الكتاب : آمنت بالله
المؤلف : أحمد بن حمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
(آمنت بالله)
محاضرة
لبدر الدين سماحة الشيخ العلامة: أحمد بن حمد الخليلي (حفظه الله تعالى)
المفتي العام لسلطنة عمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي له الملكُ وله الحمد وهو على كل شئ قدير. سبحانه ليس كمثله شئٌ وهو السميعُ البصير، لا تدركهُ الأبصارُ وهو يدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير. منه المبدأُ وإليه الرجعى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى. أحمدهُ تعالى بما هو له أهلٌ من الحمد وأُثني عليه، واستغفره من جميع الذنوب وأتوبُ إليه، وأؤمنُ به وأتوكل عليه. من يهده اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، واشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، واشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله اللهُ إلى خلقه بشيراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وعلّم من الجهالة، وهدى من الضلالة، وبصرَ من العمى. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فالسلام عليكم أيها المشائخ والأخوة والأبناء ورحمة الله وبركاته. أحييكم بهذه التحية الطيبة المباركة، واشكرُ الله سبحانه وتعالى على أن جمعني بكم في هذا المسجد العامر وفي هذا المكان الطيب، وأسالُ الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لصادق القول وصالح العمل، إنه تعالى على كل شئ قدير وإنه بالإجابة جدير نعمَ المولى ونعمَ المصير.
(1/1)
هذا ، وإنكم لتدركون جميعاً التباينَ الكبير الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين أفراد هذا الجنس البشري ، فالناس متباينون تبايناً لا يقف عن الحد في كل المواهب والمكاسب الحسية والمعنوية . وهذا التباين وإن كانَ متنوعاً بحيثُ إن أفرادَ هذا الجنس لا يكادُ يوجدُ ما يوجدُ بينهم بين أي جنس آخر من التباين في شتى الأمور الظاهرة والباطنة ، إلا أن التباينَ الحقيقي والتغابنَ العظيم فيما بينهم إنما يرجعان إلى الهداية والضلالة . فبقدر ما يكونُ عليه الإنسان من الهدى وبقدر ما يكونُ عليه من البصيرة ، يكونُ هذا الإنسانُ محرزاً لمكاسب لا تدانيها أي مكاسب أخرى . ومن المعلوم أنَ هذا التباينَ إنما يرجعُ إلى التصور ، فبقدر ما يكونُ عليه الإنسان من التصور الصحيح يكونُ موفقاً بمشيئة الله سبحانه وتعالى للخير ، وتكونُ العوامل التي تحفزه إلى مكاسب الخير أكثر .
والناسُ لا ريب أن الله سبحانه وتعالى ميزهم بالعقل ، والعقلُ نعمةٌ عظيمةٌ من الله ، إلا أن هذه النعمة لا تكفي وحدها لتسديد سير هذا الإنسان في طريق هذه الحياة لأن العقل تؤثر عليه مؤثرات كثيرة نفسية ٌ وخارجية . فمن المؤثرات النفسية ما يطغى على هذا الإنسان من عوامل الشهوة والغضب . وماذا عسى أن تكون حالة ذؤابة العقل وهي تعصفُ بها عواصفُ الأهواء وتغشاها غواشي الشهوات والغضب . ولذلك ، كان العقل مع هذه المؤثرات الكثيرة التي من نفس الإنسان عاجزاً وحده عن السير بالإنسان في الطريق الصحيح . ومن المؤثرات الخارجية ما تفرضه على الإنسان بيئته من مفاهيم قد تكون هذه المفاهيمُ بعيدة ً كل البعد عن الحقيقة .
(1/2)
ونحن نجد أن الناسَ يختلفون بحسب اختلاف بيئاتهم في تصور الحقائق ، فمنهم من يتصورها التصور الصحيح ، ومنهم من يتصورها التصور الخطأ . لذلك كان الإنسان بحاجة إلى توجيه رباني ليتصور التصورَ الصحيح ، وليترتب على تصوره هذا السيرُ في الطريق الصحيح . ومن أجل ذلك ، أرسلَ اللهُ سبحانه وتعالى رسله وانزل كتبه ليهلك من هلكَ عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة . وجميعُ هؤلاء الرسل جاءوا من اجل إصلاح النفس الإنسانية ومن أجل الربط بين أفراد هذا الجنس البشري برباط الإيمان الذي يشد الإنسان إلى الإنسان كيفما اختلفت الأحوالُ فيما بينهما ، ومن أجل وصل هذا الإنسان بالخالق العظيم الذي تسبّحُ له أجزاء هذا الكون بأسرها ، ومن أجل وصل الإنسان بهذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف ليكون قطباً صالحاً تدور عليه رحاه . ولأجل ذلك ، كانت دعوة هؤلاء المرسلين جميعاً ترتكز أول ما ترتكز على العقيدة الصحيحة ، فإنه ما من رسول من رسل الله سبحانه وتعالى إلا وقد جاء بالدعوة التي تبين للناس العقيدة الصحيحة ، والله تبارك وتعالى يقول { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } . ويقول تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } .
ويبين لنا سبحانه وتعالى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال لبني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم .
فإذاً جميع هؤلاء الرسل جاءوا من أجل ترسيخ هذه العقيدة الصحيحة . ومن المعلوم أن العقيدة ذات أثر كبير في نفس الإنسان ، فهي تقلب مجرى حياته من وضع إلى وضع مغاير له تماماً .
(1/3)
فعندما يكون الإنسان بعيداً عن المعتقد الصحيح لا يكون له هدفٌ محددٌ في هذه الحياة ، ولا تكون الحياة لها رسومٌ معينة يحيى الإنسانُ في إطارها ، بل تكونُ هذه الحياة حياةً ضائعة كما كانت الحالة عن العرب عندما كانوا يعدو بعضهم على بعض حتى أن قائلهم يقول : {وطوراً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا} . لأنه ليس هنالك هدفٌ معين يحيون من أجله ، وليس هنالك غاية معينة يسيرون في طريق هذه الحياة من أجل الوصول إليها ، فمثلهم كمثل الأنعام بل هم أضل كما ذكر اللهُ سبحانه وتعالى ذلك في كتابه .
ويتحولُ الإنسان من حالة يكون فيها أشبه بالشياطين الخبيثة والسباع الفتاكة إلى حالة يكون فيها أشبه بالملأ الأعلى عندما يتحول من معتقد باطل إلى معتقد صحيح . وهذا تجدونه واضحاً فيما ذكره الله سبحانه وتعالى من أنباء الأمم وأخبار النبوات ، ومن بين ما ذكره عز وجل في كتابه قصة موسى وفرعون مع السحرة . فالسحرة الذين جاءوا إلى فرعون عندما كانوا بعيدين عن المعتقد الصحيح ما كانت لهم نظرة إلا نظرة ضيقةٌ محدودة بحيث كانوا ينظرون إلى الحياة كلها بمقياس هذا العمر القصير الذي يحياه الإنسان على ظهر هذا الكوكب المظلم ، وما كانوا ينظرون إلى منفعة إلا ما يكتسبه الإنسان في هذه الحياة المحدودة الأجل من مادة ، لذلك قالوا لفرعون { أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } ، وهو مع إدراكه لطمعهم وميلهم إلى المادة أدرك أيضا رغبتهم في الظهور فلذلك قال لهم { نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . ولكن بعدما لامس الإيمانُ شغاف قلوبهم ونور بصائرهم وطهر سرائرهم كانت نظرتهم تختلف تمام الاختلاف إلى هذه الحياة عن هذه النظرة ، لذلك قالوا لفرعون { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } .
(1/4)
وهكذا كان شأن العرب الذين بُعثَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم كانوا قبل أن يتنوروا بنور الإيمان كما يقول فيهم الأستاذ / مصطفى صادق الرافعي كانوا بين راع للغنم وداع للصنم وعالم على وهم وجاهل على فهم ، وإنسان كأنه من شره آلة ٌ لفناء الإنسان ، وشيطان كأنه من خبثه مادةٌ لوجود الشيطان . ولكن عندما أكرمهم الله سبحانه وتعالى ببعثة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ففاض الإيمان على نفوسهم وابصروا الحقيقة ، وعلموا أن الحياة لا تنحصر في هذه الرحلة التي يعبرها الإنسان على ظهر هذا الكوكب المظلم ، وان الكون لا ينحصر فيما تقع عليه حواس الإنسان ، بل نفذوا ببصيرتهم المؤمنة إلى عالم الغيب فأدركوا ما وراءه تحولوا من هذه الحالة إلى حالة مناقضة لها تماماً . فلذلك كانوا كما يصف الله سبحانه وتعالى السلف الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مع نبيهم الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام في قوله { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
(1/5)
ومن أجل ذلك تجردوا عن أطماع هذه الحياة الدنيا فتساوى في موازينهم تبرها وترابها ، وتعادل في كفتهم عذبها وعذابها ، ومن اجل ذلك ضحوا بكل ما يملكون من اجل ظهور هذا الدين ومن اجل أن ترفرف رايته في الأرض ، فكانت التضحيات الجسام من المهاجرين وكانت التضحيات الجسام من الأنصار . وقد خلد الله ذكرهم وذكر مآثرهم في قوله سبحانه وتعالى { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . هكذا تحول هؤلاء الناس عما كانوا عليه إلى ما صاروا إليه بتأثير الإيمان في نفوسهم وبقوة اليقين الذي لامس شغاف قلوبهم وأثر على جميع حياتهم .
ومن المعلوم أن الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه عندما جاء بدعوة الحق كانت دعوته تنحصر في توجه الإنسان إلى ربه ، ولذلك كان يقول لقومه ـ يقول لهم ـ : { قولوا لا إله إلا الله تفلحوا } .
(1/6)
ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطالبهم بكلمات قصيرة يرددونها بألسنتهم فقط – لا إله إلا الله فحسب – من غير أن تكون هذه الكلمات منبعثة من أعماق نفوسهم ، ومن غير أن تكون واصلة لهم بربهم ، ومن غير أن تكون واصلة لهم بهذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف الذي تسبح كل ذرة من ذراته بحمد الله وتسجد خاضعة لجلال الله ، ومن غير أن يترتب على ذلك تحويل مجرى الحياة من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح ومن الانحراف إلى الاستقامة ، بل كان صلى الله عليه وسلم يطالبهم بعقيدة حقه بحيث يأتون بالكلمات التي ترمز إلى هذه العقيدة بألسنتهم وقد انبعثت من أعماق نفوسهم ، فصورت لهم الحقيقة كما هي وعرّفتهم أن هذا الكون كله إنما هو ملك الله سبحانه وتعالى والله وحده هو الإله الحق الذي له التصرف في هذا الكون كما يريد وهو منه المبدأ وإليه الرجعى وله الحمد في الآخرة والأولى ، وله سبحانه الطاعة المطلقة في كل ما أمرَ به وفي كل ما نهى عنه . فلذلك ، من الضرورة بمكان أن تتفاعل تصرفات هؤلاء وأعمالهم وما يأتونه وما يذرونه مع هذه الكلمات التي يقولونها لتصوغ كلمة لا إله إلا الله التي يقولونها حياتهم من جديد حتى تكون هذه الحياة كلها حسب أمر الله مصبوبة في قالب الإيمان . هذا الذي كان يريده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الذي آمن به السلف الصالح ولذلك كانت حياتهم حياتاً نموذجية تختلف عن حياة البشر فكأنهم تطهروا من رجس الطباع البشرية ، وتحرروا من جميع العادات البشرية السيئة ، فعادت حياتهم حياةً أشبه بحياة الملأ الأعلى .
(1/7)
وهذه العقيدة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي نفس العقيدة التي بُعث بها النبيون من قبل ، إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هنالك تناقضٌ واضطرابٌ بين ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به النبيون من قبل . فإنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد دعا إلى ما كان صلى الله عليه وسلم يدعو إليه من قبل ، وإن كان هنالك اختلاف فإنما هو اختلافٌ في المظهر لا في المعتقد . يكون هنالك اختلاف في صيغ العبادات وكيفية أداءها ، ويكون هنالك اختلافٌ في الشرائع وهذا أمر غير مستنكر . أما أن يأتي رسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده وأنه لا إله إلا الله سبحانه ومع هذا يأتي رسول آخر بما يناقض هذه الدعوة بحيث يدعو إلى عقيدة التثنية أو يدعو إلى عقيدة التثليث فإن هذا أمرٌ مرفوض . ليس من المعقول أبداً أن يبعث اللهُ سبحانه وتعالى رسولاً ليقول للناس إنه سبحانه وتعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة . مع أن الدعوة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل والتي نؤكد أن المرسلين جميعاً بُعثوا بها هي دعوة التوحيد ، دعوة إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة . والدين ليس فيه تناقض ، فكل المرسلين جاءوا بدين واحد . يقول الله تعالى { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . وقد سمى اللهُ تعالى هذا الدين الإسلام ، ولم تكن هذه التسمية بدعاً من الأمر بل هذه التسمية كانت معروفة عند النبيين من قبل ، فإن نوحاً عليه السلام قال لقومه { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
(1/8)
وهوداً وصالحاً وشعيباً كل هؤلاء جاءوا ليؤكدوا هذا المعتقد الذي دعا إليه نوح عليه السلام ، وإبراهيمُ عليه السلام قال هو وابنه إسماعيلُ عليهما السلام وهما يرفعان قواعد البيت العتيق { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } . ويقول الله تعالى فيه { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . ولم يكن هذا الإسلام منه بنفسه بل كان دعوةً لذريته وكان دعوةً من حفيده يعقوب عليه السلام أيضاً لذريته وكان دعوةً منهما في الناس جميعاً ، فالله سبحانه وتعالى يقول إثر ذلك { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . ويقول الله سبحانه وتعالى فيما يحكيه عن عبده ونبيه يوسف عليه السلام { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . ويقول في التوراة التي أُنزلت على موسى وكان يحكم بها النبيون من بني إسرائيل { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } .
(1/9)
ويحكي سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه على الله توكلوا إن كنتم مسلمين . ويبين لنا عز وجل أهل بيت لوط عليه السلام كانوا على الإسلام إذ يقولُ { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } هو بيت نوح عليه السلام . وكذلك يحدثنا عن أهل الكتاب الذين استمسكوا بالكتاب وما حرفوه وما بدلوه بل كانوا يتبعون النهج الصحيح الذي جاء به الأنبياءُ من قبل فقال { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } أي من قبل أن ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم على الإسلام . فإذاً فالنبيين جاءوا جميعاً بالإسلام الحق ، بدين واحد ، وهم كما يحدث النبي صلى الله عليه وسلم "بنو علاة" ، يشبههم ببني العلاة أي الذين أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة . فعقيدتهم واحدة ودينهم واحد وهو دين الإسلام ، وشرائعهم متعددة بتعدد الظروف والملابسات التي تنزلت فيها تلك الشرائع من عند الله سبحانه وتعالى .
هذا ، والعقيدة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تنحصر في الإيمان بأشياء هي أصول الإيمان ، جاء بها حديث جبريل عليه السلام عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عندما سأله جبريل عن الإيمان { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله } ، فهذه هي أركان الإيمان . وكلُ أصل من هذه الأصول الستة ذو أثر في نفس الإنسان وفي سلوكه ، فلا بد من أن يجمع الإنسان بين الإيمان بها جميعاً ، وعندما يجحد أي شئ منها يكون ناقضاً بإيمانه .
(1/10)
واعظم هذه الأصول أثراً وتأثيراً في النفس والسلوك الأصلُ الأولُ والأصلُ الخامس ، الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر . ولذلك كثيراً ما يقترنان في كتاب الله تعالى كما في قوله سبحانه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، لأن من آمن بالله واليوم الآخر فكأنما أتى على الإيمان من قطريه ، كأنما احتواه من قطريه وأمسك بحبله من طرفيه . والذي يخلفه في النفس البشرية الإيمان بالله ، والذي يخلفه في هذه النفس الإيمان باليوم الآخر تأثيرٌ عظيم . ومن أجل ذلك نجد في كتاب الله سبحانه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تُحفزُ همم الناس إلى امتثال أمر أو الارتداع عن نهي يُذكرُ الإيمانُ بالله واليوم الآخر . والله سبحانه وتعالى يقول { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } ، ويقولُ تباركَ وتعالى { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، ويقول { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ..
(1/11)
وكما يتكرر هذا في القرآن الكريم يتكرر في حديث الرسول عليه افضل الصلاة والتسليم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" ، ويقول صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره" ، ويقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو فليصمت" . كلُ ذلك يدلنا على تأثير الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في هذه النفس البشرية ، وهذا أمرٌ واضح فإن الإيمان بالله إنما هو الإيمانُ بمبدأ أن الله تعالى هو مُبدأُ كل شئ ، والإيمان باليوم الآخر إنما هو إيمانٌ بالمصير . والإنسانُ لابد له أن يكونَ مؤمناً بالمبدأ ، فإنه إن لم يؤمن بالمبدأ كان ضائع الهدف في هذه الحياة . وبفقدانه أي جزء من الإيمان لا ريب أنه يكونُ مظلمَ النفس خاويَ الروح ، ناضبة ينابيعُ الفضيلة منه ولا سيما عندما يكون فاقدا للإيمان بربه سبحانه . وماذا تكونُ حالة ُ هذا الإنسان الذي يرى أنه خرج إلى هذا الوجود بدون مُخرج ، ويرى أنه في حياته هذه ما جاء إلا ليتنعم بلذائذها ولو كان ذلك على حساب الآخرين!! لا يكون لهذا الإنسان ضمير ، ولا يكون لهذا الإنسان هدف في هذه الحياة إلا إشباع هذه الرغبات البهيمية التي تدفعه إلى إرواء سعارها ولو كان ذلك على حساب أي فضيلة من الفضائل ، ولو كان ذلك على حساب أي صلة من الصلات ولو كانت هذه الصلة تشده إلى اقرب أقربائه وأخص خاصته .
(1/12)
قد يضعفُ في هذه النفس الإنسانية عندما تواجههُ تيارات هذه الحياة وتتجاذبه النزعات – مع هذا كله – والإيمان بالله سبحانه وتعالى والنزغات ، وتدفعه قوى الشهوة والغضب إلى ما تدفعه إليه . ولكن عندما يتذكرُ المصير ويدرك أن هذه الحياة حياةٌ محدودة وأن الحياة الأخروية حياةٌ دائمة ، فإنه ولا ريب عندما يكونُ بهذه الحالة يكونُ مستعلياً على رغباته ونزواته ومسيطراً على شهواته وغضبه ومتحكماً في عواطفه وأحاسيسه . ولذلك يستطيعُ هذا الإنسان أن يقهر نفسه وأن يقودها في طريق الحق وفي طريق السلامة عندما يجمعُ ما بين هذين الطرفين من أركان الإيمان . هذا ، مع عدم الاستهانة بأي أصل من أصول الإيمان ، فلكل أصل من هذه الأصول أثره الكبير ولكن من حيث أن الإنسان عندما يؤمن بربه سبحانه وتعالى يؤمن بكل صفاته وأفعاله ويدخلُ في ذلك خلقهُ سبحانه وتعالى لملائكته وإرساله لرسله وإنزاله لكتبه وتقديره لكل شئ ، فتدخل هذه الأصول كلها في الإيمان بالله سبحانه وتعالى .
(1/13)
هذا ، والإيمان بالله سبحانه وتعالى إنما هو أولُ إيمان بالغيب ، فالله تعالى { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } . سبحانه ، قد كان قبل خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان ، لا يُدركُ بعين ولا يُطلبُ بأين . هو محيط ٌ بكل شئ ، عليمٌ بكل شئ ، قادرٌ على كل شئ . وصفاتهُ سبحانه وتعالى قد يدركها الإنسان بعقله ، ولكن مع ذلك جاء الوحيُ مؤكداً لهذا العقل لما دلَ عليه هذا العقل ومسدداً له . والناس سلكوا مسالك متعددة في الوصول إلى معرفته سبحانه وتعالى ، مع أنه في الحقيقة ما من ذرة من ذرات هذا الكون إلا وهي كلمة من كلمات الله ، ناطقة بتسبيحه وتنزيهه تبارك وتعالى ، معلنة إفتقارها إليه وأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلقها وخلق هذا الوجود كله وما يكون من الترابط بين هذه الذرة وغيرها من الذرات ، وما يكونُ من الترابط بين أجزاء هذه الذرة من الإلكترونات والبروتونات والنيترونات كل ذلك يعتبر كالشرح لهذه الكلمة ويعتبرُ من الأدلة القاطعة على وجوده سبحانه وتعالى وعلى اتصافه عز وجل بصفات المحامد . فلذلك ، عندما يستخدمُ الإنسان عقله ويتحرر من مؤثرات الهوى يعرفُ ربه سبحانه وتعالى ، يقول الله تعالى { أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
(1/14)
والقرآن الكريم جاء بمنهج سديد ، فهو النصُ القاطعُ الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى والذي يجبُ إلا يُخضع لأي شئ كان ، لا للعقل ولا لأي نقل آخر لأنه تنزيلٌ من حكيم حميد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . فيجب التسليم لما في القرآن وإنما يستهدي الإنسان بنور العقل في معرفة أسرار القرآن وإدراك أبعاده وفهم قضاياه . يتوصل الإنسان إلى ذلك بالعقل كما يتوصلُ إليه باللغة التي نزل بها القرآن الكريم . وهذه الأمة عندما كانت في بداية أمرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تستهدي بهذا كله . كانت تستهدي بنور العقل في فهم القرآن ، وتستهدي بنور القرآن في تحديد مدارك العقل ، فهي تجمع ما بين العقل والنقل . ومن أجل ذلك ، أثرت هذه الأمة على الأمم الأخرى فدخل الناسُ في دين الله تعالى أفواجا ، ثم مع تقادم الزمن دخلت فلسفات جانبية في أفكار هذه الأمة لا تبت بصلة إلى كتاب الله ولا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك عندما أغرق الناسُ في دراسة فلسفة اليونان ، واستوردوا هذه الرموز التي لا تحل مشكلة ً من مشكلات الحياة بل ربما هي كانت نفسها مشكلة تحتاج إلى حل .
(1/15)
وهنالك طائفة أخرى وقفت في وجه هذا الاستيراد لهذه الفلسفة ودعت بسبب ردة الفعل التي حصلت عندها إلى أن يغمض الإنسان عينيه ويسد أذنيه ويكون أسير الألفاظ من غير أن يستهدي بالعقل في معرفة أبعادها وإدراك مقاصدها . فوقع هؤلاء في التفريط ووقع أولئك في الإفراط ، فالعقل كما قلنا طاقة ٌ محدودة كسائر الطاقات التي في البشر لا يمكن أن يُعول على هذه الطاقة في كل شئ لأن العقل كسائر الهبات التي وهبها الله سبحانه ، ولما كان الإنسان نفسه محدوداً كانت الهبات التي منحها الله تعالى له في هذه الحياة الدنيا هبات محدودة . وكما أنه لا يمكن أن ينفذ ببصره إلى ما وراء الحجب كذلك العقل لا يمكن أن ينفذ به الإنسانُ إلى ما وراء الحجب المعنوية التي تحول بينه وبين إدراك هذا العقل للكثير من الحقائق .
والذين اشتغلوا بالألفاظ أصبحوا في تناقض عجيب ، والإسلامُ دينٌ وسط لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو لا يدعو إلى أن يعطل الإنسان العقل ولا يدعو أيضاً إلى أن يكون هذا الإنسان أسيراً للألفاظ من غير أن يعرف مقاصد هذه الألفاظ . فأسارى الألفاظ وقعوا في أمر مريب فهم أخذوا بظواهر الألفاظ . { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } ، قالوا يأتي سبحانه وتعالى بذاته ويتنقل من مكان إلى مكان وكأنما سبحانه وتعالى جسمٌ محدود حل في مكان تُدركه الأبصار وتحدده الأفكار إلى غير ذلك . وكذلك عندما قرءوا قول الله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } اثبتوا اليد التي هي الجارحة . وكل شئ من هذا القبيل اخذوا فيه بظاهره وعموا عن الحقيقة ، وقالوا إن تأويل الألفاظ القرآنية أو الأحاديث النبوية بما يتفق مع دلائل العقل وبما يربأ بهذه الألفاظ عن التناقض يُعد تعطيلاً عندهم ، واعتبروا أن الذين يسمونهم معطلة أكثر من المشركين والمشركون اخفُ في الكفران كما قالوا . وهذا أمرٌ غريب!!
(1/16)
هؤلاء هم أشبهُ ما يكونون بالنصارى الذي وقفوا أسارى عند الألفاظ التي جاءتهم من غير أن يمحصوا أولا ً هذه الألفاظ ليعرفوا صحتها من عدم صحتها كما تجدون في مقدمة الأناجيل الأربعة المطبوعة ما يدعو إلى أن يسلم الإنسان بما في هذه الأناجيل من التناقض ويعتبر ذلك ليس من التناقض في شئ . فالأناجيل الأربعة التي يؤمن بها النصارى متباينة في تحديد طبيعة المسيح عليه السلام . هو في أحدها عبد ، وفي الثاني إنسان ، وفي الثالث أبن لله ، وفي الرابع هو الله . وقالوا في التقديم لهذه الأناجيل بأنه لا تناقض ، فهذا العبد هو الإنسان – هذا لا تناقض فيه الإنسان عبدٌ لله – ولكن قالوا هذا الإنسان هو العبد وهذا العبد هو الله وهو أبن الله . وحاورتُ جماعة ً من أساقفتهم وقساوستهم في هذا الأمر وسألتهم عن تفسير ذلك فقالوا هذا امرٌ يجب علينا أن نسلم له لأن العقل البشري لا يمكنُ أن يصلَ إلى فهم هذه الحقائق . فأجبتهم بأن القرآن عندنا رفع من شأن العقل وأمر الإنسان أن يستخدم عقله لا أن يطمره ، فهو بعدما أعلن أن الله تبارك وتعالى إلهٌ واحد أتى بالأدلة العقلية التي تُبتُ هذه العقيدة وتؤكدها في النفس ، فالله تعالى بعد أن قال { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } اتبع ذلك بقوله { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . هذه الأيات كلها تدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى .
(1/17)
وكذلك يقول الله { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ، أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
(1/18)
فكذلك شأن هؤلاء الذين حددوا صفات الله تبارك وتعالى بما تُحدد به صفات البشر ، وقالوا بأنه سبحانه وتعالى يتنقل من مكان إلى مكان ينزل آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا . ولأن كان ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ، فأي ثلث؟! الليل والنهار يلفان حول الكرة الأرضية باستمرار ، فما من ثانية واحدة إلا وفيها جزءٌ من ثلث الليل عند قوم . ففي أي ثلث من الليل؟ أهو طالعٌ ونازلٌ باستمرار!! وكذلك عندما ينظر هؤلاء إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعون في اضطراب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فيما يحكيه عليه أفضل الصلاة والسلام عن ربه سبحانه أنه قال "انه يقول للعبد : يا عبد مرضت فلم تعدني ، فيقول له : كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له : مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته لوجدتني عنده" . أُسند في أول الحديث المرض إلى الله – تعالى الله – ولكن لابد من أن يُحمل أهل التأويل الصحيح وهذا تعليمٌ للناس بأن يؤلوا الآيات المتشابهات بما يتفق مع الآيات المحكمات . ثم جاء فيه "يا عبد استطعمتك فلم تطعمني ، فيقول له : وكيف أُطعمك وأنت ربُ العالمين؟ فيقول له : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي . ياعبد استسقيتك فلم تسقني ، فيقول له : وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول له : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ولو سقيته لوجدت ذلك عندي" . وكذلك الحديث الذي أخرجه الأمام البخاري من طريق أبي هريرة فيما يحكيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال سبحانه وتعالى "ما تقربَ إلي عبدٌ بأفضلَ مما فرضته عليه ، وان العبد ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" .
(1/19)
فلو كان الحديث يُحمل على ظاهره ، هل أحدٌ من الناس يعتقد مع كثرته في التنفل بأن يده هي عين الذات العلية وأن رجله هي عين الذات العلية وأن بصره هو عين الذات العلية وأن سمعه هو عين الذات العلية!! وأي عقل يقبل ذلك؟! هذا المعتقد يؤدي إلى التناقض .
وكذلك فيما يتعقل باليوم الآخر . القرآن بينَ طبيعة ذلك اليوم وبينَ واقع ذلك اليوم ، وما على الإنسان إلا أن يسلم لما في القرآن الكريم . إن هذا التسليم لما في القرآن الكريم هو الذي يجعل الإنسان يتفاعل مع إيمانه تفاعلاً عميقاً بحيث تكون تصرفاته مجسدة لإيمانه ، والله تبارك وتعالى يقول { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } . ويقول تعالى محذراً بني إسرائيل { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } . كما حذر بني إسرائيل من ذلك اليوم ومن التعلق بالأماني فيه ، حذر كذلك هذه الأمة من التعلق بمثل هذه الأماني فقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، وقال سبحانه في وصف ذلك اليوم والجزاء العادل من عند الله تعالى { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ، وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وقال تعالى { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
(1/20)
وقال { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . وقال { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } . وقال سبحانه { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } . وقال تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وقد بين سبحانه وتعالى أن التهاون بهذا المعتقد هو الذي يؤدي إلى التهاون في العمل . والله تعالى يقول { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
(1/21)
هذا ، ولإن كان المعتقد الصحيح فيما يتعقل بالله سبحانه وتعالى هو المعتقد الذي نص عليه القرآن والذي نستهدي في معرفة الآيات التي دلت عليه بالعقل السليم وباللغة الصحيحة التي جاء بها القرآن الكريم ، فإنه يجب على الإنسان أن لا يعطل مدارك العقل بل يجب عليه أن يستخدم هذه الطاقات ، وما تعطيل الإنسان لمدارك العقل إلا كفران بهذه النعمة . كما يجب عليه أيضاً أن لا يعتمد على العقل إعتماداً كلياً فإن العقل تؤثر عليه مؤثرات كثيرة وعندما يستند على عقله كثيراً ما يضل ويطغى . فالجمع ما بين النقل الصحيح والعقل السليم هو الطريق الأمثل لمعرفة الله تبارك وتعالى ، وكذلك فيما يتعلق بالدار الآخرة والإيمان باليوم الآخر إنما هو إيمان بأمر غيبي لأن الغيب لا يُتوصل إليه إلا من طريق الوحي . والإيمان بالغيب أمرٌ لا بد من ولا يخضع هذا الإيمان لنظريات البشر ومقاييس البشر وإنما يجب أن يسلم فيه الإنسانُ لما جاء به النص القاطع الذي نزل من عند الله سبحانه وتعالى . والإيمان بالغيب كما هو معلوم هو مفترق الطريق بين الناس الذين ينحبسونَ في المضيق المادي بحيث لا يعرفون للحياة وجوداً إلا بمقدار ما يعيشُ الإنسان في هذا العمر القصير وعلى ظهر هذا الكوكب المظلم ولا يعرفون وجوداً لهذا الكون إلا بقدر ما يقع تحت الحواس أو ما تتوصل إليه الآلات التي هي امتداد للحواس ، وبين الذين يسبحون بعقلهم وفكرهم في ملكوت الله سبحانه وتعالى لإيمانه بالحق . لإن كان الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يؤمن فيما يتعلق بالدار الآخرة بما نزل به النص القطعي وأن لا يتردد في قبول النص ، وان لا يغتر بفتنة الروايات التي تختلف مع النص القرآني القطعي فإن الروايات من جملة المحك الذي يتميز به الثابت منها وغير الثابت الأرض على القرآن الكريم كما كان عليه السلف الصالح كما روي ذلك عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/22)
ونظراً إلى ضيق الوقت وحضور الأذان نقتصر على هذا القدر ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وأن يأخذ بأيدينا إلى كل خير من خير الدنيا والآخرة. اللهم إهدي قلوبنا وطهر سرائرنا ونور بصائرنا واصلح دنيانا وآخرتنا إنك ربنا على كل شئ قدير وإنك بالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
انتهت المحاضرة بحمد الله تعالى،،،
(1/23)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق