إعم ال العقل المنهج والتطبيق لخالد الوهيبي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

إعم ال العقل المنهج والتطبيق لخالد الوهيبي

 





الكتاب : إعادة صياغة الأمة - كتاب لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
إعادة صياغة الأمة
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي
الفهرس:
مقدمة
إعادة صياغة الأمة
معنى إعادة صياغة الأمة
كيف نتغلب على صعوبات إعادة صياغة الأمة؟
هل مسيرة الفكر الإسلامي سلسلة ردود أفعال أم نابعة من صميم العقيدة؟
إعادة صياغة المناهج
حال المؤسسات العلمية ودورها في إعادة صياغة الأمة
ضرورة استقلال الأمة من ربقة التبعية
ضرورة الاستفادة من التجارب الرائدة
هل ستطال إعادة الصياغة المذهب الإباضي؟
من أصداء ندوة إعادة صياغة الأمة:
المدرسة الإباضية بالبصرة
المدرسة الأثرية
الفقه الإسلامي بين مقاصد الشريعة وظواهر النصوص:
الأخذ بالأسباب ودوره في نهضة الأمة:
الصحوة الإسلامية في العصر الحديث
التعلق بالوهم وترك الأسباب عقبة في طريق الصحوة
الأخذ بالأسباب من صميم الدين
الآثار السلبية المتولدة عن ترك الأسباب والتعلق بالأوهام
وراء الأسباب مسببها
الآثار الناجمة عن الإعراض عن سنن الله
الأسباب والمشيئة الإلهية
آيات الله تتجلى في خلقه
الكرامات والأولياء
التحذير من الوقوع في الوهم
دعوة إلى تنقية الأذهان
ملحق الأسئلة
الغزو الفكري قديماً وحديثاً:
أهمية الفكر السليم
الكذب على الأنبياء
قصة داود عليه السلام
قصة يوسف عليه السلام
قصة هاروت وماروت
افتراء على النبي صلى الله عليه وسلم
عقيدة التجسيم والتشبيه
خطورة الإرجاء
الغزو المعاصر
طالب العلم والمستقبل:
الخلافة في الأرض بالعلم
فقه النص وفقه الواقع
ضرورة العمل بالعلم
المداومة على العلم
عقبات على الطريق:
الإسلام بريء من هذه الأفعال
تلبس الجن بالإنسان
السحر وتفريق القلوب
الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم:
مكانة الدعوة
أساليب الدعوة
أهمية العلم للداعية
خطورة التقول على الله بغير علم
أهمية علم المقاصد للداعية
بين مسائل الدين والرأي
أمثلة من اختلاف العلماء في الرأي
الداعية بين الدين والرأي
خطورة الفرقة والتشتت
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد .....
فقد كان الخطاب الذي وجهه سماحة الشيخ الخليلي حفظه الله في ندوة (إعادة صياغة الأمة) بمثابة جرس الإنذار بضرورة المراجعة ومحاسبة النفس حتى تعود لهذه الأمة مكانتها وهيبتها وتقبض على زمام المبادرة في ركب الحضارة الإنسانية.
وهذا الخطاب من الشيخ ليس وليد اليوم، لكنه يرجع للبدايات الأولى من حياته الدعوية، لكن برز هذا الخطاب بشكل لافت للنظر في السنوات الأخيرة، وبعد تلك الندوة كانت للشيخ بعض الايضاحات والتفصيلات لمجملات تلك الندوة في عدد من الدروس والمحاضرات، ولا نزال ننتظر منه المزيد.
ومشاركة منا في إبراز هذا العمل قمنا بتفريغ أشرطة تلك المحاضرات، وكان عملنا فيه الآتي:
1. صياغة نصوص المحاضرات لتتفق مع الأسلوب الكتابي، مع اعترافنا بالعجز عن التعبير بمستوى الشيخ.
2. إعطاء عناوين فرعية للموضوع الواحد.
3. تخريج الآيات والأحاديث تخريجاً مختصراً، واعتمدنا في ذلك على موقع (المحدث) في الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنت) http://www.muhaddith.org
4. التعليق البسيط على بعض المواضع.
5. الترجمة لبعض الأعلام التي لها تعلق بموضوع الكتاب.
6. العرض النهائي للعمل على سماحة الشيخ لإبداء التوجيهات والملاحظات.
وسيكون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى الحلقة الأولى من سلسلة حلقات حول هذا الموضوع، والله نسأل أن يبارك في حياة الشيخ لتستفيد الأمة من فيض علمه، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
خالد بن مبارك الوهيبي
مسقط - سلطنة عمان
إعادة صياغة الأمة
ندوة لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان.
أدارها: عبدالله بن عامر العيسري ومحمد بن سعيد الحجري
(1/2)
يوم السبت 25 من ربيع الثاني 1422هـ 6 يوليو 2002م
بمسجد التوبة بالغبرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة
أصحاب الفضيلة الحضور الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
معنى إعادة صياغة الأمة
أضاعت هذه الأمة وقتاً طويلاً وهي تحمّل أعداءها أسباب إخفاقها في التدافع الحضاري، وفوتت فرصاً كبيرة كان يمكن أن تقوم عبرها بواجبها في الشهود الحضاري، فنشأت الحضارة الحديثة مشوهة جائرة بمعزل عن إسهام المسلمين وعانى الإنسان والكون وباءاته.
(1/3)
من وهدة الهزيمة تبحث الأمم لنفسها عن سبيل الحياة، وتتفحص حالها بلهفة وإلحاح باحثة عن أسباب الهزيمة وعوامل الانكسار، ومع اشتداد مأزق أمتنا، ومع استمرار تهميشها عن مجال التأثير في الحياة، وحين وضعتنا الأحداث شئنا أم أبينا على حافة صراع حضارات، فإن النظر إلى الذات أصبح أولى من النظر إلى الآخر (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)آل عمران: 165، وفي حالة أمة كأمتنا لم تشد حضارتها إلا على هدي من الدين، ولم يعرف لها التاريخ أي إسهام حضاري بمعزل عنه، ولم تتميز إلا حين آمنت به وتمثلته، فإن البحث في أسباب مأزقها يقتضي منا أن نتفحص بعناية علاقتها بالمكوِن الحضاري الأول لحضارتها أي علاقتها بدينها وبدون ذلك يبدو البحث عبثاً وتجديفاً في اليبس، ومن المنطقي أن يمر البحث بمناطق أخرى تابعة يخالها البعض ثانوية وهي مع ذلك حسّاسة وخطرة من قبيل العلاقة بين الخلف والسلف وبين الحاضر والماضي؛ التي وصفها بعضهم خطأ أو صواباً لا أدري! بأنها علاقة يحكم فيها الأمواتُ الأحياء، عالم من الأحياء يحكمه الأموات على حد عبارته، أو من قبيل تجديد مناهج الاستنباط والاجتهاد، أو إعادة النظر في سلم الأولويات المختل أو دراسة تبادل التأثير بين تصور المسلمين لدينهم وتطور تاريخهم السياسي والاجتماعي.
(1/4)
هذه كلها مناطق يشعر كثير من الباحثين أمامها بالرهبة إما لضخامة المهمة أو خوفاً من التهم المعلبة الجاهزة التي تنتظر كل من يغامر بالدخول إلى مناطق حرمها البعض على البحث، ممن أعفى نفسه من فريضة التفكير وألزم الآخرين بذلك، وبالجملة فإن الأمة كما يلخص سماحة شيخنا العلامة الخليلي في حاجة إلى إعادة صياغة من جديد حتى تستطيع أن تنهض بمهمتها الحضارية شاهدة على العالمين، ونحن هنا اليوم أيها الأخوة لنستطلع رؤية سماحة الشيخ التي عبّر عنها في أكثر من مناسبة والتي أصبحت عنصراً رئيسياً يلح عليه دائماً وباتت سمة واضحة لخطاب سماحته في الآونة الأخيرة، سماحة الشيخ لتسمح لي: تردد كثيراً في أحاديثكم ومحاضراتكم في الآونة الأخيرة عبارة (إعادة صياغة الأمة)؛ مثلاً في مناسبة الهجرة المشرفة، في الاحتفال بمناسبة المولد النبوي الشريف وفي حلقات برنامج سؤال أهل الذكر..
سيدي سماحة الشيخ: سؤالي بشكل مباشر ما الذي تعنونه بـ(إعادة صياغة الأمة)؟.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فالسلام عليكم إخوة الإيمان ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فإن الأمم إنما تقوم - أول ما تقوم - على التصور الصحيح؛ ولذلك كان هدم التصورات الباطلة وتشييد التصورات الصحيحة أول شيء يضطلع به المرسلون، فما من رسول من رسل الله سبحانه إلا وقد واجه تصورات باطلة عششت في الأذهان واستحكمت في النفوس وسيطرت على الألباب وقادت الأمم إلى حافة الانتحار، فكان أول شيء يدعون إليه بين أممهم هو أن تعرف هذه الأمم من أين جاءت وإلى أين تنتهي وماذا عليها أن تعمل فيما بين المبدأ والمنتهى؛ لتقوم حياتها على التصور الصحيح.
(1/5)
ونرى أن سيدنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما جاء بالدعوة الحقة دعا أول ما دعا إلى التصور الصحيح، فقد دعا إلى الاعتقاد الحق بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا التصور هو الذي شيدت عليه دعائم حياة هذه الأمة الفكرية والحضارية والاجتماعية حتى كانت خير أمة أخرجت للناس، فهي أدركت تمام الإدراك أنه لا إله إلا الله، وأن الحكم المطلق إنما هو لله سبحانه الذي أوجد هذا الكون وأفاض على الوجود ما أفاض من تجلياته العظيمة التي تشاهد في كل ذرة من ذراته؛ بحيث صارت كل ذرة من ذراته تعرب بلسان حالها عن افتقارها إليه سبحانه وتعالى، وأنه هو الغني الذي لا يحتاج إلى أي شيء سواه، وأن كل ما فيه إنما يسعد بالخضوع لأمره والاستجابة لداعيه والوقوف عند حدوده؛ ولذلك تناغى هذا الكون مع هذه الحقيقة كما يعرب بذلك القرآن الكريم عندما قال في وصفه سبحانه ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً)الإسراء: 44.
والإنسان واحد من الكائنات، آتاه الله سبحانه وتعالى ما ميّزه به عليها من الإرادة والتفكير والقدرة على التأثير في نفسه وما حوله، فلذلك نيطت به مسئولية عظيمة، فهو إن تجاوب مع الكون ودار في فلكه؛ بحيث كان مستجيباً لأمر الله قائماً بحكمه، سعد وانعكس أثر ذلك على الوجود، وإن شذ كان شذوذه داعياً إلى التنافر بينه وبين الكون وكان سبباً للفساد كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه وتعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس )الروم: 41.
(1/6)
وطريق التلقي عن الله سبحانه وتعالى واحد، وهو ما يدل عليه الاعتراف والشهادة بأن محمداً رسول الله، بحيث يتلقى الإنسان المسلم المؤمن بالله وبنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام من هذا الطريق عن الله، سواء كان هذا الذي يتلقاه وحياً ظاهراً وهو القرآن الكريم أو كان وحياً باطناً وهو السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ولقد شيدت دعائم حضارة هذه الأمة على أساس هذا التصور الصحيح والفكر الناصع، ولكن هل ظلت الأمة مستمسكة بهذا الأمر ناهجة هذا النهج؟ كلا، فقد دخلت التصورات الباطلة التي تنقض هذا التصور وإن كانت لا تزال تحت مظلته حسبما يزعم الكثيرون، وذلك بسبب التأويلات الباطلة وبناء الفكر على غير قواعد ثابتة من كتاب الله سبحانه ومن هدي رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وإذا نظرنا إلى ما ورثته الأمة بسبب طوائف من البشر دخلوا الإسلام وهم يحملون أوزاراً مما كانوا يعتنقونه من قبل من الأفكار، وأيضاً بسبب تأثير السياسة؛ نرى أن:
1. بعض ذلك يعود إلى عدم الفهم الصحيح للإيمان بالله.
2. وبعضها يعود إلى عدم الفهم الصحيح للإيمان باليوم الآخر.
3. وبعضها يعود إلى عدم الفهم الصحيح للعلاقة التي يجب أن تكون بين البشر حكامهم ومحكوميهم في هذه الأرض.
أما العنصران الأولان فهما يرجعان إلى كون كثير من الأمم دخلت في الإسلام وهي تحمل أوزاراً من مواريثها الفكرية السابقة، والعنصر الأخير إنما يرجع إلى انحراف الذين أخذوا بزمام القيادة الدينية السياسية في الأمة منذ تلك المرحلة المبكرة بعدما انتهت الخلافة الراشدة.
وعدم الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله أدّى بكثير من الناس إلى أن يسلكوا مسلكين متناقضين عجيبين:
1. تشبيه الخالق بمخلوقاته.
2. تشبيه المخلوقات بخالقها..
(1/7)
- أما تشبيه الخالق بمخلوقاته: فهو أن يُوصَف الله سبحانه وتعالى كما يوصف الخلق بأنه محدود ومتحيز ومتحرك، يذهب ويجيء ويفرح ويحزن وتعرض له العوارض التي تعرض للبشر، حتى أنهم قالوا بأنه ينسى نسياناً حقيقياً يليق بجلاله، وهذا يرجع إلى نبذ المحكم واتباع المتشابه والله سبحانه وتعالى يقول: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) آل عمران: 7 فهذا ضلال في التصور.
-أما تشبيه المخلوق بخالقه: وذلك بأن يُوصَف المخلوقون بصفات الألوهية، بحيث ينظر إلى طائفة من الناس إما لعنصرهم وإما لحالهم على أنهم يتصرفون في الكون تصرفاً مطلقاً، فهم بيدهم البسط والقبض، والعطاء والمنع، والرفع والخفض، والقبول والرفض، يدخلون الجنة من يشاءون، ويحرمون من يشاءون منها، ويلقون في النار من يريدون؛ لأن الأمر كله راجع إليهم وتصريف الكون بأيديهم، وهذا أمر في منتهى الخطورة، فهذه العقيدة جاء الإسلام لاجتثاثها، فلو صيغت الأمة صياغة قرآنية من حيث تصورها لكانت أبعد ما تكون عن هذه التصورات.
(1/8)
ذلك لأننا نرى أن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن أي أحد من خلقه ليس له من الأمر شيء، فالله سبحانه وتعالى يخاطب عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: ( ليس لك من الأمر شي) آل عمران: 128، ويقول له صلوات الله وسلامه عليه: ( قل إنما أنا بشر مثلكم) الكهف: 110، وكذلك يقول له سبحانه وتعالى: ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) الأعراف: 188، فما معنى هذا التعلق بأفراد بسبب عنصرهم أو بسبب حالهم وهم أحياء أو أموات، مع أن النبي صلوات الله وسلامه عليه على عظم شأنه ومنزلته العليا عند الله سبحانه وتعالى لا يملك من الأمر شيئاً وهو في حياته يملأ ثيابه ويملأ السمع والبصر؟ !، فكيف هذا التمسك بالأموات والتعلق بالماضين واعتبارهم يقدمون ويؤخرون وينفعون ويضرون، أو التعلق بالأحياء ممن تضفى عليهم صفة القداسة؟ !.
(1/9)
ونجد أن الله سبحانه وتعالى ينعي على المشركين مثل هذا المعتقد كثيراً في كتابه كما في قوله عز من قائل: ( قل من رب السماوات والأرض قل الله أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) الرعد: 16، والقرآن الكريم يصور لنا التصوير الصحيح لهذه الحقيقة في مواضع شتى فالله تعالى يقول: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)التوبة: 51 ويقول ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم) يونس: 107 ويقول سبحانه وتعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) فاطر: 2 ويقول: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) الزمر: 38.
وقد يتساءل الإنسان؛ ما علاقة هذا بنهوض الأمة أو عثرتها؟.
(1/10)
والجواب: إن العلاقة ظاهرة؛ ذلك بأن الله سبحانه وتعالى عندما يوصف بصفات المخلوقين تذهب هيبة الربوبية التي له سبحانه وتعالى في قلوب عباده، فعندما يوصف الخالق العظيم بأنه يؤتى به محمولاً على سرير من ذهب تحمله أربعة ملائكة، أو أنه يذهب ويجيء ويفرح ويحزن إلى غير ذلك من هذه الصفات، هل تبقى في قلوب عباده هيبة! كما يحسون بذلك عندما يعتقدون اعتقاداً جازماً أنه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؟، وأنه عز وجل لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنه منزه عن كل شبه بأي شيء من هذه الكائنات فهو لا تعرض له العوارض ولا تبدو له البدوات، ولا تكتنفه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، هو الخالق المصور المبدئ المعيد، قد كان قبل خلق الزمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان، لا يدرك بعين ولا يطلب بأين.
أما الأمر الذي يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، فإن الإيمان باليوم الآخر يأتي قرين الإيمان بالله في كتابه، فنرى أن الله سبحانه وتعالى يذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان به سبحانه، وهو يعني أن من آمن بالله واليوم الآخر فكأنما أمسك حبل الإيمان من طرفيه واكتنف الإيمان من قطريه؛ ذلك لأن الإيمان بالله إنما هو الإيمان بالمبديء العظيم الذي خلق فسوى وقدر فهدى، الذي أسبغ على العبد نعمه ظاهرة وباطنة، والذي تتجلى عظمته وكبرياؤه في كل مشهد من مشاهد الكون، وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، فهذا الإيمان يحفز صاحبه إلى أن يتفاعل معه تفاعلاً تاماً، وذلك بأن يضبط جميع أعماله وفق أمر من خلقه فسواه وأنعم عليه بهذه النعم الظاهرة والباطنة.
(1/11)
ولكن مع ذلك تعرض للإنسان عوارض كالذهول والشهوات وتتحرك في نفسه الغرائز؛ وذلك يؤدي به إلى الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى، إلا أن ذلك كله يمكنه أن يتحكم فيه وأن يضبطه ضبطاً متقناً عندما يكون مؤمناً باليوم الآخر؛ لأن إيمانه باليوم الآخر إنما هو إيمانه بالمعاد، والإيمان بالمعاد يقتضي أن يكون الإنسان مفكراً تفكيراً عميقاً فيه، فإن هذا المعاش المحدود الوهمي الذي يمر بمرحلته لا يوازي شيئاً بجانب ذلك المعاد الأبدي الحقيقي، إذ لا يدري الإنسان متى تنصرم هذه الحياة؛ فلذلك يتحكم في رغباته ونزواته ونزغاته عندما يرسخ الإيمان باليوم الآخر في نفسه، على أن يكون تصوره لذلك اليوم تصوراً صحيحاً مستلهماً من القرآن الكريم ومن الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا من الأماني الفارغة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً)النساء: 123 ويقول في وصف ذلك اليوم.. وما أدراك ما يوم الدين.. ثم ما أدراك ما يوم الدين.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) الانفطار: 17-19، ويقول عز وجل: ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون.. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) النمل: 89-90 ويقول تعالى: ( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)القصص: 84، ويقول سبحانه: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها)الأنعام: 160.
(1/12)
عندما يرسخ هذا الاعتقاد في النفس فإنه ولا ريب يؤدي إلى أن تتفاعل معه تفاعلاً تاماً، فتصاغ حياتها وفق هذا المعتقد، ولكن عندما تَفرّغ النفس منه ويكون هناك تشبث بالأماني والآمال الباطلة فلا ريب أن الحياة تتحول تحولاً جذرياً من الخير إلى الشر ومن الصلاح إلى الفساد، فإن النفس البشرية جبلت على الطمع، والإنسان يحب العاجلة وينسى الدار الآخرة، وعندما تحيط به شهوات نفسه وتدفعه دفعاً إلى الوقوع في الكثير من المخالفات الشرعية، فلا ريب أن الإيمان بأن الحق سبحانه وتعالى يجزي كل نفس بما عملت يؤدي بالإنسان إلى أن يتحكم في هواه ويسيطر على رغباته ويصوغ حياته صياغة شرعية.
(1/13)
ونرى من أجل ذلك كيف جاء القرآن الكريم بما يدلنا على أن القول بنفاذ وعيد الله سبحانه وتعالى هو الذي يمكِن للإنسان أن يتحكم في نزغاته ونزعاته ويسيطر على أهوائه، ويقود نفسه قيادة سليمة إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة، فالله تعالى يقول: ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) ق: 45 ومعنى ذلك أن الذي لا يخاف وعيد الله سبحانه وتعالى لا يجديه التذكير بالقرآن، فعندما يرسخ في نفس الإنسان أن الله سبحانه وتعالى (إذا وعد وفى وإذا توعد عفا) لا بد أن تهتز نفسه، ويؤدي به هذا المعتقد إلى الوقوع في الكثير من المخالفات الشرعية، ولذلك نجد كيف يصف الله سبحانه وتعالى اليهود بالانحراف بسبب رسوخ هذا المعتقد في نفوسهم فهو تعالى يقول: ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا)الأعراف: 169، وكذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إعراض اليهود عن الكتاب الذي أنزل عليهم إنما كان بسبب اعتقادهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات فقد قال سبحانه وتعالى: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.. ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون.. فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) آل عمران: 23-25، فهذه المعتقدات انتقلت إلى الأمة وأورثتها اتباع الأهواء وتشتت كلمتها وذهاب ريحها، فأصبحت أمة هزيلة.
فعقيدة الإرجاء لها أثر كبير في تدمير الأمة وأخلاقها، والقضاء على معنوياتها، والكبوة بها بعدما كانت أمة ناهضة قوية عزيزة يحسب لها بين الأمم جميعاً كل حساب.
(1/14)
ولا ريب أن مثل هذه المعتقدات أخذت تنخر في جسم هذه الأمة نخراً، وليس ذلك وليد اليوم والأمس، وإنما منذ بدأ هذا الانحراف، حتى أصبح مفهوم الإيمان عندها مفهوماً نظرياً شكلياً لا أثر له في الحياة، كأنما الناس تعبدوا بأن يعتقدوا أن هذا كذا وهذا كذا، وألا يتأثروا بهذا المعتقد في حياتهم، ومن غريب ما يذكره الإمام محمد عبده أن أحد الكبراء في وقته كان يقول: "أنا لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني والحمد لله مسلم أدين بأن الربا حرام! " أي تناقض هذا؟ ! يعتقد أنه يكفيه اعتقاد أن الربا حرام، ولئن اعتقد ذلك فحسبه هذا المعتقد سبباً لنجاته من النار! !. قال الإمام محمد عبده تعليقاً على ذلك: وقد فات هذا أنه يلزمه بناء على هذا المعتقد أن يعتقد أنه من الذين يحاربون الله ورسوله، وأنه من أهل الوعيد على أكل الربا.
ولكن بما أن هؤلاء الناس يعتقدون أن الوعيد يطرأ عليه التبديل والتغيير بسبب عفو الله سبحانه وتعالى كما قالوا: (إذا وعد وفى وإذا توعد عفا)؛ فإنهم لا يرون لهذا الوعيد أثراً في سلوكهم؛ فلذلك يجترئون على محارم الله تعالى غير مبالين بها.
ونرى أن تفريغ الإيمان من معناه الحقيقي وهو الأثر على هذه النفس البشرية حتى تكون مطيعة لأمر الله سبحانه وتعالى يؤدي بالناس إلى أن يحكم كل أحد منهم هواه ولا يبالي بمصالح الآخرين، فهذا ينتهز الفرصة ليعتدي، وذاك يتحين الوقت من أجل أن يحتال، فكل واحد منهم لا يشتغل إلا بمصلحة نفسه، بخلاف ما إذا كانت العقيدة راسخة أن كل واحد مجزي بعمله (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)القصص: 84، فهذا المعتقد هو الذي يجعل الأمة متواصلة الحلقات وقوية.
(1/15)
ولقد وجدنا شيخاً معمماً يقود حركة جهادية وينتصر على الأعداء، ويمكن الله تعالى له، ثم بعد ذلك يتنازع مع الآخرين من أجل السلطة والوصول إلى المراكز القيادية، وعندما يهمش ويتولى القيادة غيره، ويأتي العدو بعد ذلك ليضرب هذا الغير؛ يبدي راحة بسبب ما يصيب أبناء ملته وبلدته وجلدته من الدمار، ويقول بأن ضميره مرتاح من هذا، ذلك كله راجع إلى تحكيم الهوى، ومنشؤه فقدان التصور الصحيح، وعدم إدراك ما للإيمان من أثر في نفس الإنسان حتى تتفاعل هذه النفس تفاعلاً تاماً مع مرضاة ربها سبحانه وتعالى ومصلحة أمتها، وتتفانى في ذلك، فلذلك قلت إن الأمة بحاجة إلى صياغة قرآنية ليكون تصورها صحيحاً مبنياً على دعائم من أدلة القرآن الكريم والسنة الثابتة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
(1/16)
ومن التصورات الباطلة الناشئة من إعطاء المخلوق صفات الخالق، وما وَلِي ذلك من كون الإنسان لا يؤمن بوعيد الله وعيداً جازماً ما شاهدناه في سلوك كثير من الناس، وما سجله كثير من العلماء من الأمثلة الظاهرة التي تؤيد هذه المشاهدات، ومما شاهدته في بعض البلاد الإسلامية أن كثيراً من أهل ذلك البلد ولا أعني جميعهم عندما يقع أحدهم في ارتكاب جريرة، ويطالبه صاحب الحق بحقه ويخوفه بالله تعالى وباليوم الآخر لا يبالي بهذا كله ولا يتذكر، ولكن إن قال له: إنه سيتوسل بأسماء أهل بدر حتى يستوفي حقه، لا يكاد يقول له هذه الكلمة حتى ينهار ويرجع ليسلّم تسليماً، ذلك لأنهم يعتقدون أن لأهل بدر رضي الله تعالى عنهم تأثيراً في هذه الحياة ليس لرب العالمين، كأنما أهل بدر هم الذين يميتون ويحيون، ويعطون ويمنعون، ويرفعون ويخفضون، وبيدهم كل شيء، فتراهم لا يبالون بسلطان الله ولكن يبالون بأولئك، مع أن أولئك رضي الله عنهم مع ما لهم من المنزلة والقدر والشأن أفضوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، وهم بحاجة إلى أن نقول كلمة دعاء في حقهم كأن نقول "رضي الله عنهم" أو "أدخلهم الله تعالى الجنة" أو "بوأهم الله مبوأ الرحمة" أو "رفع الله منازلهم يوم الدين" إلا أن هذا التصور عشش في نفوس كثير من الناس، ومما يؤسف له أن نجد كثيراً من العلماء يغذّون هذا التصور الباطل.
(1/17)
أما ما يتعلق بعلاقات الناس بالحياة السياسية، فعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلّم قائداً للأمة إلى الخير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر داعياً إلى الله، كان الأمر -مع كون الوحي ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه- شورى بين المسلمين، وكان القرآن ينزل ليثبت مبدأ الشورى، فالحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم في مقام حسرة هذه الأمة على ما أصابها من الوهن والضعف والنكسة بسبب مخالفة الكثير للنبي صلى الله عليه وسلّم في السياسة الحربية وذلك في غزوة أحد، ينزل القرآن مع ذلك ليثبت مبدأ الشورى فيقول لله تعالى له: ( وشاورهم في الأمر)آل عمران: 159 ذلك لأنهم وإن وقعوا في الخطأ إلا أنه خطأ عارض، أما قضية الشورى فهي من الثوابت، ولذلك لا يهدم الثابت من أجل العارض.
وعندما كانت الخلافة الراشدة كان الأمر شورى ما بين المسلمين، كان الخليفة كواحد من المسلمين يعرض الأمر عليهم ويطلب منهم مناصحته، ويعلن على الملأ: أيها الناس إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني. فيقوم أحد من عامة الناس ويقول: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فما يكون من الخليفة إلا أن يحمد الله تعالى على هذه النعمة أن يجد في رعيته من يقوّم اعوجاجه بسيفه.
وكان الناس يتصورون جميعاً أن سياسة الأمة لا تقوم إلا على العدل، بأن يكون الخليفة عادلاً، وأن يحاسب من جميع طوائف الأمة لأنه أجير قائم على رأس هذا الأمر، وهو مسئول فيما بينه وبين الله كما أنه مسئول فيما بينه وبين الأمة، للبشر أن يحاسبوه في الحياة، كما أن الله سبحانه وتعالى يحاسبه في الدار الآخرة.
(1/18)
وعندما أفضى الأمر إلى بني أمية اجتثوا هذه القواعد من أساسها، وأتوا على هذا الأمر من قواعده وأقاموا سياسة مبنية على الاستبداد بالرأي والرغبة في التحكم، وأشاعوا في الناس بأن هذا قدر مقدور من الله، وأن على الجميع أن يسلّم له، ومن لم يسلّم له فهو شاذ عن أمر المسلمين، خارج عن جماعتهم، حرب عليهم.
وقد رأينا في كلام العلامة الكبير السيد أبي الأعلى المودودي في كتابه التجديد لهذا الدين تصويراً رائعاً لهذا الأمر، فعندما وصف الحالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم قال إنها كانت تمثل قمة الإسلام، ثم جاء بعد ذلك أبو بكر، ثم جاء بعده عمر رضي الله عنهما، وكان الأمر في عهدهما امتداداً لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم جاء بعد ذلك الخليفة الثالث وقد بلغ من الكبر عتياً، ومع هذا كانت المواهب التي أوتيها العظيمان اللذان قبله لم تتوافر فيه، فدخل بعض الناس الذين استغلوا هذه الحالة التي كان عليها الخليفة في آخر سنه من أجل شق صف الأمة؛ ومن أجل محاولة الاستئثار والبلوغ إلى الرغبات، وفي مقدمة هؤلاء مروان بن الحكم ابن طريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأدى الأمر إلى الفتنة والشقاق، ثم جاء الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ووجد الأمر فيه شيء من التداعيات، فلم يستطع أن يصلح ما تقدم بسبب ذلك، وتغلغل الذين أرادوا أن يستبدوا بسياسة الأمة، وبعد ذلك انقلب الأمر إلى جاهلية متحكمة في حياة الناس، يقول فيها السيد أبو الأعلى المودودي هي أخطر من الجاهلية الأولى لأنها تلبس لبوس الإسلام، فكل من أراد مقاومتها حورب باسم الإسلام.
(1/19)
ونجد من المفكرين الإسلاميين من يقول بأن ذلك العصر كانت الحياة تدور فيه حول شخص واحد هو شخص الخليفة، فمن أجله يكدح الكادح، ويزرع الزارع، ويحصد الحاصد، وتحمل الحامل، وتلد الوالدة، ومن أجله تخرج الأرض خيراتها، وحوله تدور حياة الأمة بأسرها، وقال بأن ذلك العصر شبيه بعصر القياصرة والأكاسرة وليس هو من الإسلام في شيء، وهو في حكم الإسلام ليس حرياً أن يبقى يوماً واحداً.
ولكن مع الأسف كان هذا هو النهج الذي اختطه هؤلاء لأنفسهم وأثروا به على العامة، فأصبحت العامة تتفاعل معه تفاعلاً تاماً، وأن كل من خرج هذا النهج أو حاول أن يصلح الأمر فهو باغ وخارج عن سبيل المسلمين ومحارب للخلافة الإسلامية ومتنكر لها، وأخذت الأبواق التي تدعو إلى هذه السياسة يتردد صداها هنا وهناك، وتوضع الأحاديث الكثيرة بأن لهؤلاء الطاعة المطلقة وإن ضرب أحدهم ظهرك أو أخذ مالك فما عليك إلا أن تخضع وتنقاد، إذن كلمة لا إله إلا الله بناء على هذا إنما هي وسيلة للاستبداد والظلم والتسلط على رقاب الناس!.
(1/20)
ومن التناقضات العجيبة والمفارقات الغريبة أن نجد الذين يروجون لهذا الأمر يقولونبأن القيام على هؤلاء حجر محجور لا يجوز أبداً، لكن لو وجد من يقوم عليه أو من يقوم على خليفة عادل مبايع بيعة شرعية على نهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ثم بعد ذلك يتغلب هذا القائم على الخليفة العادل المؤمن الوفي التقي الصالح ويستبد بالأمر دونه فإن طاعته تصبح واجبة وخلافته شرعية، وبيعته في جميع رقاب الأمة، وعلى الناس جميعاً أن يطيعوا وأن يخضعوا وأن ينقادوا! !، فمثل هذه التصورات جميعاً لا بد من إعادة النظر فيها وبيان أن المنهج الصحيح الذي جاء به الإسلام هو العدل، فالنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً)(1)، فما معنى هذا الحديث الذي يلزمنا أن نقبض على يد الظالم ونأطره على الحق أطراً ومع ذلك يقال بأن هذا الظالم تجب له الطاعة كما يطاع الله تبارك وتعالى وتعطف طاعته على طاعة الله سبحانه وتعالى؟ ! هذا التصور الذي ساد في واقع الأمة هو الذي انحرف بها عن المنهج الصحيح.
=================================
(1): أبو داود (4337).
كيف نتغلب على صعوبات إعادة صياغة الأمة؟
شكراً سماحة المفتي على هذه الإفاضة في مفهومكم لإعادة صياغة الأمة، وقد فهمنا من ذلك أن إعادة صياغة الأمة من جديد تقوم على هدم التصورات الباطلة، وتصحيح المفاهيم الثلاثة وهي الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر والعلاقة بين الحاكم والمحكوم لتكون مفاهيم قرآنية، ومع هذا التفصيل نقول: سماحة المفتي؛ لا شك أن هذا المشروع النهضوي الضخم من أجل إعادة صياغة الأمة من جديد يتطلب خطوات كثيرة، فما خطوات الإعادة في تصور سماحتكم؟.
(1/21)
كل أحد مطالب بأن يؤمن بكتاب الله وبالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأن لا يؤثر هوى نفسه على ما جاء في كتاب الله سبحانه وما جاءت به سنة نبيه صلى الله عليه وسلّم، فالله عز وجل يقول: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)الأحزاب: 36، وقد أمرنا أن نستهدي بالكتاب العزيز ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، ويقول سبحانه: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) الإسراء: 82، ويقول تعالى فيه: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) البقرة: 2، ويقول فيه: ( هدى ورحمة للمحسنين) لقمان: 3، ويقول فيه: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)النمل: 2، فالقرآن أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون هداية للعالمين، والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام هي المصدر الثاني للتشريع والفكر عند هذه الأمة، فلجوء الأمة إلى الكتاب العزيز والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أساس هذا الخير كله، ولكن كيف يمكن للأمة أن تتغلب على موروثاتها الفكرية التي عششت في أذهانها وسادت ردحاً من الزمن، وغذيت بما غذيت به من دعوات الدعاة وترويج المروجين، حتى صار رسوخها كرسوخ الجبال الرواسي في النفوس؟ وكيف يمكن لذلك أن يؤتى عليه؟.
(1/22)
الجواب: ذلك سهل لمن سهله الله تبارك وتعالى له، ومن المعلوم أن المعتقدات التي كانت سائدة في الأمم عندما بعث النبيون كان رسوخها عجيباً، وكان التعصب لها مقيتاً، وكانت تعتبر جزءاً من حياة تلكم الأمم بحيث لم يكن لهم فكاك عنها، إلا أن وضوح الحجة وسطوع البرهان وطريقة الإقناع كل ذلك أدى إلى هدم تلكم المعتقدات جميعاً واجتثاثها من أصولها، وإقامة حياة نظيفة قائمة على التصور الصحيح والفكر السليم، ويمكن لأي أحد أن يتغلب على هذه الأفكار عندما يتجرد تجرداً تاماً، كأنما لم يغذ بأي فكر من قبل، يأتي إلى كتاب الله سبحانه موقناً أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وأن الاحتكام يجب أن يكون إليه ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )النساء: 59 وعندما يكون الرجوع إلى الكتاب العزيز وإلى الفهم الصحيح له؛ يمكن لهذه الأمة أن تتغلب على كل العراقيل والعقبات.
ويلزم قبل كل شيء تشويق النفوس إلى التجرد والاحتكام إلى القرآن والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وعندما تكون هذه الدعوة قائمة في أوساط الأمة لا ريب أنها ستعطي ثماراً يانعة وستحقق نتائج محمودة بمشيئة الله وهذا ما نرجوه بعون الله.
وقد ذكرت أن الموروثات القديمة مما يجب أن تتجرد منه الأمة؛ لأن لها أثراً أكبر، وإلا فهناك الكثير من الأمور التي استجدت على الساحة، ومن بينها انبهار الأمة بالحضارة الغربية، بحيث أدى بهم إلى قبولها على علاتها، وعدم التفريق بين النافع والضار منها، وذلك نتيجة ما أصاب الأمة من الهزيمة النفسية والشعور بمركب النقص، مما أدى بدوره إلى أن تكون خاضعة كل الخضوع لأعدائها، وهذا أمر يكون مقدوراً عليه عندما يكون الاحتكام إلى القرآن، بحيث تعرف الأمة مصدر عزتها وهدايتها، عندها يمكنها بمشيئة الله تعالى أن تتخلص من كل هذه الأمور.
(1/23)
هل مسيرة الفكر الإسلامي سلسلة ردود أفعال أم نابعة من صميم العقيدة؟
سماحة الشيخ: يقول البعض بأن مسيرة الفكر الإسلامي هي سلسلة من ردود الأفعال وأخذاً من الفقرة الأخيرة في حديثكم إن هذه الدعوة يمليها الشعور بالخطر الداهم والمأزق الحرج الذي تعبره الأمة الآن؛ فهل هذه الدعوة فعل، أم رد فعل؟ هل هي نتاج يسير في سياق حركة تطور الفكر الإسلامي في سياقها الطبيعي، أم هو رد فعل للشعور بالخطر الداهم الذي تواجهه الأمة الآن؟.
هذه الدعوة ليست إلا تفاعلاً مع عقيدة الأمة الراسخة التي جاء بها القرآن والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، هي دعوة إلى عودة الأمة إلى أصولها واكتشاف هويتها، ومعرفة عقيدتها، والصحيح والباطل من مسلكها، والصواب والخطأ في نهجها،. إذن ليس هذا رد فعل وإنما هو عين الواجب الذي تفرضه العقيدة على الأمة، فعلينا أن ننظر: هل الإسلام أنزل من قبل الله سبحانه وتعالى ليكون أمراً شكلياً لا أثر له في الحياة؟ هل أُنزل ليكون نظريات تدغدغ الأذهان من غير أن يكون لها تأثير عليها في حياة الناس؟ !. لا، إن الإسلام منهج حياة، ولما كان كذلك فإنه يجب أن يتجسد في كل جزئية من جزئيات الحياة، وذلك لا يتم أبداً إلا عندما يكون هنالك تصور صحيح قائم على فهم القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ونبذ العصبيات العمياء التي مزقت الأمة، بحيث يتعصب كل حزب منها لموروثه الفكري، ويدع النظر في الكتاب وهدي رسوله صلى الله عليه وسلّم، أما عندما ينشد كل أحد الحقيقة لا بد بمشيئة الله سبحانه وتعالى من التغلب على الأهواء، والسيطرة على هذه النزعات، والوصول إلى الغاية المرجوة..
إعادة صياغة المناهج
(1/24)
سماحة الشيخ: لكن هل ستطال إعادة الصياغة صلب مناهج الدراسات الإسلامية التفسير وأصول الفقه وعلوم الحديث مثلاً، أم ستقتصر إعادة الصياغة على التطبيقات وستكون تكراراً للدعوات التي نسمعها دائماً، بمعنى آخر هل هي دعوة إلى بعث روحي فحسب دون إعادة النظر في المنهج، هل ترون أن علوم الشريعة وآلات الاستنباط والاجتهاد في هيئتها الراهنة الموروثة كافية للتعامل مع العصر الحديث؟، وإذا أردنا طرح السؤال بطريقة أخرى، هل نجح علم الحديث في تنقية السنة من شوائب الوضع؟، هل سيقدر علم التفسير بمختلف طرقه؛ التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي ومع احتفاله الشديد بالمعنى اللغوي وخفوت عنايته بروح النص، هل سيقدر مع ذلك على تحمل التصور القرآني وأدائه للعالمين؟ وهل علم أصول الفقه في طريقتيه: طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين هو نهاية التصور لهذا المنهج إذا أردنا إعادة صياغة الأمة من جديد؟.
هنالك فرق بين الثوابت والمتغيرات، وهناك فرق بين الوسائل والمقاصد، المقصد هو الوصول إلى الغاية، والوسائل تختلف فيها الأنظار، الثوابت لا مساس بها، والمتغيرات يمكن لكل أحد أن يجتهد فيها إن توافرت عنده آلة الاجتهاد وكان قادراً عليها.
علينا أن ننظر في الموروثات من هذه العلوم، هل هي حقائق تطبق أو هي نظريات؟.
(1/25)
1. لو جئنا إلى علم الحديث مثلاً؛ نرى أن مما يقوله المحدثون جميعاً بأن الحديث لا يرقى إلى درجة الصحة، حتى يكون غير متصادم مع القرآن الكريم والمتواتر من السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولكن هل طبق ذلك تطبيقاً دقيقاً؟ بحيث أخذ بالحديث الذي يتفق مع مدلول القرآن، وترك الأخذ بالحديث الآحادي الذي يتعارض معه؟. لا، بل نجد تناقضاً عجيباً عند علماء الحديث؛ بين ما يؤصلونه وما يسيرون عليه،. من أمثلة ذلك أن الألباني يقول في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع بن حبيب رحمه الله من رواية ابن عباس رضي الله عنهما (إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فعني، وما خالفه فليس عني)(1) بأن هذا الحديث حديث باطل لا يصح، وهو من وضع الزنادقة والخوارج و.. إلى آخره، ثم يقول: لو جئنا وحكمّنا هذا الحديث نفسه وعرضناه على القرآن لوجدناه حديثاً باطلاً لأن القرآن يأمرنا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم، ولما كان يأمرنا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم فعلينا أن نأخذ بهذا الأمر ونرفض هذا الحديث الذي تبين لنا بهذا المقياس أنه حديث باطل.. الخ.
-أولا: لننظر؛ هل الحديث يقول بأنه يُرفض شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلّم، أو أنه يقول بأن معرفة التمييز بين الصحيح وغيره من جملة طرقه أن نرجع إلى القرآن لننظر في موافقة الرواية للقرآن وعدم موافقتها؟.
-ثانياً: لننظر في مسلك الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فمع قرب عهدهم بالرسول صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحرصون كل الحرص على أن يأخذوا بالرواية التي لا تتعارض مع القرآن، وعندما تأتيهم رواية يشتّمون منها أي معارضة له لا يقبلون ذلك.
(1/26)
فعمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه ردّ حديث فاطمة بنت قيس، مع أن فاطمة بنت قيس صحابية، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنها طلقت في عهده طلاقاً بائناً ولم يفرض لها نفقة ولا سكنى، فقال عمر رضي الله عنه: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) (2)، مع أنه ليست هنالك واسطة بينها وبين النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وإنما تلقت الحكم من النبي صلوات الله وسلامه عليه مباشرة، لم يكن هذا الحكم حكماً في غيرها وإنما كان فيها، وصاحب القصة أولى بأن يحفظ.
كذلك ما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ردت رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدالله رضي الله عنهما في أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت في عبدالله بن عمر: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكن ليكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ولكن لعله سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول في المرأة اليهودية التي مر على أهلها يبكون عليها: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها، وقالت: حسبكم القرآن (لا تزر وازرة وزر أخرى)(3) الأنعام: 164.
=================================
(1): الربيع (40)
(2): مسلم (1480)
(3): الربيع (483)، البخاري (1227)، مسلم (929)
كذلك عندما سئل جابر بن زيد رحمه الله عن حديث تحريم الحمر الأهلية قال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذاك البحر ابن عباس وقرأ ( قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرَّماً) (1)الأنعام: 145.
فإذا كان هؤلاء الصحابة يرفضون روايات ج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *