملة فيها للحكام الفراعنة الذين يقال إنهم يعتبرون أنفسهم آلهة، أو ينحدرون من نسل الآلهة، لإعطاء المهابة للحاكم، والاستسلام له بالسلطة المطلقة في تسيير الدولة. وكانت صورتهم في الغالب على هيئة بشرية برؤوس حيوانية دليلا على اتحاد الإقليم الجنوبي مع الشمالي، الذَين كانا يتميزان برموز خاصة لكل منهما (2).
وأغلب تفسيرات هذه الحضارة انطلقت من خلال أبحاث شامبليون (3) الذي فك شفرة اللغة الهيروغليفية، بتفسير الإشارات التي تحتوي على أشكال من الطبيعة والإنسان والحيوان والنبات والماء والشمس وغيرها من الظواهر الطبيعية على أنها آلهة، وسارت الأبحاث بعده على تحليلاته، وغيب أثر الأنبياء مطلقا من حياة هذه الحضارة رغم أن إسماعيل حامد عدد 19 نبيا عاشوا على أرض مصر (4)، وعلى رأسهم سيدنا موسى ويوسف عليهم السلام.
فلو أعاد الباحثون المسلمون المتخصصون قراءة الأثريات بمنطق قوله تعالى: وَإِن مِّنُ امَّةٍ الاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ، وقولِه أيضا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً، وبإشعاع الآية الجامعة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالاِنسِ أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمُ ءَايَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمُ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) ذَالِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ. لتوصلوا إلى نتائج مختلفة عما يشاع عن حضارة مصر، ولأدركنا قيمة التغييرات التي أحدثها الأنبياء في المجتمع المصري، ولعلمنا أن هذه الحضارة الطويلة لم تكن كلها وثنية كما يشاع، فهذا غير معقول تماما، ويتعارض مع نواميس الله في كونه، وإنما كان للأنبياء دور مهم
__________
(1) - مرت الحضارة المصرية القديمة بثلاث دول كبرى هي: الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة؛ انظر: أبوالمحاسن عصفور محمد، معالم تاريخ الشرق الأدنى من أقدم العصور إلى مجيء الاسكندر، بيروت، دار النهضة، ص: 94.
(2) - سليم أحمد أمين، عبد اللطيف سوزان، دراسات في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم، مصر دراسة حضارية، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، ص 81.
(3) - جون فرانسوا شامبليون (1790 - 1832)، عالم فرنسي استطاع فك رموز اللغة المصرية القديمة بعد استعانته بحجر رشيد (مكتوب في 196ق. م) الذي كان قد اكتشف أثناء الحملة الفرنسية على مصر1799، وقد نقش على الحجر نص بلغتين وثلاث كتابات: اللغة الأولى: المصرية القديمة ومكتوبة بالهيروغليفية التي يكتب بها في جدران المعابد والبرديات لقداستها، ومكتوبة أيضا بالديموطيقية وهي الكتابة الشعبية، وبالقبطية كذلك. أما اللغة الثانية فهي اللغة اليونانية المكتوبة بالأبجدية اليونانية.
ومن خلال المقارنة بين هذه اللغات والكتابات تمكن شامبليون من فك طلاسم الكتابة الهيروغليفية.
(4) إسماعيل حامد: الأنبياء والرسل في مصر القديمة: ديانة المصريين القدماء بين تعاليم الأنبياء وتحريف الكهنة، مكتبة النافذة، مصر.2011.
(1/5)
في توجيه الناس في دنياهم وآخرتهم، وإيقاظ الهمم لصنع مجتمع متحضر، وإلى استغلال كون الله المفتوح لاكتشاف آلائه، وكشف أغواره.
وهذا سيدنا سليمان الأواب - عليه السلام -، الذي تفاعل مع الإنسان والطير والجن وأجريت له الريحُ رخاءً وعاصفةً، وسخر الله له الشياطينَ يبنون له الأعاجيبَ ويغوصون في البحر، ووُهب له الخيلَ السراع، والجيشَ المطاعَ المنظم، ووُهب فوق كل هذا المُلكِ التذللَ لمالك يوم الدين، والخضوعَ للقاهر فوق عباده، فقال الله عنه: "وَلَقَدَ ـ اتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا، وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُومِنِينَ".
فسيدنا سليمانُ - عليه السلام - لما قدم له الهدهد تقريرا عن الحالة السياسية، والاقتصادية، والدينية للمملكة التي عاينها وزارها، أمره أن يحمل رسالةً إلى الملِكة فقال: "اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ". ولما ألقى الهدهدُ الكتاب بين يدي الملِكة، قرأته وجمعت وزراءَها ومستشاريها قائلة: "يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ اِنِّيَ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ"، وتلت عليهم مضمونَه، وفيه: "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ"، ولما أكملت قراءته، أجمعت حاشيتها واستشرتهم ثم قررت الملكة الحكيمة أن تصانع سليمان بالهدايا، فغضب على ذلك وعزم على إحضارها، فقال لوزرائه من الإِنس والجن: "قَالَ يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ اَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَّاتُونِي مُسْلِمِينَ". فتسارع جنودُ سليمان وأنصارُه لتلبية الطلب، وإذا بعرش ملكة سبأ حاضرٌ بين يدي سليمان - عليه السلام - قبل أن يرتد إليه طرفه. فلما رآه مستقراً عنده قال: "قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ".
ويستوقفنا في هذه القصة الإيمانية استعمال سيدنا سليمان - عليه السلام - كلَّ مظاهر العظمة في حضارته لدعوة ملكة سبأ إلى الله الواحد الأحد، إذ أرسل إليها كتابا وصفه الله بأنه كريم، فبمجرد أن تلقته الملكة قرأت فيه حضارةَ سيدنا سليمان - عليه السلام -، وأدركت قدر المرسِل، فربما كان الكتاب من ورق راق وخفيف استطاع خلق ضعيف مثل طائر الهدهد أن يحمله آلاف الكيلومترات، ولنا أن نتخيل نوعية المداد والخط والزركشة التي طُرزت بها الرسالة، ولذلك وصفه رب العزة بالكريم.
وعندما حضرت الملكة بجيشها إلى سليمان - عليه السلام - وجدت عرشها الموصوف بالعظمة من رب العظمة ماثلا أمامها وقد غُيِّر فيه بعض الشيء، ولم يكتف هذا الحكيم بإحضار العرش وتنكيره، فإنه صنع للملكة قصرا جعل أرضَه من الزجاج، وأسال الماء من تحته، حتى توهمت الملكةُ وانخدعت، مع أنها تدرك ما يصنعه الخدم لملوكهم، وتعرف زخارفَ القصور وأبهاتِها، فكانت هذه العروض الحضاريةُ سببا لإسلامها، والحمد لله.
(1/6)
اهتمامهم أفلا يستوقفنا هذا الأمرُ طويلا لنحاسبَ أنفسَنا، لماذا تخلينا عن صناعة الحضارة في عهدنا؟ ولماذا صرنا نستهلك حضاراتِ غيرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا وتخلفنا نحن؟ ولماذا بتنا في مؤخرة الركب؟ ولماذا صار غيرنا يبيدنا ويستعبدنا؟ ولماذا تخلينا عن التألق في العلوم وتركناها لغيرنا يسيطر عليها كيفما يشاء ويحلو له.
ويظهر لنا جليا بعد استعراض نماذج من رسل الله تعالى في اهتمامهم بالمعرفة والحضارة أهمية الدعوة الجادة إلى اعتبار العلوم كلها من الله، ومن واجب الإنسان المسلم أن يتمكن فيها، ويتقنها، ويكتشف الجديد فيها، ويسهم في اختراعات معاصرة تثبت اعتزازه بكون الله، وإيمانه بتسخير الله لما في السماوات والأرض للإنسان المؤمن المنسجم مع الله وكونه وبالتالي عدم الفصل بين الله والعلم، وإمكانية استفادة العلوم المتقاربة من بعضها.
3 - الظاهرة الاجتماعية والدين:
قبل الحديث عن التفاعل المعرفي بين علم الاجتماع والعلوم الإسلامية ينبغي أن نتعرف على مجال دراسة علم الاجتماع، ونحلل نظرته إلى الدين، حتى يتسنى لنا معرفة هل يمكن الاستفادة منه في العلوم الإسلامية أم لا؟ ونكتفي بعرض نظرة رائدين اجتماعيين هما: دور كايم، وما كس فيبير.
أ) الظاهرة الاجتماعية عند دور كايم، وتحليله للدين:
بعدما تبنى دوركايم القول بشيئية الظاهرة الاجتماعية، استطاع العلم أن يتطور تطورا معرفيا ومنهجيا ملحوظا، فصار يدرس الظواهر الاجتماعية بأقيسة رقمية وبقراءة سوسيولوجية للنتائج الإحصائية، لكن الإشكال الذي يعترضنا هو أن منطلق الشيئية عممها دور كايم على كل الظواهر الاجتماعية بما فيها الدين الذي يراه من وضع المجتمع وليس من الله، فكرس بذلك القطيعة المعرفية بين الله والعلم، وأبعد أثر الدين في حياة المجتمعات، وإزاء هذا الوضع المأساوي هل يمكن الاستفادة من هذا العلم؟ وكيف يمكن تصحيح هذا الإلحاد المعرفي؟ وهل نستطيع أن نقيم توأمة بين هذا العلم والعلوم الإسلامية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا العنصر إن شاء الله.
انطلق دور كايم في تحليل الدين من ملاحظة وجود قواعد سابقة على الفرد تحكم تصرفاته، مثل: إحساسه بالإجبار الجماعي، وشعوره بالارتباط العاطفي بالجماعة، مما يتحتم عليه الانضباط في المجتمع، وتتبع الأخلاق السائدة في مجتمعه، وذكر أن هذا النظرة الاجتماعية لم يصنعها الإنسان من قناعته، وإنما وجدها كاملة منذ ولادته، فقال في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي: "عندما أدفع بمهمتي كأخ، كزوج، أو كمواطن، عندما أنفذ الالتزامات التي تعاقدت عليها، فإنني أؤدي واجباتي التي تحددت بعيدا عني وعن أفعالي، الواجبات التي تحددت في القوانين والأعراف ... وعلى الرغم من أنها [القوانين
(1/7)
والأعراف] متوافقة مع مشاعري الخاصة، وأنني أشعر داخليا بأنها حقيقية، إلا أن هذه العلاقات لا تكشف عن أنها علاقات موضوعية، لأنني لست أنا الذي صنعتها ... ".
استغل الملاحظة السابقة ليعلن أن المجتمع أسبق وجودا من الفرد، وأنه هو الذي يحدد له علاقاته، ويؤثر فيه مباشرة، لذلك لا يمكن إهمال الظاهرة الاجتماعية، وهذا ما مكن دور كايم من تعزيز أهمية المجتمع على سلوك الأفراد، ودعوته إلى التماسك الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع الحديث، فتساءل:
- ما الشيء الذي يحافظ على الرابطة الاجتماعية بين الأفراد في المجتمع الحديث؟
- هل يمكن الاعتماد على القوانين الوضعية والأخلاق للدعوة إلى التماسك الاجتماعي في المجتمعات الحديثة المتميزة بعقلانية مجردة.
- هل يمكن اعتبار هذه القوانين بديلا عن الدين وأشكاله؟
حاول دور كايم أن يجيب عن هذه الأسئلة وغيرها في كتابه: الأشكال الأولية للحياة الدينية، سنة 1912، متأثرا بأوجست كونت ت: 1857م، الذي أقر أن العلم هو المظهر النهائي للمعرفة الإنسانية، وأن المجتمع الحديث –الأوروبي- في مرحلة علمية وضعية لا ينبغي أن يفسر ظواهره بتفسير لاهوتي، ولا ميتافيزيقي.
وافترض أن الدين يتشكل في أجزاء بسيطة، وأن مشاعر المؤمنين هي التي تعطي الطبيعة المقدسة للدين، وأن الدين هو الشكل الأولي للروح المشتركة بين الأفراد. وللإجابة عن فرضياته أنجز دراسة علمية مختارا مجتمع بحثه من القبائل البدائيين في أستراليا، على الرغم من أنه يعرف أن مظهر الدين عند هذه القبائل يبدو في أشكال غريبة، لكنه برر ذلك بكون معتقدات البدائيين الدينية بسيطة يمكن اكتشاف أجزائها، وأن مظاهر الدين بسيطة لم تتغلغل في البناء الاجتماعي فيصير معقدا، مثلما هو الحال في المجتمعات المركبة.
اعتمد دور كايم في دراسته على "لونج" في كتابه المنشور بلندن سنة 1791، وعلى لويس مورغان في كتابه: المجتمع القديم سنة 1877، الذي تحدث عن الطوطمية، وحدد خصائصها، وأشار إلى شيوعها بين القبائل الهندية في شمال أمريكا ووسطها، وعلى الأمريكي "فريزر" في كتابه "الطوطمية"، و"الغصن الذهبي". وعلى دراسات الباحثَين "بالدوين سبنسر، وغيلين" اللذين درسا عددا من القبائل الأسترالية التي تدين بالطوطمية كعقيدة، مثل قبائل: الأرونتا، واللوريتشا، ويورابُنا.
توصل دوركايم في دراسته إلى بناء فكري "نظرية" حول الطوطم والمجتمع، وهذه أهم نتائجه:
- تتم العلاقات بين الأفراد في المجتمع البدائي على أساس اشتراكهم في الاسم والرمز الطوطمي، وليس على أساس المعاشرة، أو السكنى، أو صلة الدم.
(1/8)
- الطوطم هو رمز لوحدة الجماعة، وأساس العلاقات بين الأفراد.
- الطوطم دين الإنسان البدائي: وتقديس الإنسان البدائي للطوطم هو تعظيم لقوة المانا، وتعظيم الطوطم يوقظ المشاعر المتشابهة بين المؤمنين في العشيرة الواحدة، ووجود مشاعر المؤمنين بالطوطم الواحد هي التي تشكل الطبيعة المقدسة لهذه الطواطم، حيث تتجلى مشاعر المؤمنين بالطوطم المقدس عن طريق طقوس الأعياد، والاحتفالات الصاخبة، كالرقصات، والصراخ، التي تمنح القوة الخارقة للفرد، وتبين له وجود عالمين غير متجانسين: عالم الرتابة (الدنيوي).
- ثم بين دور كايم في الأخير أن الفكرة الدينية تتولد لدى البدائي من التوهج في الطقوس، ومن تقديس الطوطم الذي ينتمي إليه ويحتفل به، واعتبر أن تقديس البدائي للطوطم، والاحتفال به، هو تقديس –من غير قصد- بقوة المجتمع الذي أقر بالطوطم وشرع الاحتفال به، ومن ثم فإن الفكرة الدينية حسب دور كايم وليدة المجتمع، وليس الطوطم أو الإله كما يعتقد البدائي وغيره من المتدينين، قديما وحديثا. وعليه أقر أن منشأ الدين من الإيمان بالطوطم، وأن الطوطمية هي أقدم ديانة بشرية، ومصدر الدين للبدائي، والطوطمية باعتبارها مقدس وطقوس، ما هي إلا عبادة المجتمع نفسه، دون أن يشعر الأفراد بذلك.
وبعد هذه النتائج المتعلقة بالقبائل البدائية عمم دور كايم مفهوم الإله عند المجتمع البدائي (أستراليا) على مجمل الفكرة الدينية، فاعتبر أن الظاهرة الدينية مهما كانت هي خضوع للمجتمع، أو الأفراد الذين أسسوا الدين (الضمير الجمعي)، وأقر أن عبادة الآلهة ليست سوى إسقاطات لسلطة المجتمع أو قوته، وأن الدين ظاهرة اجتماعية، ويدرس كما تدرس أي ظاهرة اجتماعية، لأنه منبثق من المجتمع، وليس من ظاهرة غيبية. ثم بين أن مقصد الفكرة الدينية في المجتمع الآلي (التقليدي) هو الحفاظ على التماسك الاجتماعي من خلال الطقوس التي تفرض الانضباط، والاحتفالات الدينية التي تجمع النّاس (يتوجه بها إلى الطوطم، أو الإله). أما في المجتمع الحديث فإن التماسك الاجتماعي ينبغي أن يتحقق عبر بدائل عقلانية، مثل الوعي الجماعي، والقوانين الأخلاقية، والوحدة السياسية.
يظهر لنا جليا بعد هذا العرض المختصر أن دور كايم كانت له نظرة إلحادية صريحة في تبني أسس علم الاجتماع، تتعارض كلية مع النظرة التوحيدية للعلوم حسبما رأيناها سابقا، لتفتح لنا هذه النتيجة السؤال التالي: كيف يمكن تهذيب نظرة دور كايم للظاهرة الاجتماعية، وتعديل نظرته للدين؟ حتى يتسنى لنا الاستفادة من هذا العلم، والتوأمة بينه وبين العلوم الإسلامية.
ب) الظاهرة الاجتماعية والقيم عند ماكس فيبير:
(1/9)
كتب العالم الألماني ماكس فيبير (1836 – 1920) كتابا قيما سماه "الأخلاق البروتستانتية، والروح الرأسمالية"، حلل فيه مسألة تأثير الأحكام الأخلاقية على السلوك الاقتصادي، فقدم الكتاب في مجمله نظرة مغايرة للنظرة الراديكالية لدور كايم الفرنسي عن الظاهرة الاجتماعية، ونظرة أكثر واقعية لمفهوم الدين، وأوضح بجلاء الفكرة الدينية بعيدا عن اعتبارها شيئا وظاهرة اجتماعية، مما يدعونا إلى وقفة مع محتويات الكتاب، واستعراض أهم نتائجه.
ارتكز ماكس فيبير على دراستين أساسيتين: الأولى لتلميذه أوفنباشر، صاحب كتاب: "الاتجاهات الاقتصادية للكاثوليك والبروتستانت"، حيث توصل هذا الأخير إلى النتائج التالية:
1 - نسبة طلاب الكاثوليك في المؤسسات تقنية، والصناعية، والتجارية ضئيلة قياسا على البروتستانت.
2 - مشاركة الكاثوليك قليلة في المشاريع والصفقات في ألمانيا، لأنهم منشغلون بالسياسية، خلاف البروتستانت الذين آثروا النشاط الاقتصادي، لسببين:
- إشباع طموحهم خارج خدمة الدولة.
- لأنهم مستبعدون من الواقع السياسي.
3 - أغلب المناطق المتطورة في ألمانيا هي من البروتستانت، لاهتمامهم بالاقتصاد منذ ق 16م.
والثانية وثيقة ليهودي يدعى بنيامين فرانكلين أودعها في كتابه "ملاحظات ضرورية لمن يرغب في أن يكون ثريا" والصادر سنة 1736م، وتتضمن الوثيقة الدعوة إلى العمل و التقشف، واكتناز الأموال لاستثمارها، وملخص ما جاء فيها:
1 - ضرورة الاتزام بالانضباط في العمل، لأن الوقت هو المال.
2 - البطال خاسر لا محالة، فهو يضيع أجرته، والمصاريف التي سينفقها وقت الاستراحته، وكذا الربح الذي يمكن أن يجنيه من استثمار أجرته.
3 - عملية الاقتراض هي ربح بحد ذاتها، فلو اكتسبت ثقة الناس، سيسمحوا لك بالقرض، وهذا سيزيد في رصيدك، ويفتح أمامك خزائنهم، ويمكن لك من استثمار مدخراتهم.
4 - المال مسخر للاستثمار، لذلك لا ينبغي إهداره وتضييعه.
5 - يحدد رصيدك الحقيقي بعد الجرد السنوي لممتلكاتك.
وملخص الوثيقة أن كسب المال من ضرورات الحياة، مع الاحتراس دوما من الملذات العفوية في الحياة، كما أن المال غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لإشباع الحاجات المادية.
(1/10)
استغل فيبير الدراستين السابقتين واحتمل فيبير أن الأخلاقيات العقلية التي يؤمن بها البروتستانت والتي تتوافق مع وثيقة فرانكلين هي المحفزة على الاستثمار، وهي محرك النظام الرأسمالي وأساسه، ومن ثم عزم على دراسة تأثير الأخلاقيات العقلية على الاقتصاد الرأسمالي.
بدأ فيبير بدراسة دراسة البنية الأخلاقية لمسيرة صاحب المشروع الرأسمالي، الذي يجمع بين شعور حاد نحو العمل الرأسمالي (الادخار، والاستثمار)، وبين التقوى والورع الشديدين (التقشف، والزهد)، وحلل المفاهيم العقدية عند الطائفة البروتستنانية بهدف معرفة الدور الذي تلعبه القيم ذات المبادئ العقلية في النشاط الاقتصادي، فتوصل إلى ما يأتي:
- يرى البروتستانتي الخلاص من خلال نشاط الإنسان مع الحياة، ويحقق ذلك عن طريق التقشف والزهد في صرف المال، مع استثمار فعال للمال، بينما يقتصر مفهوم الخلاص عند الكاثوليك على الانسحاب من الحياة، والتقشف والزهد الرهباني، ولذلك يعتبر العمل عند البروتستانت رسالة تؤدى بإتقان، ووسيلة يتفانى في أدائها للحصول على الخلاص الأخروي.
- أرجع توسع الرأسمالية الحديثة في الاقتصاد إلى تطور الروح الرأسمالية التي هي أخلاقيات عقلية داعية إلى التقشف والاستثمار، وهي نفس الأخلاقيات المتوفرة في معتقد البروتستانتين.
- صحح مفهوم اعتبار التوسع الاقتصادي لأوروبا ناجما عن كثرة الاحتياط النقدي للأفراد أو الدول، وإنما أرجعه إلى توفر علانية عقلية مستمدة من قيم دينية، واستدل على ذلك بأن كل الناس يكسبون احتياطا نقديا بعد عملهم، وقل من يحافظ على ماله ويستثمره، لأن الكثير منهم يقضون على احتياطهم وادخارهم في متع الحياة والإسراف.
- يقول فيبر إن العمل الدؤوب في مهنة ما يمثل أفضل طريق للثقة بالذات، وبثقة الإنسان في ذاته، يحصل على الإيمان، وبالإيمان يرضى باختيار الإله، وبهذا يعد الإنسان مصطفى ويحصل على الخلاص.
لقد مكنت هذه الدراسة العميقة من بيان أثر العقلية الدينية في طبع السلوك الاقتصادي للفرد والدول، ومن الإقرار بأن خصوصية الغرب تكمن في العقلنة في النشاط الاجتماعي، والقانوني، والاقتصادي، والسياسي، والفني. وبأن الأديان الفاعلة والعملية هي التي تنتج عادات، وطبائع، وأنساقا تطبع وجهة الفعل، وهو ما يسمى "بالقيم"، وبأن للحوافز الدينية أثر عميق في عقلنة الحياة، وفي تشجيع العمل الإنتاجي للثروات، وتحولها إلى رأس مال للاستثمار، وحفزت أمثال هذه الدراسات أيضا على تطوير مجالات تعامل الأبحاث السوسيولوجيا مع الظاهرة الاجتماعية، وعلى إعطاء فعالية للقيم والدين في الحياة الاجتماعية بعيدا عن اعتبار الدين من إنتاج المجتمع مثلما أقر به دور كايم، كما غيرت مسار علم الاجتماع من علم لا يعترف بالدين أنه من الله إلى علم يقر بأن الدين من الله وله أثر في حياة الأفراد.
(1/11)
4 - التفاعل المعرفي بين العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع:
إيمانا بالنظرة التوحيدية للعلوم أنها تبحث في كون الله الفسيح، وأنها تستنتج ما أودعه الله من قوانين للظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية في الكون والحياة، وانطلاقا من تصور وحدة منطلق العلوم التي تكون غايتها إرضاء الله تعالى فإني سأسعى أن أقدم توأمة بين علمين متقاربين في مجالهما المعرفي، هما العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع، بعد أن قدمنا قراءة مستفيضة عن تطور نظرة علم الاجتماع إلى الدين، ونتساءل كيف يمكن عقد توأمة بين علم الاجتماع والدراسات الإسلامية؟ وسنقتصر في عرضنا على الآليات المنهجية لعلم الاجتماع التي يمكن أن تستفيد منها العلوم الإسلامية في تحليل مواضيعه؟
يعتمد علم الاجتماع على مجموعة من المناهج في تحليل الظاهرة الاجتماعية مثل: المنهج التجريبي، والمقارن، والوصفي، وهذا الأخير نرى أنه ستفيد منها العلوم الإسلامية كثيرا، حيث أنه يقوم بوصف الظاهرة التي يريد دراستها كما توجد فعلاً بالواقع، ويهتم بوصفها وصفاً دقيقاً، ويعبر عنها تعبيراً كيفيا أو تعبيراً كمياً عن طريق الجمع المعلومات الدقيقة عنها. فمثلا إذا أراد خطيب الجمعة أن يتحدث في موضوع حقوق الجار، فإنه يستعرض أدلة من القرآن ومن سنة الرسول ص على أهمية الموضوع، والمستمع يلتقى هذه المعلومات والتوجيهات ويتأثر أثناء الحديث، لكن لا ينجر عنها سلوك عملي، أو قد لا يفقه ما الذي ينبغي فعله حتى يكون قد أدى حق الجار، لكن لو استطاع هذا الخطيب أن يقوم بدراسة ميدانية عن حي الذي يتواجد فيه المسجد لاستطاع أن يشخص الداء الذي يعاني منه أهل الحي بكل دقة وواقعية، وبتحليل عميق، وقراءة موضوعية لما يستخلصه من الأرقام، ثم يستعرض خطبيته بأدلة من القرآن والسنة، وبتحليل لاستمارة المعلومات ومؤشرات حق الجار، وتأثير المتغير المستقل على التابع، وفق المنهج الوصفي المتعارف عليه في علم الاجتماع.
ولا يخفى الفرق بين عناصر المنهج الوصفي في العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع، حيث هذا المنهج في العلوم الإسلامية يندرج ضمنه المنهج الاستدلالي كتعبير وصفي والاستقرائي كتعبير كمي، بينما في علم الاجتماع يعتمد على نفس خطوات المنهج التجريبي التي هي:
الملاحظة: تتبع يفضي إلى طرح تساؤل أساس في ما لوحظ.
الإشكالية: نظرية لم تتوفر على إمكانية صياغتها، ولذلك تطرح كسؤال جوهري في البحث.
الفرضية: تنبؤ قابل للتحقيق، لغرض إثبات صحته أو نفيه. أو هو إجابة محتملة.
التجربة: التأكد من صدق أو كذب الفرضية، عن طريق تغيير الشروط والظروف والعوامل
(1/12)
المؤثرة، وذلك لمعرفة أثر المتغير المستقل على التابع، أو للبحث عن العلاقة الكامنة بينهما.
القانون: صياغة تفسير، واستخلاص العلاقة بين أمرين.
ثم يتم اختيار مجتمع البحث من جميع المفردات المشكلة التي يدرسها الباحث، بحيث قد تكون مجموعة من الأفراد (طلبة، آباء، الجند .. )، أو وحدات مركبة (مؤسسات، مدارس ... ). ثم تعيين عينة البحث وحجمها كجزء من الكل، لتمثيل مجتمع البحث تمثيلا جيدا. وفي تعيين نوعية عينة البحث يعتمد على خصائص كل نوع والإمكانيات المتوفرة للباحث؛ مثل:
- في حالة أن أفراد مجتمع البحث معروفين، يعتمد العينة العشوائية (الاحتمالية): حيث يتم السحب بطريقة متكافئة، وهي أنواع: العينة العشوائية البسيطة (القرعة)، والعينة العشوائية المنتظمة (يحسب المدى، ثم يختار رقما عشوائيا من المجتمع، ويضاف له المدى)، والعينة العشوائية الطبقية (الاختيار وفق نسبة مؤوية في حالة أن المجتمع عبارة عن فئات ومجموعات).
- أما في حالة أن أفراد البحث غير معروفين فيعتمد العينة غير العشوائية، أو غير المنتظمة، وهي لا تعطى نفس فرص التمثيل، وتخضع لوجهة نظر الباحث، وتكون إما: عينة عمدية (اختيار كل من يبدو أنه يفيد في البحث)، أو عينة قصدية (اختيار فئة يراها الباحث تخدم غرضه).
ثم يسعى الباحث أن يحدد الأسلوب المناسب لجمع البيانات، إما عن طريق الاستمارة، التي هي: أداة لجمع البيانات المتعلقة بموضوع البحث، وتتشكل من مجموعة أسئلة توجه إلى الأفراد المعنيين في البحث، وتتسم بسهولة تصنيف الإجابات وجدولتها، وبتحفيز المستجيب على تعبئة الاستمارة نظراً لسهولة الإجابة. أو يعتمد على المقابلة، فيوجه أسئلة عن طريق عقد لقاء مباشر مع المبحوث. أو يعتمد على الملاحظة، ومعاينة الظاهرة المدروسة؛ سواء بالمشاركة مع المبحوثين أو بدون مشاركتهم في فعلهم ونشاطهم. أو عن طريق تحليل المحتوى، الذي هو استنطاق النصوص المكتوبة والدروس الصوتية، وقراءتها بموضوعية مع الاستعانة بالتحليل الرقمي في التحليل.
وبعد تحديد الطريقة يشرع في جمع المعلومات ثم تحليل نتائج الأرقام، وجداول البسيطة والمركبة مبينا أثر المتغير المستقل في التابع، ثم استخلاص نتائج الفرضية.
فإذا استطاع الباحث في الشرعيات أن يدمج إلى عرضه النظري عرضا ميدانيا عن دراسة حالة فإن بحثه سيكون مدعما بأدلة نصية من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ثم تحليل بياني للواقع كما هو موجود وفق آليات إحصائية متطورة، وأرى أن التوأمة بين العلمين يمكن أن تدرج في تخصصات الدعوة والإرشاد، وفي مناقشة المسائل الفقهية المعاصرة، كمسألة البنوك، والأغذية، والمواضيع الطبية المعقدة، كما يمكن أن تطبق في الدراسات العقدية وكيف هو فهم المسلمين لأصول دينهم، إلى فغير ذلك من
(1/13)
المجالات التي يجتهد في إدراج هذه التحليل الرقمي للمعطيات والبيانات.
عرض الجانب النظري لمواضيع ضمن التكامل المعرفي:
توضيحا لعرض التكامل أقترح أن أسوق نماذج من دراسة بعض المفاهيم، وفق النظرة التكاملية بين العلوم نظرا للتوافق في النظرة التوحيدية.
1 - العنوان: دور المسجد في تربية الفرد: دراسة ميدانية لحي معين
الإشكالية: ما هو الدور الذي يسهم به المسجد في تربية الفرد؟
الفرضية العامة: للمسجد دور في تربية الفرد
- يسهم المسجد في التربية التعليمية للفرد.
- يسهم المسجد في التربية السلوكية للفرد.
- يسهم المسجد في التربية النفسية للفرد.
نموذج الدراسة
المتغيرات ... الأبعاد ... المؤشرات
دور المسجد ... - إقامة الصلوات ... - معالجة القضايا ... - عقود الزواج ... - التعليم
تربية الفرد ... - التعليمية ... - تحفيظ القرآن والأحاذيث والمتون – تعليم أحكام الدين.
- السلوكية ... - الزكاة –التبرعات – تهذيب الأخلاق.
- النفسية ... -بعث الطمأنينة في نفس الفرد - السيطرة على الشهوات.
- تقوية الجانب العقائدي.
2 - دور المدرسة القرآنية في إعداد طفل ما قبل المدرسة، معرفيا وأخلاقيا: المدارس القرآنية بمدينة معينة
الإشكالية: هل للمدرسة القرآنية دور في إعداد طفل ما قبل المدرسة معرفيا وأخلاقيا؟
وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي الإجابة عن عدة تساؤلات فرعية هي:
- هل تكسب المدرسة القرآنية الطفل المهارات والمعارف؟
- هل تلقن المدرسة القرآنية السلوكيات الأخلاقية للطفل؟
الفرضية العامة: تقوم المدرسة القرآنية بإعداد طفل ما قبل المدرسة؛ أخلاقيا ومعرفيا.
(1/14)
الفرضيات الجزئية:
- تكسب المدرسة القرآنية المهارات والمعارف للطفل.
- تلقن المدرسة القرآنية السلوكيات الأخلاقية للطفل.
3 - وهناك قائمة من المواضيع المهمة التي تقترح للدراسة إطار التوأمة بين العلمين مثل:
أثر الدين على الفن عبر العصور.
مفهوم الدرجة (والطبقة) بين القرآن الكريم وواقع المجتمعات الإسلامية.
التغيير الاجتماعي في القرآن الكريم ومن خلال المصلحين الاجتماعيين.
واقع الجاليات الإسلامية في المهجر، وتعايش الإسلام مع الأديان: دراسة نظرية وواقعية.
المؤسسات الدينية وعلاقتها بالفرد، أو علاقتها بالسلطة: المسجد، أو المدارس القرآنية، أو العشيرة، أو الزوايا.
القيم الإسلامية في الأسرة: تصورا وممارسة.
الأبعاد الدينية والاجتماعية للعولمة.
تأثير القيم الدينية على الهندسة العمرانية لمنازل المجتمعات الإسلامية.
تأثير الخطابات الإسلامية المتنوعة على تكوين شخصية الشاب.
(1/15)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق