الكتاب : أي شيء لم يكن يحسن المبرد؟! لإدريس الرواحي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
هل المبرد لغوي وأديب فقط؟!
أيُّ شيءٍ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الجَاحِظُ؟! هكذا يروي بعضُهم هذه المقولةَ في الجاحظ ، وهو يشير من خلال هذا الاستفهام التعجبي إلى ثقافة الجاحظ الواسعة التي لم تقتصر على فنٍّ واحدٍ من فنون العلم ، بل إنه تعمق في كثير من العلوم المنتشرة آنذاك بين علماء عصره.
أقول: ألا يمكن أن يقال أيضًا: أيُّ شيءٍ لم يَكُنْ يُحْسِنُ...(ونضع بدل الجاحظ اسمًا من أسماء العلماء الذين اشتهروا على مر التأريخ بثقافتهم الواسعة المتعددة) أقول: يمكننا ذلك بكل تأكيد.
وفي هذا المقال المختصر جدًّا جدًّا ، أردت أن أبين ثقافة أحد العلماء الذين ظهروا في القرن الثالث الهجري الذي قال فيه ابن الأنباري: "كان شيخَ أهلِ النحوِ والعربيةِ ، وإليه انتهى علمُها بعد طبقة أبي عمر الجرْميّ ، وأبي عثمان المازني" ، وذكر بعضُهم أنَّه كان "حسنَ العبارة ، حلوَ الإشارة ، فصيحَ اللسان ، ظاهرَ البيان" ، ونعته آخرون بقولهم فيه: "كان حسنَ المحاضرة ، مليحَ الأخبار ، كثيرَ النوادر" ، وأكثر ما كان يصفه المترجمون بأنه من أهل النحو في زمانه ، وأنه كان معاصرًا لأبي العباس ثعلب ، ولم يذكروا شيئًا عن العلوم الأخرى التي كان يتقنها.
ولكننا -رغم ذلك كلِّه- إذا أردنا المقارنة بين ثقافة كلٍّ منهما (أي الجاحظ والمبرد) لوجدنا أن هذه المقولة السابقة في الجاحظ تنطبق عليه أكثر من المبرد ؛ لأن الجاحظ ألف كتبًا كثيرة في مختلف العلوم والفنون بعكس المبرد الذي اكتفى بذكر ألوانٍ منها في كتبه الأدبية والنحوية.
(1/1)
ونظرًا لشدة الاختصار المطلوب ، سأذكر مثالاً أو مثالين فقط على كل فنٍّ من الفنون التي تناولها المبرد في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) ؛ حتى يتضح لنا -بعض الشيء- صدق ما قلناه فيه ، وإن كان هو بنفسه قد اقتصر في عنوان كتابه على اللغة والأدب فقط إلا أنه تناول العديد من القضايا المتعلقة بفنون أخرى من فنون العلم ، وهذا ما اتضح لي بعد قراءتي الكتاب.
وإليك -أيها القارئ- ضروبًا منها:
1- النحو: تكلم عن مسألة العطف ب(الواو والفاء وثم) ، وأشار إلى الفرق بينها وهو أن العطف ب(الواو) لا يقتضي الترتيب ، بعكس (الفاء وثم) فإنهما تقتضيان الترتيب ، فقال معلقا على قول حسان:
بَهَاليلُ منهم جعفرٌ وابنُ أمِّه عليٌّ ومنهم أحمدُ المُتَخَيَّرُ
"فإنَّ العربَ إذا كان العطف بالواو قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ ، قال الله تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } ، وقال: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } ، وقال: { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } ، ولو كان بثُمَّ أو بالفاء لم يصلح إلا تقديم المُقَدَّم ، ثم الذي يليه واحدًا فواحدًا".
2- الصرف: من الأمثلة على ذلك قوله: "...وقوله:(نابٌ) تقديرها (فَعَلٌ) متحركة العين ، ولا تنقلب الياءُ ولا الواوُ ألفًا إلا وهما في موضع حركةٍ وما قبلها مفتوحٌ ، نحو: بَاعَ ، وقَالَ ، ورَمَى ، وغَزَا ؛ لأن التقدير (فَعَلَ) ، ولو كان على (فَعْل) لَصَحَّتْ الياءُ والواوُ ، كما تقول: بَيْعٌ ، وقَوْلٌ ، و(فَعَلٌ) قد يجمعونه على (فُعْلٍ) كقولهم: أَسَدٌ وأُسْدٌ ، ووَثَنٌ ووُثْنٌ".
(1/2)
3- التفسير: طريقته في كتابه أنه يقوم بتفسير بعض الآيات الكريمة التي يستدل بها ، ومن ذلك قوله بعد ذكر قوله تعالى: { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } :"وقد اعترض معترضٌ من الجهلة المُلْحدين في هذه الآية فقال: إنما يُمَثَّلُ الغائبُ بالحاضِرِ ، ورؤوسُ الشياطين لم نَرَها ، فكيف يقع التمثيلُ بها؟!
وهؤلاء في هذا القول كما قال الله جلَّ وعَزَّ: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } . وهذه الآيةُ قد جاء تفسيرها على ضربين: أحدهما: أن شجرًا يقال له الأَسْتَنُّ مُنكَر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين ، وهو الذي ذكره النابغةُ في قوله:
تَحِيْدُ من أَسْتَن سودٍ أسافِلُهُ
وزعم الأصمعي أنَّ هذا الشجر يسمى الصَّوْم.
والقول الآخر -وهو الذي يَسْبِقُ إلى القلب- أنَّ الله -جلَّ ذكره- شَنَّعَ صورةََ الشياطين في قلوبِ العبادِ ، فكان ذلك أبلغَ من المُعاينة ، ثم مَثَّلَ هذه الشجرةَ مما تَنْفِرُ منه كلُّ نَفْسٍ".
4- النقد: ذكر المبرد كثيرًا من الأحكام النقدية العامة حول الشعراء ، ولا يكتفي بالحكم فقط ، وإنما يأتي بما يدل على صدقِ كلامِه ، وسلامةِ حكمِه ، وصحيحِ استنتاجِه كقوله في أبي العتاهية:"وكان إسماعيلُ بن القاسم لا يكاد يخلو شعره مما تقدم من الأخبار والآثار ، فينظم ذلك الكلام المشهور ، ويتناوله أقرب متناول ، ويسرقه أخفى سرقة".
5- الشعر: ومن آراء المبرد حول شعر القدماء والمحدثين قوله:"...وليس لقدمِ العَهْدِ يُفَضَّلُ القائلُ ، ولا لحدثان عهدٍ يُهْتَضَمُ المُصِيبُ ، ولكن يُعْطى كلٌّ ما يستحق...".
ولمعرفة أحسن الشعر وأسوأه يُقَعِّدُ لنا المبرد قاعدة فيقول:"وأَحْسَنُ الشِّعْرِ ما قارب فيه القائلُ إذا شَبَّهَ ، وأَحْسَنُ منه ما أصاب به الحقيقة ، ونَبَّهَ فيه بِفِطْنَتِهِ على ما يخفى عن غيره ، وساقه بِرَصْفٍ قويٍّ واختصارٍ قريبٍ".
(1/3)
6- التأريخ: من المسائل التأريخية المهمة التي ذكرها المبرد التأريخُ الذي كانت تُؤَرِّخ به قريش فقال:"...وكان هشامُ بنُ المغيرةِ أَجَلَّ قُرَشيٍّ حِلْمًا وجودًا ، وكانت قريش تُؤَرِّخُ بموته ، كما كانت تُؤَرِّخُ بعامِ الفيل وبمُلْكِ فلان...".
وتكلم كذلك عن أول من أرَّخ في الإسلام ، وعن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- متى كانت؟ فقال:"فأما التأريخُ الذي يُؤَرَّخُ به اليوم فأوَّل مَنْ فَعَلَه في الإسلام عمرُ بنُ الخَطَّاب -رحمه الله- حيث دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ ، فقيل له : لو أَرَّخْتَ يا أميرَ المؤمنين لكنْتَ تَعْرِفُ الأمورَ في أوقاتها؟ فقال: وما التأريخُ؟ فأُعْلِمَ ما كانت العجمُ تفعلُه ، فقال:أَرِّخُوا ، فقالوا: مُذْ أيِّ سنةٍ؟ فاجتمعوا على سنة الهجرة ؛ لأنه الوقتُ الذي حكم فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على غيرِ تقيِّة ، ثم قالوا:في أيِّ شهرٍ؟ فقالوا:نَسْتَقْبِلُ بالناسِ أمورَهم في شهرِ المحرم إذا انقضى حَجُهُم ، وكانت هجرةُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الآخر فقُدِّمَ التأريخُ على الهجرة هذه الأشهر".
7- النسب: عندما تكلم عن بيتٍ لجرير في بني العنبر ذكر أنّ النسابين يزعمون أنّ العنبر بن عمرو بن تميم ، إنما هو ابنُ عمرو بن بَهْراء فقال:"...فقال النَّسَّابون: فبَهْرَاءُ من قُضَاعَة ، وقد قيل: قضاعة من بني مَعَدٍّ فقد رجعوا إلى إسماعيل.
(1/4)
ومن زعم أن قضاعة من بني مالك بن حِمْيَر -وهو الحق- قال:فالنسب الصحيح في قَحْطان الرُّجوعُ إلى إسماعيل -وهو الحق-. وقول المُبَرِّزين من العلماء:إنما العرب المتقدمة من أولاد عابَرَ ، ورَهْطُهُ عاد وطَسْم وجَديس وجُرْهَم والعَماليق ، فأما قحطان عند أهل العلم فهو ابنُ الهَمَيْسَعِ بن تَيْمَنَ بن نَبت بن قَيْذَار بن إسماعيل -صلوات الله عليه- فقد رجعوا إلى إسماعيل ، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقوم من خُزاعة وقيل من الأنْصَار:(ارْمُوا يا بني إسماعيل فإنَّ أباكم كان راميًا)".
8- البلاغة: ذكر أقسام التشبيه ، ثم أكثر من التدليل عليها بعد ذلك ، وذلك في قوله:"قال أبو العباس: والعَرَبُ تُشَبِّهُ على أربعةِ أضرُبٍ: فتشبيهٌ مُفْرِطٌ ، وتشبيهٌ مُصِيبٌ ، وتشبيهٌ مُقَارِبٌ ، وتشبيهٌ بعيدٌ يحتاج إلى التفسيرِ ولا يقوم بنفسه ، وهو أَخْشَنُ الكلام".
وقال أيضًا فيما يخص التشبيه و كثرةَ دورانِه على الأَلْسُنِ:"والتشبهُ جارٍ كثيرٌ في كلامِ العربِ ، حتى لو قال قائلٌ: هو أكثرُ كلامِهم ، لم يَبْعُدْ".
وما ذكرته هنا من أمثله ما هو إلا نزرٌ يسيرٌ جدًا مما يحويه هذا السفر العظيم ، ولستُ هنا بصدد ذكرِ عددٍ كبيرٍ منها والتعليق عليها ؛ فإنَّ لذلك موضعا آخر إن شاء الله تعالى.
وبعد هذا الاستعراض أعتقد اعتقادًا جازمًا أنك -أيها القارئ الكريم- قد اقتنعت كلَّ الاقتناع بما قلته لك من قبل عن المبرد الواسعِ العلم ، الغزيرِ المعرفة ، المتنوعِ الثقافة ، وكتبُه خيرُ شاهدٍ على ما أقول.
أخيرًا بقي سؤال واحد يتبادر إلى ذهني الآن وهو: لِمَ لَمْ يذكر المترجمون للمبرد شيئا عن هذه الثقافة الواسعة – وغيره كثير من العلماء- التي يتمتع بها ، ويكتفون بوصفه بأنه نحويٌ لغويٌ أديبٌ فقط؟
(1/5)
أقول: لعلَّ المترجمين عند ترجمتهم لأي عَلَمٍ من الأعلام ينعتونه بعناوين كتبه لا بما يوجد داخلها ، والمبرد جميع مؤلفاته تحمل عناوينَ في اللغةِ والنحوِ والأدبِ فقط ، ولا نصيب للفنون الأخرى فيها.
وهناك أمر آخر أيضًا وهو قضية التخصصات ، فالعرب عرفوا التخصصات منذ القدم ؛ ولذلك نراهم ينعتون حمادًا بالراوية ، وسيبويه بالنحوي ، والجاحظ بالأديب حتى إنْ كان هؤلاء يتقنون علومًا أخرى غير تخصصاتهم المشتهرة عنهم ، ويؤيد هذا ما رواه ابن الأنباري عن نصر بن علي في كتابه (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) قوله: "وبرز من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان بن قَنْبر أبو بشر المعروف بسيبويه ، والنضر بن شُمَيل ، وعلي بن نصر الجهضمي ، ومؤرِّج السدوسي. وكان أبرعهم في النحو سيبويه ، وغَلَبَ على النضرِ بن شُميل اللغةُ ، وعلى مؤرِّج الشعرُ واللغة ، وعلى علي بن نصر الجهضمي الحديثُ".
إعداد: إدريس بن عبدالله بن حمد الرواحي
(1/6)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق