آراء الشيخ ابن أبي نبهان في قاموس الشريعة ل - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

آراء الشيخ ابن أبي نبهان في قاموس الشريعة ل

 





الكتاب : آراء الشيخ ابن أبي نبهان في قاموس الشريعة لـ؟؟
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
آراء الشيخ ناصر بن أبي نبهان في قاموس الشريعة
الجزء الأول
- ما معنى ما قيل: ما من مؤمن يحزن لموت عالم إلا كتب الله له ثواب ألف ألف عالم وألف ألف شهيد؟ وهل يكون ذلك على معنى المبالغة؟
الجواب: "لو صح ذلك لكان الحازن على العالم أفضل من العالم، وكيف وهو لم يفضل بحزنه عليه إلا لأنه عالم؟ وكان أفضل من الشهداء، فليس كل قول بمسلم أنه حق، ولا كل رواية هي صحيحة، وإنما الصحيح ما وافق الحق لا غير، فالعالم العامل أفضل من الحازن على موته، وقد يحزن على موت العالم من أدنى الناس فضلاً، ولكنه من أهل النجاة، والله أعلم.
وأما عن طريق المبالغة فلا يصح؛ لأن المبالغة بلفظ ليس له تأويل يخرج من معناه على الصواب فلا يصح أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم" ص64.
- قال في حرب الباغين: "وكلما لا يرجى ردعهم إلا به فجائز وهو أفضل جميع أعمال البر، وإن قيل إن تعليم العلم أفضل، فإذا كان كله غير فرض، ففي أوقات يكون الجهاد أفضل، وإن أتى به الشيخ أبو سعيد عموماً في النفل، ففي كلامه ما يدل على ما قلناه، وإن لم تكن فيه دلالة فجهاد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما قلناه؛ لأنه لو كان التعليم أفضل في غير اللازم عليه في ذلك الحين لفرضه الله عليهم دون الجهاد، وهنا بحث يطول" ص81.
- ما أفضل عندك للإنسان من الأعمال: الدعاء أو الصلاة أو قراءة الأثر والمسائل أم نسخ الآثار؟ تفضل شيخي بين لي ذلك.
(1/1)
الجواب: "إن الأفضل قراءة الأثر لأنه يكون به عالماً، ونسخ الآثار من بعده لأنه فيه تعليم للأثر وتأثيره لمن يأتي من بعده، ولكن لما كان النسخ شاغلاً عن التحفظ له والتفكر فيه، فالمبتدئ قراءة الأثر يحصل فيه فائدة أكثر من النسخ. وأما العالم الباقر فالأفضل له تأثيره ما يبدعه من نفسه من العلم أفضل له من قراءة ما هو يعلمه؛ لأن تأثيره مما يبدعه من نفسه زيادة للمؤثر، وإن كان المبتدئ بالنسخ يزداد فائدة في العلم أكثر من قراءته للأثر فما كان فيه له أكثر تحصيلاً فهو الأفضل له، فليس الناس على حالة واحدة، وأما ما بقي من النوافل فلا شك أنها دون تعليم علم الشريعة، والعلم الذي يستعان به على معرفة علم الشريعة، وإن كانت الصلاة خير موضوع فإنما هي بعد فضيلة تعليم علم الشريعة، والله أعلم".
وقال في جواب سؤال آخر، الجواب: "إن فيما أورده الشيخ الكبير أبو سعيد رحمه الله أن جميع أعمال البر مع تعليم العلم كتفلة في بحر، فلا شك أن تعليم العلم الذي يتوصل به إلى فهم علم الشريعة بتدقيق الفكر في العلوم، وتقوية القلب على الفهم في العلوم حتى يفهم كذلك في علم الشريعة وعلم الحقيقة، أفضل من كثرة النوافل بعد النوافل التي تعقب الفرائض وهي المندوبة، فإن ترك هذه مكروه وهي ركعتا المغرب بعد ركعتي السنة، وركعتا العشاء الآخرة وهي ركعتا السنة، وركعتا سنة الصبح، وركعتا الظهر بعد ركعتي سنتها، فهذه مما لا يستحب تركها، ومكروه تركها.
وأما غير هذه فالعلم الذي ذكرناه لما ذكرناه أفضل؛ لأن القلب يزداد نوراً وفهماً باستطلاعه على العلوم، وتبحره فيها، كذلك الأشعار المفيدة، وكذلك علم الطب فإنه من أشرف العلوم لأنه الوسيلة العظمى إلى أداء العبادات وطلب العلم والفضائل؛ لأن به حفظ الصحة.
(1/2)
وأما العلوم ما خلا الشريعة والحقيقة إذا لم يرد بتعليمها زيادة الفهم في هذين العلمين، ويشتغل بها عنهما، أعني يشتغل بها عن تعليم علم الشريعة وتعليم علم الحقيقة، فالتوسل إلى الله بكثرة الصلوات النفل والصوم من جميع الفضائل على الانفراد هو أفضل من طلب تعليم هذه العلوم، واستغراق الفكر منها لذاتها، ولا شك في ذلك فافهمه وبالله التوفيق" ص83-85.
- مسألة عن الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي فيها شيء من معنى الإجماع وغير ذلك:
قلتُ له: هل يجوز إلقاء القُمّل، وهو من الحرام المحجور في دين الإسلام، وهو من المعاصي لله الملك العلام، ويهلك المرء بطرحه أم لا يبلغ به إلى هلاك، إذا كان من جملة المتعبدين بعبادة الله من الأنام؟
والموجود في كتاب الإيضاح والبيان فيما يحل ويحرم من الحيوان، تأليف وتصنيف الشيخ العالم أبي نبهان، مما نقله من كتاب الحيوانات تصنيف القوم قوله: ومن الكتاب، وفي فتوى قاضي خان: ولا بأس أن تطرح القملة حية، والأدب أن يقتلها. قال الشيخ أبو نبهان رحمه الله: أما في قول أصحابنا فطرح القملة حية معصية، ولعله قد قيل مما يعقب النسيان، وقتلها من الطاعة، والمعصية لا تكون إلا من عاصٍ، كما أن الطاعة لا تكون إلا من مطيع، وطرح القملة لا يخرج من أحد أمرين: إما طاعة وإما معصية، والطارح لا ينفك من هذين المعنيين: إما أن يكون طائعاً في فعله ذلك، أو غير طائع. فلما صحَّ معنا أنه غير طائع صح معنا أنه عاصٍ، وجميع الأفعال والأقوال لا تخرج عن هذين الأصلين أبداً بحال، فإما طاعة وإما معصية، فما كان من الطاعة فهو طاعة وفاعله مستحق اسم طائع، وما خرج من حد الطاعة فهو معصية، وفاعله مستحق اسم عاصٍ في جميع الأفعال والأقوال.
(1/3)
وطرح القملة حية خارج من ضروب الطاعة، داخل في ضروب المعاصي، ولعله من صغائر المعاصي لا من كبائرها، فخرج المعنى مَعَنا من قول أصحابنا في نبذ القملة حية أنه من الأفعال المحجورات؛ إذ لا يستحق فاعله اسم المعصية، إلا بارتكاب ما كان محجوراً عليه، مأموراً به، منهيًّا عنه، يعاقب عليه إن لم يتب، فدلت المعاني من قول أصحابنا في طرح القملة على أن طرحها حية محجور لا يجوز، والمجوز غير موسع في ارتكابه بلا خلاف، والله أعلم.
الجواب وبالله التوفيق: "أما على هذا المقال من هذا الشيخ والدي رحمه الله ما يؤدي إلى حكم تحريم طرح القمل، وكأنه قد حكم به أنه من المعاصي لله سبحانه وتعالى وأنه من حيِّز المحجور الذي لا يسع بلا خلاف. وقال لعله من صغائر الذنوب، فكأنه بالتعليل لم يعلم حكمه بالقطع، ولا بد له من أحد أمرين: إما أنه لم يدْرِه أنه من كبائر الذنوب أو من صغارها ومال به الظن أنه من صغارها، وإما أنه لم يدره أنه من صغار الذنوب، أو ليس فيه ذنوب، ومال به الظن أنه من صغارها، ولفظ كلامه ما يقضي الأول؛ لأنه جعله في حيز المعاصي بالقطع، وفي حيز المحجورات التي لا يسع ارتكابها بلا خلاف.
وقد قال بعض العلماء: لا صغار في الذنوب؛ لأن معصية الله تعالى لا تجوز في حقه أن تكون صغيرة. والقول الأول أن فيها الصغائر وفيها الكبائر هو الأكثر.
(1/4)
ولكن قال بعضهم: كل ما توعد فيه العقاب بفعله فهو من الكبائر. وقيل: ذلك فيما توعد الله تعالى فيه بالعقاب، وما حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالعقاب، وكذلك ما أجمع عليه المسلمون أنه فيه العقاب. وقيل: كل ما كان حكمه من المعاصي، وعليه فيه العقاب، ولا يغفر إلا بالتوبة فهو من الكبائر، لقوله تعالى: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) [النساء:31] فدل أن صغائر الذنوب هي التي تغفر باجتناب الكبائر، وهذا جعل هذا مما عليه فيه العقاب ولا يغفر إلا بالتوبة، وهو لم يقطع في حكمه، فدل عليه كلامه أنه يدخل في حيز كبائر الذنوب على هذا القول من العلماء بحكم معاني هذه الآية.
وعلى هذا فتحريم طرح القمل يخرج على معنى الدينونة أن لو صح حكمه هكذا، ولكن يأبى الله أن تجوز الدينونة في مثل هذا، بغير تنزيل منه في كتاب، ولا صحة تواتر في أخبار من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه ديناً، ولا إجماع من المسلمين في تحريمه ديناً على حجة تجوز لهم أن يدينوا به فيظهروها، ولا بقيام حجة من العقل لا يجوز في العقل خلافه، وبغير هذه الأصول لا تجوز الدينونة في شيء جزماً، وإن جاء في الكتب عن العلماء تحريمه وكثر ذلك عنهم في كتبهم ولم يوجد له معارض عن أحدهم فلا يكون كل ما وجد كذلك في الشريعة يكون إجماعاً وفيه الدينونة ولا يجوز فيه القول بالرأي، فكثير ما هو كذلك في الشريعة ويأتي الآخر ويقول بخلافهم، وليس صفة الإجماع على هذه الصفة، فقد يكون في شيء حكمه بالإجماع ولا يجوز خلافه قاله أحد العلماء أو لم يقله أحد منهم، إذا كان في حجة العقل النوراني أنه مما لا يجوز فيه الاختلاف، وإن القول بخلافه باطل، وهو مما تقوم به حجة العقل.
(1/5)
وقد يوجد في شيء أقوال العلماء على حكم واحد، ولم يخالف أحد من العلماء ذلك القول، وهو مما يصح فيه القول بالرأي في حجة العقل، فلا يكون ذلك إجماعاً دينيًّا لا يجوز خلافه، ولو ادعى في ذلك أنه بالإجماع، حيث لم تجد له خلافاً لم يسلم إليه في كل أمر حتى يجمعوا على شيء في حكمه، ويصح إجماعهم فيه أنهم حرَّموا خلافه بالدينونة، فهذا هو الإجماع منهم، الذي يصير ديناً لا يجوز خلافه، ولكن ليس لهم أن يجمعوا على ذلك إلا فيما جعل الله لهم ذلك مما أنزل الله حكم وجوبه في كتابه أو أوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم أو أوجبته حجة العقل. وما أشبه هذه الأصول الثلاثة فهو مثلها، فما شابه الإجماع فيه بالدينونة من هذه الأصول الثلاثة فهو مثله وهو الركن الرابع. وما أشبه ما يجوز فيه الرأي فهو مثله يجوز فيه الرأي، وإن أشبه الإجماع من جانب، وما يجوز فيه الرأي من جانب جاز فيه الرأي، وجاز لهم أن يجتمعوا على الأشبه بالإجماع من ذلك ما لم يسبق فيه من جواز الرأي، إلا أن القول هنا فيما يجوز لهم أن يجتمعوا عليه حتى يصير دينونة، ليس القول فيما يجوز لهم فيه الاختلاف؛ لأنه إذا كان على هذا يجوز لهم الاختلاف فيه، ولكن المقصود هنا إيضاح مواضع جواز الإجماع لهم.
والمواضع التي لا يجوز لهم أن يجتمعوا عليه بالدينونة، ولو أجمعوا على الدينونة بشيء، لا على هذه الأصول الأربعة، مما هو خارج عنها لكان هو الضلال، وصاروا بالدينونة بذلك على غير ما جاز لهم من فِرَق أهل الضلال، ولولا ذلك كذلك لما صار أهل الإقرار على ثلاث وسبعين فرقة، كلها هالكةٌ إلا فرقة واحدة منها، فلم يكن ضلالهم إلا بدينونتهم فيما ليس لهم أن يدينوا به.
(1/6)
ودعوى الإجماع من أحد من العلماء لأجل قول العلماء في شيء لم يجد من أحدهم خلافاً لا يحرم خلافه، إذا كان مما لا تقوم على صحته حجة العقل وإنه لا يجوز خلافه، ولو كان كذلك صحيح لم يوجد خلافه، وقد يمكن أنه لم يجد خلافه ذلك العالم ووجد عن أحد من العلماء خلافه فيكون قولاً، وقد يكون في بعض الأمور خلاف ذلك العالم لذلك القول، خلافاً للحق لا يصح أن يعد به رأياً صحيحاً، ولا يجوز أن يكون من الرأي الذي يجوز له خلافه، فصح أن مرجع الأمر إلى ما ذكرناه من الأصول الأربعة لا غير.
وقد ادعى أبو محمد بن بركة فيمن سلّم في التشهد الأول في الصلاة على النسيان، أنه لا نقض عليه بالإجماع. وقال غيره على أثر قوله من العلماء: ليس في ذلك إجماع.
وادعى بعض العلماء أن القهقهة في الصلاة تنقض الصلاة والوضوء بالإجماع، وليس في نقض الوضوء في ذلك إجماع، ولا تجوز فيه الدينونة، ولو وجدت فتاوى جميع العلماء بنقض الوضوء، ولم يخالفهم أحد، فإنما يكون ذلك منهم اتفاقاً لا إجماعاً، وبينهما فرق في رسمهما لاستعمالهما في أحكام الشريعة، وإن كان معناهما في اللغة واحداً، فإنما فرق معناهما في استعمالهما في الشريعة؛ ليفهم بهما فرق ما أرادوه فيها، فجعلوا الاتفاق في استعمالهما في الشريعة ليفهم بهما ما أرادوه فيها، فجعلوا الاتفاق اتفاقاً في استحباب عمل شيء أو ترك شيء، ولم يجيزوا أن يدان به، ولكن اتفق نظرهم في الأحسن وجعلوا الإجماع فيما هو لازم بالدينونة وحرام خلافه تحريماً بالدينونة أجمع على ذلك فيه العلماء، أو لم يذكره أحد منهم.
(1/7)
وقد يكون الضحك عن تعمد، وقد يكون عن غلبة، وكذلك القهقهة، ولا يستطيع المرء أن يردها، فلا يكون الحكْم فيه دينونة، أنه ينقض الوضوء وليس من المعاصي، بدليل قوله تعالى: ((وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)) [النجم:43]، وإنما يصح التشديد فيما يكون المرء فيه من ذاته، مما لم يجزه المسلمون، كصقيع السفهاء، فهو الذي يحسن أن ينتقض به الوضوء لا غير؛ لأنه قيل: هو من المعاصي. وأما القهقهة التي عن غلبة، فالأصح أنها لا تنقض الوضوء، وقد جاء عن أهل العلم أنها إن جاءت من المرء في صلاته، أشد عليه نقضاً في وضوئه مما إن جاءته في غير حال صلاته بل في وضوئه، وكذلك الضحك. ولا أرى حجة في التفرقة بين ذلك، إذا كان عن غلبة؛ لأن ذلك في الحقيقة لا عن تعمده، ولا هو معصية ما لم يخرج إلى حال المعصية، كما ذكرناه.
وإن خرج إلى حال المعصية لم يكن إجماعاً في نقض الوضوء كان في الصلاة، أو في غير الصلاة، ولو لم يأت ذكره عن أحد من العلماء أنه لا ينقض، فلا يكون إلا اتفاقاً لا إجماعاً تجوز فيه الدينونة؛ لأن المعاصي كلها على الإطلاق جاء فيها الاختلاف كلها في نقض الوضوء بها، إلا الشرك فهو الذي ينتقض به الوضوء بالإجماع، لا بما دونه به.
(1/8)
وقد قال الشيخ العالم سعيد بن بشير الصبحي: وادعى بعضٌ من العلماء تحريم قهوة البن المعروفة عند الناس، وليس في ذلك إجماع، ولم يرفع عن أحد من العلماء أنه قال بتحليلها، فيمكن أنه قال بعض العلماء بالتحليل ولم يرفعه، ويمكن أنه أراد ليس في ذلك إجماع أي هي مما لا يصح ولا يجوز الإجماع على تحريمها بالدينونة، ولو لم يقل أحد بذلك لحجج رآها في عقله، أنها مما يجوز فيها الرأي والإجماع على التحريم بالدينونة، كما قلنا لا يصح إلا فيما تقوم به الحجة من العقل على تحريمه وجواز الدينونة فيه؛ لأن الإجماع لا يجوز بغير ذلك، أو على تحريم شيء حرمه الله أو حرمه رسوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحتمل الخلاف بالتأويل، وأما إن صح ما احتمل وعمل المسلمون بظاهر القول فيه وأجمعوا عليه تحريماً بالدينونة جاز لهم ذلك.
وإن خالفهم بعض العلماء قبل أن يصح منهم الدينونة فيه بطل الإجماع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن لبس الحرير والذهب للرجال دون النساء، فاتفق الصحابة على تحريمهما، ولم يصح عنهم أنهم حرموهما بالدينونة، فقال ابن عباس رضي الله عنه: أما الحرير فلِبْسُه للرجال ليس بحرام، وإنما هو مكروه، فلم يجز فيه الإجماع، لعل ذلك على تحريمه بالدينونة، وبقي الذهب هو المحرم لبسه للرجال بالإجماع، ولكن إذا كان في حكم اللبس له بالإجماع، وإن كان مما يختلف فيه أنه في الحكم الذي به هو لبسٌ منه له، أو حكمه حكم الحامل له، فيصح فيه الاختلاف، وما اتفق القول فيه أنه في حكم حامل له جاز بالاتفاق، وقد أجاز المسلمون حمله في الأذنين كالحلق وما أشبهه، وفي اليدين والرجلين وأنه حكمه حكم الحامل له.
(1/9)
وهذا ما يدل على أنه وإن كان قد وجد النهي من العلماء في طرح القُمّل واتفاقهم على ذلك، وأنه معصية بشرط أن يكون حيًّا، فلا يكون معصية إلا على رأي من لا يراه جائزاً، وأنه لو رآه غير يجوز، فلا يكون في حقه معصية، ولو لم يرد عن أحد من العلماء أنه يجوز؛ لأنه لم يأت في تحريمه وجوباً عن الله تنزيلاً، ولا تواترت الصحة التي تقوم بها الحجة بروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب تحريمه، ولا هو مما تقوم به الحجة من العقل، في إيجاب حرمته لشيء من الحجج القاطعة المانعة، عن مجال النظر فيه بخلافه فيصح الإجماع، بل العقل يمكن أن يرى جوازه، فإن كان لأجل أنه مؤذ فلا حجة بذلك في إطلاقه في كل موضع، حتى في المواضع المباحة البعيدة، عن مجالس الناس فيها، فإن كان كل مكان يحتمل أن يأتي فيه ممن لا يجوز أذاه به، ثبت ذلك في كل مؤذ، في كل موضع من شوك وغيره، ومن جميع الحيوانات التي يمكن أن تخرب أموال الناس، وهذا مما لا نعلم أن العلماء أجمعوا في جميعه بالتحريم بالدينونة في ترك ذلك، من حيث لا يضرّ ممن لا يجوز ومما لا يجوز ضررهما، وإن كان قد قال بعض فيه أنه معصية، ولم يقل أحد بخلافهم، فليس ذلك بحجة توجب المنع عن القول بخلافهم، لما ذكرناه من البيان والاحتجاج.
(1/10)
وقد أورد الشيخ أبو سعيد رحمه الله كثيراً من المسائل، مما قال فيها العلماء، وأخرج آراء من تلقاء نفسه بخلافهم، ومن ذلك ما ذكره على أثر كلام لأبي محمد بن بركة في الرجل إذا قال لزوجته: إذا دخلتِ بيتَ فلان فأنت طالق، وعيّنه إلى مدة معينة أو أطلقه إلى غير مدة، فأقر أبو محمد أحكام كل وجه ما يخصه. وقال أبو سعيد رحمه الله بعد ذلك: هكذا قولُ العلماء في هذا، ولا أعلم أحداً من العلماء قال بخلاف ما قاله أبو محمد في هذا، إنما كانت كل أقوالهم متفقة. ولكني أقول من غير قصد لخلافهم: إنه يصح ألا يصدقها إذا قالت قد دخلت، وألا يكون القول قولها في المدة التي عينها لها، أو في الإطلاق في كل وقت ادعت ذلك، مع أن أقوال المسلمين متفقة على قبول تصديقها؛ لأن هذا مما عليها أن تشهد على فعلها، وإنما لها التصديق فيما لا يمكن أن تُشهِد عليه شهوداً.
وكأني أميل إلى هذا القول أنه هو الأصح مما قالوه بخلافه، هكذا قال على المعنى من قوله، ولم يجعل ما نظره من العلماء من اتفاق أقوالهم على ذلك إجماعاً لا يجوز به خلافهم، وكثيرٌ من مسائله على هذا، وحيث يصح في العقل قبوله، لم يَجُز له خلافهم، كنجاسة بول الإبل، فقال: لولا الإجماع على حرمته ونجاسته لَمِلْتُ إلى ما قاله القوم من طهارته، لما قاله أصحابنا في طهارة قليلة في الضرورة، فقال بعضهم: ما لم يبلّ القدم كله. وبعضهم قال: إنما الرخصة في نصفه، وبعضهم بالأقل، وبعضهم بالشَّرَر لا ما فوقه.
وفي الحقيقة إن النجس بالدينونة نجس كله ولو كان كوخز الإبر، وهذه بعض أقاويلهم فيه فكأنها متناقضة؛ وذلك لأنهم أجمعوا على تحريمه بتحريم لا يجوز تحليله جزماً.
(1/11)
وكذلك قد اتفقت أقاويل العلماء في أكل ما جُعِل لإفطار صائمي شهر رمضان في المساجد، ولا نعلم أن أحداً من العلماء أجاز أكل ذلك في غير المساجد التي جعل ذلك لأن يكون فيها. ونظر الشيخ والدي أن دخول كثرة الناس العوام الهمج الرعاع، يلحق الضرر بالمسجد لمن شاء من أهل الفضل أن يذكر الله فيها، وإن ذلك مما يوجب منعهم. وإجازة أكل ذلك في غير المسجد الذي جُعل ذلك فيه، وإذا جاز في غير ذلك المسجد جاز حيث شاء الفاطر به. وإن الوصيّة لا تثبت في هذا؛ لأنه ليس للوصي تصريف فيما لا يملك ولا مما يباح في المواضع غير المملوكة وغير الموقوفة، حتى قال إنه لا يجوز الفطور فيها من مثل هؤلاء، وأما نحن فقلنا يجوز على غير الضرر، ولكن هذا مما لا يثبت بالحكم لأن يكون، ويصح أن يكون في غيرها. ولم يجعل الوالد اتفاقهم على إجازة ذلك فيها واتفاقهم على المنع، بأن يؤكل في غيرها إجماعاً لا يجوز خلافه، فصح أن الاتفاق على قول من العلماء لا يكون على حال في كل أمر إجماعاً لا يجوز فيه بعده الرأي، حتى يصح أنهم أجمعوا على تحريم خلافه، ولا يكون لهم إلا فيما يجوز لهم. وقد يكون في بعض الأمور إجماعاً ولو لم يظهروا تحريم خلافه، وإنما يعرف ذلك من نظر العقول كما بيناه.
(1/12)
والمثال في ذلك فيما أنزل الله تعالى حكمه في فعل فيه الأشد، وفيه الأخف، فحرم خفيفه وأهمل ذكر أشُدِّه قوله تعالى في الوالدين: ((فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)) [الإسراء:23]، وضربهما مؤلماً بالعصا، وعقهما موجعاً بالحصى، أو شتمهما بالكلام هو أشد من ذلك، فهو من الحرام بالإجماع في دين الإسلام، ولو لم يأت ذكر عن أحد من العلماء في تحريم ذلك فيهما، وإن كان قد ذكر العلماء تحريمه وأجمعوا على ذلك، فليست الحجة في تحريمه من أجل اتفاق أقوالهم فيه؛ لأنه حرام بالإجماع أي بالدينونة قبل أن يذكره أحد منهم بتحريمه، فصحَّ أن المراد بالإجماع في بعض الأحكام هو ما كان بالدينونة فيه، قال ذلك بتحريمه أحد من العلماء أو لم يقل، مما تقوم به حجة العقل على وجوبه فعلاً وتركاً.
وفي بعض الأحكام هو ما أجمعوا على وجوبه فعلاً وتركاً، باتفاق أقوالهم مما لهم أن يوجبوه كذلك في حجة العقول، لا فيما لا يجوز لهم إيجابه ديناً. فإذا أجمعوا على إيجاب شيء بالدينونة فيما ليس لهم أن يدينوا به صار ضلالاً، وكل هذا فالمراد في الأحكام التي لم يكن جاء إيجابها في الكتاب ولا في السنة ديناً؛ لأن خلاف ذلك معروف أنه حرام بالإجماع، وعلى هذه الأصول تدور جميع أحكام الشريعة فاعرفه.
وكذلك إن صح اتفاقهم على الكراهية في شيء لا يوجب حرمته في كل شيء، فقد أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومِخْلبٍ من الطير، ومع ذلك أجازوا في تأويله القول بالرأي.
فقال بعضهم: كل ذلك حلال وإنما كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم نهيَ أدب؛ لأنها تأكل في غالب أمرها المحرمات. وقال بعضهم: إذا كانت هذه الحجة فهو نهي تكريه، ولا يبلغ به إلى حرمة لأنها تخلط بالطاهرات، فلم تكن جلاَّلة لا تأكل إلا المحرمات فتحرم.
(1/13)
وقال بعضهم: بل هو نهي تحريم، وأنها حرام بظاهر الرواية، ولقوله تعالى: ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) [الحشر:7] والذي يقول بحرمتها يلزمه أن يقول: إذا أكلها يكون عاصياً ولا يكفر غيره إلا من رأى فيها كرأيه، وما شاء التنزه عنها اتباعاً للنهي، ولو رأى صحة إباحتها هو أفضل له.
وإن كان قد قال أبو سعيد رحمه الله ومن رأى الأعدل من الأقاويل الجائزة في الرأي وعمل بالأهزل كان آثماً، فقال والدي رحمه الله: ومن كان آثماً كان ظالماً، ومن كان ظالماً كان هالكاً، ومن كان هالكاً فهو في النار، وهذا ما لا يجوز إطلاقه على هذه الأحكام بإطلاق القول فيها؛ لأن الزهد في المكروهات جائز العمل به، ولو رأى جوازها أقرب إلى الحق، مثلاً أنه قبض على ثعلب ورأى أن حلاله أقرب إلى الحق، ولكن قال: أنا أطلقه ولا آكله لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنه من إضاعة المال، ولا شك أنه أفضل له ذلك، فلا يجوز أن يحكم عليه بالإثم والظلم والهلاك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمتي من يترك سبعين باباً من الحلال خوفاً أن يدخل في باب واحد من الحرام)).
فلا يجوز لهؤلاء أن يحكم عليهم بالإثم والهلاك، ما لم يحكموا في ذلك الحلال، أو في أكله على ما جاز له بما لا يسعهم، ولا يصح قول هذين الشيخين إلا في موضع أن يكون المرء حاكماً بين خصمين وَلِيَ حكومتهما أو حاكماً على نفسه في غيره مما يلزمه فيه الضمان، أو في الانتصار لأخذ حقٍّ من غيره، قيل: له، وقيل: لا، ويرى هو أنه ليس له أو يكون الحق عليه ويراه أنه عليه له في صحة الرأي ويعمل أنه لا عليه، وأمثال هذا لا على الإطلاق.
وكما جاز خلاف أبي سعيد وأبي نبهان في بعض هذا مما يجوز خلافهما، وصح فيه أن الأصح غير ما قالاه، وقد حكما بالتأثيم، وحكم أبو نبهان فيه بالهلاك، وأدخلا في لفظهما ممن لا يجوز تأثيمه ولا الحكم بالباطل، وهو أعلم ممن علمنا من علماء الأباضية.
(1/14)
كذلك يجوز الخلاف لهما فيما يجوز ولو حكم أحدهما على أحد بالهلاك إذا أوجب النظر غير ذلك في نظر غيرهما، وكما لأبي سعيد رحمه الله ولأبي نبهان رحمه الله خلاف من تقدمهما، مما لم يوجد فيه اختلاف، كذلك يجوز لغيرهما ذلك، مما يجوز فيه الرأي في أصول الشريعة.
وقد قال أبو سعيد رحمه الله في المنقطع في الفلاة، الذي لم تبلغه الحجة بأعمال العبادة لله تعالى عليه أن يعمل لله بما حسن في عقله، وهذا ما لا يصح إطلاقه؛ لأنه قد يمكن أن يحسن في عقله، ما هو غير لازم عليه، أو ما هو ليس من الوسائل، فكيف يجوز أن يلزم نفسه ما لا يلزمه، وقد قال هذا الشيخ إنه لا يجوز له أن يدين بوجوب شيء عليه مما يجوز فيه الرأي، ولا ينصب الرأي ديناً فيكون هذا يلزمه شيء هو غير لازم، هذا ما لا يصح، ولما جاز القول في هذا بخلاف قوله جاز في جميع ما يجوز فيه الرأي، ولا نعلم أن أحداً قال: إن الدينونة لازمة في تحريم طرح القمل حيًّا، وأنه يبرأ ممن فعله كان من العلماء أو الأئمة العدول، أو كان من ضعفاء المسلمين، أو كان الرأي يتولى من رآه أن عليه أن يستتيبه، وإلا برئ منه، وإذا لم يكن كذلك، كان من الرأي، ولكل عالم أن يقول فيه ما يراه أنه أصح وأقرب إلى العدل، ونحن لسنا من العلماء.
وأما الذي نراه أن الأصح كراهيته في مجالس الناس، لا في الأماكن المباحة إذا لم يرَ علة تمنع ذلك ولا حجة تحجره، ولا يصح أن يكون الرأي صحيحاً قويًّا إلا بإظهار الحجة الدالة على تحريمه، وما احتج به إما أن يكون طرحه من الطاعة، وإما أن يكون من المعصية ليس بحجة، إذ ليست الأعمال هي منقسة على هذين القسمين فقط، فلو كانت كذلك في الشريعة لكانت هذه حجة، ولكن يأبى الله أن يجعلها كذلك، إما حراماً واجباً كافرٌ فاعلها، وإما طاعة كافرٌ تاركها، فيكون ترك أي شيء منها على حال كفر، إن هذا لهو الضلال البعيد.
(1/15)
وإذا بطل هذا لم يكن حجة على تحليل ولا على تبطيل؛ لأن الباطل باطل؛ لأن أحكام الشريعة في الأعمال إما واجبٌ فعلها وإما وسيلة، وإما مباح لا إثم في فعلها ولا في تركها، ولا هي من عبادة الله تعالى، وإما مكروهة، وإما محرمة، ولا يجوز الاختلاف في شيء من هذه، ومنها ما يجوز فيها الاختلاف، هل هي محرمة أو مكروهة؟ فهما قسمان، وفي بعضهما ما يجوز فيها الاختلاف، هل هي واجب فعلها أم جائز أو وسيلة؟ فتلك عشرة أقسام.
وإذا كان الحق ليس كما يقال: إما معصية وإما طاعة، فيكون حجة، بل الحق إما واجب أو وسيلة، فيكون طاعة وإما مكروهاً، والمكروه ليس من الطاعة، ولا يكون عامله على حال عاصياً لله تعالى، وإما أن تكون محرمة فيكون عامله هو العاصي به لا غيره، وأما العامل بها فصحيح أنه إما طائع وإما عاص ليس هنالك مرتبة ثالثة لقوله تعالى: ((إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإنسان:3].
فالعمال بالأعمال لا شك أنهما على قسمين لا غير؛ لأن العامل بالواجب فعله وبالوسيلة وبالمباح وبالمكروه على ما جاز له هو طائع لله تعالى، ولا يكون عاصياً لله بعمل شيء من هذه الوجوه على ما ذكرناه. والعاصي هو العامل بالمحرم على وجه لا يعذر به، ولا يسعه العمل به لا غيره، فالأعمال لا يصح قسمها إلى قسمين إلا إلى محرمة يهلك بها فاعلها أو إلى جائزة له ويدخل فيها المكروه. وأما الصحيح في قسمتها للإيضاح فهو على ما وصفناه، وقد قال والدي بهذا القول في كتابه هذا في حال بدئه التعليم قبل تفحله في العلم وقد أمرني أن أمش هذا الكتاب وأعط قرطاسه المجلد الذي يجلد الكتب. وقال: إني صنفته في حال بدئي في التعليم ولو بدلته لعوضته بأحسن منه وحين أيسنا من تعويضه له كم يجبه إلى ما أراد.
(1/16)
والدليل على صحة قولنا أنه ألفه قبل تبقره في العلم ضعف حجته واحتجاجه بما لا حجة له بها وتقسيمه الأعمال على الغلط الذي لا يصح له. فإن قيل: إنما أراد القياس بالأعمال اللازم وجوبها، وبالأعمال اللازم تحريمها وإن هذا منها. قلنا: هذا مما لا يصح له؛ لأن الأعمال الواجب فعلها والأعمال الواجب تحريمها التي يصح الاحتجاج بها في غيرها ليكون منها، إنما هي معروفة مشهورة مع العلماء إيجابها كذلك فعلاً أو تركاً فيصح الاحتجاج لهم بها، لقيام الحجة بمعرفتها وشهرتها ولو كان تحريم هذا من ذلك القسم لم يكن يحتاج إلى الاحتجاج بغيره لصحة تحريمه، بل هو يكون حجة مما يحتج به في غيره، والشيخ أطلق اللفظ في جميع الأعمال، ولو خصص بالواجب لم يكن ذلك حجة لأنه إنما جعل الحجة انحصار الأعمال إلى قسمين لا غير، ولو خصص لأظهر أنه يمكن أن لا يكون معصية بتلك التي أهمل ذكرها فتتلاشى عليه الحجة بالحصر الذي أقامه حجة ليحتج به، فلا بد له من تلاشيها إن عم أو خص على حال.
(1/17)
فإن قلت: إنما الواجب فعله والوسيلة عمله والمكروه استعماله، والمحرم انتهاكه قد عرفناه، وأما المباح فلم نعرفه ولعله ليس بشيء. فأقول: إن جميع الأعمال الدنياوية المباح فعلها، ولا يستحب بها نفعاً في الدنيا، وليس هي من عبادة الله تعالى ولا ضرر فيها لأحد، ولا نفع فيها لأحد إلا لقصد التلذذ بها في الدنيا، ولم تحضر العامل لها في حينه ذلك نية يصح أن يقصد بها لله تعالى ونوى بها كذلك مثل تزيين قطع القلم لا من الجانب الذي يجود به الخط، ونقش أول الكتب أو في آخرها عند الختم، وتحسين عمل الخشب من شخوط وقطع، وتصويره ليعمل على أبواب زجوج البيوت والمساجد، وتصغير هدوب الثوب، والاجتهاد في تجويدها، وتزيين جميع الصنائع، بشرط في هذا أن يكون لغير زيادة الأجر ولا لاستجلاب عقول الناس للخدمة، وإنما ذلك من المؤجر للصانع لنفسه أو من الصانع ليس له نية، غير أنه يستحلي بذلك كذلك ليس ذلك من عبادة الله ولا من معاصيه، ولا من المكروهات، والمكروه ما يوجب بتركه الثواب ولا يوجب العقاب بفعله، والوسيلة ما يوجب بفعلها الثواب، ولا يوجب بتركها العقاب، والواجب فعله ما يوجب بفعله الثواب ويوجب بتركه العقاب، وهذان الوجهان بهما العبادة، والمحرم ما يوجب بفعله العقاب ويوجب بتركه الثواب، ولا يسمى المكروه عبادة، والعفو عنه كرامة الله له، ولا يسمى ثواباً لأجل فعله والمباح ليس من العبادة في شيء، وثوابه معجل في الدنيا لغير أهل النباهة من أولياء الله تعالى.
وأما العلماء فيمكن أن يكون لهم الأجر فيه، ومن كان مثلهم إذا حضرته النية أنه يتنعم بكرامات الله، ورخصة فيشكرها، وقيل: إن المؤمن يثاب في كل عمل من الأعمال المباحة له في الآخرة؛ لأنها من كراماته للعبد فتلقاه بالقبول وشكرها. وكأني أميل إلى صحة هذا في كل مؤمن.
(1/18)
وأما المكروه فلا، ولا يبعد في شيء منها مثلاً فيمن يستبرئ من البول، وينقطع عنه، فاستعمل التطويل في غسله مقدار مائة عركة، فقيل: إن هذا مما ليس فيه أجر، ولو نوى به لله فليس لله منه في شيء، وهو من الوسواس ويكره له ذلك، وما لم يبلغ به إلى الوسوسة فهو مكروه، وبالإجماع إنه لا يهلك ولا يجوز الحكم بهلاكه.
وقد قلت بالإجماع لتعرف ما ذكرته أن الإجماع قد يكون في شيء لم يتكلم فيه أحد من العلماء، وهذا من وجوهه، وأنا أقول إنه لا يبعد من أن يكون له الأجر، إذا كان منه في وقت لا يضر في نفسه، ولا ينقص عليه فضيلة قضاء فرض، ولا فعل وسيلة حضره قبلها هي أكمل منه وظن أن ذلك مما له فيه الأجر؛ لأنه من المباح له على هذه الشروط.
وكما جاز لوالدي خلاف أقوال العلماء في أكل ما الذي جعل في المساجد أكله في وقت الفطور، لصائمي شهر رمضان، مع اتفاقهم أنه لا يجوز إلا فيها، بدليل الآية الدالة على صحة رأي خلافهم بقوله تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)) [البقرة:114]، فجعل دليلها يدل على خلاف قولهم، وأن دخول العوام لأجل هذا مما يؤذي المساجد ويؤذي من أراد القيام فيها مما يسقط عليهم من طعامهم فيها، ولما يكون سبباً لجانب السباع إليها في بعض منها.
كذلك يدل على أن الحَلْق في الحج على إجازة طرح القمل حيًّا بالموسى مع الشعر في الأرض في قوله تعالى: ((وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)) [البقرة:196]، ففي التأويل الصحيح أن المراد بالأذى هنا القمل ويدخل في المعنى كل أذى لم يمكنه معه إلا حقله، ولا شك أن الموسى يطرحه حيًّا.
(1/19)
فإن قلت: لعل عليه أن يُخرجه من قبل أو يلقطه من بعده. قلنا: أما إخراجه من قبل لو كان المراد كذلك، لأخرجه من رأسه إلى ثوبه ولم يكن يحتاج إلى الحلق ولا إلى الفدية، ولو كان المراد به إباحة إخراجه وقتله والفدية لأجل ذلك لا لإباحة الحلق. قلنا: فالآية في الحلق في المنع أولاً وجاءت الإباحة في وجه، فلا يصح أن ينتقل المعنى إلى غيره، فإن قلت: أليس هذا من الالتفات في علم البديع؟ قلنا: لم يكن دليل على اتساق المعنى واللفظ، حتى يخرج من هذا إلى هذا، فليس هذا للالتفات محل، وظاهر اتساق الآية لا يدل على ذلك فلا يصح الاحتجاج بها لذلك المعنى البعيد إلا بصحة شريعة تؤيده الشريعة لم يأت فيها ما تقوم به على تأويلها كذلك فظاهر حكمها أولى اتباعه.
فإن قلت: إن تحريم الطرح له حيًّا في غير هذا الموضع ما يقتضي وجوب التقاطه من الأرض في هذا الموضع. قلنا له: إن هذا من عكس دلائل الأحكام؛ لأنه قد جاء ذكره في الكتاب العزيز، وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قد جرى عليه أحكامها بالقمل فيه، فما هي مسألة حديثه، بل هي موجودة في زمانهم، وحجة من يحتج بالنبي وبالصحابة وبالعلماء، أنه لم يؤخذ عن أحدهم أثراً في هذا الموضع يلزم فيه التقاطه من الأرض ولا صح عن أحد منهم مع وجود الحلق في جميع الناس، وعلى كثرة استعماله في جميع المواضع التي فيها الناس غالباً من جميع الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم والتابعين، لم نعلم تواتر أخبار تقوم بها الصحة والحجة في لزوم لقط القمل من الأرض والشعر مما يطرحه الحالق بالموسى.
(1/20)
والمحتج بقلة وجود صحة ذلك هو الأقوى حجة؛ لأنه من المستعمل، ومتعبداً العباد بالتزام فعل ما لزمهم، وترك ما لا يجوز لهم، وهذا أقوى دليل على عدم لزوم ذلك وإذا لم يلزم كانت حجة من أجاز طرحه هو الأصح، وأنه لا من المعاصي وإنما هو من الأدب، كما قال قاضي خان فيما أراه في الحين وإنه لا من المعاصي إلا في رأي من رآه غير جائز، فهو كذلك في حكمه في نفسه وفي نفس من رآه كرأيه لا في حق من لم يره حراماً، ولا يجوز لأحدهما أن يخطئ الآخر، ولا أن يحكم على غيره إنه عاصٍ بذلك، ولا الحكم به أنه من المعصية على الإطلاق، وكل هذا غير جائز؛ لأن كل أحد فيما يجوز فيه الرأي متعبد فيه، على ما يراه في نفسه أن تصور في نفسه الأصح منها مما هو حق كله.
فلو كان قال هذا الشيخ في حال تبقره في العلم لنظر أن هذا لا يجوز على كل حال إلا في حال من رأى تحريمه في رأيه، ومع ذلك ليس لذلك أن يحكم به على الإطلاق ولا على غيره ممن خالفه كما ذكرناه وبيناه مكرراً. وقد توقف والدي عن الحكم في شيء هو أعظم من هذا، إنه من المعصية حين سأله سائل عن قراءة فاتحة الكتاب عكساً في حروفها من آخرها إلى أولها، فقال: لم يجز العلماء ذلك؛ لأنه معهم من عكس القرآن. فقال له السائل: إن العكس لألفاظه قد تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من عند بعض زوجاته واتهمته غيرها أنه قد بلغ منها وطراً فقالت: اقرأ. قال: على العرش الرحمن استوى وكان على الماء عرشه، وليس عكس الحروف بأشد من عكس الكلام، إنما عكس القرآن كما يعكس أحكامه على الباطل، فهل عندك قراءتها كذلك معصية؟ قال: لا أقول إنها معصية، وأنا لا أخطئ من قرأها كذلك، فإذا كان قرأها كذلك لا يحكم بها أنها من المعاصي ولم يجز له؛ لأنها من مسائل الرأي، والحق ما قاله، فلا يجوز له على الإطلاق ولا في حق من رأى جوازها، وإنما يصح له في الحكم من رأى تحريمها من غير أن يخطئ غيره.
(1/21)
وقد نظرت في كتابه وسألته عن طرح القمل وأنا قابض ثوبي أريد أن أطرحه بظفر إصبعي الإبهام والسبابة بإباحته وفتواه؟ فقال: قد كرهه بعض العلماء في المواضع التي تؤدي الناس فيها. وقيل: إنه يورث النسيان فكنت أنبذه بحضرته وفتواه، وبما قال ما قاله في هذه المسألة في تأليف كتابه هذا ما حضره في وقته ذلك وأفتاني في وقت آخر ما حضره وهكذا العلماء يفتون بما يرونه في ذلك الحين، والقاضي كذلك يقضي، وإن رأوا في حين آخر غير ذلك عملاً بما نظراه أصح في حينها ذلك وتركا الأول، ولم يجز لهما أن يبطلاه إلا إذا رأياه لا مخرج له إلى الصواب، وترك الاختلاف لا يوجب أنه لا اختلاف فيه ولا قول العالم، ولا أعلم في ذلك اختلافاً يوجب أنه لا يجوز فيه الاختلاف.
ففي جامع الشيخ أبي سعيد رحمه الله تعالى للذي سأله فأجابه بقول، وقال: لا أعلم في ذلك اختلافاً، فقال السائل: وقد سألته عن هذه المسألة بعينها فأجابني فيها بثلاثة أقاويل، ورسم الأقاويل كلها. وأيضاً في كتاب (الاستقامة) جعل أن حجة السماع تقوم في الفرض الذي يفوت كالصلاة في وقتها، والصوم في وقته من كل معبّر من طائع وفاسق وغير ذلك، ولم يرخص وبنى جميع قواعده على هذا، وحكم بهلاك من لن يعمل بها إذا فاته الفرض وأتى في كتابه (المعتبر) غير هذا وإن في ذلك اختلافاً، قول كما قاله في (الاستقامة)، وقول لا تقوم الحجة فيما لا تقوم الحجة فيه، إلا بالسماع إلا بأهل الحجة فلا تقوم الحجة بأهل الفسق وإنه معه كأنه هو القول الأصح.
(1/22)
وهكذا على العلماء أن يفتوا بما يروه أصح في حالهم ذلك ويجوز لغيرهم خلافه وخلافهم إلا فيما هو من الدين الذي لا يجوز فيه الرأي، وجميع ما أوردناه ما يدل على جواز الخلاف لأقوال العلماء في الرأي، ولا يكون إجماعاً إلا إذا صار ديناً وإن ذلك ليس بحجة، وإن القمل طرحه حيًّا مما لا يجوز، لأن يجاز في الرأي، وكفى بهذه الأقاويل وما أوردناه من النقل دليلاً على صحة جميع ما قلناه وكثير في مسائل الشيخ أبي سعيد رحمه الله لم يرخص لسائله ولو التمس الرخصة لم يظهرها، فيظن الظان أن ذلك مما لا يجوز فيه الاختلاف حتى يقول له السائل: أيهلك المخالف لهذا أو يبرأ من فاعله إذا كان وليًّا بدين؟ فحينئذ يظهر له أن هذا مما يجوز فيه الرأي وكل هذا مما يدل على أنه ليس كل مسألة وجدت عن العلماء ولم يوجد لها خلاف أنه لا يجوز لغيرهم أن يخالفهم فيها برأي، وإن الاتفاق ليس بإجماع وإن النظر في كل مسألة هي من الرأي جائز، وافق فيها العلماء رأيهم أو خالفهم، إلا ما قامت له الحجة أنه من الدين، والله أعلم" ص259-282.
- سئل لِمَ أجاز أن يشترى الجبن إذا جلب من بلاد المجوس غير مضمون وجاز ذلك في السمن؟ وقال أبو عبيدة: هكذا جاء الأثر في الجبن ولم يجئ في السمن، وما منع الشيخ أبا عبيدة لم يدر الحجة، وهو العالم الكبير، وهو في بلاد يجلب إليها ذلك، ويعرف البلد المجلوب منها والمجلوب إليها، كيف لنا السبيل إلى معرفة ذلك؟
قال: "هكذا الأثر، ولعل قائل هذا في الابتداء يجلب في بلاده الجبن، والغالب أنه من عمل المجوس ويعمله معهم أهل الإسلام، والسمن معروف معهم أنه ليس من أعمالهم ولا يعملونه، فلا وجه لهذا إلى أن هلك أو ما أشبه ذلك.
وهذه الأحكام تخص بلداناً هي كذلك وأما بلداننا نحن فلا يكون الجبن كذلك؛ لأن الجبن والسمن معروف أن المجوس لا يعملونهما، وحكمهما معنا على ما يؤديه النظر والاعتبار، والله أعلم" ص305-306.
- المواضيع:
(1/23)
- 64: في ذكر العلماء ومدحهم.
- 81،83: في فضل العلم والتعلم على سائر أعمال البر.
- 259: مسألة عن الشيخ فيها شيء من معاني الإجماع وغير ذلك.
- 305: في القياس وما يتعلق به.
آراء الشيخ ناصر بن أبي نبهان في قاموس الشريعة
الجزء الثاني
- هل من رخصة لقليل العلم في الإقدام على ما لا يعلم جوازه نصًّا من الأقوال والأفعال، إذا اطمأن قلبه، وانشرح صدره بإجازة ذلك فيما يظنه ويتوهمه؟ وإن قدم على ذلك فوافق الصواب هل يكون مأثوماً؟ وهل يخرج من شرط الثقة؟ علمني ذلك علمك الله حقيقة الصواب.
الجواب: "قد قيل إنه لا يجوز للمرء أن يقدم على أمر لا يعرف حقه ولا باطله؛ لأنه يكون متجرئاً على الله، إن كان فيه معصية أو طاعة، فغير مبال بذلك. ومعي – ولعله قد قيل أو لم يقل به أحد ولكني أرى صوابه – أن المرء إذا كان على طاعة الله وتحرى في نفسه في شيء، وفي ظنه يراه شبيهاً باليقين، أن ذلك جائز له، وكان له قوة في النظر، وعرف ذلك من الدين الذي لا يجوز فيه الاختلاف، أن يجوز له أن يعمل بما يراه عدلاً في نفسه، ولو لم يكن معه دليل له من تأويل التنزيل، أو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من الآثار الصحيحة، ولو خالف نظره إلى الأصح والرأي الأعدل الذي خفي عليه إلا في الحكم بين الخصماء ففيه اختلاف.
(1/24)
وأما إذا خالف الحق الذي لا يجوز خلافه، فلا يجوز له أن يخالف الحق بما لا يسعه بجهله به، وإن كان لا يعرف حكم تلك المسألة أنها من الدين الذي لا يجوز فيها الاختلاف، ولا أنها من الرأي الذي يجوز فيها القول، فقال فيها بظنه فقد وطّأ نفسه على خطر عظيم، لا يعرف أن نفسه سالمة بذلك القول، أو غير سالمة، ففي مثل هذا الموضع منه بعض العلماء أن يفتي المرء أو يعمل بنفسه بظنه في ذلك، وأنه آثم ولو وافق الحق؛ لأنه قال ذلك ملقياً نفسه مواضع التلف على غير علم، وغير مبالاة بسلامة النفس بذلك أو بهلاكها، ويدخل فيه رأي أنه إذا وافق الحق سلم، ولكن من أين يعرف سلامة نفسه بذلك أم لا؟ والله أعلم، فينظر في ذلك" ص43-44.
- عن المفتي إذا أفتى فتوى يلزمه فيها الضمان، فقال له المفتَى: إن فعلت وأنفذت بفتواك كذا وكذا. هل له أن لا يصدقه حت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *